نقوس المهدي
كاتب
مذهب التجنيس في الغزل
قطعة من شعر الأمير أبي الفضل الميكالي في طَرف أخذ بطرف من التجنيس مستطرف في ضروب من الغزل، قال: الطويل:
لقد راعني بَحْرُ الدُّجَى بصُدُودهِ ... ووَكَّلَ أجفاني بِرَعي كواكِبِهْ
فيا جَزَعي، مَهْلاً عَساهُ يَعودُ لي ... ويا كَبِدي، صَبْراً على ما كَواكَ بِهْ
وقال: الطويل:
مواعيده في الفَضْل أحلامُ نائم ... أشَبِّهُهَا بالقَفْرِ أو بِسَرَابِهِ
فمَنْ لي بوَجْهٍ لو تَحَيرَ في الدُجَى ... أخُو سَفَرٍ في ليل غَيْمٍ سَرَى بِهِ
وقال: الخفيف:
صِل محبًّا أعياه وَصْف هواهُ ... فضَناه يَنُوبُ عن ترُجمانِه
كلّما راقهُ سِواكَ تَصَدَتْ ... مُقْلَتاهُ بدمعةِ تَرْجُمانِه
وقال: السريع:
يا ذا الذي أرسل من طَرْفِه ... عليّ سَيْفاً قْدني لو فَرَا
شفاءُ نفسي منك تخميشةٌ ... تَغْرِسُ في خدّك نَيْلَوْفَرا
وقال: الكامل:
يا مُبْتَلًى بضناه يَرْجُو رحمةً ... من مالكٍ يشفيه من أوْصابهِ
أوصاك سِحْرُ جفونه بتسهُد ... وتبلّد، فقبلت ما أوْصَى به
اصْبِر على مَضَضِ الهوى فلرَبما ... تَحلُو مرارةُ صبرهِ أوصابه
وقال: الوافر:
كتبْتُ إليه أستهدي وِصالاً ... فعلَلني بوَعْدِ في الجوابِ
ألا ليت الجوابَ يكون خيراً ... فيطفئ ما أحاط من الجوَى بي
وقال: الكامل:
إنْ كنتَ تأنَسُ بالحبيبِ وقُربه ... فاصْبر على حُكمِ الرقيبِ ودارِهِ
إن الرقيبَ إذا صبرت لحكمه ... بَواكَ في مَثْوَى الحبيبِ ودَارِهِ
وقال: الطويل:
شكوتُ إليه ما ألاقي فقال لي: ... رُوَيداً، ففي حُكم الهوَى أنْتَ مُؤتلي
فلو كان حقاً ما ادَّعيت مِنَ الهوى ... لقل بما تلقَى إذاَ أن تموتَ لي
وقال: الوافر:
نَوى لي بعد إكثارِ السؤال ... حبيب أنْ يُسامحَ بالنوَالِ
فلما رُمْتُ إنجازاً لوعدي ... عليه أبى الوفاءَ بما نَوَى لي
وكان القربُ منه شفاءَ نفسي ... فقد قضتِ النوائبُ بالنَّوَى لي
وقال: البسيط:
سقياً لدهرٍ مضَى والوصلُ يجمَعُنَا ... ونحنُ نحكِي عِناقاً شكل تَنْوينِ
فصرْتُ إذ عَلِقَتْ كفّي حَبَائِلكُم ... فسَهْمُ هجرك تَرْمِي ثم تَنْويني
وقال: مجزوء الكامل:
صَدَفَ الحبيبُ بوَصْلهِ ... فجفَا رُقَادِي إذْ صَدَفْ
ونثرت لؤلؤ أدمُع ... أضْحَى لها جَفْني صَدفْ
وقال: الكامل:
يا مَنْ يقولُ الشعرَ غَيْرَ مهذّبٍ ... ويَسُومُني التعذيبَ في تهذيبهِ
لو أنّ كل النَّاس فيك مُسَاعِدِي ... لعجزت عن تهذيبِ ما تَهْذِي بهِ
وقال: السريع:
أراد أن يُخْفِي هَوَاهُ وقَدْ ... نمَ بما تُخْفي أسَاريرُهُ
وكيفَ يُخْفي داءَه مُدْنَفٌ ... قد ذاب من فرْط الأسَى رِيرُهُ
وقال: مجزوء الكامل:
ومهفهف تهفُو بِل ... ب المرء منْه شَمَائِلُ
فالرّدْفُ دِعْصٌ هائلٌ ... والقَدُ غُصنٌ مائلُ
والخدّ نورُ شقائق ... تنشقُّ عنه خمائلُ
والعَرْفُ نَشْرُ حَدائق ... تمّت بهن شمائل
والطَّرْفُ سَيْف ما لهُ ... إلاّ العِذار حَمائِلُ
ولأبي الفتح البستي في هذا المذهب: الخفيف:
إن لي في الهوى لِسَاناً كَتُوماً ... وجَناناً يخفي حَرِيقَ جَواهُ
غير أني أخاف دَمْعِي عليهِ ... سَتَرَاهُ يُفْشِي الذي ستَرَاهُ
ولأبي الفتح البستي في مذهب هذا البيت الأخير: الخفيف:
نَاظِرَاه فيما جَنَى نَاظِرَاهُ ... أوْدَعاني أَمُتْ بما أَوْدَعاني
وله: المتقارب:
خُذِ العفوَ وأمُرْ بعَرْفٍ كما ... أُمِرْتَ وأعْرِضْ عن الجاهلينْ
ولنْ في الكلام لكلِّ الأنام ... فمستَحْسَن من ذوي الجاه لِينْ
وله: مجزوء الوافر:
إلى حَتْفِي سَعَى قَدَمِي ... أَرَى قَدَمِي أراقَ دَمِي
فَمَا أنفَكُّ من نَدَمِي ... وليس بنافعي نَدَمِي
وله: البسيط:
إنْ هز أقلامَه يوماً ليُعْمِلَها ... أنساك كلَّ كميٍّ هزَّ عامِلَهُ
وإن أقرَّ على رَق أنامِلهُ ... أقرَّ بالرِّق كتَّابُ الأنامِ لهُ
وقال لمن استدعاه إلى مودَّته: المتقارب:
فَدَيْتُكَ قلَّ الصديقُ الصدُوق ... وقلّ الْخَليلُ الْحَفيُّ الوفي
ولي راغب فيك إمَّا وفيت ... فهل راغبٌ أنت في أنْ تَفِي؟
وللأمير أبي الفضل: مخلع البسيط:
أهلاً بَظْبِي حواهُ قَصْر ... كجنَّةٍ قد حَوَتْ نَعِيما
طَرَقْتُه لا أهاب سوءًا ... أبَاحَني حبّه الحريما
فجاد مَنْ فيه لي برَاحٍ ... تَنْفي حريقاً به قديما
أفْدِي حريقاً أباح رِيقا ... لا بَلْ حَرِيماً أباح رِيمَا
وله: البسيط:
مَنْ لي بشَمْل المُنَى والأُنْس أجْمًعهُ ... بشادنٍ حَل فيه الحسْنُ أجمعُهُ
ما زال يُعْرِضُ عن وَصْلي وأَخْدَعُهُ ... فالآن قد لاَنَ بعد الصدّ أخْدعُهُ
وقال: الكامل:
بأبي غَزال نام عَن وًصَبي به ... ومُراقِ دَمْعي للنَّوَى وصَبِيبِهِ
يا لَيته يَرْثي على وَلَهي بهِ ... لغرامِ قَلْبي في الهَوَى ولَهيبه
وله في هذا الباب من غير هذا النمط يصف غلاماً مخموراً خمش وجهه: الكامل:
هَبْهُ تْغَيَّرَ حائلاً عن عَهْدِه ... ورَمى فُؤادي بالصدود فأَزْعَجَا
ما بالُ نَرْجِسهِ تحوَل وردةً ... والوردُ في خديه عاد بَنَفْسَجا
وله في هذا المعنى: المتقارب:
وريمٍ على السُكْرِ خمّشْتُهُ ... بقَرْص بعارضهِ أثرا
فأصبح نرْجسُه وردةً ... ووردةُ خدَيْهِ نَيْلَوفَرا
وقال في وصف العِذار: الكامل:
ظَبْيٌ كَسَا رَأسَ الشبابِ بعارضٍ ... نَمَ العِذارُ بحافَتيه فَلاَحا
فكأنما أهْدَى لعارضِ خدِّهِ ... شعري ظَلاماً واستعاضَ صَبَاحا
وقال في غلام افتصد: مجزوء الكامل:
ومُهفْهفِ غرس الجما ... لُ بخده رَوْضاً مَرِيعا
فًصَدً الطبيبُ ذِراعَهُ ... فجرى له دَمعِي ذريعا
وأمسني وقعُ الحدي ... د بعِرقِة ألماً وَجيعاً
فأريته من عَبْرتي ... ما سال من دَمِهِ نجيعَا
فِقرٌ في ذكر العلم والعلماء
العلماء ورثةُ الأنبياء. والعلماءُ أعلامُ الإسلام. العلماء في الأرض كالنجوم في السماء.
ابن المعتز - العلماءُ غرباء، لكَثْرَةِ الجهل. وله: العلمُ جمالٌ لا يخفى، ونَسَب لا يُجْفَى. وله: زَلَةُ العالم كانكِسَار سفينةٍ تَغْرق ويَغْرق معها خَلْقٌ كثير.
غيره - إذا زلّ العالم، زَل بزلَتِه عالَم. غيره: الملوك حُكامٌ على الناس، والعلماء حكام على الملوك. من لم يحتمل ذلَّ التعلّم ساعة، بقي في ذلّ الجهل أبداً. مَا صِينَ العلم بمثل بَذْلِهِ لأهله. من كتم علماً فكأنه جاهلُه: مجزوء الكامل:
العلمُ يمنعَ أهله ... أن يمنعوه أهلُه
أبو الفتح كشاجم: مجزوء الكامل:
لا تمنع العلم أمرأً ... والعلمُ يمنعُ جانبَهْ
أمّا الغبي فليس يف ... هم لطْفَهُ وغَرائبهْ
وتكون حاضرةُ الفوا ... ئد عنده كالغائبهْ
وأخو الحصافة مُسْتَحِق ... أَن ينالَ مَطَالبهْ
فبحقَه أعطيتهُ ... مِنْ فَضْلِ علمك وَاجِبَهْ
ومن رق وجْهه عند السؤال، رقّ عِلمُه عند الرجال. عِلْم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر. كما لا يُنْبِتُ المطرُ الكثيرُ الصَخْرَ، كذلك لا ينفعُ البليدَ كثرة التعلّم. من ترفَّع بعلمه وضَعه اللَهُ بعملِهِ. الجاهلُ صغيرٌ وإن كان كبيراً، والعالم كبيرٌ وإن كان صغيراً. من أكثر مذاكرةَ العلماء، لم ينس ما علم، واستفاد ما لم يعلم.
ابن المعتز: المتواضعُ في طلاب العلم أكثرهم عِلْماً، كما أن المكان المنخفضَ أكثر البقاع ماء. إذا علمت فلا تَذْكُرْ مَنْ دونك من الجهال، واذكُرْ مَنْ فوقَك من العلماء. النارُ لا يُنقِصُها ما أخذَ منها، ولكن يُنْقِصُها أَلاَّ تجد حطباً، كذلك العلمُ لا يُفْنِيه الاقتباس منه، وفَقْدُ الحاملين له سببُ عدمه. مات خَزَنة الأموال وهم أحياء، وعاش خُزانُ العلم وهم أموات. مثَلُ عِلم لا ينفع ككنز لا ينفَق منه. أزْهَدُ الناس في عالم جيرانُه.
وقيل للصلْتِ بن عطاء، وكان مقدماً عند البرامكة: كيف غَلَبت عليهم وعندهم مَنْ هو آدبُ منك؟ قال: ليس للقُرَباء طَرافة الغُرَباء، وكنت أمرأَ بعيدَ الدار، نائي المَزار، غريبَ الاسم، قليلَ الجرم، كثير الالْتِواء، شحيحاً بالإملاء؛ فرغَبهم فيَ رغبتي عنهم، وزهَدني فيهم رغبتُهم في.
