الغرناطي - حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر

وقال المفضل: دخلت على الرشيد، وبين يديه جارية مليحة شاعرة وورد قد أهديت إليه، فقال: يا مفضل قل في هذا الورد شيئاً تشبهه به، فقلت:
كأنه خد معشوق يقبله ... فم الحبيب وقد أبقى به خجلا
فقالت الجارية:
كأنه لون خدي، حين تدفعني ... كف الرشيد، لأمر يوجب الغسلا
فقال: قم يا مفضل؛ فإن هذه الماجنة قد هيجتنا، فقمت، وأرخيت الستور.
وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر، أعوده من علة، فقلت: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام قائم بين يديه، ثم أنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام
فتور عينيه من دلال ... أهدى فتوراً إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
وشرب المأمون وعبيد الله بن طاهر ويحيى بن أكثم القاضي، فتعامل المأمون وابن طاهر على سكر يحيى، فغمزا به الساقي فأسكره، وكان بين أيديهم ردم من ورد وريحان، فأمر المأمون فشق له قبر في الردم، وصيراه فيه كأنه ميت، وعمل بيتي شعر وقال لمغنية: عن بهما على رأسه، فجلست عند رأسه وغنت بهما:
ناديته وهو حي لا حراك به ... مكفن في ثياب من رياحين
فقلت: قم، قال: رجلي لا تطاوعني ... فقلت: خذ، قال: كفي لا تواتيني
فانتبه يحيى لرنة العود والجارية بالبيتين فقال:
يا سيدي، وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي، فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضاً؛ قد ذوى بدني ... ولا أجيب لداع حين يدعوني

وخرج الحسن بن هانئ، وهو أبو نواس، ومعه مطيط حاجبه، حتى أتيا دار خمار، فقال أبو نواس لمطيط: ادخل بنا نتماجن على هذا الخمار، فدخلا، فلما سلما رد عليهما السلام، فقال له الحسن: أعندك خمر عتيقة؟ قال: عندي منها أجناس، فأي جنس تريد؟ قال: التي يقول فيها الشاعر:
حجبت حقبة وصينت فجاءت ... كجلاء العروس بعد الصيان
وكأن الأكف تصبغ من ضوء ... سناها، بالورس والزعفران
فملأ الخمار قدحاً من خمر صفراء، كأنها ذهب محلول، فشربه الحسن وقال: أريد أحسن من هذا، فقال الخمار: أي نوع تريد؟ فقال: التي يقول فيها الشاعر:
رققتها أيدي الهواجر، حتى ... صيرت جسمها كجسم الهواء
فهي كالنور في الإناء، وكا ... لنار، إذ ما تصير في الأحشاء
فملأ الخمار قدحاً من قهوة، كأنها العقيق، فشربه، وقال: أرفع من هذه أريد قال: أي جنس؟ قال: التي يقول فيها الشاعر:
فإذا حسا منها الوضيع ثلاثة ... سمح الوضيع بفعل ذي القدر
في لون ماء الغيث، إلا أنها ... بين الضلوع، كواقد الجمر
فملأ له القدح من خمرة بيضاء، كأنها ماء المزن، فشربه الحسن، فقال للخمار: أتعرفني قال: إي والله، يا سيدي، أنا أعرف الناس بك، قال: فمن أنا؟ قال: أنت الذي سكر من غير ثمن فضحك، وقال لمطيط: ادفع له ما معك من النفقة، فأعطاه مائة درهم وانصرف.
وكان بالبصرة رجل ذو ضياع، فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعة يوماً، فلما وقع البيع، قال المشتري: تأتي بالعشي أدفع ذلك المال وأشاهدك، قال له: لو كنت ممن يظهر بالعشي، ما بعت الضيعة، ثم أنشأ يقول:
أتلفت مالي في العقار ... وخرجت فيها عن عقار
حتى إذا كتب الكتاب، ... وجاءني رسل التجار
قالوا: الشهادة بالعشي، ... ونحن في صدر النهار
فأجبتهم؛ ردوا الكتاب، ... ولا تعيروا بانتظاري
لو كنت أظهر بالعشي، ... لما سمحت ببيع داري
وحكى الأصبهاني أن موسى بن داود الهاشمي عزم على الحج وقال لأبي دلامة: أحجج معي، ولك عشرة آلاف درهم، فقال: هاتها، فدفعها إليه، قال: فأخذها وهرب إلى السواد، فجعل ينفقها هنالك في شرب الخمر، فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشي فوات الحج وخرج، فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجاً من قرية إلى قرية أخرى، وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده، وطرح في محمل بين يديه، فلما سار غير بعيد، أقبل على موسى فناداه:
يا أيها الناس قولوا أجمعين معي ... صلى الإله على موسى بن داود
كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا بدا لك في أثوابه السود
إني أعوذ بداود، وأعظمه ... من أن أكلف حجاً يا ابن داود
خبرت أن طريق الحج معطشة ... من الشراب، وما شربي بتصريد
والله ما في من أجر، فتطلبه ... ولا الثناء ولا ديني بمحمود
فقال موسى: ألقوه من المحمل، لعنه الله، فألقي فعاد إلى موضعه بالسواد، حتى أنفق المال.
