نقوس المهدي
كاتب
حكاية شهر الصيام
قصة قصيرة من الأدب الصيني
تأليف: جو يوان
ترجمة: أحمد السعيد
لا ينام سكان قرية “سونايبا” فى شمال شرق الصين خلال شهر رمضان سوى لقليلٍ من الوقت، حيث يتصادف قدومه هذه الأعوام وهم فى موسم الانشغال، فيكونون شديدى التعب. لكن مع قدوم شهر رمضان، يشعر أهل “سونايبا” أنهم فى أفضل حالاتهم المعنوية، وتمر الأيام متلاحقة كلمح البصر حتى انقضاء الشهر.
وفى الهزيع الأخير من كل ليلة من الشهر يتردد بالقرية صدى مقرعة المسحراتى الخشبية؛ فتضاء الأنوار داخل البيوت التى تتوزع ما بين أعلى الجرف وبين أسفله، وتنعكس الأضواء على منتصف الجرف لتشكل قوسا منيرا يعلوه ظلام حالك. ودائما ما تهب الرياح على هذه المنطقة المظلمة محدثة صريرا اعتاده أهل القرية. عادة ما تنادى سيدات القرية عبر الجدران على أخريات بأسمائهن؛ فيسمع أزواج الأخريات النداء، ولا يجيبون، بل ينبهون زوجاتهم فقط؛ فترد الزوجات على النداء بصوت مرتفع يفزع منه أطفالهن الرضع؛ فينتحبون ببكاء كأنه بمثابة الرد الثانى على النداء. حينها تبدأ السيدات فى إشعال المواقد بهدوء. وفى كل ليلة من ليالى رمضان تصعد “ليان ليان” على حافة الشباك لتسأل أمها: “ماذا ستعدين لنا؟” فتجيب الأم وهى تتحدث بتعجل: “دقيق أبيض مخلوط بالزيت، أعطى بعضه بسرعة للسيدة جارتنا، لا أدرى ماذا أعد لكم كى تأكلوه!” وحينما تتعجل الأم فى حديثها؛ يفهم الجميع أنها ليست فى مزاج جيد.
سارت “ليان ليان” مسرعة، ودفعت باب الفرن بقوة فأحدث صريرا، ثم نادت على أختها الصغيرة “شى شي” التى ما زالت تغص فى أحلامها: “شى شي!، تعالى بسرعة لتشعلى النار”. نهضت “شى شي” لارتداء ملابسها، وعيناها مغلقتين.
تتعالى أصوات من يطؤون رمال الطريق المظلم فى منتصف الجرف، لإحضار الحطب الجاف وتقطيعه فى فناء البيت. فتتشابك أصوات صرير الأبواب الخشبية عند الفتح والغلق، مع الأصوات الحادة لحديث السيدات فى جوف الليل. تلك الأصوات تدفئ أجواء رمضان فى “سونايبا” بالحركة والنشاط، حتى أنه يمكنك – فى هذه الأثناء – السير فوق الجرف وسط أصوات الرياح المختلطة بالبرد القارس، دون أى خوف، مستأنسا بأصوات القرية.
أحدثت “ليان ليان” صوتا أثناء دخولها غرفة الموقد، حين جاءت لتشعل الموقد البخارى لـ”شى شي”. تطمئن “ليان ليان” لأى شيء تفعله فى المنزل فقط حينما يكون أحدهم بجانبها، وإذا لم يطلب منها فعل أى شيء لا تقوم بنفسها بفعله، فهى منذ صغرها تشعر باضطراب كبير إذا قامت بأى أمر فى المنزل بمفردها.
تقل الأصوات فى بيت “ليان ليان” دائما فى نهار رمضان. فى البيت مذياع وتلفاز أبيض وأسود، ولكن الأم تردد دائما: “سماع الأغانى ومشاهدة التلفاز يفسدان الصيام، وإذا كان الشخص سيسمع الأغانى أو يشاهد التلفاز فمن الأفضل له الإفطار، حيث لا صيام له!” إذًا كيف تجرؤ “ليان ليان” التى صارت على مشارف الثامنة عشرة على الإفطار؟ ستتعرض لسخرية الآخرين. فى شهر رمضان يمتنعون عن هذه المحظورات، والمحظورات فى شهر رمضان كثيرة جدا، فمنذ الصغر تعلموا أنه لا يجب استخدام أعواد الكبريت فى تنظيف الأذن، كما لا يجوز تقليم الأظافر أيضا، وبالنسبة للكبار من المتزوجين يجب أن ينفصلوا عن زوجاتهم فى الفراش ليلا، و”ليان ليان” تدرك كل ذلك، لذلك فبيتهم بلا صوت فى شهر رمضان، ولا يُسمع فى البيت سوى صوت تلاوة الأستاذ “يانج” للقرآن فى الصباح الباكر؛ حيث تعشق الأذن صوت تلاوته العذب للقرآن.
فى شهر رمضان يحب أهل “سونايبا” أن يتردد صوت القرآن فى بيوتهم، حيث يدعون أحد الأئمة أو أحد طلاب الدين لتلاوة القرآن، والذى يخصص لكل يوم جزءا من الأجزاء الثلاثين، ويختم القرآن مع نهاية الشهر، كما أنهم يكثرون فى شهر رمضان من ذكر الأموات، وتأدية الصلوات. وتعد كل هذه الأمور من الضرورات التى لا يجب الانتقاص منها.
يأتى “يانج” ابن إمام المسجد لبيت “ليان ليان” كل يوم فى رمضان لتلاوة القرآن، وقد اعتاد الناس أن ينادوه الأستاذ “يانج”. يسكن الأستاذ “يانج” فى القرية الواقعة خلف الجبل، وقد جاء مع والده الإمام “دا دا” للإقامة فى قريتهم وتولى إمامة المسجد وتعليم الدين والقرآن.
يجيد “يانج” تلاوة القرآن بشكل رائع، كما أنه شخص مهذب، دائما ما يثنى الكبار فى القرية على أخلاقه. وهو قليل الكلام، غاض البصر، لا ترى عيناه سوى موضع قدميه. يأتى كل صباح فيدخل البيت فى صمت يكاد لا يُسمع له صوت، فيخلع نعليه عند دخول الغرفة، ويجلس على سرير الكانج[1] بلا أدنى صوت، سرير الكانج مغطى بفراش محشو بالقطن، أعلاه ملاءة باهتة، وبجواره منضدة خشبية حمراء تعلوها مبخرة نحاسية، تتصاعد منها أبخرة زرقاء خفيفة لثلاثة أعواد بخور رفيعة حمراء تحترق، فتتجمع هذه الأبخرة فى فضاء الغرفة وتملأ المكان بعبق البخور، وعندما يجلس الأستاذ “يانج” القرفصاء ويعتدل قليلا متأهبا للتلاوة؛ تعلوه أمارات الهيبة والوقار.
وللأستاذ “يانج” صوت جهوري، يتغير بين ارتفاع وانخفاض وسرعة وبطء كلوحة لمشهد ربيعى تسحر الألباب. تجلس “ليان ليان” فوق كرسى صغير مربع الشكل موضوع فوق عتبة الغرفة الصغيرة، بحيث تشكل الغرفة الصغيرة مع الغرفة الرئيسية زاوية قائمة، فتعكس الشمس أشعتها الدافئة على جسد “ليان ليان” لتزيد حسنها توهجا، وينساب صوت تلاوة الأستاذ “يانج” عبر باب له لون الزبد به شباك من الزجاج، يخرج الصوت منغما، بحيث يبدو للسامعين وكأن شخصا يعتلى منبرا يقرأ بصوت عالٍ مليء بالصدق والعاطفة قصيدة مدحٍ أو رثاء، أو كشخص بداخل قاعة مسجد كبرى يسرد بصوت عذب الأحداث المؤثرة المتشابكة التى حدثت فى المدينة المنورة، والعناكب الكثيرة التى نسجت شباكها بسرعة، والهدير العالى لسرب الحمام الأبيض الذى استقر فوق الغار لحمايته، وفى داخل الغار نبى الإسلام محمد يصلى فى سكون، وفى الصحراء الجافة أصوات حوافر الخيول فوق الرمال والحصى يسمعها من بالغار، وأصوات زفير وصهيل الخيول الضخمة، وأصوات صليل السيوف التى تصطدم بها الرمال المتطايرة؛ فتتشابك وتنخطف قلوب السامعين. فى هذه الأثناء كانت “ليان ليان” تتخيل وجه الأستاذ “يانج” ممتلئا بالنور وهو يتلو القرآن.
