نقوس المهدي
كاتب
الحاكم الخطيب أحمد بن الحسن بن الأمير
حاكم باخرز وخطيبها، ومن به حسنها وطيبها. جامع بين وقار الشيب وظرف الشباب، ضارب بالسهم الأوفر في فنون الآداب.
فتى لم ينكبه الشباب عن الحجى ... ولم ينس عهد اللهو والشيب شامله
وفتيانيه الظرفاء بغير تيه وأبهة، الكبير بغير كبر. وهنالك ما شئت من حبر وسبر. وهذه ملح له رائقة من كل فن، فمنها في الغزل قوله:
غزال هواه مبدئ ومعيد ... وحب جناه سطوة ووعيد
وكنيته بؤس وعيد كلاهما ... ويوماي بؤس في هواه وعيد
وإني لذو طورين طوراً بهجره ... شقي وطوراً بالوصال سعيد
وله في فقيه له ابن شاطر:
لست أرضى من الفقيه بهذا ... كنت أرجوه قيماً وملاذا
فهو يهدي الأنام علماً رضياً ... وابنه يسلب القلوب، لماذا؟
وله في المجون:
أحب النيك إن النيك حلو ... لذيذ ليس فيه من حموضة
يهش إليه من في الأرض طراً ... إذا ما ذاقه حتى البعوضة
***
أبو نصر أحمد بن إبراهيم الكاتب
برق الأفهام، براق الأقلام، يلقب بالأعرابي لتشبهه في فصل الخطاب بالأعراب. أدب والدي، رحمه الله، فكان أثره عليه أثر الصيقل المعني بشأن الحسام المشرفي، وناهيك به من مفلق حسن البيان، هزج اللسان. سمعت والدي، رحمه الله، يقول، وقد سئل عنه: " كانت البلاغة ترنو عن احداقه، والعربية تطن بين أشداقه، وهو في الشعر من المكثرين المثرين، إلا أنه انضم إلى خدمة سمية الأمير أحمد الأعرابي حيناً من الدهر. وتوفي في جملته ببلخ، وضاع ديوانه وهنالك لم يبق بأيدينا إلا شوارد تتهاداها الشفاه، وتتلمظ بها الأفواه. فمن محاسنة لاميته التي مدح بها شمس الكفاة الميمندي ومطلعها:
نهى الشيب عما كان ينهى العواذل ... وعارضه شغل من الشيب شاغل
إذ الدهر عن وصل الحبيبة نائم ... وإذ هو عن حال الشبيبة غافل
ومنها:
وبيضاء من سر العقائل طفلة ... تعلم من أجفانها السحر بابل
يغني عن اللبات منها وشاحها ... وتخرس في الساقين منها الخلاخل
ومنها:
وخمر كعين الديك صرف دنانها ... مرازبة من آل كسرى مواثل
عليهن من طين الختام عمائم ... ومن نسج غزال العنكبوت غلائل
***
أبو عبد الله محمد بن سعيد البردسيري
قارع باب العفاف، قانع من دنياه بالكفاف خالص النحيلة إذا وعظ، ماطر المخيلة إذا أومض، وله شعر الزهاد المتقين في بلاغة الأدباء المتقنين. فمما أنشدني لنفسه قوله:
قلت للشيب حين لاح ألا ابعد ... قال: بعدي لحين نفسك حين
قلت: عاجلتني لماذا أجبني؟ ... قال: إني أنا النذير المبين
وقوله:
إن قدموا الجاهلين بالنسب ... وأخروا العالمين بالأدب
فقل هو الله، وصف خالقنا ... من بعد تبت يدا أبي لهب
وقوله:
لم ينفع الجاهلين موعظتي ... ما ضرني جهلهم فيعديني
لما أضاعوا نصيحتي وأبوا ... قلت: لكم دينكم ولي ديني
***
محمد بن أبي نصر بن عبد الله
قريبي في الأنساب، وقريني على الشراب، وأميني من حيث الاعتماد، ويميني من حيث الاعتضاد، ونازل مني محل الأغر من الأولاد، الذين هم أفلاذ الأكباد، وناطق باللسانين، وحائز خصل الرهانين، فمما اتفق لي في وصف منادمته، وحسن مواضعته قولي:
فدتك النفس يا قمري وشمسي ... ويومي في ودادك مثل أمسي
طلعت فكدت أصبح من تلالي ... جبينك لي، فقال الصدغ: أمس
تعالي واملأي سني صباحاً ... بضرة وجهك الوردي بخمس
على وجه الذي أجنى بناني ... ثماراً للمكارم وهو غرسي
