أسماء بن قادة - مفهوم الأنوثة بين ابن القيم وابن حزم وابن رشد

عندما يتقاطع الكبار
  • المرأة ليست جوهرة ولاتحفة، المرأة ببساطة انسان بالأبعاد المختلفة للذات الانسانية
  • ليست الأنوثة مادة للخيال ومصدرا للخطر والفتنة .. الأنوثة اليوم تفكر وتعبر وتفعل
  • العبقرية في وصف ابن القيم تكمن في تطابق الإفضاء مع الارتقاء
  • إيحاءات الجسد وحركاته ما هي إلا تعبير عن الروح.. البدن مسكن الروح والناطق باسمها.

بعد أن اشتد الجدل هذه الأيام، حول حدود الفتنة في خريطة الجسد الأنثوي، ومكامن الخطر التي يجب تحييدها لإعادة التوازن للذات الذكورية، وبالتالي لمجتمع الرجال أو ربما النساء، تبين لي بعد شيئ من التأمل أن الضرورة المنهجية في تناول هذا الموضوع تتطلب منا ابتداء العودة إلي مفاهيم الجسد والأنوثة والفتنة لتحديد دلالاتها ومضامينها، وعندها قفزت إلي ذهني مجموعة من التساؤلات وكأنها قصف عاصف، يدور جلها حول طبيعة الأنوثة وعما إذا كانت صفة أم جوهرا؟ وهل الأنوثة مفهوم ثقافي مكتسب أم معني انساني مركب؟ وهل يمكن اعتبار الأنوثة مصدرا للعقل والحنكة، أم مكمنا للخطر والفتنة؟ وما هو مفهوم الجسد، وهل يمكن تجريده من المعني والروح والقيمة؟

وشيئا فشيئا تحول العصف إلي إرهاصات وتحولت الإرهاصات إلي إشكاليات يتطلب تفكيكها العودة إلي رجال الفقه وأئمة المذاهب كما علماء الاجتماع والنفس، علي اعتبار أن الانسان كيان شديد التعقيد، ولابد كما يقول فيلسوف المنهجية المعاصر إدغار موران Edgar Morin من توظيف العبرمنهاجية لتحليل ما يرتبط به من ظواهر لايمكن بحثها إلا في إطار كلاني لايقبل التجزئة، ومن ثم عدت إلي التراث أستنطقه، في صحبة إمام لا أمل أبدا من مجالسته لأتشرب من روح عبقريته وأتعلم من دقة مقاربته للواقع ومن احترامه للعقل، وشجاعته في الخروج علي المألوف إذا تناقض مع تعاليم الوحي ومقاصد الشرع ومعطيات الواقع.

إنه الإمام شمس الدين ابن القيم (رحمه الله)، في مؤلفه الشهير " روضة المحبين ونزهة المشتاقين " وحول مفهوم الإفضاء تحديدا، باعتباره المفهوم الذي تتمركز حوله كل معاني الأنوثة، الأمر الذي سيضطر شيخنا إلي تجلية مضمونه بدون تحفظ خدمة للحقيقة كما عهدناه، ولقد كان عند وعده كما توقعت، حيث وجدته وعلي غير عادة كثير من الفقهاء، يوجه الخطاب للإنسان دون تمييز بين ذكر وأنثي، ثم يربط في زمن الإفضاء بين العقل والجسد والعاطفة في منظومة متناغمة وسمفونية مكتملة تعزف علي إيقاع الذات الإنسانية المركبة، من خلال التمازج والتشاكل، فبالعقل يدرك الرجل أو المرأة المعني، معني أو جوهر الطرف الآخر سواء ارتبط ذلك المعني بجوهر الذات الأنثوية أو الذكرية في شخص (المحبوب) من حيث العمق الانساني، ثم ينعكس المعني علي الذات، فيفيض علي الوجدان من خلال العاطفة، ليعبر الجسد ويتفاعل مع تلك المعاني، يقول الإمام ابن القيم في ذلك " إذا تشاكلت النفوس وتمازجت الأرواح وتفاعلت، تفاعلت عنها الأبدان وطلبت نظير الامتزاج والجوار الذي بين الأرواح، فإن البدن آلة الروح ومركبه" وهنا تتحدد علاقة التساوي والتداخل بين الجسد والروح، لدي الطرفين المذكر والمؤنث، أما العبقرية في وصف شيخنا، فإنها تكمن في ملازمة وتطابق الإفضاء مع الارتقاء، باعتبار أن إيحاءات الجسد وحركاته ما هي إلا تعبير عن الروح، والروح مردها إلي ما هو أعلي، إلي نفحات الإله، والبدن مسكن الروح والناطق باسمها، كما يعبر ابن القيم عن هذه العلاقة في إشراقة أخري من إشراقاته، بكونها اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب، علي أساس أن علاقة الرجل بالمرأة أوالأنثي بالذكر لا تنتهي عند حدود العلاقة الجسدية في مضمونها المباشر، فعلاقة الجسد بالجسد لا تختزل في حدود الشهوة، التي تنتهي إلي سكون ولكنه يعبر عن العلاقة بين الطرفين وكأنها نوع من السكون المضطرب، ولاضير طالما إشعاع الروح قائم يستمد وقوده من المعني والجوهر، فإن الاضطراب دائم يبدي تجلياته من حين لآخر في صور من الإفضاء، الذي عبر عنه ابن القيم بشكل تجاوز به رواد الفلسفة الوجودية وما تضمنته من نظريات حول الذات الفاعلة والذات المفكرة وفلسفة الجسد وتعبيراته وفضاءاته ومضمون إفضاءاته.