وكان الحكم بن عبدل أعرج أحدب، هجاء خبيث الهجاء، وكان الشعراء يقفون بباب الملوك، فلا يؤذن لهم، وكان يكتب حاجته على عصاه ويدفعها، فلا تؤخر له حاجة، فقال يحيى بن نوفل:
عصا حكم بالباب أول داخل ... ونحن على الأبواب نقصى ونحجب
وكانت عصا موسى لفرعون آية ... وهذي
لعمر الله
أدهى وأعجب
وجلس المأمون يوماً للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه امرأة، وقد هم بالقيام، وعليه أهبة السفر، وثياب رثة، فوقفت بين يديه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم القاضي، فقال يحيى: وعليك السلام يا أمة الله ورحمة الله وبركاته، تكلمي في حاجتك فقالت:
يا خير منتصب يرجى له الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد
تشكو إليك ... عميد الملك
أرملة
عدا عليها، فلم يترك لها لبد
وابتز مني ضياعاً بعد منعتها ... ظلماً وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه وقال:
في دون ما قلت، زال الصبر والجلد ... عني وأقرح مني القلب والكبد
هذا أوان صلاة العصر، فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... ننصفك منه، وإلا المجلس الأحد
فجلس يوم الأحد، فكانت أول من تقدم إليه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك السلام، أين الخصم؟ قالت: واقف على رأسك، وأشارت إلى ابنه العباس، فقال: يا أحمد بن أبي خالد، أجلسه معها للخصومة، فجعل كلامها يعلو كلامه فقال لها أحمد: يا أمة الله، أنت بين يدي أمير المؤمنين وتكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك، فقال المأمون: دعها يا أحمد؛ فالحق أنطقها، والباطل أخرسه، ثم قضى لها برد ضياعها، وأمر لها بنفقة، وكتاب إلى عامل بلدها؛ بحسن معاملتها.
وحكى الأصمعي قال: كان أعرابيان متآخيين بالبادية، ثم إن أحدهما استوطن الريف، واختلف إلى باب الحجاج، فولاه أصبهان، فسمع أخوه خبره، فسار إليه فأقام ببابه حيناً لا يصل إليه، ثم أذن له في الدخول، فأخذه الحاجب، فمشى به وهو يقول: سلم على الأمير، فلم يلتفت إليه، ثم أنشأ يقول:
فلست مسلماً ما دمت حياً ... على زيد بتسليم الأمير
فقال زيد: لا أبالي، فقال الأعرابي:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
قال: نعم، فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك القعود على السرير
وقدم أعرابي البصرة، فنزل على ابن عم له، فلما رأى البصري شعث الأعرابي، فأراد أن ينظفه، فقال: أن الناس يتطهرون للجمعة، وينتظفون، ويلبسون أحسن الثياب، فتعال: أدخلك الحمام؛ لتتنظف، وتتطهر للصلاة، فدخل معه الحمام، فلما وطئ الأعرابي فرش أول بيت في الحمام، ولم يحسن المشي عليه لشدة ملامسته فزلق وسقط على وجهه، فشج شجة منكرة، فخرج وهو ينشد:
وقالوا: تطهر؛ إنه يوم جمعة ... فأبت من الحمام غير مطهر
تزودت منه شجة فوق حاجبي ... بغير جهاد، بئس ما كان متجري
وما تعرف الأعراب مشياً بأرضها ... فكيف ببيت ذي رخام ومرمر
وقال محمد بن سكرة: دخلت حماماً، فخرجت وقد سرقت نعلي، فعدت إلى داري حافياً وأنا أقول:
إليك أزف حمام ابن موسى ... وإن فاق المنى طيباً وحراً
تكاثرت اللصوص عليه، حتى ... ليحفى من يطيب به ويعرى
ولم أفقد به ثوباً، ولكن ... دخلت "محمداً" وخرجت "بشرا"
يريد: بشر الحافي، وكان من كباد الزهاد، لزم المشي حافياً، فلقب: الحافي.
وقال بشار لراويته: أنشدني ما قال حماد في، فقال:
دعيت إلى برد، وأنت لغيره ... وهبك ابن برد
نكت أمك
من برد؟
فقال بشار: أها هنا أحد؟ قال: لا، قال: أحسن، والله، ابن الزانية، ولقد تبين له علي في بيت واحد خمسة معان في الهجو وهي: دعيت إلى برد معي، وأنت لغيره. ثان، وهبك ابن برد معنى ثالث، ونكت أمك، شتم واستخفاف مجرد وهو معنى رابع، ثم ختمها بقوله: من برد؟ فأتى بالطامة الكبرى.