علم لا يَعْبُر معك الوادي، لا يعمر بك النادي. لو سكت مَنْ لا يعلم لسقط الاختلاَف. إذا ازدحمَ الجوابُ خَفِي الصواب. الغلط تحت اللَغط. خَرقُ الإجماع خُرْق. المحجوج بكل شيء ينطق.
استعارات فقهية تليق بهذا المكان
دخل أبو تمام الطائي على أحمد بن أبي دُوَاد في مجلس حكمه، وأنشده أبياتاً يستَمْطِرُ نائِله، وينشر فضائله، فقال: سيأتيك ثوابُها يا أبا تمام، ثم اشتغل بتوقيعات في يده؛ فأحْفَظَ ذلك أبا تمام، فقال: احضرْ، أيّدك اللّه، فإنك غائب، واجْتَمِعْ فإنك مفترق، ثم أنشده: المنسرح:
إنَّ حَرَاماً قبولُ مِدْحَتِنا ... وتَرْكُ ما نَرْتَجي من الصَّفَدِ
كما الدنانير والدراهمُ في ال ... صَّرْف حرام إلاَ يَداً بيَدِ
فأمر بتوفير حِبَائه، وتعجيلِ عطائه.
ولمّا ولي طاهر بن عبد اللّه بن طاهر خراسان دخل الشعراء يهنئونه، وفيهم تمام بن أبي تمام فأنشده: السريع:
هَنَاك رَبُّ الناس هنَاكا ... ما من جزيل الملك أعطاكا
قرَّت بما أعطِيت يا ذَا الحِجَى ... والبأسِ والإنعامِ عَيْناكا
أشرقتِ الأرضُ بِمَا نِلْتَهُ ... وأوْرَقَ العودُ بجَدْوَاكا
فاستضعف الجماعةُ شعره، وقالوا: يا بُعدَ ما بينه وبين أبيه! فقال طاهر لبعض الشعراء: أجبه، فقال:
حياك ربُّ الناس حيَّاكا ... إنَّ الذي أمَّلْتَ أخطاكا
فقلتَ قولاً فيه ما زانهُ ... ولو رأى مَدْحاً لآساكا
فهاك إن شئتَ بها مدحةً ... مثل الذي أعطيتَ أعْطاكا
فقال تمام: أعز اللّه الأمير، وإنَ الشّعْرَ بالشعر رِباً، فاجعلْ بينهما صنجاً من الدراهم، حتى يحلّ لي ولك! فضحك وقال: إلا يكن معه شعرُ أبيه، فمعه ظرف أبيه؛ أعطوه ثلاثة آلاف درهم! فقال عبد الله بن إسحاق: لو لم يعط إلاّ لقول أبيه في الأمير أبي العباس - رحمه اللّه - يريد عبد الله بن طاهر: البسيط:
يقولُ في قَوْمَسٍ صَحْبي وقد أخذَتْ ... منا السُّرَى وخُطَا المَهْرِيةِ القُودِ
أمطلع الشمس تبغي أن تَؤُمَّ بنا؟ ... فقلتُ: كلاّ، ولكن مطلعَ الجودِ
فقال: ويعطى بهذا ثلاثة آلاف.
ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان
وكان سببُ ولاية طاهر خراسان بعد أبيه ما حدَّث به أبو العيناء قال: كنّا عند أحمد بن أبي دواد، فجاء الخبر أنّ الكتبَ وردت على الواثق من خراسان بوفاة عبد الله بن طاهر، وأن الواثق يُعَزَّى عنه، وأنه قد ولّي مكانه خراسان إسحاق ابن إبراهيم، وكان عدوًّا له لانخراطِه في سِلْكِ ابن الزيات؛ فلبس ثيابَه ومضى، وقال: لا تبرحوا حتى أعودَ إليكم، فلبث قليلاً، ثم عاد إلينا فحدّثنا أنه دخل على الواثق فعزّاه عن عبد اللّه وجلس، قال: فقال لي الواثق: قد وَلّينا إسحاق خراسان، فما عندك؟ قلت: وفق اللّه أمير المؤمنين ولا نذمّه. قال: قلْ ما عندك في هذا. قلت: أمر قد أُمضِي، فما عسيت أن أقولَ فيه. قال: لَتَفْعَلنّ. فقلت: يا أمير المؤمنين، خراسانُ منذ ثلاثين سنة في يد طاهر وابنه، وكلّ مَن بها صنائعهُم، وقد خَلَّفَ عبدُ الله عشرَ بنين أكثرهم رجال، وجميعُ جيش خراسان لهم عبيد أو مَوَالٍ أو صَنَائع، وسيقولون: أما كان فينا مُصْطَنع؟ وكان يجب أن يجرّبَنا أميرُ المؤمنين، فإن وَفَيْنا بما كان يَفي به أبونا وجدُّنَا، وإلاّ استبدل منّا بعد عُذْرٍ فينا؛ ويقدم خراسانَ إسحاقُ وهو رجل غريب فينافسه هؤلاء، ويتعصّب أهلُها لهم؛ فينتقض ما أُبْرِمَ، ويفسد ما أُصلح.
قال: صدقت يا أبا عبد اللّه، والرأي ما قلت، اكتبوا بعهد طاهر بن عبد اللّه على خراسان. فكتبت كتبُ طاهر، وحُرِقت كتب إسحاق، فخرجت الزنج تطيرُ بها، ثم لقيني إسحاق داخلاً، فقلت: يا أبا الحسن، لا عدمت عداوة رجل أزال عنك ولاية خراسان بكلمة.
ومدح ابن الرومي أبا العباس بن ثوابة، فعارضه أخوه أبو الحسن بقصيدة يمدح أخاه بها، فقال ابن الرومي: المتقارب:
ألَيْسَ الْقَوافي بَنَاتِ الْفَتى ... إذا صورَةُ الحق لم تُمْسَخِ
فلا تَقبَلَنَّ أَمادِيهُ ... حَرامٌ نِكاحُ بناتِ الأخِ
ولما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم:
السيف أصدق أنباء من الكتب
قال له: لقد جَلَوْتَ عروسك يا أبا تمام فأحسنت جلاءَها. قال: يا أمير المؤمنين، والله لو كانت من الحورِ العين لكان حُسْنُ إصغائك إليها من أوْفَى مُهُورِها.
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي: الوافر:
أقول لشَادِنَ في الحُسْنِ أضْحَى ... يَصِيدُ بلَحْظِهِ قَلبَ الكَمي
ملكت الحسنَ أجمعَ في قوام ... فأدّ زكاةَ منظرك البَهيّ
وذلك أن تجودَ لمُسْتَهام ... بريق من مُقَبلِك الشَهِي
فقال: أبو حنيفة لي إمامٌ ... فعندي لا زكاةَ على الصَبيِّ
وربما أنشد هذه الأبيات على قافية أخرى فقال: الوافر:
أقول لشَادنِ في الحسن فَرْدٍ ... يصيد بلحظِهِ قَلْبَ الجليدِ
ملكتَ الحسن أجمعَ في قوام ... فلا تَمْنَع وجوباً عن وجُودِ
وذلك أنْ تجودَ لمستهام ... برَشْفِ رُضَابك العذْبِ البَرودِ
فقال: أبو حنيفة لي إمام ... فعندي لا زَكاة على الوليدِ
وقال: الطويل:
بنَفْسِي غَزال صار للحُسْنِ قبلةً ... يُحَج من البيت العتيق ويُقصَدُ
دعاني الهوى فيه فلبَّيتُ طائعاً ... وأحْرَمْتُ بالإخلاص والسَعْي يَشْهَدُ
فطرفيَ بالتسهيد والدَمْعِ قارِنٌ ... وقلبي عليْه بالصبابة مُفرِدُ
وقال أبو الفتح كشاجم: البسيط:
فَدَيْتُ زائرةً في العيد واصِلةً ... والهَجْرُ في غفلة من ذلك الخبرِ
فلم يزل خذُها رُكْناً أطوف بِه ... والخالُ في خدّها يُغْني عن الحجَرِ
وينضاف إلى هذا النظم قطعة من رسالة طويلة كتبها بديع الزمان إلى أبي نصر بن المرزبان: كتابي، أطال الله بقاء الشيخ وأنا سالم، والحمد لله رب العالمين، كيف تقلبُ الشيخ في درع العافية، وأحوالُه بتلك الناحية؛ فإني ببعده مُنغصُ شِرْعة العيش، مقصوص أجنحة الأنس. ورد كتابه المشتملُ من خبر سلامته، على ما أرغب إلى الله في إدامَته، وسكنتُ إليه بعد انزعاجي لتأخُره؛ وقد كان رَسَمَ أن أعرفه سببَ خروجي من جرجان، ووُقوعي بخُراسان، وسببَ غضبِ السلطان؟ وقد كانت القصة أني لما وردتُ من ذلك السلطان حضرتَه، التي هي كَعْبَةُ المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومستقرُ الكرم، لا مَشعَر الحرم، وقِبْلة الصلاَتِ، لا قبلة الصلاة، ومُنَى الضَّيف، لا مِنَى الخَيْفِ، وجدت بها نُدَماء من نَبَات العام، اجتمعوا قيضَةَ كلب على تلفيق خطب، أزعجني عن ذلك الفِنَاء، وأِشرف بي على الفَنَاء، لولا ما تدارك اللّه بجميل صُنْعه، وحسن دفعه؛ ولا أعلم كيف احتالوا، ولا ما الَذي قالوا؛ وبالجملة غَيَّروا رأيَ السلطان، وأشار علي إخواني، بمفارقةِ مكاني، وبقيت لا أعلم أيمنةً أضرِب أم شآمة، ونَجْدا أقصد أم تهامة: الطويل:
ولو كنت في سَلْمى أجد وشِعابِها ... لكان لِحَجاجٍ عليَ دليلُ وقد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماءٌ إذا تغيم لم يُرْجع صَحْوُه، وماء إذا تغيَّر لم يُشرب صَفْوُه، وملك إذا سَخِط لم يُنتظر عفوه، وليس بين رضاه والسخط عَوْجَة، كما ليس بين غَضَبه والسيف فَرْجة، وليس من وراء سُخْطِهِ مجاز، كما ليس بين الحياة والموت معه حِجاز؛ فهو سيدٌ يُغْضبه الْجُرم الْخَفِيّ، ولا يُرْضِيه العذر الجلي؛ وتكفيه الجناية وهي إرجاف، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظلّ الرمح، ويَعْمَى عن العذر وهو أبين من عمود الصُبْح؛ وهو ذو أذنين يسمع بهذهِ القول وهو بهتان، ويحجب عن هذه العذر وله برهان؛ وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح؛ وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم، ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزحه بين القَدِّ والقَطْع، وجدّه بين السيف والنِّطْع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف والنون؛ ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدي من التأنيب إلاَ لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب غير إراقة الدم، ولا يحتمل الهَنَة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم عن الهَفْوَة، كوزن الهَبْوَة، ولا يُغْضي عن السقطة، كجرم النقطة؛ ثم إن النقم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولي إلاَ بفمه، ولا العدو إلاَ بدمه؛ والأرواح بين حَبْسه وإطلاقه، كما أنَّ الأجسام بين حله ووَثاقِه؛ فنظرتُ فإذا أنا بين جُودَين؛ إما أن أجودَ ببأسي، وإمّا أن أجود برأسي، وبين رُكُوَبين؛ إما المفازة، وإمّا الجِنَازة، وبين طريقين؛ إما الغُرْبة، وإمَا التربة، وبين فِراقَيْنِ؛ إمّا أن أُفارق أَرْضي، أو أُفارق عرضي، وبين راحلتين؛ إمّا ظهور الجِمال، وإمَا أَعْنَاق الرجال، فاخترتُ السماح بالوَطَن، على السماح بالبَدَن؛ وأنشدت: الطويل:
إذا لم يكُنْ إلا المنية مَرْكَبٌ ... فلا رَأيَ للمحمول إلا ركوبُها
وَلَدَ ما ذكر من كعبة المحتاج، لا كعبة الْحُجّاج، من قول أبي تمام: الكامل:
بيتان حجهُما الأنامُ؛ فهذه ... حجُ الغَنِيَ، وتِلكمُ لِلْمُعْدِم
أبو عليّ البصير
وشتم بعضُ الطالبيين أبا عليّ الفضلَ بن جعفر البصيرَ، فقال أبو عليّ: والله ما نَعْيَا عن جوابك، ولا نَعْجِزُ عن مَسَابِّك؛ ولكنَّا نكونُ خيراً لِنَسَبِك منك، ونحفظ منه ما أَضَعْتَ؛ فاشكُرْ توفيرَنا ما وفَّرْنا منك، ولا يَغُرَّنك بالجهل علينا حِلْمُنا عنك.