نهضت “ليان ليان” من فوق الكرسى المربع، ودخلت الغرفة الرئيسية؛ فوجدت الأستاذ “يانج” يُعدِّل جلسته، وهو هادئ الملامح وخاشع العينين، يهز رأسه هزة خفيفة مع التلاوة، فيخرج هذا الصوت الجميل من بين شفتيه اللتين تنمان عن الطيبة والبساطة. شعرت “ليان ليان” فجأة بالندم على أنها لم تتعلم قراءة القرآن من قبل مع إمام المسجد الإمام “شيان”، فالإمام شيان غزير العلم، تعلمت معه – على لوح جلد البقر – كتابةَ حروف الهجاء: الألف، الباء، التاء. ….إلخ من الحروف العربية الثمانية والعشرين، كانت تقرؤها معه حرفا حرفا، حتى حفظتها عن ظهر قلب، ودرست ثلاث عشرة سورة مع بعض العلوم الشرعية، وقد طلب منها الإمام دراسة علوم القرآن الكريم، لكنها شعرت أن هذا سيحتاج لوقت طويل، وأبوها بعيد هناك فى المكتب الهندسى للطريق السريع فى مقاطعة “تشينجهاي”، وتصعب عليه العودة للديار، وعلى الرغم من أن زوجة أخيها الأكبر تعمل فى بلدية “كالونج”، التى تبعد عن قريتهم خمسة عشر ميلا فقط، فإنها لا تعود إلى البيت، والأخت الصغرى “شى شي” تدرس أثناء النهار، ولا يوجد فى البيت سوى أمها التى تعشق فريضة الصلاة.
كانت “ليان ليان” قبل ذلك – عندما تنتهى من تعلم الدروس الدينية فى المسجد – تعود للبيت؛ فتفتح جهاز التسجيل سرا، وتخفض الصوت وهى تستمع لشرائط الكاسيت التى تركها أخوها الكبير فى البيت، تسمع «الأغانى الجبلية لمى دو»، و«جسر الأحبة»، وتظل تستمع لها حتى تشعر بالضيق؛ فتغلق الجهاز، ولكنها كانت تفضل سماع أغنية «فتاة القرية الزرقاء» التى تقول:
فوق جبل “لان”، حيث عطر زهرة السحلب،
تبدو فتاة القرية الزرقاء مثل زهرة ندية،
ليست طويلة ولا قصيرة، ليست نحيفة ولا سمينة،
تجيد القول، تجيد الفعل، تحب الرقص، تحب الغناء،
لطيفة الطبع، رقيقة جميلة، طيبة القلب، خفيفة الظل،
……….
كل فتيات الجبل حسناوات مثلها،
أين توجد فى المدينة فتيات مثلهن،
أين توجد مثلهن…………
أحيانا تدندن “ليان ليان” مع جهاز التسجيل، لكنها تحس بعدم ارتياح، حيث إنها دائما تشعر أن هناك تناقضا بين سماع الأغانى وقراءة القرآن الكريم، فإذا فعلت هذا فلا يمكن أن تفعل ذاك، وهى لا تجرؤ أن تخبر الإمام “شيان” بأمر سماعها للأغاني، لأنها لا تتخيل إلامَ سيتحول هذا الوجه العطوف إذا علم بالأمر، لكنها فى النهاية لم تكمل تعلم القرآن، حيث جاءهم خطاب من العم “ووسو” فى منطقة “شينجيانج” يطلب أن تذهب “ليان ليان” لمساعدته فى مطعمه الجديد، وقد وافق أبوها.
فى ذلك المكان الذى لا يعد مدينة كبيرة فى الصين، رأت “ليان ليان” العالم الخارجى بعيدا عن قريتها، كانت ابنة عمها تأخذها إلى السينما، وقاعات الرقص ذات المصابيح الملونة الدوارة، والبنايات التجارية الضخمة والجميلة، كل هذا جعل “ليان ليان” يخفق قلبها تأثرا لما تراه، فى يوم خرجت ابنة عمها مع شاب قوى البنية من قومية الويجور، وركبا دراجة بخارية حمراء وانطلقا على الطريق السريع الذى تنبت بجواره ثمار العرقد الصيني، من هذه اللحظة حلمتْ أن تكون مع شخص مثله يوما ما، لكن هؤلاء الشباب ذوى الشعر المجعد فى “ووسو” دائما ما يأتون إلى المطعم لشرب الخمر، وأحيانا يفرطون فى الشراب، وتحمر وجوههم ويتراشقون بالألفاظ البذيئة، كما أنهم ذات مرة تشاجروا داخل المطعم، وتهشمت زجاجات الخمر ذات الألوان الجميلة، واختبأ العم فى جانب من المطعم، لكنه أصيب فى وجهه بجرح، كل هذه الأشياء أخافت “ليان ليان”، وجعلتها تشتاق إلى قريتها البعيدة، وعادت مرة أخرى إلى قريتها لكن الإمام “شيان” كان قد غادر القرية.
كانت “ليان ليان” تسترجع كل هذه الذكريات وهى واقفة أمام الأستاذ “يانج”. ظنت أنه لم تمر سوى لحظات قليلة، ولكنها أفاقت والأستاذ “يانج” يتورد وجهه حمرة من تطلعها له، ثم شعر الأستاذ “يانج” فجأة بحشرجة فى صوته، فعدل قامته وهز خصره، وانزوى جالسا، وتساقط العرق من أنفه.
لماذا يبدو الأستاذ “يانج” جبانا لهذه الدرجة وخجولا أيضا لهذه الدرجة؟ يثير هذا الفضول فى نفس “ليان ليان” عند رؤية الأستاذ “يانج”.
غادر الأستاذ “يانج” بنفس الطريقة الصامتة التى حضر بها، لم ينطق بكلمة، وارتدى حذاءه على عجلة وغادر، حتى أنه لم يلق السلام، وكأنه لا يوجد أحد فى هذا البيت.
كانت خطوات الأستاذ “يانج” سريعة وقصيرة، سريعة حقا وكأنها خفقان قلبه الذى أصبح على أشده. قبل شهر رمضان، عاد إلى بيته الواقع خلف الجبل، وتحدث معه والده الإمام “دادا” عن أخيه الأكبر الذى يعمل سائقا قائلا: “نريد أن نخطب له فتاة من قرية “سونايبا”، وبعدها بعدة أيام أوقفه أخوه الأكبر بجانب الطريق السريع للقرية المطلة على فناء بيت “ليان ليان” وهو يتطلع إليها من بعيد، ثم صحبه للمسجد وتحدث مع والده الإمام “دادا”، وسألاه: “هل يمكن أن تسأل لنا عن هذه الفتاة؟ وهل تقدم أحد لخطبتها؟”.
يذهب الأستاذ “يانج” فى موعده لبيت “ليان ليان” لتلاوة القرآن، لكنه لم يحاول النظر مرة واحدة ليراها، فهو لا يجرؤ على التطلع فى وجهها.
عند تلاوته، تتمنى “ليان ليان” أن تقدم له طبق فاكهة؛ فتضع بالفعل البلح الصينى الأحمر، وفاكهة عين التنين وسكر النبات، ثم تتذكر فجأة وهى تحملها إليه أنه شهر رمضان، ولا بد من الانتظار حتى موعد الإفطار. تسرح “ليان ليان” بخيالاتها وتحدث نفسها قائلة: “عندما يأتى للبيت لتلاوة القرآن، سأقوم …..”، ثم يتورد وجهها خجلا!
