نقوس المهدي
كاتب
"لا حياء في الدين" ذاك هو شعار فقهاء المسلمين الأوائل في تناول موضوع الحب والجنس،ولوعة العشق والهيام، وفنون الجماع والنكاح، لكن في وقتنا الراهن، حيث تُلقى التهم جزافا بالرغبة في إفساد أخلاق الناس، نستعيد فتاويهم بالكثير من الانتقاء والحذر، وللمستزيد أن يطلع على ما خلّفوه من مصنفات فيها الكثير من الجرأة وحب الحياة.
فهل كان عبد الباري الزمزمي، الفقيه المغربي المثير للجدل، يأتي ب "بدعة" ينكرها من سبقه من العلماء والفقهاء بفتاواه الجنسية المثيرة أم أنه يواصل تقليدا أصيلا لديهم؟
"الأنباء المغربية" تعقبت سير الفقهاء في الإسلام حيث يبدو أنهم لم ينشغلوا فقط بما ينفع الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، بل اعتبروا الحديث عن الحب وحتى الجنس من صميم الدين. هذا ما عكسته كثير من المصنفات التي ألّفها ثلة من أولئك العلماء والمصنفين ، دون أدنى حرج أو خشية من اتهام.
تصنيف.. أنواع النساء.
يحكي أبو الفرج الأصفهاني عن أنواع النساء أن منهن الكاعب: وهي الحديثة السن، التي قد كعب ثديها، أي ظهر، من طباعها الصدق في كل ما تسأل عنه وقلة الكتمان لما علمته وقلة التستر والحياء وعدم المخالفة للرجال، والناهد: وتسمى المفلكة ، وهي التي نهد ثديها وفلك، أي استدار ولم يتكامل بعد، فتستتر بعض الاستثار، وتظهر بعض محاسنها وتحب أن يتأمل منها ذلك، والمعصرة: وهي الممتلئة شبابا التي استكمل خلقها، وعظم ثديها، فيحدث عندها دلال وأدب وتحلو ألفاظها ويعذب كلامها وتشتد ألمتها ويقال أيضا معصرة، والعانس: وهي المتوسطة الشباب التي قد تهيأ ثدياها للانكسار، فتحسن مشيتها ومنطقها، وتبدي محاسنها بغنج ودلال، وأحب الأشياء إليها مفاكهة الرجال وملاعبتهم، وهي في هذه الحالة قوية الشهوة مستحكمتها منها، أما المسلف وهي المتناهية الشباب، ولا شيء أشهى إليها من المباضعة، وتعجبها المطاولة في الإنزال، في حين يطلق نعث الجميلة على التي تأخذ ببصرك عن البعد، والمليحة التي تأخذ بقلبك على القرب.
قضية.. امرأة تشكو زوجها إلى عمر..
أتت امرأة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقالت: «يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه إليك وهو يقوم بطاعة الله»، فقال لها: «جزاك الله خيرا من مثنية على زوجك». فجعلت تكرر القول وهو يكرر عليها الجواب. وكان كعب الأزدي حاضرا، فقال له : «اقض، يا أمير المؤمنين، بينها وبين زوجها»، فقال: «وهل فيما ذكر قضاء؟»، فقال: «إنها تشكو مباعدة زوجها لها عن فراشها، وتطلب حقها في ذلك»، فقال عمر: «أما إن فهمت ذلك، فاقض بينهما». فقال كعب: عليّ بزوجها، فأحضروه فقال له: «إن زوجتك هذه تشكوك»، قال: «أقصرت في شيء من نفقتها؟»، قال: لا، فقالت المرأة:
يا أيها القاضي الحكيم رشده....ألهى خليلي عن فراشي مسجده
نهاره وليله ما يرقده....فلست في حكم النساء أحمده
رده في مضجعى تعبده....فاقض القضاء يا كعب لا تردده
فردّ عليها زوجها:
زهدي في فراشها وفي الحجل....إني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطوال....وفي كتاب الله تخويف جلل
فعلّق كعب :
إن خير القاضيين من عدل....وقضى بالحق جهرا وفصل
إن لها حقا عليم يا رجل....نصيبها في أربع لمن عقل
قضية من الله عز وجل.....فاعطها ذاك ودع عنك العلل
فقال عمر: "والله لا أرى من أي أمر أعجب، أ من فهمك أمرها أو من حكمك بينها؟ اذهب، فقد وليتك قضاء البصرة".
العشق عند ابن حزم.
إشتهر علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، وكونه الفقيه العاشق، وكتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، رسالة في الحب ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه. إذ من الصفحات الأولى للكتاب يؤكد أنه شاهد معظم النساء، وعلم من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيره، لأنه ترعرع في حجورهن، ونشأ بين أيديهن، ولم يعرف غيرهن، ولم يجالس الرجال إلا بعدما وصل سن الشباب .
وقد قسّم ابن حزم كتابه "طوق الحمامة" إلى ثلاثين بابا بسط فيها أصول الحب وأعراضه وصفاته المحمودة والمذمومة والآفات الداخلة عليه، فالحب، عند ابن حزم، "أوله هزل وآخره جد .. لا تدرك معانيه إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة". ويعرّف الحب بأنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. ومن علامات الحب، في نظر ابن حزم، "إدمان النظر للمحبوب، والإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والاضطراب عند سماع اسم المحبوب أو عند سماع صوته، واستدعاء اسمه، والتلذذ بالكلام عن أخباره، وحب الوحدة والأنس بالانفراد، ونحول الجسم والبكاء. وعن الحب من أول نظرة، يقول ابن حزم:"كثيرا ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة، لكن من الناس من لا تصح محبته إلا بعد طول المحادثة وكثير المشاهدة وتمادي الأنس".