وسأل أبو علي البصير بعض الرؤساء حاجةً ولقيه؛ فاعتذر إليه من تأخرها؛ فقال أبو عليّ: في شُكْرِ ما تقدّم من إحسانك شاغلٌ من استبطاء ما تأخر منه.
وأبو عليً أحَدُ مَنْ جمع له حظُ البلاغة في الموزون والمنثور، وهو القائلُ: الطويل:
ألمَت بنا يَوْمَ الرحيل اختلاسَةً ... فأضرَمَ نيرانَ الهَوى النَّظَرُ الخَلْسُ
تأبتْ قليلاً وهي تُرعَدُ خِيفةً ... كما تتأتَّى حين تَعْتَدِل الشمسُ
فخاطبها صَمْتي بما أنا مُضْمِرٌ ... وأَنْبَسْتُ حتى ليس يُسْمَع لي حِسُ
وولَت كما ولّى الشباب لِطِيّةٍ ... طوَتْ دونها كَشْحاً على يَأسها النفسُ
وقال يصف بلاغةَ الفتح بن خاقان وشعره: الطويل:
سَمِعنا بأشعار الملوكِ؛ فكلُها ... إذا عَضَ مَتْنَيْه الثقافُ تأوَدَا
سوى ما رأينا لأمْرِئ القيس؛ إننانراه متى لم يَشْعُر الفَتْحُ أوْحَدا
أقام زماناً يَسْمَعُ القولَ صامتاً ... ونحسبه إن رام أكْدَى وأصْلَدا
فلما امتطاه راكباً ذل صعبُه ... وسار فأضحى قد أغار وأنجَدَا
والفتح بن خاقان يقول: الطويل:
وإني وإياها لكالْخَمْرِ، والفتى ... متى يستَطِع منها الزيادةَ يَزْدَدِ
إذا ازدَدْتُ منها زاد وَجْدِي بقُرْبها ... فكيف احتراسِي مِنْ هوًى متجددِ؟
وكتب إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى: وإن أميرَ المؤمنين لمَا استْخلَصك لنفسه، وائتمنك على رعيته؛ فنطق بلسانك، وأخذَ وأعطى بيدك، وأوْرَدَ وأصدْرَ عن رأيك، وكان تفويضُه إليك بعد امتحانه إياك، وتَسلِيطه الحقّ على الهوى فيك، وبعد أن مثل بينك وبين الذين سمَوا لمرْتَبتك، وجرَوْا إلى غايتك، فأسقطهم مَضَاؤُك، وخَفُوا في ميزانك، ولم يزدك - أكرمك الله - رفعة وتشريفاً إلا ازددتَ له هيبةً وتعظيماً، ولا تسليطاً وتمكيناً، إلا زِدْتَ نفسك عن الدنيا عُزوفاً وتنزيهاً، ولا تقريباً واختصاصاً، إلا ازددتَ بالعامة رأفةً وعليها حدَبا، لا يخرجك فَرطُ النصح له عن النظر لرعيته، ولا إيثار حقه عن الأخذ بحقِّها عنده، ولا القيامُ بما هو له عن تضمين ما هو عليه، ولا يشغلك مُعَاناةُ كبار الأمور عن تفقُد صغارِها، ولا الْجِدُّ في صلاح ما يَصْلُحُ منها عن النظر في عواقبها، تمْضي ما كان الرَّشَدُ في إمضائه، وتُرْجِئُ ما كان الحَزْمُ في إرجائه، وتبذُلُ ما كان الفضلُ في بَذْله، وتمنعُ ما كانت المصلحةُ في مَنْعِه، وتَلِين في غير تكبر، وتَخُص في خير مَيل، وتعمُ في غير تصنّع، لا يَشْقَى بك المحق وإن كان عدواً، ولا يَسْعَدُ بك المبطلُ وإن كان وليّاً؛ فالسلطان يعتدّ لك من الغَناء والكِفاية، والذَّبِّ والحياطة، والنُصح والأمانة، والعِفة والنزاهة، والنصب فيما أدَى إلى الراحة، بما يراك معه - حيث انتهى إحسانُه إليك - مستوجباً للزيادة، وكافةُ الرعية - إلاَّ من غَمِطَ منهم النَعْمة - مُثْنُونَ عليك بحُسْنِ السيرة، ويُمْنِ النقيبة، ويَعُدُونَ من مآثرك أنك لم تُدْحِض لأحدٍ حُجة؛ ولم تدفع حقاً لشبْهَة؛ وهذا يسيرٌ من كثير، لو قصدنا لتفصيله، لأنْفَدْنا الزمان قبل تحصيله، ثم كان قَصْدُنا الوقوفَ دون الغاية منه.
وله إلى عبيد الله بن يحيى: يقطعني عن الأخْذِ بحظِّي من لقائك، وتعريفك ما أنا عليه عن شُكْرِ إنعامك، وإفرادي إياك بالتأميل دونَ غيرك، تخلفي عن منزلة الخاصة، ورغبتي عن الحلول محل العامة، وأني لسْتُ معتاداً للخِدْمَة ولا الملازمة، ولا قويًّا على المغَادَاةِ والمُرَاوَحة؛ فَلاَ يمنَعْك ارتفاعُ قَدْرك، وعلو أمرك، وما تعانيه من جلائل الأحوال الشاغلة، من أنْ تتطوَل بتجديد ذكري، والإصغاء إلى مَنْ يحضك على وَصْلي وبري، ويرغَبك في إسداء حُسْنِ الصنيعة عندي.
وله إليه آخِرَ فصل من كتاب: وأنا أسألُ الله الذي رَحِم العبادَ بك، على حينِ افتقارٍ منهم إليك، أن يُعِيذهم من فَقْدِك، ولا يُعيدهم إلى المكاره التي استنقذتهم منها بيدك.
السفر
ولقي رجلٌ رجلاً خارجاً من مِصْر يريد المغْرِب، فقال: يا أخي، أتتَبعُ القَطْرَ، وتَدُع مَجْرى السيول؟ فقال: أخرجني من مصر حَق مُضَاع، وشُكى مُطَاع، وإقتار الكريم، وحركة اللئيم، وتغير الصديق، بين السعة والضيق، والهربُ إلى النزرِ بالعز، خير من طلب الوَفْرِ بذلُ العَجزِ.
وأوصى بعضُ الحكماء صديقاً له، وقد أرادَ سفراً، فقال: إنك تدخُلُ بلداً لا يَعْرِفُك أهلُه، فتمسّك بوصيتيَ تنفق بها فيه؛ عليك بحُسن الشمائل فإنها تدكُ على الحرية، ونَقَاء - الأطراف فإنها تشهد بالمُلوكية؛ ونظافة البِزة فإنها تنبئ عن النَشء في النعمة؛ وطيب الرائحة فإنها تظهرُ المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليَكُن عقلُك دون دينك، وقولُك دون فِعْلك، ولباسُك دونَ قَدْرِك، والزمِ الحياءَ والأنفَة؛ فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبتْ الخساسة، وإن أنِفْتَ عن الغلبة، لم يتقدمْكَ نظيرٌ في مرتبة.
قال الأصمعي: سمعتُ أعرابياً يُوصِي آخرَ أراد سفراً، فقال: آثر بعملك مَعَادَك، ولا تَدَع لِشَهْوَتِكَ رَشادَك، وليكُنْ عقلُك وزيرَك الذي يَدْعُوك إلى الهدى، ويجنِّبك من الرَدى، واحْبِس هواك عن الفواحش، وأطْلِقه في المكارم؛ فإنك تبرّ بذلك سلَفك، وتَشِيد به شرفَك.
وأوصت أعرابية ابنَها في سفر، فقالت: يا بني، إنك تجاورُ الغرباء، وتَرْحَلُ عن الأصدقاء، ولعلك لا تَلْقَى غيرَ الأعداء؛ فخالِط الناسَ بجميل البِشْر، واتَّقِ اللَّهَ في العَلاَنية والسرّ.
وقال بعضُ الملوك لحكيم وقد أراد سفراً: قِفْني على أشياء من حِكْمتك أعْمَلْ بها في سفري، فقال: اجعلْ تأنيك أمام عَجَلَتِك، وحِلْمَك رسولَ شِدَّتك، وعفوَك مالِكَ قدرتك، وأنا ضامن لك قلوبَ رعيتك، ما لم تُحْرِجْهم بالشدّةِ عليهم، أو تُبْطِرْهم بالإحسان إليهم.
وقال أبان بن تغلب: شهدت أعرابيةً لُوصِي ولداً لها أراد سفراً وهي تقول: أي بني، اجلسْ أمْنَحك وصيتي، وباللّه توفيقك، قال أبان: فوقفت مستمعاً لكلامها، مستحسناً لوصيتها، فإذا هي تقول: أي بني، إياك والنَّمِيمة، فإنها تَزْرَعُ الضغينة، وتفرَق بين المحبّين، وإياك والتعرض للعيوبِ فتُتخذ غَرَضاً، وخليقٌ ألاَ يَثْبُتَ الغَرضُ على كثرة السهام؛ وقلَما اعتَوَرَتِ السهامُ غَرَضاً إلاَ كَلَمَتْه، حتى يَهيَ ما اشتدَ من قُوَته؛ وإياك والجودَ بدينك، والبخلَ بمالك؛ وإذا هززت فاهزز كريماً يَلِنْ لِمَهَزتك؛ ولا تَهْزُز اللئيم فإنه صخرةٌ لا يتفجَّرُ ماؤها، ومثِّل بنفسك مثال ما استحسنتَ من غيرك فاعمل به، وما استقبحتَ من غيرك فاجتنبه؛ فإن المرءَ لا يرى عيْبَ نفسه؛ ومن كانت مودته بشره، وخَالَفَ منه ذلك فعلُهُ، كان صديقه منه على مِثْل الريح من تصرفها.
ثم أمسكت، فدنوتُ منها، فقلت لها: بالله يا أعرابية، إلا ما زِدْته في الوصية؛ قالت: أو قد أعْجَبَك كلامُ العرب يا حَضَري؟ قلت: نعم! قالت: الغَدرُ أقبح ما تعاملَ به الناسُ بينهم، ومَنْ جمع الْحِلْمَ والسخاءَ فقد أجادَ الحُلّة رَيْطَتها وسِرْبَالها.