ومفهوم الأنوثة عند ابن القيم يستمد من عدم تحديده في تقديمه للجسد عن جنس الذكورة أو الأنوثة، الأمر الذي يؤكد احتراما واضحا للجسد الأنثوي ولغته وعلاماته الدالة والموحية، فالجسد بالنسبة لابن القيم ليس وسيلة شهوانية شبقية، ولكنه قيمة تفاعلية، وهذا تصور ينطوي علي مفهوم مركب للأنوثة ولجسد الأنثي، علي عكس من يسعي إلي تجريد الجسد من قيمته المعنوية والانسانية، ويجعله مجرد آداة للجنس، مما ينم عن جهل تام بحقيقة الجسد المؤنث، فالأنوثة إذن عند ابن القيم جوهرا وليست صفة ولا يكتمل معناها إلي بتمازجها مع العقل والروح، فإذا انتفي ذلك التمازج، يكون لقاء الجسد بالجسد مستقلا عن الروح وبالتالي عن صلب الإيمان، وربما لذلك جاء حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، لأن الروح بمصدرها الالهي لا تتجزء و روح الإيمان لاتنفك عن روح العواطف الانسانية، والتي إذا غابت بات الجسد مركبا للغريزة، وهنا يتغير مفهوما الذكورة والأنوثة ويبرز مفهوم الفتنة بمعناه السلبي ويتحول الإفضاء الإنساني إلي ما هو أدني.

ومن أجواء الارتقاء وظلال الجمال والمعني، مضطرة واصلت رحلة بحثي عن مفهوم الأنوثة، وهذه المرة مع أئمة التفسير، وتحديدا مع الجامع لأحكام القرآن لصاحبه الإمام أبي عبد الله القرطبي في تفسيره للآية الكريمة ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)-الروم21- .

يقول الإمام القرطبي في ذلك " فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، (...) فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، (...) فأعلم الله الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم" وهنا تساءلت هل يمكن اختزال السكن في هذا الفعل المباشر؟