وبعد الحب تأتي المراسلة، حيث يوصي ابن حزم بأن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأشكال. ومن بعض صفات الحب: الكتمان باللسان، وجحود المحب إذا سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وربما يكون السبب في الكتمان تعاون المحب عن أن يشهر نفسه بهذه الصفة عند الناس.
ويذهب إبن حزم إلى أن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف وترك ركوب الغريزة والمعصية والفاحشة.
أدب الخلاعة عند السيوطي..
جلال الدين السيوطي معروف بكونه أحد الذين حاولوا تفسير القرآن كي يفهم نوازله العامة، فهذا العالم، الذي عرف بموسوعيته وغزارة إنتاجه، لم يترك فرعا من فروع العلم إلا شارك فيه بقدر ونصيب، وكان أول تأليف خطّ سطوره وهو في سن الثامنة عشر من عمره كتاب "تفسير الاستعاذة والبسملة"، ثم توالت المؤلفات في شتى أصناف العلم والمعرفة. ومن الحقول التي اختار السيوطي أن يدلي فيها بدلوه، نجد موضوع الجنس والحب، الذي خصص له كتابه "شقائق الأترج في رقائق الغنج"، حيث أجاب فيه سائلا أراد أن يعرف حكم الغنج الشرعي.
ويعتبر السيوطي أن كل جزء من جسم الإنسان له نصيب من اللذة ونصيب من الغنج الذي هو الترقق والتدلل والذهول وتفتير العيون وتمريض الجفون وإرخاء المفاصل من غير سكون حركة والتعلل من غير انزعاج والتوجع من غير ألم.. ويحكي السيوطي عن أحد القضاة المتقدمين "أنه تزوج امرأة مطبوعة على الخلاعة، فلما خلا بها سمع منها ما لم يسمعه قبلها، فنهاها عنه، فلما عاودها للمرة الثانية لم يسمع منها شيئا من ذلك، فلم يجد في نفسه نشاطا كالمرة الأولى ولا انبعثت له تلك اللذة، فقال لها: ارجعي إلى ما كنت تقولين أولا، واجتنبي الحياء ما استطعت".
وقد تصدّى السيوطي للحديث عما تحبه النساء في الرجال، وما يكرههن فيهم، فالنساء يفضلن الرجال الذين يكونون عالمين بأمورهن، ويكرهن الرجال الذين يبدون إعجابهم بنساء أخريات. ومما يقربهن من الرجال أن يقدموا لهن هدايا دون أن يطلبن ذلك، ويحتملوهن عند الغضب. وذكر السيوطي أن "المرأة تصل إلى الشهوة مع الرجل الذي صلبت رهزته، واشتدت ضمته وعنف إدخاله وبعد إنزاله.. وكان طيب المشاهدة، حلو المفاكهة، قويا على المعاودة، فهذا عند المرأة اللذة الكبرى، والأمنية العظمى، والأمل الطويل، لا تنجح في كبح جماحه صلة نسيب، ولا هيبة رقيب..
مودة النساء عند القزويني..
كيف تأتي بالنساء إلى فراشك؟ هل تشغل نفسك بما تريده المرأة؟ هذا ما يتصدى الشيخ علي القزويني للحديث عن مثل هذه الأسئلة ، يجيب في كتابه "جوامع اللذة"، حيث يرشد القارئ إلى كيفية كسب مودة النساء وقواعد وأوقات الحميمية والأحوال التي يستحاب فيها .
ويؤكد القزويني أن الرجل لا ينال المرأة إلا برضاها، ولا يبلغ رضاها إلا بمعرفة طاعتها، ولا ينال طاعتها إلا العالم بأمر النساء الحاذق فيه، وأحب الرجال إلى النساء أجمعهم للأدب وأجملهم بموافقتهن، ولا شيء أصيد لامرأة، ولا أنقص لعرفها، ولا أذهب لعقلها من أن تعرف أن إنسانا يحبها.
وحسب القزويني يجب على الرجل، أن يتجمّل عند المرأة بأحسن هيأة، ويتطيّب بكل ما يمكنه، ولا يوحشها بمطالبة الجماع في أول جلسة.
رجوع الشيخ إلى صباه.
لم يكن الفقهاء يسعون، من وراء الحديث عن الجنس وتصنيف المؤلفات حول كل ما يمتّ إليه بصلة، إلى إفساد أخلاق الناس، ففي مقدمة كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه»، يقول مؤلفه أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا: «لم أقصد بتأليفه كثرة للفساد، ولا طلب الإثم، ولا إعانة المتمتع الذي يرتكب المعاصي ويستحل ما حرم الله، بل قصدت إعانة من قصرت شهوته عن بلوغ أمنيته في الحلال». يتحدث الكاتب عن أضرار الإسراف في الجماع الذي يضر بالأعصاب، وينقص شهوة الغذاء، ويجفف البدن، ويطفئ الحرارة الغريزية، فتضعف الأعضاء الطبيعية، وتقوى العوارض الخارجية، فتسقط القوة، ويقل نشاط البدن، وتقل حركاته. ويوصي صاحب كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه» الشيوخ ذوي الأبدان النحيفة، الذين يفرطون في الجماع للذته، بأن يحذروه حذر العدو المهلك، لأنه يشيخ ويسرع بهم إلى الهرم.