وكان الحطيئة قبيح المنظر، كثير الشر، فالتمس يوماً إنساناً يهجوه، فلم يجده، فوقف على ماء، وجعل يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بشر ولا أدري لمن أنا قائله
ثم نظر إلى الماء، فرأى وجهه، فقال:
أرى لي وجهاً قبح الله خلقه ... فقبح من وجه، وقبح حامله
وقال أبو القاسم بن الأزرق: دخلت على الشافعي - رحمه الله - فقلت: يا أبا عبد الله، ما تنصفنا، لك هذا الفقه تفوز بفوائده. ولنا هذا الشعر، وقد جئت تداخلنا فيه، فإما أفردتنا بالشعر، أو أشركتنا في الفقه، وقد جئت بأبيات إن أجزتنا بمثلها تبت من الشعر، وإن أعجزت عنها تبت، فقال لي: إيه يا هذا، فأنشدته:
ما همتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان، وهمتي لم تخلق
والناس أعينهم إلى سلب الفتى ... لا يسألون عن الحجى والأولق
لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان، أي تفرق
لو كان بالحيل الغنى، لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي
فقال الشافعي: ألا قلت، كما أقول، ارتجالاً:
إن الذي رزق اليسار، فلم يصب ... حمداً ولا أجراً، لغير موفق
فالجد يدني كل شيء شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق
فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً، فأثمر في يديه، فحقق
وإذا سمعت بأن محروماً أتى ... ماء ليشربه، ففاض، فصدق
وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى برزق ضيق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب، وطيب عيش الأحمق
ولربما عرضت لنفسي فكرة ... فأود منها أنني لم أخلق
فقلت: تالله، لا قلت شعراً بعدها.
وقيل للمنصور: إن أبا دلامة لا يحضر الصلاة، وأنه معتكف على الخمر، وقد أفسد فتيان العسكر، فلو أمرته بالصلاة معك لأصلحته وغيره، فلما دخل عليه قال أبو دلامة الماجن، قال: يا أمير المؤمنين، ما لنا والمجون؟ فقال: دعني من اشتكائك وتضرعك، وإياك أن تفوتك صلاة الظهر والعصر في مسجدي، فإن فاتتك لأحسنن أدبك، ولأطيلن حبسك، فوقع في أمر عظيم، فلزم المسجد أياماً، ثم كتب رقعة، ودفعها إلى المهدي، فأوصلها إلى أبيه، وفيها:
ألم تعلما أن الخليفة لزني ... بمسجده والقصر، ما لي وللقصر؟
أصلي بها الأولى جميعاً وعصرها ... فويلي من الأولى، وويلي من العصر
أصليهما بالكره من غير مسجدي ... فما لي في الأولى، وفي العصر، من أجر
يكلفني من بعد ما شبت توبة ... يحط بها عني الثقيل من الوزر
ووالله، ما لي نية في صلاتها ... ولا البر والإحسان والخير من أمري
لقد كان في قومي مساجد جمعة ... ولم ينشرح يوماً لغشيانها صدري
وما ضره، والله يغفر ذنبه ... لو أن ذنوب العالمين على ظهري
فقال: صدق، وما يضرني ذلك، والله، لا يصلح هذا أبداً، دعوه يفعل ما يشاء.
وحكى إسحاق الموصلي قال: دخلت على الرشيد، وهو مستلق على قفاه، وهو يقول: أحسن والله، فتى قريش وظريفها وشاعرها، قلت: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال في قوله:
لا أسأل الله تغييراً لما فعلت ... نامت، وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها
ثم قال: أتعرفه؟ قلت بصوت ضعيف: لا، فقال: بحقي عليك؟ فقلت: نعم، هو الوليد بن يزيد، قال: استر ما سمعت مني، وإنه ليستحق أكثر مما وصفته به.