فقر في مدح السفر
أبو القاسم بن عباد الصاحب: الخبر المنقول أنَ المقبوضَ غريباً شهيد. وفي الحديث: سافروا تَغْنَموا. السفرُ أحدُ أسباب العيش التي بها قِوامه، وعليها نِظَامه. إن الله لم يجمَعْ منافعَ الدنيا في الأرض؛ بل فرَّقها وأحوجَ بعضها إلى بعض. المسافرُ يسمع العجائب، ويَكْسبُ التجاربَ، ويَجْلِبُ المكاسب. الأسفارُ مما تَزِيدك علماً بقدرة اللّه وحِكْمته، وتدعوكُ إلى شكر نعمته. ليس بينك وبين بلدٍ نَسب؛ فخيرُ البلاد ما حملك. السفرُ يُسْفِر عن أخلاق الرجال. أوحِشْ أهلَك إذا كان في إيحاشهم أُنْسُك، واهْجُرْ وطنَك إذا نبَتْ عنه نفسك. ربما أسفر السفر عن الظفَر، وتعذر في الوطن قضاءُ الوطَر، وأنشد: البسيط
ليس ارتحالُكَ تَرْتَادُ الغِنَى سفراً ... بَلِ المُقَامُ على خَسْفٍ هو السفرُ
وهذا كقول الطائي: الطويل
وما القفْرُ بالبيدِ الفضاء، بَكِ الَتي ... نَبتْ بي وفيها ساكِنُوها هِي القَفْرُ
أخذه المتنبي فقال: البسيط
إذا تَرَحَلْتَ عن قوم وقد قَدرُوا ... ألاَ تُفارِقَهُمْ فالرَاحِلونَ هُمُ
نقيض ذلك في ذمّ السفر والغربة
في الحديث إن المسافرَ وماله لعَلَى، قلت: إلاّ ما وَقى الله؛ أي على هلاك. شيئان لا يعرفهما إلا من ابْتُلِي بهما: السفرُ الشاسع، والبناءُ الواسع. السفرُ والسقَمُ والقتال ثلاث متقاربة؛ فالسفرُ سفينة الأذى، والسقَمُ حَريقُ الجسد، والقتالُ مَنبتُ المنايا. إذا كنتَ في غير بلدك فلا تَنسَ نصيبك من الذل. الغربةُ كرْبة. النّقلة مُثْلة. الغريب كالغرسِ الذي زايل أرْضَه، وفَقَد شِرْبَه؛ فهو ذَاوٍ لا يُثْمِر، وذابلٌ لا ينضر. الغريب كالوَحْشِ النائي عن وطنه؛ فهو لكل سَبُعٍ فَرِيسة، ولكل رام رَمية؛ وأنشد: الوافر
لَقربُ الدار في الإقتار خَيْرٌ ... منْ العيش الموسع في اغترابِ
وقال أبو الفتح البُسْتي: البسيط
لا يعدم المرء شيئاً يستعينُ به ... ومنعه بين أهليه وأصحابه
ومن نأى عنهمُ قلَّتْ مهابتهُ ... كالليثِ يحقر ُلما غاب عن غابِهْ
العزل بعد المؤانسة
كتب أبو عبيد الله إلى المهدي بعد عَزْلِه إيّاه عن الدواوين: لم يُنكِر أميرُ المؤمنين حالي في قُرْب المؤانسة وخصوص الخلطة، وحالي عنده قَبْلَ ذلك في قيامي بواجب خِدمَته، التي أدنتني من نعِمته، فلم أبدِّل - أعز اللّه أميرَ المؤمنين - حال التبعيد، ويقرّب في محل الإقصاء، وما يعلمُ اللّه مني فيما قلت إلاَّ ما علمه أميرُ المؤمنين، فإن رأى أكرمه اللّه أن يُعَارِض قولي بعلمه بدءًا وعاقبةً فعل إن شاء اللّه.
فلمّا قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبُه، فقال: ظلمنا أبا عبيد اللّه، فيردّ إلى حاله، ويُعْلَم ما تجدّد له من حُسْنِ رأيي فيه.
ولما أمر المأمونُ أن يُحْجَب عنه الفضلُ بن الربيع لسبب تألَمَ قلبُه منه كتب إليه: يا أمير المؤمنين، لم يُنْسِني التقريبُ حالي أيامَ التبعيد، ولا أغفلتني المُؤانسة عن شكر الابتداء، فعلى أيِّ الحالين أبعد من أمير المؤمنين، ويَلْحَقُني ذمُ التقصيرِ في واجب خدمته؟ وأميرُ المؤمنين أعْدلُ شهودي على الصَدْق فيما وَصْفت؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين ألا يكتم شهادتي فَعل إن شاء اللّه.
وقال أبو جعفر المنصور لأبي مسلم حين أزْمَع قَتْله: هل كنتَ قبل قيامك بدولتنا جائزَ الأمْرِ على عَبْدين؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين. قال: فلِمَ لَمْ تَعْرِض حالَيْ عُسرتك ومَهانتك على أيامنا، وتعرِف لنا ما يَعْرِفُ غيرُك من إجلالنا وإعظامنا، حتى لا ينازعك الحين عِنَان الطمأنينة؟ قال: قد كان ذلك يا أميرَ المؤمنين، ولكنَ الزمانَ وإساءتَه قَلَبَا ما كان من حُسْنِ صنيعتي، قال: فلا مرغوبَ فيك، ولا مأسوفَ عليك، وفي اللّه خَلَفٌ منك! وأَمر بقتله.
جملة من شعر أبي الفتح
كشاجم في الأوصاف
قال يصف أجزاء من القرآن: الخفيف
مَنْ يَتُبْ خشيةَ العقابِ فإني ... تُبْتُ أنْساً بهذهِ الأجزاء
بَعَثَتني على القراءة والنُس ... ك وما خِلْتُني مِنَ القرَاء
حين جاءت تَرُوقني باعتدال ... من قدود وصيغَةٍ واستواء
سبعة أشْبَهَت ليَ السبعةَ الأن ... جم ذاتَ الأنوار والأضواء
كُسيت من أديمِها الحالِك اللَو ... ن غِشاءً أحبب به من غِشَاء
مُشْبِهاً صبغة الشَّبَابِ ولَمَا ... ت العَذارى ولبْسَةَ الخطباءِ
ورأت أنها تحسنُ بالضدِّ ... فَتَاهَتْ بحِلْية بيضاء
فهي مسودّةُ الظهور، وفيها ... نورُ حق يَجْلُو دُجَى الظلماءَ
مطبقات على صحائفَ كالرّي ... ط تخيرنّ من مُسُوك الظباء
وكأنَّ الخطوط فيها رياض ... شَاكِرات صنيعةَ الأنْواء
وكأنَّ البياض والنُّقَطَ السُّو ... دَ عَبِيرٌ رشَشْتهُ في مُلاء
وكأن العشورَ والذَّهب السا ... طع فيها كواكب في سماءِ
وهي مشكولةٌ بعدَّةِ أشكا ... لٍ ومقروءةٌ على أنحاءِ
فإذا شئتَ كان حمزةُ فيها ... وإذا شئت كان فيها الكِسَائي
خُضْرة في خلالِ حُمرٍ وصفْر ... بين تلك الأضْعَاف والأثناء
مثل ما أثَر الدَّبيبُ من الذرّ ... على جلد ِبَضَةٍ عَذْراء
ضُمِّنت مُحكَم الكتابِ كتاب الل ... ه ذي المكرُمات والآلاء
فحقيقٌ عليَّ أنْ أتلوَ القر ... آنَ فيهنَّ مُصْبَحِي ومَسائي
وقال يصفُ التخت الذي يُضْرَب عليه حساب الهند: الرجز
وقلمٍ مِدادُهُ ترَابُ ... في صُحُفٍ سُطُورها حِسابُ
يَكْثُر فيها المَحْوُ والإضرابُ ... من غير أن يُسَوّد الكتابُ
حتى يبينَ الحقُّ والصواب ... وليس إعجامٌ ولا إعرابُ
فيه ولا شكَ ولا ارتيابُ
وقال يصف برْكاراً استهداه: المنسرح:
جُدْ لي ببركارك الذي صَنَعَتْ ... فيه يَدَاً قَيْنةِ الأعاجيبا
ملتئم الشُعبتَيْن معتدلٌ ... ماشِينَ من جانبٍ ولا عِيَبا
شخصان في شكْل واحدٍ قُدَرا ... ورُكبا بالعقولِ تركيبا
أشبه شيئين في اشتكالهما ... بصاحبٍ لا يزالُ مصحوبا
أُوثِقَ مسمارُهُ وغُيِّب عن ... نواظر الناقدين تَغْييبا
فعَيْنُ مَنْ يجتَلِيه يحسبُهُ ... في قالب الاعتدال مَصْبوبا
قد ضَمَ قُطْرَيْه مُحْكِماً لهما ... ضَمَ مُحِب إليه محبوبا
يزداد حِرْصاً عليه مُبصِره ... ما زَاده بالبَنانِ تَقْلِيبا
ذو مُقْلَة بصَرَتْهُ مَذهبه ... لم تَألُهُ رِقةً وتهذيبا
ينظرُ فيها إلى الصواب فما ... بها يزالُ الصوابُ مطلوبا
لولاه ما صحَّ خطُ دَائرة ... ولا وَجَدْنَا الحسابَ محسوبا
الحقّ فيه فإن عَدَلت إلى ... سواه كان الحسابُ تقريبا
لَوْ عَيْنُ إقليدسٍ به بَصُرَت ... خرَ لهُ بالسجودِ مكبوبا
فابعَثْهُ واجْنبه لي بمسْطَرة ... تُلْفِ الهوَى بالثناء مَجْنُوبا
وقال يصف بيكاتا: البسيط:
روح من الماء في جِسْمٍ من الصُفْر ... مولد بلطيف الحِسَ والنظرِ
مستعبر لم يَغِبْ عن طَرْفِهِ سكن ... ولم يَبِتْ من ذَوِي ضِغْن على حَذَرِ
له على الظهر أجفان محجرةٌ ... ومُقْلة دمْعُها جَارٍ على قَدَرِ
تنْشَا له حركاتٌ من أسافلِه ... كأنها حركاتُ الماء في الشجرِ
وفي أعاليه حُسْبان يُفَصِّلُه ... للناظرين بلا ذهنٍ ولا فِكَرِ
إذا بكى دارَ في أحشائه فلَك ... خافي المسير وإن لم يبكِ لم يدُرِ
مُتْرجم عن مَواقيتٍ يخبرُنا ... بها فيوجَدُ فيها صادق الخبر
تُقْضَى به الخمسُ في وَقْتِ الوجوب وإن ... غطى على الشمس سِتْرُ الغَيْم والمَطَرِ
وإن سَهِرْتُ لأوقاتٍ تؤرقني ... عرفتُ مقدارَ ما ألقى من السَّهَرِ
مُحَدد كل ميقاتٍ تخيرَه ... ذَوو التخَيرِ للأسفار والحَضَرِ
ومخرج لكَ بالأجزاء ألْطَفَها ... من النهار وقوسُ الليلِ والسحَرِ
نتيجة العلمِ والتفكير صورَتُه ... يا حبذا أبدع الأفكار في الصور
وقال يصفُ أسطَرلاباً: البسيط
ومستدير كجِرْم البدرِ مَسْطوح ... عن كلِّ رافعةِ الأشكال مَصْفُوح
صُلْبٌ يُدَارُ على قُطْبٍ يثبته ... تمثالُ طرفٍ بشكر الحذقِ مَكبُوحِ
ملء البنَانِ وقد أوفَتْ صفائحُه ... على الأقاليم من أقطارهَا الفِيح
تُلْفى به السبعةَ الأفلاكَ مُحْدِقةً ... بالماء والنارِ والأرْضِينَ والريحِ
تُنْبيك عن طائح الأبرَاجِ هيئتُه ... بالشمس طَوراً، وطَوْراً بالمصابيح
وإن مضَتْ ساعة أو بعض ثانية ... عرفْتَ ذاك بعلم فيه مَشرُوح
وإنْ تعرَض في وقتٍ يُقَدره ... لك التشككُ جَلاَهُ بتصحيحِ
مميز في قياساتِ الضلوع بهِ ... بين المشائم منها والمنَاجِيحِ
له على الظهر عَيْنَا حِكمةٍ بهما ... يَحْوِي الضياء وتُنْجِيه من اللوح
وفي الدواوين من أشكاله حِكم ... تنقح العقلُ فيها أيَ تَنْقيح
لا يستقل لما فيه بمعرفةٍ ... إلاَ الخصيف اللطيفُ الْحِسّ والرُوحِ
حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق ال ... أبوَابِ عمن سواهُ جدّ مفتوح