ويضيف أن علامة العاشقة لرجل، عديدة، فهي كثيرة التنهدات، وإذا سئلت عن شيء أتت بغيره، وتظهر محاسنها لغيره وإياه تعني.. تلاطفه بالرائحة الطيبة، وتكرم محبيه، وتعادي عدوه، وتشكره على القليل، ولا تكلفه كلفة، وتسارع لخدمته، وتجد أنها تراه في النوم.
ويرصد ما تحبه المرأة من أخلاق الرجل الذي تريده أن يكون سخيا، صدوقا، حلو النطق، بصيرا بالهزل والجد، وفيا بالعهد والوعد، حليما.. وأن يكون نظيف الثغر.. نظيف اليدين والرجلين والقلب، حسن الثياب، طيب الرائحة، فإن اجتمع مع هذه الأوصاف كثرة المال والكرم، فذاك الكامل عندهن والمحبوب إليهن.
نزهة الخاطر عند النفزاوي.
يكاد يعتبر "الروض العاطر في نزهة الخاطر" أول موسوعة في الجنس والحب بالثرات العربي ، إذ ترجم إلى عدة لغات وحققه الكثير من الباحثين والدارسين. فقد وضع بين دفتيه أبو عبد الله محمد بن محمد النفزاوي المغربي، الذي لا تتوفر عنه معلومات شافية، خلاصة تجربته وتجارب الآخرين، ولم يكتف بسرد مختلف وجوه الحياة الجنسية، بل تحدث، كذلك، عن الأدوية والعلاجات التي تقي من العقم والعجز الجنسي.
هذا، ولم يؤلف النفزاوي هذا الكتاب وحده فقط، فهو يؤكد أن "الروض العاطر في نزهة الخاطر" أن يأتي بعد مؤلفه الآخر "تنوير الوقاع في أسرار الجماع". حيث لم يكن النفزاوي يرى في ما يكتبه خروجا عن الدين أو تحريضا على ارتكاب الفاحشة و الموبقات والحرام ، فهو يبدأ حديثه كالتالي: «الحمد لله، الذي جعل اللذة الكبرى للرجال في …. النساء، وجعلها للنساء في …الرجال... سبحان من كبير متعال، خلق النساء وزينهن باللحوم والشحوم والشعور والنهود والغنج والتغنج، وجعلهن فتنة لجميع الرجال. القاهر الذي قهر الرجال بمحبتهن وإليهن الاستكان والارتكان، ومنه العشرة والرحلة وبه الإقامة. المذل الذي أذل قلوب العاشقين بالفرقة، وأحرق أكبادهم بنار الوجد، قدر عليهم الذل والهوان والمسكنة بالخضوع شوقا إلى الوصال".
وعندما يدخل النفزاوي في الموضوع الذي خصصه للكتاب، يبدأ بالمحمود من الرجال عند النساء، حيث يصفه بأنه "كبير المتاع، الشديد القوي الغليظ ، البطيء ، السريع الإفاقة من ألم الشهوة، لأن النساء يردن من الرجل …. أن يكون وافر المتاع، طويل الاستمتاع، خفيف الصدر، ثقيل العجز.
أما المحمود من الرجال عند النساء، فهو "الذي يكون ذا همة ونظافة، وحسن القوام والقد، مليح الشكل، لا يكذب على المرأة أبدا ويكون صدوق اللهجة، سخيا، شجاعا، كريم النفس، خفيفا على القلب، إذا قال أوفى، وإذا أؤتمن لم يخن، وإذا وعد صدق، فهذا الرجل الذي يطمعن في وصاله ومحتبه". وعندما يتناول المحمود في المرأة، فيقول عنها أنها هي "الكاملة القد العريضة، الخصيبة اللحم، الكحيلة الشعر، الواسعة الجبين، الزجة الحواجب، الجميلة العينين، … إن أقبلت فتنت، وإن أدبرت قتلت .
لواعج ابن البكاء..
لا توجد معطيات كافية حول هذا المؤلف، فالمعروف عنه هو أنه ينحدر من مدينة "بلغ" بخراسان، ويرجح أنه كان من أهل التصوف. حاول ابن البكاء، في كتابه «لواعج الغرام»، تعقب علامات العشاق، وتحدث عن الحب وكيفيته والكشف عن ماهيته. يقول محمد الباز إن ابن البكاء حرص على تنقية الحب وتنزيه العشق عما يمكن أن يفسده. لم يعزف ابن البكاء على وتر الجنس، بل انحاز طوال الوقت إلى الحديث عن العاطفة. وبذلك الصنيع، يكون هذا العالم المتنور قد قام بدوره أحسن قيام، فالعشق إما أن ينتهي بالسلو، فلا يكون عشقا، وإما يتم من خلاله الوصال، فتصبح أجساد العشاق جسدا واحدا. فأحسن ما قيل: المحبة شجرة تغرس في الفؤاد، وتسقى بماء الوداد، أصلها ثابت في السر، وفرعها في هواء الهمة، تؤتي أكلها كل حين. وينقل عن أبي الهذيل العلاف، وهو من أئمة المعتزلة، أنه لا يجوز في دور الفلك، ولا في تركيب الطبائع، ولا في الحسن، ولا في الواجب، ولا في الممكن، ولا في القياس.