فى شهر رمضان هذا العام يمتلئ البيت بالفراغ، بعد أن يغادر الأستاذ “يانج”، يعود للبيت هدوؤه الشديد.فى رمضان تشعر دائما أن قرية “سونايبا” قرية صامتة وكأنها خالية من سكانها.
فوق الجرف القابع خلف منازل القرية تأكل بعض الماعز السوداء فى صمت أيضا، ثم تهب ريح من بين أشجار الصفصاف ذات البراعم الطرية، فتهتز معها رقاب الماعز، بينما تثبت ”ليان ليان” الناظرة من شرفتها عينيها الزائغة دائما فى عيون الماعز الرقيقة المتلألئة بما يشبه الدمع، وتشعر أن هذا الدمع تذرفها روحها؛ فتتقهقر مغلقة شباكها.
فى الليالى التى ينيرها القمر، تنام الأم فى غرفتها، وتصلى قيام الليل، حيث علقت على الحائط الغربى للغرفة صورة للكعبة. تسجد الأم على السجادة العتيقة المخملية المزخرفة التى أتى بها الأب من مدينة “قارمو”، وفمها يتمتم بالذكر دون توقف، تحت أضواء الليل الشاحبة، تستشعر “ليان ليان” من طيف أمها أنها مغمورة تماما فى نوع من الاشتياق لله، إنه اشتياق لن ينقطع حتى آخر نفس لها. ذات مرة رأت “ليان ليان” فم أمها يرتعش بعد الانتهاء من الصلاة، فاقتربت بكفيها من وجهها، وارتجفت يداها أيضا، وبعد أن سلمت الأم منهية صلاتها اعتدلت فى جلستها بخشوع، وضغطت بقماشة بيضاء بجانبها تحت محجريها. ضحكت “ليان ليان” فجأة؛ فمدت الأم رأسها للأمام قليلا، كمن يتمدد على السرير محاولا رؤية من على الأرض، تلك النظرة المتحيرة التى تبحث بها عن شيء جعلت “ليان ليان” تقع على الأرض من كثرة الضحك. فى الأخير عدلت الأم قامتها، وأمسكت بالمسبحة قائلة: “أيتها الفتاة البلهاء، حقا بلهاء، علام تضحكين؟”.
ضحكت “ليان ليان” قائلة: “أمي، كنت تبدين كأنك خائفة من شيء ما، لقد كنت ترتجفين”.
قالت الأم بصوت خفيض هادئ: “بالطبع خائفة، لقد كبرت أمك، ماذا أفعل إذا لاقيت الله؟”.
عندما قالت الأم هذا الكلام بدت أيضا مرتجفة؛ مما أشعر “ليان ليان” بالخوف من رأسها حتى أخمص قدميها.
فى ذلك الوقت، ظلت “ليان ليان” صامتة دون أن تتفوه بكلمة، ومدت يديها برفق داخل الدولاب، وأحضرت الكاكى المجفف والزبيب وبعض قطع البسكويت الهش الذى أتى به أبوها، ووضعته فى طبق أمام أمها؛ فأخذته الأم منها، ووضعته بجانب قدميها، ولم تتكلم، فقط أمسكت بالمسبحة فى يديها وأخذت تردد التسابيح والأذكار بسرعة.
تبللت عينا الأم مرة أخرى، وصارتا غائرتين، وحينها بدت الأم أكثر نحافة مما هى عليه.
أحيانا تنظر الأم إلى “ليان ليان” وتتأملها بلا حديث.
قالت لها “ليان ليان” ذات مرة:
– “أمي، هل تسمعين الأستاذ “يانج” حين يتلو القرآن؟”.
– “ماذا به؟”.
– “ إنه يتقن التلاوة بشكل رائع”.
تمتمت الأم: “امم”، ولم تعقب.
حين قالت الأم: “امم”، لم تلتفت إلى “ليان ليان”، فقد كانت تتدبر فى الحياة الآخرة.
فى المساء هبطت أشعة الشمس بخجل تعلن قدوم الغسق، وصوت الطير على الأشجار بجانب الطريق يبدو بعيدا نوعا ما، وكبار السن يسعلون وهم فى طريقهم للمسجد يسمع سعالهم باهتا أيضا، حينها كان ضوء مصباح الغرفة الصغيرة خافتا، و”ليان ليان” جالسة بهدوء على الكرسى وسط الغرفة، خُيل إليها أنها رأت ذلك الوجه الحليق النظيف، حيث حملقت بشدة فى هذا الشاب الذى يرتدى عباءة طلاب الدين وهو يمشى على عجلة من أمره ليمر على الجسر الحجرى فى “سونايبا”. بدت قبعته البيضاء التى يعتمرها مع آخر خيوط الشمس الذهبية وقت الغسق كأنها سحابة ناصعة البياض، كانت عينا “ليان ليان” رقيقة جذابة، شعرت أنها تريد أن تكون عيناها مثل الماء لتبلل هذا الشاب فوق الجسر الحجري. أطبق الشاب شفتيه ورمقها بنظرة صارمة وأكمل سيره مرة أخرى فى حزم. بدا الجسر الحجرى عاليا جدا، كأنه ارتفع بالشاب ناحية السحب المهيبة، والشاب ينظر لها من فوق طبقات السحاب. شعرت “ليان ليان” برغبة فى دندنة أغنية، تغنيها لهذه العيون الوحيدة الصافية؛ فتتلألأ عيناه بالدموع متأثرا بالنفس الحار الذى سيتسلل عبر صوت الغناء، بعد ذلك حتما سيتأثر الشاب فيهبط متهاديا من السحاب، فينظر بعينين مليئتين بالجرأة ومشاعر الحب ويأخذها معه.
لم تضىء “ليان ليان” المصباح. ظلت جالسة فى هدوء الغرفة المظلمة، والكرسى الخشبي، كأنها تشاهد بحيرة جميلة تنعكس فوقها أشعة الشمس المشرقة.
مرت أيام شهر رمضان تتوالى، تغرب الشمس كل يوم ثم يذهب رجال القرية للمسجد، يحملون تحت إبطهم طبقا يضعونه بعد دخول المسجد فوق لوحين خشبيين أمام غرفة الإمام. تملأ صفوف الأطباق المكان، فترى أطباقا بيضاء، سوداء، زرقاء، مزركشة، خضراء أو سماوية اللون، فتبدو كلوحة جدارية ذات خطوط عريضة، متلاصقة. يستخدم القائمون على توزيع الطعام أطباق الغسيل أو الجرار الحمراء القاتمة فى طعام الإفطار، ويضعونها بجانب اللوح الخشبي، ويقوم أحد مسئولى المسجد باستخدام مغرفة حديدية طويلة، لملء تلك الأطباق للصائمين. يقول إمام المسجد: “آمين”، وحين تدق مقرعة الإفطار، يسرع الناس بالدعاء، ويمسحون على وجوههم مرتين، ثم يتجمعون ليبحث كل منهم على طبقه. دائما ما تكون رائحة الإفطار داخل الطبق شهية. تتصاعد رائحة الطبخ مع ضباب المساء بين الأشجار، فتنساب متخللة الأبواب الخشبية السوداء التى أبلتها يد الدهر، تتجاوز الروائح تلك الأعشاب الخضراء إلى البيوت القديمة ذات صفوف القرميد، والجدران الكثيرة المبنية بالطين الأصفر، تلك الأبواب المقوسة المبنية من الطوب الأحمر، حتى هؤلاء المتسكعون الذين لا يؤدون الصلاة يحضرون أطباقهم ليتناولوا الإفطار فرحين، ويلحسون أطباقهم بعد الانتهاء من الأكل؛ فيبتسم حامل المغرفة، ويملأ أطباقهم مرة ثانية. أثناء تناول هؤلاء المتسكعين للطعام، يرون الكبار يرفعون أكفهم بالدعاء داخلين للمسجد لأداء الصلاة التالية؛ فيحملون أطباقهم وبها بعض الطعام المتبقي، ويرجعون لبيوتهم، حين يرتفع صوت الإمام: “لا اله إلا الله”.