نتيجة الذهنِ والتفكير صَوره ... ذَوُو العقولِ الصحيحاتِ المَرَاجِيحِ
وكان أبو شجاع فَنَاخَسْرو عَضُدُ الدولة قد نكب أبا إسحاق الصابي، على تقدمه في الكتابة، ومكانه في البلاغة، واستصفى أمواله من غير إيقاعِ به في نفسه، فأهدى إليه في يوم مهرجان أسطرلاباً في دَور الدرهم، وكتب إليه: البسيط
أهدَى إليكَ بنو الحاجاتِ واحْتَشَدوا ... في مِهْرَجانٍ عظيمٍ أنْتَ تُعْلِيهِ
لكنَ عبدَك إبراهيم حين رأى ... سُمُو َقَدْرِكَ عن شيءً يُسَامِيهِ
لَمْ يرضَ بالأرض يُهْدِيها إليك، فقد ... أفدَى لك الفَلَكَ الأعْلَى بما فيه
وصف المرأة
* الكتاب : زهر الآداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحُصري القيرواني (ت413هـ، 1061م)
قطعة من شعر الأمير أبي الفضل الميكالي في طَرف أخذ بطرف من التجنيس مستطرف في ضروب من الغزل، قال: الطويل:
لقد راعني بَحْرُ الدُّجَى بصُدُودهِ ... ووَكَّلَ أجفاني بِرَعي كواكِبِهْ
فيا جَزَعي، مَهْلاً عَساهُ يَعودُ لي ... ويا كَبِدي، صَبْراً على ما كَواكَ بِهْ
وقال: الطويل:
مواعيده في الفَضْل أحلامُ نائم ... أشَبِّهُهَا بالقَفْرِ أو بِسَرَابِهِ
فمَنْ لي بوَجْهٍ لو تَحَيرَ في الدُجَى ... أخُو سَفَرٍ في ليل غَيْمٍ سَرَى بِهِ
وقال: الخفيف:
صِل محبًّا أعياه وَصْف هواهُ ... فضَناه يَنُوبُ عن ترُجمانِه
كلّما راقهُ سِواكَ تَصَدَتْ ... مُقْلَتاهُ بدمعةِ تَرْجُمانِه
وقال: السريع:
يا ذا الذي أرسل من طَرْفِه ... عليّ سَيْفاً قْدني لو فَرَا
شفاءُ نفسي منك تخميشةٌ ... تَغْرِسُ في خدّك نَيْلَوْفَرا
وقال: الكامل:
يا مُبْتَلًى بضناه يَرْجُو رحمةً ... من مالكٍ يشفيه من أوْصابهِ
أوصاك سِحْرُ جفونه بتسهُد ... وتبلّد، فقبلت ما أوْصَى به
اصْبِر على مَضَضِ الهوى فلرَبما ... تَحلُو مرارةُ صبرهِ أوصابه
وقال: الوافر:
كتبْتُ إليه أستهدي وِصالاً ... فعلَلني بوَعْدِ في الجوابِ
ألا ليت الجوابَ يكون خيراً ... فيطفئ ما أحاط من الجوَى بي
وقال: الكامل:
إنْ كنتَ تأنَسُ بالحبيبِ وقُربه ... فاصْبر على حُكمِ الرقيبِ ودارِهِ
إن الرقيبَ إذا صبرت لحكمه ... بَواكَ في مَثْوَى الحبيبِ ودَارِهِ
وقال: الطويل:
شكوتُ إليه ما ألاقي فقال لي: ... رُوَيداً، ففي حُكم الهوَى أنْتَ مُؤتلي
فلو كان حقاً ما ادَّعيت مِنَ الهوى ... لقل بما تلقَى إذاَ أن تموتَ لي
وقال: الوافر:
نَوى لي بعد إكثارِ السؤال ... حبيب أنْ يُسامحَ بالنوَالِ
فلما رُمْتُ إنجازاً لوعدي ... عليه أبى الوفاءَ بما نَوَى لي
وكان القربُ منه شفاءَ نفسي ... فقد قضتِ النوائبُ بالنَّوَى لي
وقال: البسيط:
سقياً لدهرٍ مضَى والوصلُ يجمَعُنَا ... ونحنُ نحكِي عِناقاً شكل تَنْوينِ
فصرْتُ إذ عَلِقَتْ كفّي حَبَائِلكُم ... فسَهْمُ هجرك تَرْمِي ثم تَنْويني
وقال: مجزوء الكامل:
صَدَفَ الحبيبُ بوَصْلهِ ... فجفَا رُقَادِي إذْ صَدَفْ
ونثرت لؤلؤ أدمُع ... أضْحَى لها جَفْني صَدفْ
وقال: الكامل:
يا مَنْ يقولُ الشعرَ غَيْرَ مهذّبٍ ... ويَسُومُني التعذيبَ في تهذيبهِ
لو أنّ كل النَّاس فيك مُسَاعِدِي ... لعجزت عن تهذيبِ ما تَهْذِي بهِ
وقال: السريع:
أراد أن يُخْفِي هَوَاهُ وقَدْ ... نمَ بما تُخْفي أسَاريرُهُ
وكيفَ يُخْفي داءَه مُدْنَفٌ ... قد ذاب من فرْط الأسَى رِيرُهُ
وقال: مجزوء الكامل:
ومهفهف تهفُو بِل ... ب المرء منْه شَمَائِلُ
فالرّدْفُ دِعْصٌ هائلٌ ... والقَدُ غُصنٌ مائلُ
والخدّ نورُ شقائق ... تنشقُّ عنه خمائلُ
والعَرْفُ نَشْرُ حَدائق ... تمّت بهن شمائل
والطَّرْفُ سَيْف ما لهُ ... إلاّ العِذار حَمائِلُ
ولأبي الفتح البستي في هذا المذهب: الخفيف:
إن لي في الهوى لِسَاناً كَتُوماً ... وجَناناً يخفي حَرِيقَ جَواهُ
غير أني أخاف دَمْعِي عليهِ ... سَتَرَاهُ يُفْشِي الذي ستَرَاهُ
ولأبي الفتح البستي في مذهب هذا البيت الأخير: الخفيف:
نَاظِرَاه فيما جَنَى نَاظِرَاهُ ... أوْدَعاني أَمُتْ بما أَوْدَعاني
وله: المتقارب:
خُذِ العفوَ وأمُرْ بعَرْفٍ كما ... أُمِرْتَ وأعْرِضْ عن الجاهلينْ
ولنْ في الكلام لكلِّ الأنام ... فمستَحْسَن من ذوي الجاه لِينْ
وله: مجزوء الوافر:
إلى حَتْفِي سَعَى قَدَمِي ... أَرَى قَدَمِي أراقَ دَمِي
فَمَا أنفَكُّ من نَدَمِي ... وليس بنافعي نَدَمِي
وله: البسيط:
إنْ هز أقلامَه يوماً ليُعْمِلَها ... أنساك كلَّ كميٍّ هزَّ عامِلَهُ
وإن أقرَّ على رَق أنامِلهُ ... أقرَّ بالرِّق كتَّابُ الأنامِ لهُ
وقال لمن استدعاه إلى مودَّته: المتقارب:
فَدَيْتُكَ قلَّ الصديقُ الصدُوق ... وقلّ الْخَليلُ الْحَفيُّ الوفي
ولي راغب فيك إمَّا وفيت ... فهل راغبٌ أنت في أنْ تَفِي؟
وللأمير أبي الفضل: مخلع البسيط:
أهلاً بَظْبِي حواهُ قَصْر ... كجنَّةٍ قد حَوَتْ نَعِيما
طَرَقْتُه لا أهاب سوءًا ... أبَاحَني حبّه الحريما
فجاد مَنْ فيه لي برَاحٍ ... تَنْفي حريقاً به قديما
أفْدِي حريقاً أباح رِيقا ... لا بَلْ حَرِيماً أباح رِيمَا
وله: البسيط:
مَنْ لي بشَمْل المُنَى والأُنْس أجْمًعهُ ... بشادنٍ حَل فيه الحسْنُ أجمعُهُ
ما زال يُعْرِضُ عن وَصْلي وأَخْدَعُهُ ... فالآن قد لاَنَ بعد الصدّ أخْدعُهُ
وقال: الكامل:
بأبي غَزال نام عَن وًصَبي به ... ومُراقِ دَمْعي للنَّوَى وصَبِيبِهِ
يا لَيته يَرْثي على وَلَهي بهِ ... لغرامِ قَلْبي في الهَوَى ولَهيبه
وله في هذا الباب من غير هذا النمط يصف غلاماً مخموراً خمش وجهه: الكامل:
هَبْهُ تْغَيَّرَ حائلاً عن عَهْدِه ... ورَمى فُؤادي بالصدود فأَزْعَجَا
ما بالُ نَرْجِسهِ تحوَل وردةً ... والوردُ في خديه عاد بَنَفْسَجا
وله في هذا المعنى: المتقارب:
وريمٍ على السُكْرِ خمّشْتُهُ ... بقَرْص بعارضهِ أثرا
فأصبح نرْجسُه وردةً ... ووردةُ خدَيْهِ نَيْلَوفَرا
وقال في وصف العِذار: الكامل:
ظَبْيٌ كَسَا رَأسَ الشبابِ بعارضٍ ... نَمَ العِذارُ بحافَتيه فَلاَحا
فكأنما أهْدَى لعارضِ خدِّهِ ... شعري ظَلاماً واستعاضَ صَبَاحا
وقال في غلام افتصد: مجزوء الكامل:
ومُهفْهفِ غرس الجما ... لُ بخده رَوْضاً مَرِيعا
فًصَدً الطبيبُ ذِراعَهُ ... فجرى له دَمعِي ذريعا
وأمسني وقعُ الحدي ... د بعِرقِة ألماً وَجيعاً
فأريته من عَبْرتي ... ما سال من دَمِهِ نجيعَا
فِقرٌ في ذكر العلم والعلماء
العلماء ورثةُ الأنبياء. والعلماءُ أعلامُ الإسلام. العلماء في الأرض كالنجوم في السماء.
ابن المعتز - العلماءُ غرباء، لكَثْرَةِ الجهل. وله: العلمُ جمالٌ لا يخفى، ونَسَب لا يُجْفَى. وله: زَلَةُ العالم كانكِسَار سفينةٍ تَغْرق ويَغْرق معها خَلْقٌ كثير.
غيره - إذا زلّ العالم، زَل بزلَتِه عالَم. غيره: الملوك حُكامٌ على الناس، والعلماء حكام على الملوك. من لم يحتمل ذلَّ التعلّم ساعة، بقي في ذلّ الجهل أبداً. مَا صِينَ العلم بمثل بَذْلِهِ لأهله. من كتم علماً فكأنه جاهلُه: مجزوء الكامل:
العلمُ يمنعَ أهله ... أن يمنعوه أهلُه
أبو الفتح كشاجم: مجزوء الكامل:
لا تمنع العلم أمرأً ... والعلمُ يمنعُ جانبَهْ
أمّا الغبي فليس يف ... هم لطْفَهُ وغَرائبهْ
وتكون حاضرةُ الفوا ... ئد عنده كالغائبهْ
وأخو الحصافة مُسْتَحِق ... أَن ينالَ مَطَالبهْ
فبحقَه أعطيتهُ ... مِنْ فَضْلِ علمك وَاجِبَهْ
ومن رق وجْهه عند السؤال، رقّ عِلمُه عند الرجال. عِلْم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر. كما لا يُنْبِتُ المطرُ الكثيرُ الصَخْرَ، كذلك لا ينفعُ البليدَ كثرة التعلّم. من ترفَّع بعلمه وضَعه اللَهُ بعملِهِ. الجاهلُ صغيرٌ وإن كان كبيراً، والعالم كبيرٌ وإن كان صغيراً. من أكثر مذاكرةَ العلماء، لم ينس ما علم، واستفاد ما لم يعلم.
ابن المعتز: المتواضعُ في طلاب العلم أكثرهم عِلْماً، كما أن المكان المنخفضَ أكثر البقاع ماء. إذا علمت فلا تَذْكُرْ مَنْ دونك من الجهال، واذكُرْ مَنْ فوقَك من العلماء. النارُ لا يُنقِصُها ما أخذَ منها، ولكن يُنْقِصُها أَلاَّ تجد حطباً، كذلك العلمُ لا يُفْنِيه الاقتباس منه، وفَقْدُ الحاملين له سببُ عدمه. مات خَزَنة الأموال وهم أحياء، وعاش خُزانُ العلم وهم أموات. مثَلُ عِلم لا ينفع ككنز لا ينفَق منه. أزْهَدُ الناس في عالم جيرانُه.
وقيل للصلْتِ بن عطاء، وكان مقدماً عند البرامكة: كيف غَلَبت عليهم وعندهم مَنْ هو آدبُ منك؟ قال: ليس للقُرَباء طَرافة الغُرَباء، وكنت أمرأَ بعيدَ الدار، نائي المَزار، غريبَ الاسم، قليلَ الجرم، كثير الالْتِواء، شحيحاً بالإملاء؛ فرغَبهم فيَ رغبتي عنهم، وزهَدني فيهم رغبتُهم في.