فإن ساءلتني من ذاك أنشد ... وذاك محمد تفديه نفسي
ودارت في المجلس كأس متلاطمة الأمواج، مائية الجوهر، نارية المزاج. فتبادرتها جماعة الشراب، وجعلوا نعالهم أقراط الأنامل بداراً إلى الباب. ومد هو إليها راحته، وقرع بها جبهته، وعمر بطول مقامه في المجلس جنته. فقلت:
يا حبذا الكأس لا يسطيع حاملها ... يمشي ولا أشجع الشراب يقربها
كأنها الشمس إلا مطلعها ... أيدي السقاة ولكن عز مغربها
يفر منها الندامى مرحباً بهم ... وليس يعرف ذا أم ذاك يضربها
لا تهربوا والزموا يا قوم مجلسكم ... محمد بن أبي نصر سيشربها
كأساً كقلبي من حبيه مترعة ... واملأ الكأس إن أنصفت أطربها
وله رباعيات بالفارسية رقيقة، واختراعات فيها دقيقة، أما العربية فقلما يظهرها علي، وينشدها بين يدي. إلا أني رأيت في بعض مسوداته قوله:
وفتاة ألبستها من شبابي ... ملبساً فيه نزهة ونعيم
فإذا شبت وانحنى ظهر أيري ... وانحناء الأيور خطب عظيم
غدرت بي وغادرتني وحيداً ... إن ربي بكيدهن عليم
وقوله:
تقطع قلبي خشية من فراقكم ... وعاد سروري من رحيلكم وجدا
وسال دموع العين قبل سراكم ... فكيف إذا سار المطي بكم وخدا
وله يهجو:
حوى الفضل يعقوب بن أحمد جاهدا ... وقد زاد حتى عاد بالعكس جاهلا
ألا فاعجبوا من فاضل صار فضله ... فضولاً وسحبان تحول باقلا
وله أيضاً:
ثلاثة ليس لها رابع ... عندي إذا رمت تباشيري
راح كما أرضى، وروح كما ... أهوى، وريح في المزامير
وله:
هواي في صهباء يسعى بها ... ساق بما أهوى ملي مليح
وإن تقل منهن أو منهم ... أقل وأغنيك صبي صبيح
* الكتاب : دمية القصر وعصرة أهل العصر
المؤلف : الباخرزي
حاكم باخرز وخطيبها، ومن به حسنها وطيبها. جامع بين وقار الشيب وظرف الشباب، ضارب بالسهم الأوفر في فنون الآداب.
فتى لم ينكبه الشباب عن الحجى ... ولم ينس عهد اللهو والشيب شامله
وفتيانيه الظرفاء بغير تيه وأبهة، الكبير بغير كبر. وهنالك ما شئت من حبر وسبر. وهذه ملح له رائقة من كل فن، فمنها في الغزل قوله:
غزال هواه مبدئ ومعيد ... وحب جناه سطوة ووعيد
وكنيته بؤس وعيد كلاهما ... ويوماي بؤس في هواه وعيد
وإني لذو طورين طوراً بهجره ... شقي وطوراً بالوصال سعيد
وله في فقيه له ابن شاطر:
لست أرضى من الفقيه بهذا ... كنت أرجوه قيماً وملاذا
فهو يهدي الأنام علماً رضياً ... وابنه يسلب القلوب، لماذا؟
وله في المجون:
أحب النيك إن النيك حلو ... لذيذ ليس فيه من حموضة
يهش إليه من في الأرض طراً ... إذا ما ذاقه حتى البعوضة
***
أبو نصر أحمد بن إبراهيم الكاتب
برق الأفهام، براق الأقلام، يلقب بالأعرابي لتشبهه في فصل الخطاب بالأعراب. أدب والدي، رحمه الله، فكان أثره عليه أثر الصيقل المعني بشأن الحسام المشرفي، وناهيك به من مفلق حسن البيان، هزج اللسان. سمعت والدي، رحمه الله، يقول، وقد سئل عنه: " كانت البلاغة ترنو عن احداقه، والعربية تطن بين أشداقه، وهو في الشعر من المكثرين المثرين، إلا أنه انضم إلى خدمة سمية الأمير أحمد الأعرابي حيناً من الدهر. وتوفي في جملته ببلخ، وضاع ديوانه وهنالك لم يبق بأيدينا إلا شوارد تتهاداها الشفاه، وتتلمظ بها الأفواه. فمن محاسنة لاميته التي مدح بها شمس الكفاة الميمندي ومطلعها:
نهى الشيب عما كان ينهى العواذل ... وعارضه شغل من الشيب شاغل