بعد ستة وعشرين يوما من الصيام، تأتى ليلة القدر[2]، يقوم الناس بالاغتسال، ويقوم الكبار ليؤدوا صلاة الليل، وهم يتلوون بصوت خاشع سورا طويلة من القرآن، ويقوم بعض الشباب بقلى بعض الفول السودانى وبذور عباد الشمس، ويظلون يقضمونها طوال الليل، وهم ينتظرون هالة من نور شديد البياض والإشراق تأتى من مكان بعيد فتدور فوق رءوسهم.
فى يوم وقفة العيد، عاد الأب “لاو باي” من مدينة “قارمو”. بعد عودته طلب من الإمام وطلابه أن يأتوا لقراءة ختمة القرآن فى منزله، ثم تجاذب الإمام “دادا” أطراف الحديث مع “لاو باي” قائلا: “ابنى سالم ولد مهذب، وبعد طول تفكير، نريد التقرب منك بالنسب، فما رأيك يا لاو باي؟”.
رد “لاو باي” معقبا: “يا إمام، هذا الأمر يخص الشباب فقط، يجب سؤالهم عن رغبتهم”.
قال الإمام: “كلامك صحيح”.
قال “لاو باى”: “انتظرنى عدة أيام، سأكلف أمها بسؤالها، فإذا رغبت البنت، فسيكون خيرا”.
كانت “ليان ليان” ترتب الغرفة المجاورة وسمعت كل شيء وهى تنظف بجانب الباب؛ فجرت إلى غرفتها الصغيرة، ودقات قلبها تتسارع، وقالت محدثة نفسها: “سالم، اسمه الدينى سالم”، وابتسمت بخجل[3]. انقضى شهر رمضان وحل العيد؛ فعم الفرح أنحاء القرية، وغمرت السعادة كل الناس. بعد صلاة العيد، ذهب البعض لزيارة قبور أسلافهم وتلاوة سور من القرآن، وركب البعض الآخر دراجاتهم نحو البلدة للتسوق. أرادت “ليان ليان” الذهاب لشراء المكسرات، استعدادا للاحتفاء بالضيوف من الأقرباء فى العيد. عند حافة جسر كبير مدهون باللون الأبيض بنى حديثا بجنوب البلدية، رأت “ليان ليان” الأستاذ “يانج” يدفع دراجته بتمهل، حيث بدا وحيدا جدا بجانب دراجته وهو يمر بجانب الجسر الكبير، كما بدا أن بعض الهموم تعتريه؛ فقد ظهرت عليه ملامح الإرهاق وشدة التعب. لكن رؤية الأستاذ “يانج” جعلت عينى “ليان ليان” تلمعان وأشعرتها بسخونة فى يديها.
عادة ما يكون الحديث فى أمور الزواج عن طريق الوسيطة أو الخاطبة. تأتى وسيطة الزواج بشكل رسمي، وتتربع فى جلستها، ويبدو كلامها خاليا من أى مضمون. كانت “ليان ليان” ترغب فى الحديث مع الأستاذ “يانج”، حتى ولو كان الحديث مجرد سؤال عن السبب وراء وقوفه هنا، ولذا فقد تضاعفت شجاعتها.
– “سالم”. نادته بدلع.
تسمر الأستاذ “يانج” رافعا رأسه، علت ملامحه الارتباك والتخبط، ولم يستطع السيطرة على نفسه؛ فاحمر وجهه سريعا.
– “أنا؟ أخى الكبير اسمه سالم، على من تنادين؟”.
وقفت “ليان ليان” للحظات ساكنة بلا حركة. نظرت كالخرساء وقفز الخوف منقلبها. اجتاز نور عينيها كتف الأستاذ “يانج”، وانساب إلى الوادى المخيف فى الخلف، انساب كخرير مياه النبع، وبدت أصوات الناس فى البلدة كأنها آتية من مكان بعيد جدا بجانب السماء. اجتمعت أنوار الدنيا ثانية، بعد أن خرجت من أطراف عينى الأستاذ “يانج” لتدخل إلى حدقة عينى “ليان ليان” التى تشبه العنب الأسود. رطب النور المبلل بالصدمة عينيها للحظات، فرفعت رأسها قليلا، وبدت السماء أعلى رأس “يانج” صافية زاهية، والشمس مشرقة. ارتعشت شفاه “ليان ليان” للحظات، ثم نادت عليه مرة أخرى بصوت يملؤه الخوف؛ فرد متحيرا: “أنا، ما الأمر؟”.
لم تنتظر حتى ينهى حديثه، التفتت بجسدها، وبعد أن مشت خطوتين، هرولت وحقيبة يدها البيضاء المعلقة على كتفها تتراقص فوق ظهرها على سترتها الخضراء، كفراشة تطير صعودا وهبوطا فى أرض بها أعشاب رقيقة تلاحقها النار.
فى شتاء هذا العام، ذهب الأستاذ “يانج” إلى مدينة “بينج يانج” للإقامة بجانب الإمام “وانج”، وفى اليوم الثالث من الشهر الثانى عشر القمري، تزوجت “ليان ليان” بـ“مايوان” المدرس بالمدرسة الإعدادية ببلدة “كالونج”. كانت الأخت الثانية لـ”مايوان” زوجة أخى “ليان ليان”، وكان “ما يوان” يتحجج بزيارة أخته لرؤية “ليان ليان”، وأعطى الكثير من شرائط الكاسيت المحملة بالأغانى لـ ”ليان ليان”، كانت “ليان ليان” تقول له: “لا تتحدث فى أمرنا مع زوجة أخى الأكبر، لا يمكن أن يكون الزواج عن طريق التبادل[4]”، وكان “ما يوان” يرد دائما: “بالطبع”.
بعد مرور عام رزقا بطفل له عينان واسعتان، وأسمياه: “يانجيانج”…
كانت “ليان ليان” هى من اختارت له هذا الاسم.
تمت
_____________________________
* المؤلف:
“جو يوان” من قومية “هوي” الصينية المسلمة، ولد فى فبراير 1968، ويعمل رئيس تحرير صحيفة “قويوان” اليومية، وهو عضو اتحاد كتاب الصين، وقد بدأ الكتابة الأدبية منذ عام 1987، ونشرت أعماله فى الكثير من المطبوعات الأدبية بالصين وصدرت له أربع روايات وثلاث مجموعات قصصية، حصلت إحداها على جائزة الحصان الذهبى لأدب الأقليات بالصين، ويُلقب بنجم الأدب الإسلامى فى الصين.
* المترجم: أحمد السعيد
باحث فى الشئون الصينية، وكاتب ومترجم. يعمل مدير مؤسسة “بيت الحكمة للثقافة والإعلام” بمصر والصين، وحاصل على جائزة الدولة الصينية للتميز فى مجال الكتاب وجائزة الصداقة من منطقة نينجشيا. درس اللغة الصينية بجامعة الأزهر والدكتوراه فى علم الإثنولوجيا بجامعة نينجشيا الصينية، وشارك فى ترجمة أكثر من ثلاثين عملا عن الصينية، وله ثلاثة مؤلفات بالصينية والعربية.
[1] سرير من الطين يكون مفرغا وأسفله موقد يشعل بالخشب للتدفئة فى البرد القارس، وينتشر فى كل قرى شمال الصين ونهارا يستخدم كمكان استضافة للضيوف المهمين، حيث لا تتوافر بالبيوت الفقيرة مقاعد لاستقبال الضيوف.
[2] يعتقد المسلمون فى الصين أن ليلة القدر لها ميعاد ثابت، هو ليلة اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان.
[3] للمسلمين فى الصين اسمان: اسم صينى واسم دينى يمنحه إمام المسجد للطفل فور مولده.
[4] هذا النوع من الزواج يوجد فى بعض المناطق الفقيرة والنائية فى الصين، توفيرا للمال أو لصعوبة الزواج، وهو أن تقوم الأسرة “أ” بتزويج ابنتهما لابن الأسرة “ب”، وفى الوقت نفسه تقوم الأسرة “ب” بتزويج ابنتها إلى ابن الأسرة “أ” ولا يحتاج الطرفان لدفع مهر أو غيره من نفقات الزواج.