إذا ما الذي يميز الانسان عن باقي المخلوقات، لاسيما وأن الله عز وجل خص معاني السكن والمودة والرحمة علي أنها آيات من آياته الخاصة بخلق الانسان وليس غيره من المخلوقات التي تقوم بنفس الوظيفة التي حددها الإمام القرطبي (رحمه الله) ، وهنا لا أخفي ما شعرت به من انقباض لأن الأمر يخص تفسير آية من آيات الله وهي ترتبط بميثاق الله الغليظ والركائز الانسانية المتينة التي يقوم عليها، ولكني حاولت التجاوز ظاهرا، وواصلت رحلة البحث باتجاه الإمام الجليل فخر الدين الرازي (رحمه الله)، لأطلع علي تفسيره لنفس الآية من سورة الروم، فوجدته يقول في التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، (كما قال تعالي (خلق لكم) دليل علي أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف فنقول خلق النساء من نعم الله علينا وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا، وذلك من حيث النقل والحكم والمعني...)، وهنا تحول الانقباض إلي صدمة، بل صدمتين، تتمثل أولاهما في مساواة خلق المرأة بخلق الدواب، والثانية تخص مناط التكليف، فالمرأة شريكة الرجل في العبادة والاستخلاف والعمارة والعلاقة بينها وبين الرجل تحكمها الرابطة الإيمانية والولاية المتبادلة، بينما جعل الإمام الرازي مفهوم الأنوثة يدور حول مطالب الذكورة والفحولة والرجولة وكل المعاني المرتبطة بالرجل واحتياجاته ومصدر سعادته ومنافعه وراحته وسكونه وتوازنه، وهي رؤية قد انعكست علي كثير من كتب التفسير، من منطلق اختلاف علماء السلف وفي مجال علوم القرآن تحديدا حول مدي دخول النساء في الخطاب القرآني، ومن ثم ظهرت بعض التفسيرات التي تضع المرأة في مرتبة أدني تأثرا بذهنية سائدة أوأعراف قائمة وتقاليد راسخة، وإن كان ذلك لا يمنع من التساؤل حول سبب عدم استدراك أئمتنا القدامي أو شيوخنا المعاصرين علي أئمتنا في مثل هذه المواقف!

ومن خراسان إلي قرطبة، في ملاحقة دائمة لمفهوم الجسد و الأنوثة لدي الإمام ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- وتحديدا في رائعته " طوق الحمامة في الألفة والألاف " التي ترجمت إلي كل لغات أوروبا، كما انتشر اسمه في ستة آلاف عنوان في المكتبات الغربية، تناول فيها المستشرقون وغيرهم الدور الذي لعبه في الارتقاء بالعواطف الانسانية، ومنهم من اعتبره الأب الروحي للتيارات الأدبية المختلفة منذ القرن الثاني عشر الميلادي.

في الأول يؤكد إمام الأندلس وأديبها، علي أنه تربي في حجور النساء ولازمهن حتي بلغ مرحلة الشباب، واختار له أبوه معلمات من نساء قرطبة اللواتي كن فقيهات وراويات ومقرئات ومحدثات وطبيبات وعالمات بالفلك والفلسفة

أما مضمون الكتاب، فإنه يدل علي خبرة دقيقة بأحوال النفس البشرية، وسبرلأغوارها ويعكس تأملات عميقة للذات الانسانية بأبعادها المختلفة ولاسيما العاطفية منها، ولكن الذي استوقفني منه، باب " من لايحب إلا مع المطاولة " وكأني قد وجدت ظالتي في قول ابن حزم:

"...وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضربا من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكنا من صميم الفؤاد، نافذا في حجاب القلب، فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملائمة الشخص لي دهرا، وأخذي معه في كل جد وهزل"
محبة صدق لم تكن بنت ساعة
ولارويت حين ارتفاد زنادها
وفي هذا المعني دليل علي مفهوم مختلف للأنوثة ومعني متجاوز لمفهوم الفتنة الخاطف، بما يتضمنه من ولع مباشر ومسطح بالجسد مركب الغريزة وليس الجسد مركب الروح، فالافتتان السريع قائم علي تجريد الجسد والكيان الانثوي الانساني من أي معني، وهو أشبه بقصص الحب في ألف ليلة وليلة وحالات الشغف والإغماء والفتن والأسقام التي تصيب من تصيب بمجرد لفتة أو نظرة، ولعل هذا الاعتبار للإنسان مثل الخلفية لدي ابن حزم في تفصيله لحقوق المرأة في الجزء الثالث من الإحكام " لما كان رسول الله مبعوثا إلي الرجال والنساء بعثا مستويا، وكان خطاب الله تعالي وخطاب نبيه صلي الله عليه وسلم للرجال والنساء خطابا واحدا لم يجز أن يخص بشيئ من ذلك الرجال دون النساء إلا بنص جلي، أو إجماع لأن ذلك تخصيص الظاهر وهذا غير جائز " وفي الجزء الثامن من كتابه المحلي يجيز ابن حزم بإطلاق إسناد القضاء للمرأة.