أرواح العشاق عطرة ، وأبدانهم رقيقة
ويذهب مطرب بني العباس إبراهيم الموصلي إلى أن أرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم رقيقة نحيفة، ونزهتهم المؤانسة، وكلامهم يحيي موات القلب ويزيد في العقول، ولولا العشق والهوى لم يتمتع الناس بسماع الغناء، ولم توجد لذة الصبا، وبطل نعيم الدنيا. وقال الجنيد: العشق ألفة رحمانية، وإلهام شوقي أوجبها كرم الله تعالى على كل ذي روح لتحصل له اللذة العظمى التي لا يقدر أحد على مثلها إلا بتلك الألفة، وهي موجودة في الأنفس مقدرة مراتبها عند أربابها، فما أحد إلا وعشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق. إذا كان العشق كذلك، فهل هو اضطراري أم اختياري؟
إلى ذلك، يوضح العلامة قدامة أن العشق فضيلة تنتج الحلية، وتشجع الجبان، وتسخي كف البخيل، وتصفي ذهن الغبي، وتطلب بالشعر عنان المعجم، وتبعث حزم العاجز، وهو غريزة يذل لها عز الملوك، وتصرع لها صولة الشجاع، وهو داعية الأدب، وأول باب تفتق به الأذهان والفطن، وتستخرج به دقائق المكائد والحيل، وإليه تستريح النفس والهمم، وتسكن دوابر الأخلاق والشيم، يمتع جليسه، ويؤنس صاحبه نفسه، وله سرور يجول في النفوس، وفرح يسكن أبراج القلوب.
فقه الحياة الجنسية
ويبدو من كتاب محمد الباز أن الحياة الجنسية كانت بابا من الأبواب التي كان يخوض فيها أولئك الفقهاء والعلماء بالكثير من الجد، فلا يفرغ كلام الفقهاء عن شؤون الناس الجنسية، فالفقهاء أنفسهم بشر لهم حياتهم الخاصة .. رغباتهم واحتياجاتهم ومشاكلهم.. لذا، فإن اجتهاداتهم لم تأت فقط نتيجة إجاباتهم عن أسئلة الناس، وتقديمهم حلولا لمعضلاتهم.. ولكنها جاءت انعكاسا لبعض مشكلاتهم ومعاناتهم في حياتهم الشخصية.. حيث أن كل ذلك مصاغ، في النهاية، في إرشادات قرآنية ووصايا دنيوية'
ويستطرد الباز أن الجنس، في الإسلام يثاب عليه، فكما يصفه علماء الإسلام، فيه كمال اللذة وكمال الإحسان إلى الحبيب وحصول الأجر وثواب الصدقة وفرح النفس.. فإن صادفت الرغبة وجها حسنا وخلقا دمثا وعشقا وافرا ورغبة تامة واحتسابا للثواب، فتلك اللذة التي لا يعادلها شيء، ولا سيما إذا وافقت كمالها، فإنها تكتمل حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة، فتتلذذ العين بالنظر إلى المحبوب، والأذن بسماع كلامه، والأنف بشم رائحته، والفم بتقبيله، واليد بلمسه.. فتعكف كل جارحة ما تطلبه من لذتها وتقابلها من المحبوب». فالقرآن وصف العلاقة بين الرجل والمرأة في تعبير دقيق بقوله تعالى "هُنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهُنّ"، ففي هذه الكلمات القليلة، كما يلاحظ الباز، تصوير لعلاقة الجسد والروح في آن واحد. ويعيد التأكيد على أن الإسلام يحرص على إقامة المجتمع الإسلامي النظيف عبر ضبط الغريزة وتوجيهها توجيها صحيحا والمحافظة عليها من أي انحراف، بل تتويجا للسكينة والمودة والرحمة بين قلبيهما.
الحب والغرب
في سنة 1939، نشر دونيس دو روجمون كتابه «الحب والغرب» الذي ترجم لعدة لغات وأعيد نشره عدة مرات. يقر روجمون بمقولة المؤرخ شارل سينيوبوس الذي يذهب إلى أن الحب من مخترعات القرن الحادي عشر، فأوربا لم تعرف الحب والهوى إلا مع ظهور شعر التروبادور الذي أنكر الزواج من غير حب والفجور وحث على التعبد بالحب. وظهر في قصائد الشاعر غيوم دي بواتيي، الذي كان قد قام برحلة إلى الشرق في عقود الحروب الصليبية، حيث قد يكون تأثر بمذهب قرطبة الشعري. إذ يربط الحب الذي كان يدعو إليه "بواتييه" بالحب الصوفي الذي ولد في الشرق على أيدي الحلاج والسهروردي الحلبي وابن عربي .