علم لا يَعْبُر معك الوادي، لا يعمر بك النادي. لو سكت مَنْ لا يعلم لسقط الاختلاَف. إذا ازدحمَ الجوابُ خَفِي الصواب. الغلط تحت اللَغط. خَرقُ الإجماع خُرْق. المحجوج بكل شيء ينطق.
استعارات فقهية تليق بهذا المكان
دخل أبو تمام الطائي على أحمد بن أبي دُوَاد في مجلس حكمه، وأنشده أبياتاً يستَمْطِرُ نائِله، وينشر فضائله، فقال: سيأتيك ثوابُها يا أبا تمام، ثم اشتغل بتوقيعات في يده؛ فأحْفَظَ ذلك أبا تمام، فقال: احضرْ، أيّدك اللّه، فإنك غائب، واجْتَمِعْ فإنك مفترق، ثم أنشده: المنسرح:
إنَّ حَرَاماً قبولُ مِدْحَتِنا ... وتَرْكُ ما نَرْتَجي من الصَّفَدِ
كما الدنانير والدراهمُ في ال ... صَّرْف حرام إلاَ يَداً بيَدِ
فأمر بتوفير حِبَائه، وتعجيلِ عطائه.
ولمّا ولي طاهر بن عبد اللّه بن طاهر خراسان دخل الشعراء يهنئونه، وفيهم تمام بن أبي تمام فأنشده: السريع:
هَنَاك رَبُّ الناس هنَاكا ... ما من جزيل الملك أعطاكا
قرَّت بما أعطِيت يا ذَا الحِجَى ... والبأسِ والإنعامِ عَيْناكا
أشرقتِ الأرضُ بِمَا نِلْتَهُ ... وأوْرَقَ العودُ بجَدْوَاكا
فاستضعف الجماعةُ شعره، وقالوا: يا بُعدَ ما بينه وبين أبيه! فقال طاهر لبعض الشعراء: أجبه، فقال:
حياك ربُّ الناس حيَّاكا ... إنَّ الذي أمَّلْتَ أخطاكا
فقلتَ قولاً فيه ما زانهُ ... ولو رأى مَدْحاً لآساكا
فهاك إن شئتَ بها مدحةً ... مثل الذي أعطيتَ أعْطاكا
فقال تمام: أعز اللّه الأمير، وإنَ الشّعْرَ بالشعر رِباً، فاجعلْ بينهما صنجاً من الدراهم، حتى يحلّ لي ولك! فضحك وقال: إلا يكن معه شعرُ أبيه، فمعه ظرف أبيه؛ أعطوه ثلاثة آلاف درهم! فقال عبد الله بن إسحاق: لو لم يعط إلاّ لقول أبيه في الأمير أبي العباس - رحمه اللّه - يريد عبد الله بن طاهر: البسيط:
يقولُ في قَوْمَسٍ صَحْبي وقد أخذَتْ ... منا السُّرَى وخُطَا المَهْرِيةِ القُودِ
أمطلع الشمس تبغي أن تَؤُمَّ بنا؟ ... فقلتُ: كلاّ، ولكن مطلعَ الجودِ
فقال: ويعطى بهذا ثلاثة آلاف.
ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان
وكان سببُ ولاية طاهر خراسان بعد أبيه ما حدَّث به أبو العيناء قال: كنّا عند أحمد بن أبي دواد، فجاء الخبر أنّ الكتبَ وردت على الواثق من خراسان بوفاة عبد الله بن طاهر، وأن الواثق يُعَزَّى عنه، وأنه قد ولّي مكانه خراسان إسحاق ابن إبراهيم، وكان عدوًّا له لانخراطِه في سِلْكِ ابن الزيات؛ فلبس ثيابَه ومضى، وقال: لا تبرحوا حتى أعودَ إليكم، فلبث قليلاً، ثم عاد إلينا فحدّثنا أنه دخل على الواثق فعزّاه عن عبد اللّه وجلس، قال: فقال لي الواثق: قد وَلّينا إسحاق خراسان، فما عندك؟ قلت: وفق اللّه أمير المؤمنين ولا نذمّه. قال: قلْ ما عندك في هذا. قلت: أمر قد أُمضِي، فما عسيت أن أقولَ فيه. قال: لَتَفْعَلنّ. فقلت: يا أمير المؤمنين، خراسانُ منذ ثلاثين سنة في يد طاهر وابنه، وكلّ مَن بها صنائعهُم، وقد خَلَّفَ عبدُ الله عشرَ بنين أكثرهم رجال، وجميعُ جيش خراسان لهم عبيد أو مَوَالٍ أو صَنَائع، وسيقولون: أما كان فينا مُصْطَنع؟ وكان يجب أن يجرّبَنا أميرُ المؤمنين، فإن وَفَيْنا بما كان يَفي به أبونا وجدُّنَا، وإلاّ استبدل منّا بعد عُذْرٍ فينا؛ ويقدم خراسانَ إسحاقُ وهو رجل غريب فينافسه هؤلاء، ويتعصّب أهلُها لهم؛ فينتقض ما أُبْرِمَ، ويفسد ما أُصلح.
قال: صدقت يا أبا عبد اللّه، والرأي ما قلت، اكتبوا بعهد طاهر بن عبد اللّه على خراسان. فكتبت كتبُ طاهر، وحُرِقت كتب إسحاق، فخرجت الزنج تطيرُ بها، ثم لقيني إسحاق داخلاً، فقلت: يا أبا الحسن، لا عدمت عداوة رجل أزال عنك ولاية خراسان بكلمة.
ومدح ابن الرومي أبا العباس بن ثوابة، فعارضه أخوه أبو الحسن بقصيدة يمدح أخاه بها، فقال ابن الرومي: المتقارب:
ألَيْسَ الْقَوافي بَنَاتِ الْفَتى ... إذا صورَةُ الحق لم تُمْسَخِ
فلا تَقبَلَنَّ أَمادِيهُ ... حَرامٌ نِكاحُ بناتِ الأخِ
ولما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم:
السيف أصدق أنباء من الكتب
قال له: لقد جَلَوْتَ عروسك يا أبا تمام فأحسنت جلاءَها. قال: يا أمير المؤمنين، والله لو كانت من الحورِ العين لكان حُسْنُ إصغائك إليها من أوْفَى مُهُورِها.
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي: الوافر:
أقول لشَادِنَ في الحُسْنِ أضْحَى ... يَصِيدُ بلَحْظِهِ قَلبَ الكَمي
ملكت الحسنَ أجمعَ في قوام ... فأدّ زكاةَ منظرك البَهيّ
وذلك أن تجودَ لمُسْتَهام ... بريق من مُقَبلِك الشَهِي
فقال: أبو حنيفة لي إمامٌ ... فعندي لا زكاةَ على الصَبيِّ
وربما أنشد هذه الأبيات على قافية أخرى فقال: الوافر:
أقول لشَادنِ في الحسن فَرْدٍ ... يصيد بلحظِهِ قَلْبَ الجليدِ
ملكتَ الحسن أجمعَ في قوام ... فلا تَمْنَع وجوباً عن وجُودِ
وذلك أنْ تجودَ لمستهام ... برَشْفِ رُضَابك العذْبِ البَرودِ
فقال: أبو حنيفة لي إمام ... فعندي لا زَكاة على الوليدِ
وقال: الطويل:
بنَفْسِي غَزال صار للحُسْنِ قبلةً ... يُحَج من البيت العتيق ويُقصَدُ
دعاني الهوى فيه فلبَّيتُ طائعاً ... وأحْرَمْتُ بالإخلاص والسَعْي يَشْهَدُ
فطرفيَ بالتسهيد والدَمْعِ قارِنٌ ... وقلبي عليْه بالصبابة مُفرِدُ
وقال أبو الفتح كشاجم: البسيط:
فَدَيْتُ زائرةً في العيد واصِلةً ... والهَجْرُ في غفلة من ذلك الخبرِ
فلم يزل خذُها رُكْناً أطوف بِه ... والخالُ في خدّها يُغْني عن الحجَرِ
وينضاف إلى هذا النظم قطعة من رسالة طويلة كتبها بديع الزمان إلى أبي نصر بن المرزبان: كتابي، أطال الله بقاء الشيخ وأنا سالم، والحمد لله رب العالمين، كيف تقلبُ الشيخ في درع العافية، وأحوالُه بتلك الناحية؛ فإني ببعده مُنغصُ شِرْعة العيش، مقصوص أجنحة الأنس. ورد كتابه المشتملُ من خبر سلامته، على ما أرغب إلى الله في إدامَته، وسكنتُ إليه بعد انزعاجي لتأخُره؛ وقد كان رَسَمَ أن أعرفه سببَ خروجي من جرجان، ووُقوعي بخُراسان، وسببَ غضبِ السلطان؟ وقد كانت القصة أني لما وردتُ من ذلك السلطان حضرتَه، التي هي كَعْبَةُ المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومستقرُ الكرم، لا مَشعَر الحرم، وقِبْلة الصلاَتِ، لا قبلة الصلاة، ومُنَى الضَّيف، لا مِنَى الخَيْفِ، وجدت بها نُدَماء من نَبَات العام، اجتمعوا قيضَةَ كلب على تلفيق خطب، أزعجني عن ذلك الفِنَاء، وأِشرف بي على الفَنَاء، لولا ما تدارك اللّه بجميل صُنْعه، وحسن دفعه؛ ولا أعلم كيف احتالوا، ولا ما الَذي قالوا؛ وبالجملة غَيَّروا رأيَ السلطان، وأشار علي إخواني، بمفارقةِ مكاني، وبقيت لا أعلم أيمنةً أضرِب أم شآمة، ونَجْدا أقصد أم تهامة: الطويل:
ولو كنت في سَلْمى أجد وشِعابِها ... لكان لِحَجاجٍ عليَ دليلُ وقد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماءٌ إذا تغيم لم يُرْجع صَحْوُه، وماء إذا تغيَّر لم يُشرب صَفْوُه، وملك إذا سَخِط لم يُنتظر عفوه، وليس بين رضاه والسخط عَوْجَة، كما ليس بين غَضَبه والسيف فَرْجة، وليس من وراء سُخْطِهِ مجاز، كما ليس بين الحياة والموت معه حِجاز؛ فهو سيدٌ يُغْضبه الْجُرم الْخَفِيّ، ولا يُرْضِيه العذر الجلي؛ وتكفيه الجناية وهي إرجاف، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظلّ الرمح، ويَعْمَى عن العذر وهو أبين من عمود الصُبْح؛ وهو ذو أذنين يسمع بهذهِ القول وهو بهتان، ويحجب عن هذه العذر وله برهان؛ وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح؛ وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم، ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزحه بين القَدِّ والقَطْع، وجدّه بين السيف والنِّطْع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف والنون؛ ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدي من التأنيب إلاَ لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب غير إراقة الدم، ولا يحتمل الهَنَة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم عن الهَفْوَة، كوزن الهَبْوَة، ولا يُغْضي عن السقطة، كجرم النقطة؛ ثم إن النقم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولي إلاَ بفمه، ولا العدو إلاَ بدمه؛ والأرواح بين حَبْسه وإطلاقه، كما أنَّ الأجسام بين حله ووَثاقِه؛ فنظرتُ فإذا أنا بين جُودَين؛ إما أن أجودَ ببأسي، وإمّا أن أجود برأسي، وبين رُكُوَبين؛ إما المفازة، وإمّا الجِنَازة، وبين طريقين؛ إما الغُرْبة، وإمَا التربة، وبين فِراقَيْنِ؛ إمّا أن أُفارق أَرْضي، أو أُفارق عرضي، وبين راحلتين؛ إمّا ظهور الجِمال، وإمَا أَعْنَاق الرجال، فاخترتُ السماح بالوَطَن، على السماح بالبَدَن؛ وأنشدت: الطويل:
إذا لم يكُنْ إلا المنية مَرْكَبٌ ... فلا رَأيَ للمحمول إلا ركوبُها
وَلَدَ ما ذكر من كعبة المحتاج، لا كعبة الْحُجّاج، من قول أبي تمام: الكامل:
بيتان حجهُما الأنامُ؛ فهذه ... حجُ الغَنِيَ، وتِلكمُ لِلْمُعْدِم
أبو عليّ البصير
وشتم بعضُ الطالبيين أبا عليّ الفضلَ بن جعفر البصيرَ، فقال أبو عليّ: والله ما نَعْيَا عن جوابك، ولا نَعْجِزُ عن مَسَابِّك؛ ولكنَّا نكونُ خيراً لِنَسَبِك منك، ونحفظ منه ما أَضَعْتَ؛ فاشكُرْ توفيرَنا ما وفَّرْنا منك، ولا يَغُرَّنك بالجهل علينا حِلْمُنا عنك.