قصة قصيرة من الأدب الصيني
تأليف: جو يوان
ترجمة: أحمد السعيد
لا ينام سكان قرية “سونايبا” فى شمال شرق الصين خلال شهر رمضان سوى لقليلٍ من الوقت، حيث يتصادف قدومه هذه الأعوام وهم فى موسم الانشغال، فيكونون شديدى التعب. لكن مع قدوم شهر رمضان، يشعر أهل “سونايبا” أنهم فى أفضل حالاتهم المعنوية، وتمر الأيام متلاحقة كلمح البصر حتى انقضاء الشهر.
وفى الهزيع الأخير من كل ليلة من الشهر يتردد بالقرية صدى مقرعة المسحراتى الخشبية؛ فتضاء الأنوار داخل البيوت التى تتوزع ما بين أعلى الجرف وبين أسفله، وتنعكس الأضواء على منتصف الجرف لتشكل قوسا منيرا يعلوه ظلام حالك. ودائما ما تهب الرياح على هذه المنطقة المظلمة محدثة صريرا اعتاده أهل القرية. عادة ما تنادى سيدات القرية عبر الجدران على أخريات بأسمائهن؛ فيسمع أزواج الأخريات النداء، ولا يجيبون، بل ينبهون زوجاتهم فقط؛ فترد الزوجات على النداء بصوت مرتفع يفزع منه أطفالهن الرضع؛ فينتحبون ببكاء كأنه بمثابة الرد الثانى على النداء. حينها تبدأ السيدات فى إشعال المواقد بهدوء. وفى كل ليلة من ليالى رمضان تصعد “ليان ليان” على حافة الشباك لتسأل أمها: “ماذا ستعدين لنا؟” فتجيب الأم وهى تتحدث بتعجل: “دقيق أبيض مخلوط بالزيت، أعطى بعضه بسرعة للسيدة جارتنا، لا أدرى ماذا أعد لكم كى تأكلوه!” وحينما تتعجل الأم فى حديثها؛ يفهم الجميع أنها ليست فى مزاج جيد.
سارت “ليان ليان” مسرعة، ودفعت باب الفرن بقوة فأحدث صريرا، ثم نادت على أختها الصغيرة “شى شي” التى ما زالت تغص فى أحلامها: “شى شي!، تعالى بسرعة لتشعلى النار”. نهضت “شى شي” لارتداء ملابسها، وعيناها مغلقتين.
تتعالى أصوات من يطؤون رمال الطريق المظلم فى منتصف الجرف، لإحضار الحطب الجاف وتقطيعه فى فناء البيت. فتتشابك أصوات صرير الأبواب الخشبية عند الفتح والغلق، مع الأصوات الحادة لحديث السيدات فى جوف الليل. تلك الأصوات تدفئ أجواء رمضان فى “سونايبا” بالحركة والنشاط، حتى أنه يمكنك – فى هذه الأثناء – السير فوق الجرف وسط أصوات الرياح المختلطة بالبرد القارس، دون أى خوف، مستأنسا بأصوات القرية.
أحدثت “ليان ليان” صوتا أثناء دخولها غرفة الموقد، حين جاءت لتشعل الموقد البخارى لـ”شى شي”. تطمئن “ليان ليان” لأى شيء تفعله فى المنزل فقط حينما يكون أحدهم بجانبها، وإذا لم يطلب منها فعل أى شيء لا تقوم بنفسها بفعله، فهى منذ صغرها تشعر باضطراب كبير إذا قامت بأى أمر فى المنزل بمفردها.
تقل الأصوات فى بيت “ليان ليان” دائما فى نهار رمضان. فى البيت مذياع وتلفاز أبيض وأسود، ولكن الأم تردد دائما: “سماع الأغانى ومشاهدة التلفاز يفسدان الصيام، وإذا كان الشخص سيسمع الأغانى أو يشاهد التلفاز فمن الأفضل له الإفطار، حيث لا صيام له!” إذًا كيف تجرؤ “ليان ليان” التى صارت على مشارف الثامنة عشرة على الإفطار؟ ستتعرض لسخرية الآخرين. فى شهر رمضان يمتنعون عن هذه المحظورات، والمحظورات فى شهر رمضان كثيرة جدا، فمنذ الصغر تعلموا أنه لا يجب استخدام أعواد الكبريت فى تنظيف الأذن، كما لا يجوز تقليم الأظافر أيضا، وبالنسبة للكبار من المتزوجين يجب أن ينفصلوا عن زوجاتهم فى الفراش ليلا، و”ليان ليان” تدرك كل ذلك، لذلك فبيتهم بلا صوت فى شهر رمضان، ولا يُسمع فى البيت سوى صوت تلاوة الأستاذ “يانج” للقرآن فى الصباح الباكر؛ حيث تعشق الأذن صوت تلاوته العذب للقرآن.
فى شهر رمضان يحب أهل “سونايبا” أن يتردد صوت القرآن فى بيوتهم، حيث يدعون أحد الأئمة أو أحد طلاب الدين لتلاوة القرآن، والذى يخصص لكل يوم جزءا من الأجزاء الثلاثين، ويختم القرآن مع نهاية الشهر، كما أنهم يكثرون فى شهر رمضان من ذكر الأموات، وتأدية الصلوات. وتعد كل هذه الأمور من الضرورات التى لا يجب الانتقاص منها.
يأتى “يانج” ابن إمام المسجد لبيت “ليان ليان” كل يوم فى رمضان لتلاوة القرآن، وقد اعتاد الناس أن ينادوه الأستاذ “يانج”. يسكن الأستاذ “يانج” فى القرية الواقعة خلف الجبل، وقد جاء مع والده الإمام “دا دا” للإقامة فى قريتهم وتولى إمامة المسجد وتعليم الدين والقرآن.
يجيد “يانج” تلاوة القرآن بشكل رائع، كما أنه شخص مهذب، دائما ما يثنى الكبار فى القرية على أخلاقه. وهو قليل الكلام، غاض البصر، لا ترى عيناه سوى موضع قدميه. يأتى كل صباح فيدخل البيت فى صمت يكاد لا يُسمع له صوت، فيخلع نعليه عند دخول الغرفة، ويجلس على سرير الكانج[1] بلا أدنى صوت، سرير الكانج مغطى بفراش محشو بالقطن، أعلاه ملاءة باهتة، وبجواره منضدة خشبية حمراء تعلوها مبخرة نحاسية، تتصاعد منها أبخرة زرقاء خفيفة لثلاثة أعواد بخور رفيعة حمراء تحترق، فتتجمع هذه الأبخرة فى فضاء الغرفة وتملأ المكان بعبق البخور، وعندما يجلس الأستاذ “يانج” القرفصاء ويعتدل قليلا متأهبا للتلاوة؛ تعلوه أمارات الهيبة والوقار.
وللأستاذ “يانج” صوت جهوري، يتغير بين ارتفاع وانخفاض وسرعة وبطء كلوحة لمشهد ربيعى تسحر الألباب. تجلس “ليان ليان” فوق كرسى صغير مربع الشكل موضوع فوق عتبة الغرفة الصغيرة، بحيث تشكل الغرفة الصغيرة مع الغرفة الرئيسية زاوية قائمة، فتعكس الشمس أشعتها الدافئة على جسد “ليان ليان” لتزيد حسنها توهجا، وينساب صوت تلاوة الأستاذ “يانج” عبر باب له لون الزبد به شباك من الزجاج، يخرج الصوت منغما، بحيث يبدو للسامعين وكأن شخصا يعتلى منبرا يقرأ بصوت عالٍ مليء بالصدق والعاطفة قصيدة مدحٍ أو رثاء، أو كشخص بداخل قاعة مسجد كبرى يسرد بصوت عذب الأحداث المؤثرة المتشابكة التى حدثت فى المدينة المنورة، والعناكب الكثيرة التى نسجت شباكها بسرعة، والهدير العالى لسرب الحمام الأبيض الذى استقر فوق الغار لحمايته، وفى داخل الغار نبى الإسلام محمد يصلى فى سكون، وفى الصحراء الجافة أصوات حوافر الخيول فوق الرمال والحصى يسمعها من بالغار، وأصوات زفير وصهيل الخيول الضخمة، وأصوات صليل السيوف التى تصطدم بها الرمال المتطايرة؛ فتتشابك وتنخطف قلوب السامعين. فى هذه الأثناء كانت “ليان ليان” تتخيل وجه الأستاذ “يانج” ممتلئا بالنور وهو يتلو القرآن.