وقد عرف عالمين، عند "روجمون" هما الشرق والغرب، فيما لم يعرف الصينيون والهنود سوى اللذة الجسدية، لأنها شعوب غير موحدة ثقافيا وذوقيا، ثم إنهم لا يعرفون الذات الفردية، فذواتهم متلاشية في المطلق والتماهي مع الطبيعة، كما أن دياناتهم لا مكان فيها للملائكة والمثل والقيم والخيال كما في الديانات السماوية.
فهل كان عبد الباري الزمزمي، الفقيه المغربي المثير للجدل، يأتي ب "بدعة" ينكرها من سبقه من العلماء والفقهاء بفتاواه الجنسية المثيرة أم أنه يواصل تقليدا أصيلا لديهم؟
"الأنباء المغربية" تعقبت سير الفقهاء في الإسلام حيث يبدو أنهم لم ينشغلوا فقط بما ينفع الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، بل اعتبروا الحديث عن الحب وحتى الجنس من صميم الدين. هذا ما عكسته كثير من المصنفات التي ألّفها ثلة من أولئك العلماء والمصنفين ، دون أدنى حرج أو خشية من اتهام.
تصنيف.. أنواع النساء.
يحكي أبو الفرج الأصفهاني عن أنواع النساء أن منهن الكاعب: وهي الحديثة السن، التي قد كعب ثديها، أي ظهر، من طباعها الصدق في كل ما تسأل عنه وقلة الكتمان لما علمته وقلة التستر والحياء وعدم المخالفة للرجال، والناهد: وتسمى المفلكة ، وهي التي نهد ثديها وفلك، أي استدار ولم يتكامل بعد، فتستتر بعض الاستثار، وتظهر بعض محاسنها وتحب أن يتأمل منها ذلك، والمعصرة: وهي الممتلئة شبابا التي استكمل خلقها، وعظم ثديها، فيحدث عندها دلال وأدب وتحلو ألفاظها ويعذب كلامها وتشتد ألمتها ويقال أيضا معصرة، والعانس: وهي المتوسطة الشباب التي قد تهيأ ثدياها للانكسار، فتحسن مشيتها ومنطقها، وتبدي محاسنها بغنج ودلال، وأحب الأشياء إليها مفاكهة الرجال وملاعبتهم، وهي في هذه الحالة قوية الشهوة مستحكمتها منها، أما المسلف وهي المتناهية الشباب، ولا شيء أشهى إليها من المباضعة، وتعجبها المطاولة في الإنزال، في حين يطلق نعث الجميلة على التي تأخذ ببصرك عن البعد، والمليحة التي تأخذ بقلبك على القرب.
قضية.. امرأة تشكو زوجها إلى عمر..
أتت امرأة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقالت: «يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه إليك وهو يقوم بطاعة الله»، فقال لها: «جزاك الله خيرا من مثنية على زوجك». فجعلت تكرر القول وهو يكرر عليها الجواب. وكان كعب الأزدي حاضرا، فقال له : «اقض، يا أمير المؤمنين، بينها وبين زوجها»، فقال: «وهل فيما ذكر قضاء؟»، فقال: «إنها تشكو مباعدة زوجها لها عن فراشها، وتطلب حقها في ذلك»، فقال عمر: «أما إن فهمت ذلك، فاقض بينهما». فقال كعب: عليّ بزوجها، فأحضروه فقال له: «إن زوجتك هذه تشكوك»، قال: «أقصرت في شيء من نفقتها؟»، قال: لا، فقالت المرأة:
يا أيها القاضي الحكيم رشده....ألهى خليلي عن فراشي مسجده
نهاره وليله ما يرقده....فلست في حكم النساء أحمده
رده في مضجعى تعبده....فاقض القضاء يا كعب لا تردده
فردّ عليها زوجها:
زهدي في فراشها وفي الحجل....إني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطوال....وفي كتاب الله تخويف جلل
فعلّق كعب :
إن خير القاضيين من عدل....وقضى بالحق جهرا وفصل
إن لها حقا عليم يا رجل....نصيبها في أربع لمن عقل
قضية من الله عز وجل.....فاعطها ذاك ودع عنك العلل
فقال عمر: "والله لا أرى من أي أمر أعجب، أ من فهمك أمرها أو من حكمك بينها؟ اذهب، فقد وليتك قضاء البصرة".
العشق عند ابن حزم.
إشتهر علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، وكونه الفقيه العاشق، وكتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، رسالة في الحب ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه. إذ من الصفحات الأولى للكتاب يؤكد أنه شاهد معظم النساء، وعلم من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيره، لأنه ترعرع في حجورهن، ونشأ بين أيديهن، ولم يعرف غيرهن، ولم يجالس الرجال إلا بعدما وصل سن الشباب .
وقد قسّم ابن حزم كتابه "طوق الحمامة" إلى ثلاثين بابا بسط فيها أصول الحب وأعراضه وصفاته المحمودة والمذمومة والآفات الداخلة عليه، فالحب، عند ابن حزم، "أوله هزل وآخره جد .. لا تدرك معانيه إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة". ويعرّف الحب بأنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. ومن علامات الحب، في نظر ابن حزم، "إدمان النظر للمحبوب، والإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والاضطراب عند سماع اسم المحبوب أو عند سماع صوته، واستدعاء اسمه، والتلذذ بالكلام عن أخباره، وحب الوحدة والأنس بالانفراد، ونحول الجسم والبكاء. وعن الحب من أول نظرة، يقول ابن حزم:"كثيرا ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة، لكن من الناس من لا تصح محبته إلا بعد طول المحادثة وكثير المشاهدة وتمادي الأنس".