وسأل أبو علي البصير بعض الرؤساء حاجةً ولقيه؛ فاعتذر إليه من تأخرها؛ فقال أبو عليّ: في شُكْرِ ما تقدّم من إحسانك شاغلٌ من استبطاء ما تأخر منه.
وأبو عليً أحَدُ مَنْ جمع له حظُ البلاغة في الموزون والمنثور، وهو القائلُ: الطويل:
ألمَت بنا يَوْمَ الرحيل اختلاسَةً ... فأضرَمَ نيرانَ الهَوى النَّظَرُ الخَلْسُ
تأبتْ قليلاً وهي تُرعَدُ خِيفةً ... كما تتأتَّى حين تَعْتَدِل الشمسُ
فخاطبها صَمْتي بما أنا مُضْمِرٌ ... وأَنْبَسْتُ حتى ليس يُسْمَع لي حِسُ
وولَت كما ولّى الشباب لِطِيّةٍ ... طوَتْ دونها كَشْحاً على يَأسها النفسُ
وقال يصف بلاغةَ الفتح بن خاقان وشعره: الطويل:
سَمِعنا بأشعار الملوكِ؛ فكلُها ... إذا عَضَ مَتْنَيْه الثقافُ تأوَدَا
سوى ما رأينا لأمْرِئ القيس؛ إننانراه متى لم يَشْعُر الفَتْحُ أوْحَدا
أقام زماناً يَسْمَعُ القولَ صامتاً ... ونحسبه إن رام أكْدَى وأصْلَدا
فلما امتطاه راكباً ذل صعبُه ... وسار فأضحى قد أغار وأنجَدَا
والفتح بن خاقان يقول: الطويل:
وإني وإياها لكالْخَمْرِ، والفتى ... متى يستَطِع منها الزيادةَ يَزْدَدِ
إذا ازدَدْتُ منها زاد وَجْدِي بقُرْبها ... فكيف احتراسِي مِنْ هوًى متجددِ؟
وكتب إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى: وإن أميرَ المؤمنين لمَا استْخلَصك لنفسه، وائتمنك على رعيته؛ فنطق بلسانك، وأخذَ وأعطى بيدك، وأوْرَدَ وأصدْرَ عن رأيك، وكان تفويضُه إليك بعد امتحانه إياك، وتَسلِيطه الحقّ على الهوى فيك، وبعد أن مثل بينك وبين الذين سمَوا لمرْتَبتك، وجرَوْا إلى غايتك، فأسقطهم مَضَاؤُك، وخَفُوا في ميزانك، ولم يزدك - أكرمك الله - رفعة وتشريفاً إلا ازددتَ له هيبةً وتعظيماً، ولا تسليطاً وتمكيناً، إلا زِدْتَ نفسك عن الدنيا عُزوفاً وتنزيهاً، ولا تقريباً واختصاصاً، إلا ازددتَ بالعامة رأفةً وعليها حدَبا، لا يخرجك فَرطُ النصح له عن النظر لرعيته، ولا إيثار حقه عن الأخذ بحقِّها عنده، ولا القيامُ بما هو له عن تضمين ما هو عليه، ولا يشغلك مُعَاناةُ كبار الأمور عن تفقُد صغارِها، ولا الْجِدُّ في صلاح ما يَصْلُحُ منها عن النظر في عواقبها، تمْضي ما كان الرَّشَدُ في إمضائه، وتُرْجِئُ ما كان الحَزْمُ في إرجائه، وتبذُلُ ما كان الفضلُ في بَذْله، وتمنعُ ما كانت المصلحةُ في مَنْعِه، وتَلِين في غير تكبر، وتَخُص في خير مَيل، وتعمُ في غير تصنّع، لا يَشْقَى بك المحق وإن كان عدواً، ولا يَسْعَدُ بك المبطلُ وإن كان وليّاً؛ فالسلطان يعتدّ لك من الغَناء والكِفاية، والذَّبِّ والحياطة، والنُصح والأمانة، والعِفة والنزاهة، والنصب فيما أدَى إلى الراحة، بما يراك معه - حيث انتهى إحسانُه إليك - مستوجباً للزيادة، وكافةُ الرعية - إلاَّ من غَمِطَ منهم النَعْمة - مُثْنُونَ عليك بحُسْنِ السيرة، ويُمْنِ النقيبة، ويَعُدُونَ من مآثرك أنك لم تُدْحِض لأحدٍ حُجة؛ ولم تدفع حقاً لشبْهَة؛ وهذا يسيرٌ من كثير، لو قصدنا لتفصيله، لأنْفَدْنا الزمان قبل تحصيله، ثم كان قَصْدُنا الوقوفَ دون الغاية منه.
وله إلى عبيد الله بن يحيى: يقطعني عن الأخْذِ بحظِّي من لقائك، وتعريفك ما أنا عليه عن شُكْرِ إنعامك، وإفرادي إياك بالتأميل دونَ غيرك، تخلفي عن منزلة الخاصة، ورغبتي عن الحلول محل العامة، وأني لسْتُ معتاداً للخِدْمَة ولا الملازمة، ولا قويًّا على المغَادَاةِ والمُرَاوَحة؛ فَلاَ يمنَعْك ارتفاعُ قَدْرك، وعلو أمرك، وما تعانيه من جلائل الأحوال الشاغلة، من أنْ تتطوَل بتجديد ذكري، والإصغاء إلى مَنْ يحضك على وَصْلي وبري، ويرغَبك في إسداء حُسْنِ الصنيعة عندي.
وله إليه آخِرَ فصل من كتاب: وأنا أسألُ الله الذي رَحِم العبادَ بك، على حينِ افتقارٍ منهم إليك، أن يُعِيذهم من فَقْدِك، ولا يُعيدهم إلى المكاره التي استنقذتهم منها بيدك.
السفر
ولقي رجلٌ رجلاً خارجاً من مِصْر يريد المغْرِب، فقال: يا أخي، أتتَبعُ القَطْرَ، وتَدُع مَجْرى السيول؟ فقال: أخرجني من مصر حَق مُضَاع، وشُكى مُطَاع، وإقتار الكريم، وحركة اللئيم، وتغير الصديق، بين السعة والضيق، والهربُ إلى النزرِ بالعز، خير من طلب الوَفْرِ بذلُ العَجزِ.
وأوصى بعضُ الحكماء صديقاً له، وقد أرادَ سفراً، فقال: إنك تدخُلُ بلداً لا يَعْرِفُك أهلُه، فتمسّك بوصيتيَ تنفق بها فيه؛ عليك بحُسن الشمائل فإنها تدكُ على الحرية، ونَقَاء - الأطراف فإنها تشهد بالمُلوكية؛ ونظافة البِزة فإنها تنبئ عن النَشء في النعمة؛ وطيب الرائحة فإنها تظهرُ المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليَكُن عقلُك دون دينك، وقولُك دون فِعْلك، ولباسُك دونَ قَدْرِك، والزمِ الحياءَ والأنفَة؛ فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبتْ الخساسة، وإن أنِفْتَ عن الغلبة، لم يتقدمْكَ نظيرٌ في مرتبة.
قال الأصمعي: سمعتُ أعرابياً يُوصِي آخرَ أراد سفراً، فقال: آثر بعملك مَعَادَك، ولا تَدَع لِشَهْوَتِكَ رَشادَك، وليكُنْ عقلُك وزيرَك الذي يَدْعُوك إلى الهدى، ويجنِّبك من الرَدى، واحْبِس هواك عن الفواحش، وأطْلِقه في المكارم؛ فإنك تبرّ بذلك سلَفك، وتَشِيد به شرفَك.
وأوصت أعرابية ابنَها في سفر، فقالت: يا بني، إنك تجاورُ الغرباء، وتَرْحَلُ عن الأصدقاء، ولعلك لا تَلْقَى غيرَ الأعداء؛ فخالِط الناسَ بجميل البِشْر، واتَّقِ اللَّهَ في العَلاَنية والسرّ.
وقال بعضُ الملوك لحكيم وقد أراد سفراً: قِفْني على أشياء من حِكْمتك أعْمَلْ بها في سفري، فقال: اجعلْ تأنيك أمام عَجَلَتِك، وحِلْمَك رسولَ شِدَّتك، وعفوَك مالِكَ قدرتك، وأنا ضامن لك قلوبَ رعيتك، ما لم تُحْرِجْهم بالشدّةِ عليهم، أو تُبْطِرْهم بالإحسان إليهم.
وقال أبان بن تغلب: شهدت أعرابيةً لُوصِي ولداً لها أراد سفراً وهي تقول: أي بني، اجلسْ أمْنَحك وصيتي، وباللّه توفيقك، قال أبان: فوقفت مستمعاً لكلامها، مستحسناً لوصيتها، فإذا هي تقول: أي بني، إياك والنَّمِيمة، فإنها تَزْرَعُ الضغينة، وتفرَق بين المحبّين، وإياك والتعرض للعيوبِ فتُتخذ غَرَضاً، وخليقٌ ألاَ يَثْبُتَ الغَرضُ على كثرة السهام؛ وقلَما اعتَوَرَتِ السهامُ غَرَضاً إلاَ كَلَمَتْه، حتى يَهيَ ما اشتدَ من قُوَته؛ وإياك والجودَ بدينك، والبخلَ بمالك؛ وإذا هززت فاهزز كريماً يَلِنْ لِمَهَزتك؛ ولا تَهْزُز اللئيم فإنه صخرةٌ لا يتفجَّرُ ماؤها، ومثِّل بنفسك مثال ما استحسنتَ من غيرك فاعمل به، وما استقبحتَ من غيرك فاجتنبه؛ فإن المرءَ لا يرى عيْبَ نفسه؛ ومن كانت مودته بشره، وخَالَفَ منه ذلك فعلُهُ، كان صديقه منه على مِثْل الريح من تصرفها.
ثم أمسكت، فدنوتُ منها، فقلت لها: بالله يا أعرابية، إلا ما زِدْته في الوصية؛ قالت: أو قد أعْجَبَك كلامُ العرب يا حَضَري؟ قلت: نعم! قالت: الغَدرُ أقبح ما تعاملَ به الناسُ بينهم، ومَنْ جمع الْحِلْمَ والسخاءَ فقد أجادَ الحُلّة رَيْطَتها وسِرْبَالها.