نهضت “ليان ليان” من فوق الكرسى المربع، ودخلت الغرفة الرئيسية؛ فوجدت الأستاذ “يانج” يُعدِّل جلسته، وهو هادئ الملامح وخاشع العينين، يهز رأسه هزة خفيفة مع التلاوة، فيخرج هذا الصوت الجميل من بين شفتيه اللتين تنمان عن الطيبة والبساطة. شعرت “ليان ليان” فجأة بالندم على أنها لم تتعلم قراءة القرآن من قبل مع إمام المسجد الإمام “شيان”، فالإمام شيان غزير العلم، تعلمت معه – على لوح جلد البقر – كتابةَ حروف الهجاء: الألف، الباء، التاء. ….إلخ من الحروف العربية الثمانية والعشرين، كانت تقرؤها معه حرفا حرفا، حتى حفظتها عن ظهر قلب، ودرست ثلاث عشرة سورة مع بعض العلوم الشرعية، وقد طلب منها الإمام دراسة علوم القرآن الكريم، لكنها شعرت أن هذا سيحتاج لوقت طويل، وأبوها بعيد هناك فى المكتب الهندسى للطريق السريع فى مقاطعة “تشينجهاي”، وتصعب عليه العودة للديار، وعلى الرغم من أن زوجة أخيها الأكبر تعمل فى بلدية “كالونج”، التى تبعد عن قريتهم خمسة عشر ميلا فقط، فإنها لا تعود إلى البيت، والأخت الصغرى “شى شي” تدرس أثناء النهار، ولا يوجد فى البيت سوى أمها التى تعشق فريضة الصلاة.
كانت “ليان ليان” قبل ذلك – عندما تنتهى من تعلم الدروس الدينية فى المسجد – تعود للبيت؛ فتفتح جهاز التسجيل سرا، وتخفض الصوت وهى تستمع لشرائط الكاسيت التى تركها أخوها الكبير فى البيت، تسمع «الأغانى الجبلية لمى دو»، و«جسر الأحبة»، وتظل تستمع لها حتى تشعر بالضيق؛ فتغلق الجهاز، ولكنها كانت تفضل سماع أغنية «فتاة القرية الزرقاء» التى تقول:
فوق جبل “لان”، حيث عطر زهرة السحلب،
تبدو فتاة القرية الزرقاء مثل زهرة ندية،
ليست طويلة ولا قصيرة، ليست نحيفة ولا سمينة،
تجيد القول، تجيد الفعل، تحب الرقص، تحب الغناء،
لطيفة الطبع، رقيقة جميلة، طيبة القلب، خفيفة الظل،
……….
كل فتيات الجبل حسناوات مثلها،
أين توجد فى المدينة فتيات مثلهن،
أين توجد مثلهن…………
أحيانا تدندن “ليان ليان” مع جهاز التسجيل، لكنها تحس بعدم ارتياح، حيث إنها دائما تشعر أن هناك تناقضا بين سماع الأغانى وقراءة القرآن الكريم، فإذا فعلت هذا فلا يمكن أن تفعل ذاك، وهى لا تجرؤ أن تخبر الإمام “شيان” بأمر سماعها للأغاني، لأنها لا تتخيل إلامَ سيتحول هذا الوجه العطوف إذا علم بالأمر، لكنها فى النهاية لم تكمل تعلم القرآن، حيث جاءهم خطاب من العم “ووسو” فى منطقة “شينجيانج” يطلب أن تذهب “ليان ليان” لمساعدته فى مطعمه الجديد، وقد وافق أبوها.
فى ذلك المكان الذى لا يعد مدينة كبيرة فى الصين، رأت “ليان ليان” العالم الخارجى بعيدا عن قريتها، كانت ابنة عمها تأخذها إلى السينما، وقاعات الرقص ذات المصابيح الملونة الدوارة، والبنايات التجارية الضخمة والجميلة، كل هذا جعل “ليان ليان” يخفق قلبها تأثرا لما تراه، فى يوم خرجت ابنة عمها مع شاب قوى البنية من قومية الويجور، وركبا دراجة بخارية حمراء وانطلقا على الطريق السريع الذى تنبت بجواره ثمار العرقد الصيني، من هذه اللحظة حلمتْ أن تكون مع شخص مثله يوما ما، لكن هؤلاء الشباب ذوى الشعر المجعد فى “ووسو” دائما ما يأتون إلى المطعم لشرب الخمر، وأحيانا يفرطون فى الشراب، وتحمر وجوههم ويتراشقون بالألفاظ البذيئة، كما أنهم ذات مرة تشاجروا داخل المطعم، وتهشمت زجاجات الخمر ذات الألوان الجميلة، واختبأ العم فى جانب من المطعم، لكنه أصيب فى وجهه بجرح، كل هذه الأشياء أخافت “ليان ليان”، وجعلتها تشتاق إلى قريتها البعيدة، وعادت مرة أخرى إلى قريتها لكن الإمام “شيان” كان قد غادر القرية.
كانت “ليان ليان” تسترجع كل هذه الذكريات وهى واقفة أمام الأستاذ “يانج”. ظنت أنه لم تمر سوى لحظات قليلة، ولكنها أفاقت والأستاذ “يانج” يتورد وجهه حمرة من تطلعها له، ثم شعر الأستاذ “يانج” فجأة بحشرجة فى صوته، فعدل قامته وهز خصره، وانزوى جالسا، وتساقط العرق من أنفه.
لماذا يبدو الأستاذ “يانج” جبانا لهذه الدرجة وخجولا أيضا لهذه الدرجة؟ يثير هذا الفضول فى نفس “ليان ليان” عند رؤية الأستاذ “يانج”.
غادر الأستاذ “يانج” بنفس الطريقة الصامتة التى حضر بها، لم ينطق بكلمة، وارتدى حذاءه على عجلة وغادر، حتى أنه لم يلق السلام، وكأنه لا يوجد أحد فى هذا البيت.
كانت خطوات الأستاذ “يانج” سريعة وقصيرة، سريعة حقا وكأنها خفقان قلبه الذى أصبح على أشده. قبل شهر رمضان، عاد إلى بيته الواقع خلف الجبل، وتحدث معه والده الإمام “دادا” عن أخيه الأكبر الذى يعمل سائقا قائلا: “نريد أن نخطب له فتاة من قرية “سونايبا”، وبعدها بعدة أيام أوقفه أخوه الأكبر بجانب الطريق السريع للقرية المطلة على فناء بيت “ليان ليان” وهو يتطلع إليها من بعيد، ثم صحبه للمسجد وتحدث مع والده الإمام “دادا”، وسألاه: “هل يمكن أن تسأل لنا عن هذه الفتاة؟ وهل تقدم أحد لخطبتها؟”.
يذهب الأستاذ “يانج” فى موعده لبيت “ليان ليان” لتلاوة القرآن، لكنه لم يحاول النظر مرة واحدة ليراها، فهو لا يجرؤ على التطلع فى وجهها.
عند تلاوته، تتمنى “ليان ليان” أن تقدم له طبق فاكهة؛ فتضع بالفعل البلح الصينى الأحمر، وفاكهة عين التنين وسكر النبات، ثم تتذكر فجأة وهى تحملها إليه أنه شهر رمضان، ولا بد من الانتظار حتى موعد الإفطار. تسرح “ليان ليان” بخيالاتها وتحدث نفسها قائلة: “عندما يأتى للبيت لتلاوة القرآن، سأقوم …..”، ثم يتورد وجهها خجلا!