وبعد الحب تأتي المراسلة، حيث يوصي ابن حزم بأن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأشكال. ومن بعض صفات الحب: الكتمان باللسان، وجحود المحب إذا سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وربما يكون السبب في الكتمان تعاون المحب عن أن يشهر نفسه بهذه الصفة عند الناس.
ويذهب إبن حزم إلى أن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف وترك ركوب الغريزة والمعصية والفاحشة.
أدب الخلاعة عند السيوطي..
جلال الدين السيوطي معروف بكونه أحد الذين حاولوا تفسير القرآن كي يفهم نوازله العامة، فهذا العالم، الذي عرف بموسوعيته وغزارة إنتاجه، لم يترك فرعا من فروع العلم إلا شارك فيه بقدر ونصيب، وكان أول تأليف خطّ سطوره وهو في سن الثامنة عشر من عمره كتاب "تفسير الاستعاذة والبسملة"، ثم توالت المؤلفات في شتى أصناف العلم والمعرفة. ومن الحقول التي اختار السيوطي أن يدلي فيها بدلوه، نجد موضوع الجنس والحب، الذي خصص له كتابه "شقائق الأترج في رقائق الغنج"، حيث أجاب فيه سائلا أراد أن يعرف حكم الغنج الشرعي.
ويعتبر السيوطي أن كل جزء من جسم الإنسان له نصيب من اللذة ونصيب من الغنج الذي هو الترقق والتدلل والذهول وتفتير العيون وتمريض الجفون وإرخاء المفاصل من غير سكون حركة والتعلل من غير انزعاج والتوجع من غير ألم.. ويحكي السيوطي عن أحد القضاة المتقدمين "أنه تزوج امرأة مطبوعة على الخلاعة، فلما خلا بها سمع منها ما لم يسمعه قبلها، فنهاها عنه، فلما عاودها للمرة الثانية لم يسمع منها شيئا من ذلك، فلم يجد في نفسه نشاطا كالمرة الأولى ولا انبعثت له تلك اللذة، فقال لها: ارجعي إلى ما كنت تقولين أولا، واجتنبي الحياء ما استطعت".
وقد تصدّى السيوطي للحديث عما تحبه النساء في الرجال، وما يكرههن فيهم، فالنساء يفضلن الرجال الذين يكونون عالمين بأمورهن، ويكرهن الرجال الذين يبدون إعجابهم بنساء أخريات. ومما يقربهن من الرجال أن يقدموا لهن هدايا دون أن يطلبن ذلك، ويحتملوهن عند الغضب. وذكر السيوطي أن "المرأة تصل إلى الشهوة مع الرجل الذي صلبت رهزته، واشتدت ضمته وعنف إدخاله وبعد إنزاله.. وكان طيب المشاهدة، حلو المفاكهة، قويا على المعاودة، فهذا عند المرأة اللذة الكبرى، والأمنية العظمى، والأمل الطويل، لا تنجح في كبح جماحه صلة نسيب، ولا هيبة رقيب..
مودة النساء عند القزويني..
كيف تأتي بالنساء إلى فراشك؟ هل تشغل نفسك بما تريده المرأة؟ هذا ما يتصدى الشيخ علي القزويني للحديث عن مثل هذه الأسئلة ، يجيب في كتابه "جوامع اللذة"، حيث يرشد القارئ إلى كيفية كسب مودة النساء وقواعد وأوقات الحميمية والأحوال التي يستحاب فيها .
ويؤكد القزويني أن الرجل لا ينال المرأة إلا برضاها، ولا يبلغ رضاها إلا بمعرفة طاعتها، ولا ينال طاعتها إلا العالم بأمر النساء الحاذق فيه، وأحب الرجال إلى النساء أجمعهم للأدب وأجملهم بموافقتهن، ولا شيء أصيد لامرأة، ولا أنقص لعرفها، ولا أذهب لعقلها من أن تعرف أن إنسانا يحبها.
وحسب القزويني يجب على الرجل، أن يتجمّل عند المرأة بأحسن هيأة، ويتطيّب بكل ما يمكنه، ولا يوحشها بمطالبة الجماع في أول جلسة.
رجوع الشيخ إلى صباه.
لم يكن الفقهاء يسعون، من وراء الحديث عن الجنس وتصنيف المؤلفات حول كل ما يمتّ إليه بصلة، إلى إفساد أخلاق الناس، ففي مقدمة كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه»، يقول مؤلفه أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا: «لم أقصد بتأليفه كثرة للفساد، ولا طلب الإثم، ولا إعانة المتمتع الذي يرتكب المعاصي ويستحل ما حرم الله، بل قصدت إعانة من قصرت شهوته عن بلوغ أمنيته في الحلال». يتحدث الكاتب عن أضرار الإسراف في الجماع الذي يضر بالأعصاب، وينقص شهوة الغذاء، ويجفف البدن، ويطفئ الحرارة الغريزية، فتضعف الأعضاء الطبيعية، وتقوى العوارض الخارجية، فتسقط القوة، ويقل نشاط البدن، وتقل حركاته. ويوصي صاحب كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه» الشيوخ ذوي الأبدان النحيفة، الذين يفرطون في الجماع للذته، بأن يحذروه حذر العدو المهلك، لأنه يشيخ ويسرع بهم إلى الهرم.