ولما بنى المأمون على بوران، وأراد غشيانها حاضت، فقالت: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) ، فنام في فراش آخر، فلما أصبح دخل عليه أفاضل ندمائه يهنئونه، ويدعون له، فأنشدهم بديهاً:
فارس في الحرب منغمس ... عارف بالطعن في الظلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بدم
وجاء رجل إلى خياط؛ ليصنع له قميصاً، فقال: والله، لأفصلنه لك تفصيلاً لا يدرى أقميص هو أم قباء، ففعل ذلك، قال صاحب الثوب: أنا - والله، لأدعون، لك دعاء لا يدرى أهو لك أم عليك، وكان الخياط أعور يسمى بشراً فقال:
خاط لي بشر قباء ... ليت عينيه سواء
وروي أن المنصور أنشده أبو دلامة ما أعجب به، فكساه طيلساناً، وأمر له بمال، وعاهده ألا يشرب الخمر، فحلف له، وخرج إلى بني داود بن علي، فضحكوا به، وقص عليهم الخبر، فسقوه حتى أسكروه وأخرجوه، فأعلم المنصور الخبر، فأرسل فيه، وأمر المنصور بسجنه، وتمزيق ساجه، وألا يمكن من قرطاس ولا مداد، ففعل به الرسول ذلك، فانتبه في جوف الليل، فنادى جاريته، فقال له السجان: أطعنه في كبدك؟ فقال له: ويلك، من أنت؟ وأين أنا؟ فقال: سل نفسك، أين كنت عشاء أمس؟ فاستحلفه من أنت؟ فقال: أنا السجان، بعث بك أمير المؤمنين، وأنت سكران، فأمرني أن أحبسك مع الدجاج، فقال له: أحب أن تسرج لي سراجاً، وتأتيني بدواة وقرطاس، ولك عندي صلة، فقال له: أما السراج فنعم، وأما القرطاس والدواة فما أمرت أن أمكنك منهما، فلما أتاه بالسراج وجد ساجه ممزقاً، متلطخاً بأزبال الدجاج، ورأى نفسه جالساً بينها، فقال له: ادع لي أبو دلامة، فدعاه، فأمره أن يجيد حلق رأسه، وأن يأتيه بفحمة، فتب على رأس ابنه:
أمن صهباء صافية المزاج ... كأن شعاعها لهب السراج
تهش لها القلوب، وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزجاج
أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست، لكان خيراً ... ولكني حبست مع الدجاج
أمير المؤمنين، فدتك نفسي ... ففيم حبستني وخرقت ساجي
على أني، وإن لاقيت شرا، ... لخيرك بعد ذاك الشر راج
ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذه أمانة، فإذا قرأت، فمزق الرقعة، ثم أمر دلامة أن يدخل على أمير المؤمنين، ويقرئه ما في رأسه، فأتى الباب وصاح: دعوة مظلوم، فأعلم المنصور بذلك، فأقر بإدخاله، فكشف رأسه وقال: إن ظلامتي مكتوبة في رأسي، فأدنى منه حتى قرأها، فاشتد ضحكه، وعجب من حيلته وأمر بإخراجه وقال: ما أحوج هذه الرقعة أن تمزق، ثم وصله بصلة، ونهاه أن يوجد وهو سكران.
وضلت ناقة لأعرابي في ليلة مظلمة، فأكثر طلبها، فلم يجدها، فلما طلع القمر وانبسط نوره وجدها إلى جانبه ببعض الأودية، وكان قد اجتاز بموضعها مراراً، فلم يرها؛ لشدة الظلام، فرفع رأسه إلى القمر وقال:
ماذا أقول، وقولي فيك حصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت: لا زلت مرفوعاً، فأنت كذا ... أو قلت: زانك ربي، فهو قد فعلا
وكان أبو هرمة أبخل الناس على ادعائه الكرم في شعره، فأتاه يوماً جماعة، فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: شعرك، حيث تقول:
أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في قلل الربى، وأقيم
إن امرءاً جعل الطريق لبيته ... طبناً، وأنكر حقه للئيم
فنظر إلينا، وقال: ما على الأرض عصبة أسخف منكم عقولاً، أما سمعتم قول الله سبحانه: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) في الشعراء؟ والله، إني لأقول ما لا أفعل، وأنتم تريدون أن أفعل ما أقول، والله، لا عصيت ربي في رضاكم.
وكان عبد الصمت مؤدب الوليد لوطياً زنديقاً، وكان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت جميل الوجه شاعراً، فدخل على عبد الصمد، فأراده في نفسه، فسبه وخرج مغضباً، فدخل على هشام بن عبد الملك وهو يقول:
إنه والله، لولا أنت، لم ... ينج مني سالماً عبد الصمد
قال هشام: ولم؟ قال:
إنه قد رام مني حطة ... لم يرمها قبله مني أحد
قال: وما هي؟ قال:
رام جهلاً بي، وجهلاً بأبي ... يدخل الأفعى إلى غيل الأسد
فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئاً لم أنكر عليك، وهذا من أبدع الكناية، وقد أحسن التعبير حيث رقق هذا المنكر الأكبر، وعبر عنه بلفظ يليق أن يقابل به خليفة.
وقال أبو بكر الصولي: اجتمعت الشعراء بباب المعتصم، فبعث إليه محمد بن عبد الملك الزيات، وقال لهم: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: من كان يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد فليدخل، وأنشد له:
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
من لم يكن بك، يا هارون معتصما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
فقال ابن وهب الحميري: فينا من يقول مثله، وأحسن منه، وأنشد له:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
تحكي أنامله في كل نائبة ... الغيث والصمصامة الذكر
وقال الزبير بن بكار: ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي قال: كنا بالرقة، مع هارون الرشيد، فأتى موت الكسائي وإبراهيم الموصلي والعباس بن الأحنف في وقت واحد، فقال لابنه المأمون: أخرج فصل عليهم، فخرج في وجوه قواده وخاصته، وقد ذهبوا له، فقالوا له: من تقدم منهم؟ فقال: الذي يقول:
يا بعيد الدار من وطنه ... مفرراً يبكي على شجنه
كلما هاجت صبابته ... زادت الأسقام في بدنه
ولقد زاد الفؤاد شجاً ... هاتف يبكي على فننه
شفه ما شفني، فبكى ... كلنا يبكي على شجنه
فقالوا: هذا، وأشاروا إلى نعش العباس بن الأحنف، فقدمه عليهم.