إذ الدهر عن وصل الحبيبة نائم ... وإذ هو عن حال الشبيبة غافل
ومنها:
وبيضاء من سر العقائل طفلة ... تعلم من أجفانها السحر بابل
يغني عن اللبات منها وشاحها ... وتخرس في الساقين منها الخلاخل
ومنها:
وخمر كعين الديك صرف دنانها ... مرازبة من آل كسرى مواثل
عليهن من طين الختام عمائم ... ومن نسج غزال العنكبوت غلائل
***
أبو عبد الله محمد بن سعيد البردسيري
قارع باب العفاف، قانع من دنياه بالكفاف خالص النحيلة إذا وعظ، ماطر المخيلة إذا أومض، وله شعر الزهاد المتقين في بلاغة الأدباء المتقنين. فمما أنشدني لنفسه قوله:
قلت للشيب حين لاح ألا ابعد ... قال: بعدي لحين نفسك حين
قلت: عاجلتني لماذا أجبني؟ ... قال: إني أنا النذير المبين
وقوله:
إن قدموا الجاهلين بالنسب ... وأخروا العالمين بالأدب
فقل هو الله، وصف خالقنا ... من بعد تبت يدا أبي لهب
وقوله:
لم ينفع الجاهلين موعظتي ... ما ضرني جهلهم فيعديني
لما أضاعوا نصيحتي وأبوا ... قلت: لكم دينكم ولي ديني
***
محمد بن أبي نصر بن عبد الله
قريبي في الأنساب، وقريني على الشراب، وأميني من حيث الاعتماد، ويميني من حيث الاعتضاد، ونازل مني محل الأغر من الأولاد، الذين هم أفلاذ الأكباد، وناطق باللسانين، وحائز خصل الرهانين، فمما اتفق لي في وصف منادمته، وحسن مواضعته قولي:
فدتك النفس يا قمري وشمسي ... ويومي في ودادك مثل أمسي
طلعت فكدت أصبح من تلالي ... جبينك لي، فقال الصدغ: أمس
تعالي واملأي سني صباحاً ... بضرة وجهك الوردي بخمس
على وجه الذي أجنى بناني ... ثماراً للمكارم وهو غرسي
فإن ساءلتني من ذاك أنشد ... وذاك محمد تفديه نفسي
ودارت في المجلس كأس متلاطمة الأمواج، مائية الجوهر، نارية المزاج. فتبادرتها جماعة الشراب، وجعلوا نعالهم أقراط الأنامل بداراً إلى الباب. ومد هو إليها راحته، وقرع بها جبهته، وعمر بطول مقامه في المجلس جنته. فقلت:
يا حبذا الكأس لا يسطيع حاملها ... يمشي ولا أشجع الشراب يقربها
كأنها الشمس إلا مطلعها ... أيدي السقاة ولكن عز مغربها
يفر منها الندامى مرحباً بهم ... وليس يعرف ذا أم ذاك يضربها
لا تهربوا والزموا يا قوم مجلسكم ... محمد بن أبي نصر سيشربها
كأساً كقلبي من حبيه مترعة ... واملأ الكأس إن أنصفت أطربها
وله رباعيات بالفارسية رقيقة، واختراعات فيها دقيقة، أما العربية فقلما يظهرها علي، وينشدها بين يدي. إلا أني رأيت في بعض مسوداته قوله:
وفتاة ألبستها من شبابي ... ملبساً فيه نزهة ونعيم
فإذا شبت وانحنى ظهر أيري ... وانحناء الأيور خطب عظيم
غدرت بي وغادرتني وحيداً ... إن ربي بكيدهن عليم
وقوله:
تقطع قلبي خشية من فراقكم ... وعاد سروري من رحيلكم وجدا
وسال دموع العين قبل سراكم ... فكيف إذا سار المطي بكم وخدا
وله يهجو:
حوى الفضل يعقوب بن أحمد جاهدا ... وقد زاد حتى عاد بالعكس جاهلا
ألا فاعجبوا من فاضل صار فضله ... فضولاً وسحبان تحول باقلا
وله أيضاً:
ثلاثة ليس لها رابع ... عندي إذا رمت تباشيري
راح كما أرضى، وروح كما ... أهوى، وريح في المزامير
وله:
هواي في صهباء يسعى بها ... ساق بما أهوى ملي مليح
وإن تقل منهن أو منهم ... أقل وأغنيك صبي صبيح
* الكتاب : دمية القصر وعصرة أهل العصر
المؤلف : الباخرزي
صورة مفقودة