ويضيف أن علامة العاشقة لرجل، عديدة، فهي كثيرة التنهدات، وإذا سئلت عن شيء أتت بغيره، وتظهر محاسنها لغيره وإياه تعني.. تلاطفه بالرائحة الطيبة، وتكرم محبيه، وتعادي عدوه، وتشكره على القليل، ولا تكلفه كلفة، وتسارع لخدمته، وتجد أنها تراه في النوم.
ويرصد ما تحبه المرأة من أخلاق الرجل الذي تريده أن يكون سخيا، صدوقا، حلو النطق، بصيرا بالهزل والجد، وفيا بالعهد والوعد، حليما.. وأن يكون نظيف الثغر.. نظيف اليدين والرجلين والقلب، حسن الثياب، طيب الرائحة، فإن اجتمع مع هذه الأوصاف كثرة المال والكرم، فذاك الكامل عندهن والمحبوب إليهن.
نزهة الخاطر عند النفزاوي.
يكاد يعتبر "الروض العاطر في نزهة الخاطر" أول موسوعة في الجنس والحب بالثرات العربي ، إذ ترجم إلى عدة لغات وحققه الكثير من الباحثين والدارسين. فقد وضع بين دفتيه أبو عبد الله محمد بن محمد النفزاوي المغربي، الذي لا تتوفر عنه معلومات شافية، خلاصة تجربته وتجارب الآخرين، ولم يكتف بسرد مختلف وجوه الحياة الجنسية، بل تحدث، كذلك، عن الأدوية والعلاجات التي تقي من العقم والعجز الجنسي.
هذا، ولم يؤلف النفزاوي هذا الكتاب وحده فقط، فهو يؤكد أن "الروض العاطر في نزهة الخاطر" أن يأتي بعد مؤلفه الآخر "تنوير الوقاع في أسرار الجماع". حيث لم يكن النفزاوي يرى في ما يكتبه خروجا عن الدين أو تحريضا على ارتكاب الفاحشة و الموبقات والحرام ، فهو يبدأ حديثه كالتالي: «الحمد لله، الذي جعل اللذة الكبرى للرجال في …. النساء، وجعلها للنساء في …الرجال... سبحان من كبير متعال، خلق النساء وزينهن باللحوم والشحوم والشعور والنهود والغنج والتغنج، وجعلهن فتنة لجميع الرجال. القاهر الذي قهر الرجال بمحبتهن وإليهن الاستكان والارتكان، ومنه العشرة والرحلة وبه الإقامة. المذل الذي أذل قلوب العاشقين بالفرقة، وأحرق أكبادهم بنار الوجد، قدر عليهم الذل والهوان والمسكنة بالخضوع شوقا إلى الوصال".
وعندما يدخل النفزاوي في الموضوع الذي خصصه للكتاب، يبدأ بالمحمود من الرجال عند النساء، حيث يصفه بأنه "كبير المتاع، الشديد القوي الغليظ ، البطيء ، السريع الإفاقة من ألم الشهوة، لأن النساء يردن من الرجل …. أن يكون وافر المتاع، طويل الاستمتاع، خفيف الصدر، ثقيل العجز.
أما المحمود من الرجال عند النساء، فهو "الذي يكون ذا همة ونظافة، وحسن القوام والقد، مليح الشكل، لا يكذب على المرأة أبدا ويكون صدوق اللهجة، سخيا، شجاعا، كريم النفس، خفيفا على القلب، إذا قال أوفى، وإذا أؤتمن لم يخن، وإذا وعد صدق، فهذا الرجل الذي يطمعن في وصاله ومحتبه". وعندما يتناول المحمود في المرأة، فيقول عنها أنها هي "الكاملة القد العريضة، الخصيبة اللحم، الكحيلة الشعر، الواسعة الجبين، الزجة الحواجب، الجميلة العينين، … إن أقبلت فتنت، وإن أدبرت قتلت .
لواعج ابن البكاء..
لا توجد معطيات كافية حول هذا المؤلف، فالمعروف عنه هو أنه ينحدر من مدينة "بلغ" بخراسان، ويرجح أنه كان من أهل التصوف. حاول ابن البكاء، في كتابه «لواعج الغرام»، تعقب علامات العشاق، وتحدث عن الحب وكيفيته والكشف عن ماهيته. يقول محمد الباز إن ابن البكاء حرص على تنقية الحب وتنزيه العشق عما يمكن أن يفسده. لم يعزف ابن البكاء على وتر الجنس، بل انحاز طوال الوقت إلى الحديث عن العاطفة. وبذلك الصنيع، يكون هذا العالم المتنور قد قام بدوره أحسن قيام، فالعشق إما أن ينتهي بالسلو، فلا يكون عشقا، وإما يتم من خلاله الوصال، فتصبح أجساد العشاق جسدا واحدا. فأحسن ما قيل: المحبة شجرة تغرس في الفؤاد، وتسقى بماء الوداد، أصلها ثابت في السر، وفرعها في هواء الهمة، تؤتي أكلها كل حين. وينقل عن أبي الهذيل العلاف، وهو من أئمة المعتزلة، أنه لا يجوز في دور الفلك، ولا في تركيب الطبائع، ولا في الحسن، ولا في الواجب، ولا في الممكن، ولا في القياس.