وقال أيضاً الزبير بن بكار: أنشد منشد أبا العباس المخزومي:
بيناهم سكن بجيرتهم ... ذكروا الفراق، فأصبحوا سفرا
فبكى أبو السائب وقال: ويحهم، أما علقوا سفره، أو أوكوا قربة، أو ودعوا صديقاً؟ قال الزبير: رحم الله أبا السائب، كيف لو سمع قول العباس بن الأحنف:
سألونا عن حالنا: كيف أنتم ... وقرنا وداعهم بالسؤال
ما نزلنا حتى رحلنا، فما نفرق ... بين النزول والترحال
وقال أحمد بن إبراهيم: وقع بين أحمد بن حامد وامرأته شر، كادا يخرجان معه إلى القطيعة، وكان يحبها، فلقيته يوماً، فسألته عن حاله. فأومأ أنه استراح، إذ هجرها، فقالت له: ذهب عنك قول العباس بن الأحنف:
تعب يكون به الرجاء مع الهوى ... خير له من راحة في الياس
لولا كرامتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس
ثم غنت فيه لحناً، وغنته إياه، واصطلحا.
وعن إسحاق الموصلي قال: غضب الفضل بن الربيع على جارية له، كانت أحب الناس إليه، وتأخرت عن استرضائه، فوجه إلي يعلمني بذلك، ويشكوها إلي، فكتبت إليه: لك العز والشرف، ولأعدائك الذل والتلف، استعمل قول العباس بن الأحنف:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم
فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... تفارق من تهوى، وأنفك راغم
ففعل ذلك فاصطلحا، ووصلني بجائزة.
وغضب الرشيد مرة على زبيدة أم جعفر وترضاها، فأبت أن ترضى، وأرق ليلة وقال: افرشوا لي على دجلة ففعلوا، وقعد ينظر إلى الماء، فسمع غناء في هذا الشعر:
جرى السيل، فاستبكاني السيل إذا جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا أن تيقنت أنه ... يمر بواد أنت منه قريب
يكون أجاجاً دونكم، فإذا انتهى ... إليكم، تلقى طيبكم فطيب
فيا ساكني أكناف دجلة، كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
فسأل عن الناحية التي فيها الغناء وعن المغني، فإذا هو الزبير بن دحمان، فسأله عن الشعر، فقال: هو للعباس بن الأحنف يا أمير المؤمنين، فأمر بإحضاره، واستنشده، وجعل الزبير يغنيه، والعباس ينشده حتى أصبح، ودخل إلى أم جعفر، فسألت عن دخوله إليها فعرفت، فوجهت إلى العباس بألف دينار، وإلى الزبير بخمسمائة دينار.
وكان لمخارق من الكلف بجارية أم جعفر بهار ما لا غاية بعده، وعلمت بذلك أم جعفر، فشق على مخارق علم أم جعفر بحبه، فاستعمل الجفاء بينه وبينها؛ إجلالاً لأم جعفر، وطمعاً للسلو عنها، فبينما هو منصرف ليلة من الليالي من دار المأمون، وأم جعفر مشرفة على دجلة، فلما حاذى دارها رفع عقيرته، فتغنى بشعر العباس بن الأحنف:
إن تمنعوني ممري قرب داركم ... فسوف أنظر من بعد إلى الدار
لا يقدرون على منعي وإن جهدوا ... إذا مررت فتسليمي بإضماري
سيما الهوى عرفت، حتى شهرت بها ... إني محب، وما بالحب من عار
فسمعته أم جعفر، وأمرت خدمها، وصاحوا بالملاح: قدم، فقدم الزورق حتى حاذى باب الدار، ونزل مخارق، وطلع إلى أم جعفر، ودعت له بكرسي، وكأس فيه نبيذ، فشرب وخلعت عليه وأجازته، وقالت لجواريها: اضربن عليه، فكان أول ما غنى به قول العباس بن الأحنف:
أغيب عنك بود، لا يغيره ... نأي المحل، ولا صرف من الزمن
فإن أعش، فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت، فقتيل الهم والحزن
قد حسن الله في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسناً، ما ليس بالحسن
فاندفعت بهار تغني جواب ما غنى به مخارق فقالت:
تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن
فضحكت أم جعفر وقالت: ما سمعت بألطف من مخاطبتكما، خذها مخارق، وقد وهبتها لك فحملها مخارق من وقته إلى داره.
ويروى أن أبا نواس والعباس بن الأحنف والحسين الخليع، وصريع الغواني خرجوا إلى متنزه لهم، ومعهم رجل يقال له: يحيى بن المعلي، فحضرت الصلاة فقدموه يصلي بهم، فنسي: (الحمد) ، وقرأ: (قل هو الله أحد) وأرتج عليه في نصفها فقال أبو نواس:
أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد
وقال العباس بن الأحنف:
ونسي الحمد، وما ... مرت له على خلد
وقال صريع الغواني:
قام طويلاً راكعاً ... حتى إذا أعيا سجد
وقال الحسين الخليع:
كأنما لسانه ... شد بحبل من مسد
وقال أبو العتاهية: سبقني أبو نواس إلى ثلاثة أبيات، وددت أني سبقته إليها بكل ما قلت من الشعر، منها قوله:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وقوله:
فإن يك باق إفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بلف خصيب
وقوله:
يا كثير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر
ولله دره، ما أكثر إنصافه.