فى شهر رمضان هذا العام يمتلئ البيت بالفراغ، بعد أن يغادر الأستاذ “يانج”، يعود للبيت هدوؤه الشديد.فى رمضان تشعر دائما أن قرية “سونايبا” قرية صامتة وكأنها خالية من سكانها.
فوق الجرف القابع خلف منازل القرية تأكل بعض الماعز السوداء فى صمت أيضا، ثم تهب ريح من بين أشجار الصفصاف ذات البراعم الطرية، فتهتز معها رقاب الماعز، بينما تثبت ”ليان ليان” الناظرة من شرفتها عينيها الزائغة دائما فى عيون الماعز الرقيقة المتلألئة بما يشبه الدمع، وتشعر أن هذا الدمع تذرفها روحها؛ فتتقهقر مغلقة شباكها.
فى الليالى التى ينيرها القمر، تنام الأم فى غرفتها، وتصلى قيام الليل، حيث علقت على الحائط الغربى للغرفة صورة للكعبة. تسجد الأم على السجادة العتيقة المخملية المزخرفة التى أتى بها الأب من مدينة “قارمو”، وفمها يتمتم بالذكر دون توقف، تحت أضواء الليل الشاحبة، تستشعر “ليان ليان” من طيف أمها أنها مغمورة تماما فى نوع من الاشتياق لله، إنه اشتياق لن ينقطع حتى آخر نفس لها. ذات مرة رأت “ليان ليان” فم أمها يرتعش بعد الانتهاء من الصلاة، فاقتربت بكفيها من وجهها، وارتجفت يداها أيضا، وبعد أن سلمت الأم منهية صلاتها اعتدلت فى جلستها بخشوع، وضغطت بقماشة بيضاء بجانبها تحت محجريها. ضحكت “ليان ليان” فجأة؛ فمدت الأم رأسها للأمام قليلا، كمن يتمدد على السرير محاولا رؤية من على الأرض، تلك النظرة المتحيرة التى تبحث بها عن شيء جعلت “ليان ليان” تقع على الأرض من كثرة الضحك. فى الأخير عدلت الأم قامتها، وأمسكت بالمسبحة قائلة: “أيتها الفتاة البلهاء، حقا بلهاء، علام تضحكين؟”.
ضحكت “ليان ليان” قائلة: “أمي، كنت تبدين كأنك خائفة من شيء ما، لقد كنت ترتجفين”.
قالت الأم بصوت خفيض هادئ: “بالطبع خائفة، لقد كبرت أمك، ماذا أفعل إذا لاقيت الله؟”.
عندما قالت الأم هذا الكلام بدت أيضا مرتجفة؛ مما أشعر “ليان ليان” بالخوف من رأسها حتى أخمص قدميها.
فى ذلك الوقت، ظلت “ليان ليان” صامتة دون أن تتفوه بكلمة، ومدت يديها برفق داخل الدولاب، وأحضرت الكاكى المجفف والزبيب وبعض قطع البسكويت الهش الذى أتى به أبوها، ووضعته فى طبق أمام أمها؛ فأخذته الأم منها، ووضعته بجانب قدميها، ولم تتكلم، فقط أمسكت بالمسبحة فى يديها وأخذت تردد التسابيح والأذكار بسرعة.
تبللت عينا الأم مرة أخرى، وصارتا غائرتين، وحينها بدت الأم أكثر نحافة مما هى عليه.
أحيانا تنظر الأم إلى “ليان ليان” وتتأملها بلا حديث.
قالت لها “ليان ليان” ذات مرة:
– “أمي، هل تسمعين الأستاذ “يانج” حين يتلو القرآن؟”.
– “ماذا به؟”.
– “ إنه يتقن التلاوة بشكل رائع”.
تمتمت الأم: “امم”، ولم تعقب.
حين قالت الأم: “امم”، لم تلتفت إلى “ليان ليان”، فقد كانت تتدبر فى الحياة الآخرة.
فى المساء هبطت أشعة الشمس بخجل تعلن قدوم الغسق، وصوت الطير على الأشجار بجانب الطريق يبدو بعيدا نوعا ما، وكبار السن يسعلون وهم فى طريقهم للمسجد يسمع سعالهم باهتا أيضا، حينها كان ضوء مصباح الغرفة الصغيرة خافتا، و”ليان ليان” جالسة بهدوء على الكرسى وسط الغرفة، خُيل إليها أنها رأت ذلك الوجه الحليق النظيف، حيث حملقت بشدة فى هذا الشاب الذى يرتدى عباءة طلاب الدين وهو يمشى على عجلة من أمره ليمر على الجسر الحجرى فى “سونايبا”. بدت قبعته البيضاء التى يعتمرها مع آخر خيوط الشمس الذهبية وقت الغسق كأنها سحابة ناصعة البياض، كانت عينا “ليان ليان” رقيقة جذابة، شعرت أنها تريد أن تكون عيناها مثل الماء لتبلل هذا الشاب فوق الجسر الحجري. أطبق الشاب شفتيه ورمقها بنظرة صارمة وأكمل سيره مرة أخرى فى حزم. بدا الجسر الحجرى عاليا جدا، كأنه ارتفع بالشاب ناحية السحب المهيبة، والشاب ينظر لها من فوق طبقات السحاب. شعرت “ليان ليان” برغبة فى دندنة أغنية، تغنيها لهذه العيون الوحيدة الصافية؛ فتتلألأ عيناه بالدموع متأثرا بالنفس الحار الذى سيتسلل عبر صوت الغناء، بعد ذلك حتما سيتأثر الشاب فيهبط متهاديا من السحاب، فينظر بعينين مليئتين بالجرأة ومشاعر الحب ويأخذها معه.
لم تضىء “ليان ليان” المصباح. ظلت جالسة فى هدوء الغرفة المظلمة، والكرسى الخشبي، كأنها تشاهد بحيرة جميلة تنعكس فوقها أشعة الشمس المشرقة.
مرت أيام شهر رمضان تتوالى، تغرب الشمس كل يوم ثم يذهب رجال القرية للمسجد، يحملون تحت إبطهم طبقا يضعونه بعد دخول المسجد فوق لوحين خشبيين أمام غرفة الإمام. تملأ صفوف الأطباق المكان، فترى أطباقا بيضاء، سوداء، زرقاء، مزركشة، خضراء أو سماوية اللون، فتبدو كلوحة جدارية ذات خطوط عريضة، متلاصقة. يستخدم القائمون على توزيع الطعام أطباق الغسيل أو الجرار الحمراء القاتمة فى طعام الإفطار، ويضعونها بجانب اللوح الخشبي، ويقوم أحد مسئولى المسجد باستخدام مغرفة حديدية طويلة، لملء تلك الأطباق للصائمين. يقول إمام المسجد: “آمين”، وحين تدق مقرعة الإفطار، يسرع الناس بالدعاء، ويمسحون على وجوههم مرتين، ثم يتجمعون ليبحث كل منهم على طبقه. دائما ما تكون رائحة الإفطار داخل الطبق شهية. تتصاعد رائحة الطبخ مع ضباب المساء بين الأشجار، فتنساب متخللة الأبواب الخشبية السوداء التى أبلتها يد الدهر، تتجاوز الروائح تلك الأعشاب الخضراء إلى البيوت القديمة ذات صفوف القرميد، والجدران الكثيرة المبنية بالطين الأصفر، تلك الأبواب المقوسة المبنية من الطوب الأحمر، حتى هؤلاء المتسكعون الذين لا يؤدون الصلاة يحضرون أطباقهم ليتناولوا الإفطار فرحين، ويلحسون أطباقهم بعد الانتهاء من الأكل؛ فيبتسم حامل المغرفة، ويملأ أطباقهم مرة ثانية. أثناء تناول هؤلاء المتسكعين للطعام، يرون الكبار يرفعون أكفهم بالدعاء داخلين للمسجد لأداء الصلاة التالية؛ فيحملون أطباقهم وبها بعض الطعام المتبقي، ويرجعون لبيوتهم، حين يرتفع صوت الإمام: “لا اله إلا الله”.