و تنتهي بنا الرحلة في ظلال قرطبة وحدائقها الغناء، حيث فسحتنا هذه المرة مع الإمام القاضي أبي الوليد محمد ابن رشد (رحمه الله)، فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها، وصاحب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " فلقد عرض بالتحليل لمسألة المرأة وموقعها في المجتمع من خلال تلخيصه لجمهورية أفلاطون، الذي لم يتأثر به في موقفه المعروف من المرأة، حيث اعتبر ابن رشد في سياق ذلك التلخيص أن انتماء الرجل والمرأة إلي نفس النوع مسألة بديهية " إن النساء من جهة أنهن والرجال نوع واحد في الغاية الانسانية، فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم في الأفعال الانسانية " ثم يقول "وإن اختلفن عنهم بعض الاختلاف، أعني أن الرجال أكثر كدا في الأعمال الانسانية، من النساء وإن يكن من غير الممتنع أن تكون النساء أكثر حذقا في بعض الأعمال" ثم يذهب إلي ما هو أكثر من ذلك، عندما يؤكد أن الكثير من المهن التي يعتقد عادة أنها حكر علي الرجال يمكن للنسوة القيام بها، ومن بينها أن يكن فيلسوفات ورئيسات ومحاربات ، حيث يقول " وأما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها فذلك بين من حال ساكني البراري وأهل الثغور ومثل ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وحسن الاستعدادا فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة " ويحرص ابن رشد علي تأكيد ذلك من خلال الحجاج الفلسفي والفحص والتدقيق، لينتهي بالتأكيد علي أن من أسباب تخلف المدن، سجن النساء في البيوت، واختزال طاقاتهن في أدوار محددة، " وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن لأنهن اتخذن للنسل دون ذلك، فكان ذلك مبطلا لأفعالهن ..." وكأن ابن رشد يقوم بمساءلة ثقافية واجتماعية لعصره حول تردي أحوال النساء، والتي يدرسها كظاهرة اجتماعية وكأنها إرهاصات تقدم لظهور ابن خلدون، ولم تجانب الفيلسوفة الاسبانية سيليا أمروس الصواب، عندما اعتبرت ابن رشد من أهم المؤسسين للفكر العقلاني التنويري الذي سيطلق صيرورة الحداثة والديموقراطية، في الغرب.

وفي نهاية الرحلة، يبدو جليا أن الثلاثة الكبار قد تقاطعوا عند معني يؤكد بأنه لايوجد جسد لأنثي خال من الأنوثة بمفهومها الانساني المركب، فالمرأة ليست جوهرة وليست تحفة، ولكنها ببساطة انسان، بكل ما تحمله الانسانية من معاني عاطفية وفكرية وجسدية، والأنوثة ليست مادة للخيال ومصدرا للخطر والفتنة، لأن الأنوثة اليوم تفكر وتعبر وتفعل، بل تتخذ أخطر القرارات التي تنعكس علي مصير البشرية، وكل من يبحث اليوم عن جسد أنثي لن يجد إلا سرابا، أو تجارة رقيق، فالجسد بات متداخلا مع العقل والعقل متداخل مع العاطفة، والكل يشكل انسانا جميلا عاقلا وفاعلا ومتفاعلا، ولابد من مراجعة المخزون الثقافي الذي يتمركز حوله المفهوم السلبي، بل الوهمي للأنوثة، كما يجب التفريق بين معني الأنوثة وعورة الأنثي، فالأنوثة تحمل كينونة وجوهرا يتجاوز الحواس والغرائز بالتمازج معها والارتقاء بها، ليتمركز الكل حول المعني والجوهر، فالدين قد كرم الأنوثة تكريما عجزت الثقافة عن استيعابه وتمثله، والمجددون وحدهم، معنيون ببناء ثقافة الاستيعاب التي تنقلنا إلي أنثي ابن القيم وأنثي ابن حزم وأنثي ابن رشد!
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...