وقال أبو عمر الشيباني: دخلت على المأمون، فقال لي: يا أبا عمر، من أشعر الناس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، اختلف العلماء في ذلك، وهم القدوة، ونحن المقتدون، وقد قالوا: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب، قال المأمون: من الذي يقول:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
قلت: أبو نواس: قال: فمن الذي يقول:
فتشمت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
قلت: أبو نواس، قال: فمن الذي يقول:
هي الخمر لا زالت تذيع فضائحي ... وتفعل ما شاءت بي الخمر من أمر
متى أكتسب مالاً، فللخمر شطره ... ويحكم رب الخرد العين في الشطر
قلت: هذا من ديباج قول أبي نواس، قال: فمن الذي يقول:
أقل ما فيه من فضائله ... أمنك من طمثه ومن حبله
قلت: هو أبو نواس، قال: هو أشعر الأولين والآخرين من الإنس والجن، قال: فعجبت من المأمون، وعنايته بأبي نواس، وحفظه لشعره.
وقال الأصمعي: قلت يوماً لبشار: رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك التي في المشورة، وهي قولك:
إذا بلغ الرأي المشورة، فاستعن ... بقول نصيح، أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي عدة للقوادم
وخل الهوينى للضعيف، ولا تكن ... نئوماً؛ فإن الحزم ليس بنائم
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يقيد بقائم
فقال بشار: أما علمت أن المشاورة على إحدى الحسنيين، صواب يفوز به، وبثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه، قال الأصمعي: أنت، والله، في قولك أشعر منك في شعرك.
ودخل على الحجاج سليك بن سلكة فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك واغضض عني بصرك، واكفف عني عزك، فإن سمعت خطأ أو زللاً فدونك والعقوبة، قال: قل، قال: عصى عاص من العشيرة، فخلق على اسمي، وحرمت عطائي، وهدم منزلي، فقال الحجاج: هيهات، أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك، وربما ... تفدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارب صاحب الذنب
قال: أصلح الله الأمير: إني سمعت الله يقول غير هذا، قال: وما ذاك؟ قال الله: (يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متعنا عنده إنا إذاً لظالمون) قال الحجاج: علي بيزيد بن مسلم، فوقف بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر منادياً ينادي في الناس: صدق الله، وكذب الشاعر.
ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بالشعر الذي يقول فيه:
دع المكارم، لا ترحل لبغيها ... واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي
استعدى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنشده البيت، فقال: ما أرى به بأساً، قال الزبرقان: والله، يا أمير المؤمنين، ما هجيت ببيت قط أشد علي منه، فبعث إلى حسان بن ثابت فقال: انظر إن كان هجاه، فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه، ولم يكن عمر رضي الله عنه يجهل موضع الهجاء، ولكن كره أن يتعرض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله، وأمر بالحطيئة إلى السجن، وقال: يا خبيث، لأشغلنك عن أعراض المسلمين، فكتب إليه من السجن:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها، إذا قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الأثر
ولما هجا النجاشي رهط تميم بن مقبل، استعدوا عليه عمر بن الخطاب، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه هجانا، قال: فما قال فيكم؟ قالوا: إنه قال:
إذا الله عادى أهل لؤم وذلة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر: رجل دعا، فإن كان مظلوماً استجيب له، وإن لم يكن مظلوماً لم يستجب له، قالوا: فقد قال بعد هذا:
قبيلتهم لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر رضي الله عنه: لبيت آل بني الخطاب مثل هؤلاء، قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: ذلك أجم لهم وأمكن قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمي العجلان إلا لقوله ... خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل
فقال عمر: سيد القوم خادمهم، فما أرى بهذا بأساً، ولم يكن عمر رضي الله عنه ينكر أن ذلك هجو، ولكنه أراد أن يدرأ الحد بالشبهات.
وكان بنو عبد المدان الحارثيون يفخرون بطول أجسامهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير
فقالوا له: يا أبا الوليد، والله، لقد تركتنا ونحن نستحي من ذكر أجسامنا، بعد أن كنا نفخر بذلك.
وكان بنو نمير أشراف قيس وذؤابتها، وكان الرجل منهم يفخر بذلك ويقول: النميري، ويمد صوته حتى قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فانكسرت شوكتهم من يومئذ، ولم تعرف لهم علامة بعد ذلك.