بعد ستة وعشرين يوما من الصيام، تأتى ليلة القدر[2]، يقوم الناس بالاغتسال، ويقوم الكبار ليؤدوا صلاة الليل، وهم يتلوون بصوت خاشع سورا طويلة من القرآن، ويقوم بعض الشباب بقلى بعض الفول السودانى وبذور عباد الشمس، ويظلون يقضمونها طوال الليل، وهم ينتظرون هالة من نور شديد البياض والإشراق تأتى من مكان بعيد فتدور فوق رءوسهم.
فى يوم وقفة العيد، عاد الأب “لاو باي” من مدينة “قارمو”. بعد عودته طلب من الإمام وطلابه أن يأتوا لقراءة ختمة القرآن فى منزله، ثم تجاذب الإمام “دادا” أطراف الحديث مع “لاو باي” قائلا: “ابنى سالم ولد مهذب، وبعد طول تفكير، نريد التقرب منك بالنسب، فما رأيك يا لاو باي؟”.
رد “لاو باي” معقبا: “يا إمام، هذا الأمر يخص الشباب فقط، يجب سؤالهم عن رغبتهم”.
قال الإمام: “كلامك صحيح”.
قال “لاو باى”: “انتظرنى عدة أيام، سأكلف أمها بسؤالها، فإذا رغبت البنت، فسيكون خيرا”.
كانت “ليان ليان” ترتب الغرفة المجاورة وسمعت كل شيء وهى تنظف بجانب الباب؛ فجرت إلى غرفتها الصغيرة، ودقات قلبها تتسارع، وقالت محدثة نفسها: “سالم، اسمه الدينى سالم”، وابتسمت بخجل[3]. انقضى شهر رمضان وحل العيد؛ فعم الفرح أنحاء القرية، وغمرت السعادة كل الناس. بعد صلاة العيد، ذهب البعض لزيارة قبور أسلافهم وتلاوة سور من القرآن، وركب البعض الآخر دراجاتهم نحو البلدة للتسوق. أرادت “ليان ليان” الذهاب لشراء المكسرات، استعدادا للاحتفاء بالضيوف من الأقرباء فى العيد. عند حافة جسر كبير مدهون باللون الأبيض بنى حديثا بجنوب البلدية، رأت “ليان ليان” الأستاذ “يانج” يدفع دراجته بتمهل، حيث بدا وحيدا جدا بجانب دراجته وهو يمر بجانب الجسر الكبير، كما بدا أن بعض الهموم تعتريه؛ فقد ظهرت عليه ملامح الإرهاق وشدة التعب. لكن رؤية الأستاذ “يانج” جعلت عينى “ليان ليان” تلمعان وأشعرتها بسخونة فى يديها.
عادة ما يكون الحديث فى أمور الزواج عن طريق الوسيطة أو الخاطبة. تأتى وسيطة الزواج بشكل رسمي، وتتربع فى جلستها، ويبدو كلامها خاليا من أى مضمون. كانت “ليان ليان” ترغب فى الحديث مع الأستاذ “يانج”، حتى ولو كان الحديث مجرد سؤال عن السبب وراء وقوفه هنا، ولذا فقد تضاعفت شجاعتها.
– “سالم”. نادته بدلع.
تسمر الأستاذ “يانج” رافعا رأسه، علت ملامحه الارتباك والتخبط، ولم يستطع السيطرة على نفسه؛ فاحمر وجهه سريعا.
– “أنا؟ أخى الكبير اسمه سالم، على من تنادين؟”.
وقفت “ليان ليان” للحظات ساكنة بلا حركة. نظرت كالخرساء وقفز الخوف منقلبها. اجتاز نور عينيها كتف الأستاذ “يانج”، وانساب إلى الوادى المخيف فى الخلف، انساب كخرير مياه النبع، وبدت أصوات الناس فى البلدة كأنها آتية من مكان بعيد جدا بجانب السماء. اجتمعت أنوار الدنيا ثانية، بعد أن خرجت من أطراف عينى الأستاذ “يانج” لتدخل إلى حدقة عينى “ليان ليان” التى تشبه العنب الأسود. رطب النور المبلل بالصدمة عينيها للحظات، فرفعت رأسها قليلا، وبدت السماء أعلى رأس “يانج” صافية زاهية، والشمس مشرقة. ارتعشت شفاه “ليان ليان” للحظات، ثم نادت عليه مرة أخرى بصوت يملؤه الخوف؛ فرد متحيرا: “أنا، ما الأمر؟”.
لم تنتظر حتى ينهى حديثه، التفتت بجسدها، وبعد أن مشت خطوتين، هرولت وحقيبة يدها البيضاء المعلقة على كتفها تتراقص فوق ظهرها على سترتها الخضراء، كفراشة تطير صعودا وهبوطا فى أرض بها أعشاب رقيقة تلاحقها النار.
فى شتاء هذا العام، ذهب الأستاذ “يانج” إلى مدينة “بينج يانج” للإقامة بجانب الإمام “وانج”، وفى اليوم الثالث من الشهر الثانى عشر القمري، تزوجت “ليان ليان” بـ“مايوان” المدرس بالمدرسة الإعدادية ببلدة “كالونج”. كانت الأخت الثانية لـ”مايوان” زوجة أخى “ليان ليان”، وكان “ما يوان” يتحجج بزيارة أخته لرؤية “ليان ليان”، وأعطى الكثير من شرائط الكاسيت المحملة بالأغانى لـ ”ليان ليان”، كانت “ليان ليان” تقول له: “لا تتحدث فى أمرنا مع زوجة أخى الأكبر، لا يمكن أن يكون الزواج عن طريق التبادل[4]”، وكان “ما يوان” يرد دائما: “بالطبع”.
بعد مرور عام رزقا بطفل له عينان واسعتان، وأسمياه: “يانجيانج”…
كانت “ليان ليان” هى من اختارت له هذا الاسم.
تمت
_____________________________
* المؤلف:
“جو يوان” من قومية “هوي” الصينية المسلمة، ولد فى فبراير 1968، ويعمل رئيس تحرير صحيفة “قويوان” اليومية، وهو عضو اتحاد كتاب الصين، وقد بدأ الكتابة الأدبية منذ عام 1987، ونشرت أعماله فى الكثير من المطبوعات الأدبية بالصين وصدرت له أربع روايات وثلاث مجموعات قصصية، حصلت إحداها على جائزة الحصان الذهبى لأدب الأقليات بالصين، ويُلقب بنجم الأدب الإسلامى فى الصين.
* المترجم: أحمد السعيد
باحث فى الشئون الصينية، وكاتب ومترجم. يعمل مدير مؤسسة “بيت الحكمة للثقافة والإعلام” بمصر والصين، وحاصل على جائزة الدولة الصينية للتميز فى مجال الكتاب وجائزة الصداقة من منطقة نينجشيا. درس اللغة الصينية بجامعة الأزهر والدكتوراه فى علم الإثنولوجيا بجامعة نينجشيا الصينية، وشارك فى ترجمة أكثر من ثلاثين عملا عن الصينية، وله ثلاثة مؤلفات بالصينية والعربية.
[1] سرير من الطين يكون مفرغا وأسفله موقد يشعل بالخشب للتدفئة فى البرد القارس، وينتشر فى كل قرى شمال الصين ونهارا يستخدم كمكان استضافة للضيوف المهمين، حيث لا تتوافر بالبيوت الفقيرة مقاعد لاستقبال الضيوف.
[2] يعتقد المسلمون فى الصين أن ليلة القدر لها ميعاد ثابت، هو ليلة اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان.
[3] للمسلمين فى الصين اسمان: اسم صينى واسم دينى يمنحه إمام المسجد للطفل فور مولده.
[4] هذا النوع من الزواج يوجد فى بعض المناطق الفقيرة والنائية فى الصين، توفيرا للمال أو لصعوبة الزواج، وهو أن تقوم الأسرة “أ” بتزويج ابنتهما لابن الأسرة “ب”، وفى الوقت نفسه تقوم الأسرة “ب” بتزويج ابنتها إلى ابن الأسرة “أ” ولا يحتاج الطرفان لدفع مهر أو غيره من نفقات الزواج.