فقر في مدح السفر
أبو القاسم بن عباد الصاحب: الخبر المنقول أنَ المقبوضَ غريباً شهيد. وفي الحديث: سافروا تَغْنَموا. السفرُ أحدُ أسباب العيش التي بها قِوامه، وعليها نِظَامه. إن الله لم يجمَعْ منافعَ الدنيا في الأرض؛ بل فرَّقها وأحوجَ بعضها إلى بعض. المسافرُ يسمع العجائب، ويَكْسبُ التجاربَ، ويَجْلِبُ المكاسب. الأسفارُ مما تَزِيدك علماً بقدرة اللّه وحِكْمته، وتدعوكُ إلى شكر نعمته. ليس بينك وبين بلدٍ نَسب؛ فخيرُ البلاد ما حملك. السفرُ يُسْفِر عن أخلاق الرجال. أوحِشْ أهلَك إذا كان في إيحاشهم أُنْسُك، واهْجُرْ وطنَك إذا نبَتْ عنه نفسك. ربما أسفر السفر عن الظفَر، وتعذر في الوطن قضاءُ الوطَر، وأنشد: البسيط
ليس ارتحالُكَ تَرْتَادُ الغِنَى سفراً ... بَلِ المُقَامُ على خَسْفٍ هو السفرُ
وهذا كقول الطائي: الطويل
وما القفْرُ بالبيدِ الفضاء، بَكِ الَتي ... نَبتْ بي وفيها ساكِنُوها هِي القَفْرُ
أخذه المتنبي فقال: البسيط
إذا تَرَحَلْتَ عن قوم وقد قَدرُوا ... ألاَ تُفارِقَهُمْ فالرَاحِلونَ هُمُ
نقيض ذلك في ذمّ السفر والغربة
في الحديث إن المسافرَ وماله لعَلَى، قلت: إلاّ ما وَقى الله؛ أي على هلاك. شيئان لا يعرفهما إلا من ابْتُلِي بهما: السفرُ الشاسع، والبناءُ الواسع. السفرُ والسقَمُ والقتال ثلاث متقاربة؛ فالسفرُ سفينة الأذى، والسقَمُ حَريقُ الجسد، والقتالُ مَنبتُ المنايا. إذا كنتَ في غير بلدك فلا تَنسَ نصيبك من الذل. الغربةُ كرْبة. النّقلة مُثْلة. الغريب كالغرسِ الذي زايل أرْضَه، وفَقَد شِرْبَه؛ فهو ذَاوٍ لا يُثْمِر، وذابلٌ لا ينضر. الغريب كالوَحْشِ النائي عن وطنه؛ فهو لكل سَبُعٍ فَرِيسة، ولكل رام رَمية؛ وأنشد: الوافر
لَقربُ الدار في الإقتار خَيْرٌ ... منْ العيش الموسع في اغترابِ
وقال أبو الفتح البُسْتي: البسيط
لا يعدم المرء شيئاً يستعينُ به ... ومنعه بين أهليه وأصحابه
ومن نأى عنهمُ قلَّتْ مهابتهُ ... كالليثِ يحقر ُلما غاب عن غابِهْ
العزل بعد المؤانسة
كتب أبو عبيد الله إلى المهدي بعد عَزْلِه إيّاه عن الدواوين: لم يُنكِر أميرُ المؤمنين حالي في قُرْب المؤانسة وخصوص الخلطة، وحالي عنده قَبْلَ ذلك في قيامي بواجب خِدمَته، التي أدنتني من نعِمته، فلم أبدِّل - أعز اللّه أميرَ المؤمنين - حال التبعيد، ويقرّب في محل الإقصاء، وما يعلمُ اللّه مني فيما قلت إلاَّ ما علمه أميرُ المؤمنين، فإن رأى أكرمه اللّه أن يُعَارِض قولي بعلمه بدءًا وعاقبةً فعل إن شاء اللّه.
فلمّا قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبُه، فقال: ظلمنا أبا عبيد اللّه، فيردّ إلى حاله، ويُعْلَم ما تجدّد له من حُسْنِ رأيي فيه.
ولما أمر المأمونُ أن يُحْجَب عنه الفضلُ بن الربيع لسبب تألَمَ قلبُه منه كتب إليه: يا أمير المؤمنين، لم يُنْسِني التقريبُ حالي أيامَ التبعيد، ولا أغفلتني المُؤانسة عن شكر الابتداء، فعلى أيِّ الحالين أبعد من أمير المؤمنين، ويَلْحَقُني ذمُ التقصيرِ في واجب خدمته؟ وأميرُ المؤمنين أعْدلُ شهودي على الصَدْق فيما وَصْفت؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين ألا يكتم شهادتي فَعل إن شاء اللّه.
وقال أبو جعفر المنصور لأبي مسلم حين أزْمَع قَتْله: هل كنتَ قبل قيامك بدولتنا جائزَ الأمْرِ على عَبْدين؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين. قال: فلِمَ لَمْ تَعْرِض حالَيْ عُسرتك ومَهانتك على أيامنا، وتعرِف لنا ما يَعْرِفُ غيرُك من إجلالنا وإعظامنا، حتى لا ينازعك الحين عِنَان الطمأنينة؟ قال: قد كان ذلك يا أميرَ المؤمنين، ولكنَ الزمانَ وإساءتَه قَلَبَا ما كان من حُسْنِ صنيعتي، قال: فلا مرغوبَ فيك، ولا مأسوفَ عليك، وفي اللّه خَلَفٌ منك! وأَمر بقتله.
جملة من شعر أبي الفتح
كشاجم في الأوصاف
قال يصف أجزاء من القرآن: الخفيف
مَنْ يَتُبْ خشيةَ العقابِ فإني ... تُبْتُ أنْساً بهذهِ الأجزاء
بَعَثَتني على القراءة والنُس ... ك وما خِلْتُني مِنَ القرَاء
حين جاءت تَرُوقني باعتدال ... من قدود وصيغَةٍ واستواء
سبعة أشْبَهَت ليَ السبعةَ الأن ... جم ذاتَ الأنوار والأضواء
كُسيت من أديمِها الحالِك اللَو ... ن غِشاءً أحبب به من غِشَاء
مُشْبِهاً صبغة الشَّبَابِ ولَمَا ... ت العَذارى ولبْسَةَ الخطباءِ
ورأت أنها تحسنُ بالضدِّ ... فَتَاهَتْ بحِلْية بيضاء
فهي مسودّةُ الظهور، وفيها ... نورُ حق يَجْلُو دُجَى الظلماءَ
مطبقات على صحائفَ كالرّي ... ط تخيرنّ من مُسُوك الظباء
وكأنَّ الخطوط فيها رياض ... شَاكِرات صنيعةَ الأنْواء
وكأنَّ البياض والنُّقَطَ السُّو ... دَ عَبِيرٌ رشَشْتهُ في مُلاء
وكأن العشورَ والذَّهب السا ... طع فيها كواكب في سماءِ
وهي مشكولةٌ بعدَّةِ أشكا ... لٍ ومقروءةٌ على أنحاءِ
فإذا شئتَ كان حمزةُ فيها ... وإذا شئت كان فيها الكِسَائي
خُضْرة في خلالِ حُمرٍ وصفْر ... بين تلك الأضْعَاف والأثناء
مثل ما أثَر الدَّبيبُ من الذرّ ... على جلد ِبَضَةٍ عَذْراء
ضُمِّنت مُحكَم الكتابِ كتاب الل ... ه ذي المكرُمات والآلاء
فحقيقٌ عليَّ أنْ أتلوَ القر ... آنَ فيهنَّ مُصْبَحِي ومَسائي
وقال يصفُ التخت الذي يُضْرَب عليه حساب الهند: الرجز
وقلمٍ مِدادُهُ ترَابُ ... في صُحُفٍ سُطُورها حِسابُ
يَكْثُر فيها المَحْوُ والإضرابُ ... من غير أن يُسَوّد الكتابُ
حتى يبينَ الحقُّ والصواب ... وليس إعجامٌ ولا إعرابُ
فيه ولا شكَ ولا ارتيابُ
وقال يصف برْكاراً استهداه: المنسرح:
جُدْ لي ببركارك الذي صَنَعَتْ ... فيه يَدَاً قَيْنةِ الأعاجيبا
ملتئم الشُعبتَيْن معتدلٌ ... ماشِينَ من جانبٍ ولا عِيَبا
شخصان في شكْل واحدٍ قُدَرا ... ورُكبا بالعقولِ تركيبا
أشبه شيئين في اشتكالهما ... بصاحبٍ لا يزالُ مصحوبا
أُوثِقَ مسمارُهُ وغُيِّب عن ... نواظر الناقدين تَغْييبا
فعَيْنُ مَنْ يجتَلِيه يحسبُهُ ... في قالب الاعتدال مَصْبوبا
قد ضَمَ قُطْرَيْه مُحْكِماً لهما ... ضَمَ مُحِب إليه محبوبا
يزداد حِرْصاً عليه مُبصِره ... ما زَاده بالبَنانِ تَقْلِيبا
ذو مُقْلَة بصَرَتْهُ مَذهبه ... لم تَألُهُ رِقةً وتهذيبا
ينظرُ فيها إلى الصواب فما ... بها يزالُ الصوابُ مطلوبا
لولاه ما صحَّ خطُ دَائرة ... ولا وَجَدْنَا الحسابَ محسوبا
الحقّ فيه فإن عَدَلت إلى ... سواه كان الحسابُ تقريبا
لَوْ عَيْنُ إقليدسٍ به بَصُرَت ... خرَ لهُ بالسجودِ مكبوبا
فابعَثْهُ واجْنبه لي بمسْطَرة ... تُلْفِ الهوَى بالثناء مَجْنُوبا
وقال يصف بيكاتا: البسيط:
روح من الماء في جِسْمٍ من الصُفْر ... مولد بلطيف الحِسَ والنظرِ
مستعبر لم يَغِبْ عن طَرْفِهِ سكن ... ولم يَبِتْ من ذَوِي ضِغْن على حَذَرِ
له على الظهر أجفان محجرةٌ ... ومُقْلة دمْعُها جَارٍ على قَدَرِ
تنْشَا له حركاتٌ من أسافلِه ... كأنها حركاتُ الماء في الشجرِ
وفي أعاليه حُسْبان يُفَصِّلُه ... للناظرين بلا ذهنٍ ولا فِكَرِ
إذا بكى دارَ في أحشائه فلَك ... خافي المسير وإن لم يبكِ لم يدُرِ
مُتْرجم عن مَواقيتٍ يخبرُنا ... بها فيوجَدُ فيها صادق الخبر
تُقْضَى به الخمسُ في وَقْتِ الوجوب وإن ... غطى على الشمس سِتْرُ الغَيْم والمَطَرِ
وإن سَهِرْتُ لأوقاتٍ تؤرقني ... عرفتُ مقدارَ ما ألقى من السَّهَرِ
مُحَدد كل ميقاتٍ تخيرَه ... ذَوو التخَيرِ للأسفار والحَضَرِ
ومخرج لكَ بالأجزاء ألْطَفَها ... من النهار وقوسُ الليلِ والسحَرِ
نتيجة العلمِ والتفكير صورَتُه ... يا حبذا أبدع الأفكار في الصور
وقال يصفُ أسطَرلاباً: البسيط
ومستدير كجِرْم البدرِ مَسْطوح ... عن كلِّ رافعةِ الأشكال مَصْفُوح
صُلْبٌ يُدَارُ على قُطْبٍ يثبته ... تمثالُ طرفٍ بشكر الحذقِ مَكبُوحِ
ملء البنَانِ وقد أوفَتْ صفائحُه ... على الأقاليم من أقطارهَا الفِيح
تُلْفى به السبعةَ الأفلاكَ مُحْدِقةً ... بالماء والنارِ والأرْضِينَ والريحِ
تُنْبيك عن طائح الأبرَاجِ هيئتُه ... بالشمس طَوراً، وطَوْراً بالمصابيح
وإن مضَتْ ساعة أو بعض ثانية ... عرفْتَ ذاك بعلم فيه مَشرُوح
وإنْ تعرَض في وقتٍ يُقَدره ... لك التشككُ جَلاَهُ بتصحيحِ
مميز في قياساتِ الضلوع بهِ ... بين المشائم منها والمنَاجِيحِ
له على الظهر عَيْنَا حِكمةٍ بهما ... يَحْوِي الضياء وتُنْجِيه من اللوح
وفي الدواوين من أشكاله حِكم ... تنقح العقلُ فيها أيَ تَنْقيح
لا يستقل لما فيه بمعرفةٍ ... إلاَ الخصيف اللطيفُ الْحِسّ والرُوحِ
حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق ال ... أبوَابِ عمن سواهُ جدّ مفتوح
نتيجة الذهنِ والتفكير صَوره ... ذَوُو العقولِ الصحيحاتِ المَرَاجِيحِ
وكان أبو شجاع فَنَاخَسْرو عَضُدُ الدولة قد نكب أبا إسحاق الصابي، على تقدمه في الكتابة، ومكانه في البلاغة، واستصفى أمواله من غير إيقاعِ به في نفسه، فأهدى إليه في يوم مهرجان أسطرلاباً في دَور الدرهم، وكتب إليه: البسيط
أهدَى إليكَ بنو الحاجاتِ واحْتَشَدوا ... في مِهْرَجانٍ عظيمٍ أنْتَ تُعْلِيهِ
لكنَ عبدَك إبراهيم حين رأى ... سُمُو َقَدْرِكَ عن شيءً يُسَامِيهِ
لَمْ يرضَ بالأرض يُهْدِيها إليك، فقد ... أفدَى لك الفَلَكَ الأعْلَى بما فيه
وصف المرأة
* الكتاب : زهر الآداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحُصري القيرواني (ت413هـ، 1061م)