أرواح العشاق عطرة ، وأبدانهم رقيقة
ويذهب مطرب بني العباس إبراهيم الموصلي إلى أن أرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم رقيقة نحيفة، ونزهتهم المؤانسة، وكلامهم يحيي موات القلب ويزيد في العقول، ولولا العشق والهوى لم يتمتع الناس بسماع الغناء، ولم توجد لذة الصبا، وبطل نعيم الدنيا. وقال الجنيد: العشق ألفة رحمانية، وإلهام شوقي أوجبها كرم الله تعالى على كل ذي روح لتحصل له اللذة العظمى التي لا يقدر أحد على مثلها إلا بتلك الألفة، وهي موجودة في الأنفس مقدرة مراتبها عند أربابها، فما أحد إلا وعشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق. إذا كان العشق كذلك، فهل هو اضطراري أم اختياري؟
إلى ذلك، يوضح العلامة قدامة أن العشق فضيلة تنتج الحلية، وتشجع الجبان، وتسخي كف البخيل، وتصفي ذهن الغبي، وتطلب بالشعر عنان المعجم، وتبعث حزم العاجز، وهو غريزة يذل لها عز الملوك، وتصرع لها صولة الشجاع، وهو داعية الأدب، وأول باب تفتق به الأذهان والفطن، وتستخرج به دقائق المكائد والحيل، وإليه تستريح النفس والهمم، وتسكن دوابر الأخلاق والشيم، يمتع جليسه، ويؤنس صاحبه نفسه، وله سرور يجول في النفوس، وفرح يسكن أبراج القلوب.
فقه الحياة الجنسية
ويبدو من كتاب محمد الباز أن الحياة الجنسية كانت بابا من الأبواب التي كان يخوض فيها أولئك الفقهاء والعلماء بالكثير من الجد، فلا يفرغ كلام الفقهاء عن شؤون الناس الجنسية، فالفقهاء أنفسهم بشر لهم حياتهم الخاصة .. رغباتهم واحتياجاتهم ومشاكلهم.. لذا، فإن اجتهاداتهم لم تأت فقط نتيجة إجاباتهم عن أسئلة الناس، وتقديمهم حلولا لمعضلاتهم.. ولكنها جاءت انعكاسا لبعض مشكلاتهم ومعاناتهم في حياتهم الشخصية.. حيث أن كل ذلك مصاغ، في النهاية، في إرشادات قرآنية ووصايا دنيوية'
ويستطرد الباز أن الجنس، في الإسلام يثاب عليه، فكما يصفه علماء الإسلام، فيه كمال اللذة وكمال الإحسان إلى الحبيب وحصول الأجر وثواب الصدقة وفرح النفس.. فإن صادفت الرغبة وجها حسنا وخلقا دمثا وعشقا وافرا ورغبة تامة واحتسابا للثواب، فتلك اللذة التي لا يعادلها شيء، ولا سيما إذا وافقت كمالها، فإنها تكتمل حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة، فتتلذذ العين بالنظر إلى المحبوب، والأذن بسماع كلامه، والأنف بشم رائحته، والفم بتقبيله، واليد بلمسه.. فتعكف كل جارحة ما تطلبه من لذتها وتقابلها من المحبوب». فالقرآن وصف العلاقة بين الرجل والمرأة في تعبير دقيق بقوله تعالى "هُنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهُنّ"، ففي هذه الكلمات القليلة، كما يلاحظ الباز، تصوير لعلاقة الجسد والروح في آن واحد. ويعيد التأكيد على أن الإسلام يحرص على إقامة المجتمع الإسلامي النظيف عبر ضبط الغريزة وتوجيهها توجيها صحيحا والمحافظة عليها من أي انحراف، بل تتويجا للسكينة والمودة والرحمة بين قلبيهما.
الحب والغرب
في سنة 1939، نشر دونيس دو روجمون كتابه «الحب والغرب» الذي ترجم لعدة لغات وأعيد نشره عدة مرات. يقر روجمون بمقولة المؤرخ شارل سينيوبوس الذي يذهب إلى أن الحب من مخترعات القرن الحادي عشر، فأوربا لم تعرف الحب والهوى إلا مع ظهور شعر التروبادور الذي أنكر الزواج من غير حب والفجور وحث على التعبد بالحب. وظهر في قصائد الشاعر غيوم دي بواتيي، الذي كان قد قام برحلة إلى الشرق في عقود الحروب الصليبية، حيث قد يكون تأثر بمذهب قرطبة الشعري. إذ يربط الحب الذي كان يدعو إليه "بواتييه" بالحب الصوفي الذي ولد في الشرق على أيدي الحلاج والسهروردي الحلبي وابن عربي .
وقد عرف عالمين، عند "روجمون" هما الشرق والغرب، فيما لم يعرف الصينيون والهنود سوى اللذة الجسدية، لأنها شعوب غير موحدة ثقافيا وذوقيا، ثم إنهم لا يعرفون الذات الفردية، فذواتهم متلاشية في المطلق والتماهي مع الطبيعة، كما أن دياناتهم لا مكان فيها للملائكة والمثل والقيم والخيال كما في الديانات السماوية.