وكان بنو أنف الناقة يسمون بهذا الاسم، يسأل الرجل منهم عن نسبه فيخفيه، ولا ينتسب لأنف الناقة، حتى قال فيهم الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا
وجاء أعرابي إلى أبي داود بن المهلب فقال له: إني مدحتك فاسمع مني، قال: قف قليلاً، ثم دخل بيته وتقلد سيفه، وخرج فقال: قل، فإن أحسنت حكمناك، وإن لم تحسن قتلناك، فقال:
أمنت بداود وجود يمينه ... من المحدث المخشي والبؤس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان، إذا شددت به أزري
له حلم لقمان، وصورة يوسف ... وحكم سليمان، وعدل أبي بكر
فتى تفرق الأموال من جود كفه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر
فقال له: قل، فقد حكمناك، فإن شئت على قدرنا، وإن شئت على قدرك، قال: بل على قدري، فأعطاه خمسين ألفاً، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير؟ قال: لم يكن في ماله ما يفي بقدره، فقال له داود: أنت في هذا أشعر منك في شعرك، وأمر له بمثل ما أعطاه.
وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد، إذ دخل عليه إبراهيم الموصلي فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها: اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
فعالي فعال المكثرين تجملاً ... ومالي كما تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر، أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال له الرشيد: لله أبيات، تأتينا بها، ما أحسن أصولها، وأبين فصولها، وأقل فضولها، يا غلام: أعطه عشرين ألفاً، قال: والله، لا أخذت منها درهماً، قال: ولم؟ قال: لأن كلامك، والله، يا أمير المؤمنين، خير من شعري، قال: أعطوه أربعين ألفاً، قال الأصمعي: فعرفت أنه أصيد الدراهم الملوك مني.
وقال الشيباني: ولد لأبي دلامة ابنة ليلاً، فأوقد السراج، وجعل يخيط خريطة شقق، فلما أصبح طواها بين أصابعه، وغدا بها إلى المهدي، فاستأذن عليه، فأذن له، وكان لا يحجب عنه، فأنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم، لقيل: اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج ... إلى السماء، فأنتم أكرم الناس
فقال المهدي: أحسنت، والله، يا أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ فقال: ولدت لي جارية، يا أمير المؤمنين، قال: فهل قلت فيها شعراً؟ قال: قلت:
بللت علي ... لا حييت ثوبي .... فبال عليك شيطان رجيم
فما ولدتك مريم أم عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمك أم سوء ... إلى لباتها، وأب لئيم
قال: فضحك المهدي وقال: فيم تريد أن أعينك في تربيتها؟ قال: تملأ لي هذه يا أمير المؤمنين، وأشار إليه بالخريطة بين أصابعه، قال له المهدي: وما عسى أن تحمل هذه؟ قال: من لم يقنع بالقليل، لم يقنع بالكثير، فأمر أن تملأ له، فلما نشرت بلغت صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم.
وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الرب الرحيم
فأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم
لزوم ما علمت لباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف من صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم
فبعث إليه بمائة ألف.
ولقي أبو دلامة أبا دلف في صيد له، وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه، وأنشد:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق، وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حجري
فقال: أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فنعم، وأما الدراهم، فلما نرجع إن شاء الله، فقال: جعلت فداك، لا تفرق بينهما، فاستسلفها له، وصبت في حجره، حتى أثقلته.
ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده:
سألت الندى: هل أنت حر؟ فقال: لا ... ولكنني عبد ليحيى بن خالد
فقلت: شراء؟ قال: لا، بل وراثة ... توارثني عن والد بعد والد
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وصنع بعض الناس وليمة، وكان فيها المبرد، وكانوا يسمعون غناء مغنية من وراء ستر، فاندفعت تغني:
وقالوا لها: هذا حبيبك معرض ... فقلت لهم: إعراضه أيسر الخطب
وما هي إلا نظرة ثم حسرة ... فتصطك رجلاه، ويسقط للجنب
فطرب كل من حضر طرباً شديداً، إلا المبرد، فأخذ صاحب الوليمة يعاتبه على عدم طربه، فقالت له المغنية: دعه يا سيدي، فلعله توهم أني لحنت في قولي؛ هذا حبيبك معرض، ولم يعلم أن ابن مسعود قرأ: (وهذا بعلى شيخاً) ، فبلغ الطرب بالمبرد أن شد في ثيابه، وهذا من أحسن ما يوجد من طرب النساء وكمالهن.
وأهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملاً، ثم نزل عليه حتى أبرمه، فقال فيه:
يا مبرماً أهدى جمل ... خذ وارتحل ألفي جمل
قال: وما أوقرها ... قلت: زبيب وعسل
قال: ومن يقودها ... قلت: له ألفا بطل
قال: وما لباسهم ... قلت: حلي وحلل
قال: وما سلاحهم ... قلت: سيوف وأسل
قال: عبيد لي إذن ... قلت: نعم، ثم خول
قال: وقد أضجرتكم ... قلت: أجل، ثم أجل
قال: وقد أبرمتكم ... قلت له: الأمر جلل
قال: وقد أثقلتكم ... قلت له: فوق الثقل
قال: فإني راحل ... قلت: العجل، ثم العجل
يا جبلاً من جبل ... في جبل فوق الجبل
وبينما خالد بن الله القسري جالس في مظلة، إذ نظر إلى أعرابي يخب إليه بعيره، مقبلاً نحوه، فقال لحاجبه: إذا قدم فلا تحجبه، فلما دخل عليه سلم وقال:
أصلحك الله، قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
أناخ دهر، ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال خالد: أرسلوك وانتظروا، والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرهم، وأمر له بجائزة عظيمة، وكسوة شريفة.
ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر، فأنشده:
إذا قيل: أي فتى تعلمون ... أهش إلى البأس والنائل؟
وأضرب للهام يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل؟
أشار إليك جميع الأنام ... إشارة غرقى إلى ساحل
فأمر له بخمسين ألف درهم.
وقال أحمد بن مطير: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتاً، كنت مدحت بها بعض الولاة، وهي:
له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم، فيه للناس أنعم
فيقطر يوم الجود من كفه الندى ... ويقطر يوم البؤس من كفه الدم
فلو أن يوم البؤس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود خلى نواله ... على الأرض لم يصبح على الأرض معدم
فقال: كم أعطاك عليها؟ قلت: خمسة آلاف، قال: فقبلتها؟ قلت: نعم، قال: أخطأت، ما ثمن هذه إلا مائة ألف.
وحدث أحمد بن زهير قال: كان أحمد بن زيدان الكاتب قاعداً بين يدي يحيى بن أكثم يكتب، وكان شاباً جميلاً، فقرص يحيى خده، فاستحى ابن زيدان، واحمر وجهه، ورمى القلم من يده، فقال له: خذ القلم واكتب، فأخذ القلم وكتب:
أيا قمراً جمشته فتغضبا ... وأصبح من تيه به متجنبا
إذا كنت للتخميش والقرص كارهاً ... فكن أبداً يا مينتي متنقبا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة ... وتجعلها من فوق خدك عقربا
فتقتل مشتاقاً، وتفتن نكاسا ... وتترك قاضي المسلمين معذبا
ودخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري، فرأى عنده شعراء وهم ينشدونه فسكت الأعرابي يسمع المدائح، وينظر إلى الجوائز تفرق، فقام ثم قال: جعلت فداك، يا أمير المؤمنين، ما يمنعني من إنشادي إلا قلة ما معي مما قلته فيك من الشعر، فأمر أن يكتب ما معه فكتب:
تبرعت لي بالجود، حتى ملكتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب
فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... وحلف الندى، ما للندى عنك مذهب
قال: وما حاجتك؟ قال: علي دين، قال: كم؟ قال: خمسون ألف درهم، فقضاها عنه، وأمر له بمثلها.
وزار إسماعيل بن خارجة صديق له، فلما كان بباب الدار وثب كلب فانصرف، وكتب إليه:
لو كنت أحمل خمراً حين زرتكم ... لم ينكر الكلب أني صاحب الدار
لكن أتيت، وريح المسك يقدمني ... وعنبر الهند مصبوب على الساري
فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزق والنار
وكان جد خارجة خماراً.
ودخل أعرابي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن الفقهاء، فدل على ابن أبي ذيب، فأتى خلقته، فقال: أيكم الذيب؟ فقال: ما تريد؟ قال: أنت هو؟ قال: نعم، فسأله عن مسألة في الطلاق، فقال: ما أراك خانثاً، فولى الأعرابي وهو يقول:
أتيت ابن ذيب، أطلب الفقه عنده ... فطلق ليلى البت، بتت أنامله
أتترك في فقه ابن ذيب حليلتي ... وعند ابن ذيب أهله، وحلائله؟
وقدم عمر بن أبي ربيعة، فأقبل إليه الأحوص ونصيب، فجعلوا يتحدثون، ثم سألهما عن كثير عزة، فقال له نصيب: هو ها هنا قريب، فلو أرسلنا إليه، قال: هو أشد باساً من ذلك، قال: فاذهب بنا إليه، فألفوه في خيمة له، فوالله ما قام للقرش، ولا وسع له، فجلسوا إليه وتحدثوا ساعة، فالتفت كثير إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: إنك لشاعر، لولا أنك تشبب بالمرأة وتدعها، وتشبب بنفسك، أخبرني عن قولك:
ثم اسبطرت تشتد في أثري ... تسأل أهل الطواف عن عمر
والله، لو وصفت بهذا هرة أهلك لكان كثيراً، ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص:
أدور، ولولا أن أرى أم جعفر ... بأبياتكم، ما درت حيث أدور
وما كنت زواراً، ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر، لابد أن سيزور
قال: فانكسر عمر بن أبي ربيعة، ودخلت الأحوص زهوة، ثم التفت إلى الأحوص وقال له: أخبرني عن قولك:
فإن تصلي أصلك، وإن تبيني ... بهجر بعد وصلك ما أبالي
والله، لو كنت حراً لباليت، ولو كسر أنفك، ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب:
بزينب ألمم قبل أن ينزل الركب ... وقل: إن تملينا، فما ملك القلب
فانكسر الأحوص، ودخلت نصيباً زهوة، ثم التفت إلى نصيب، فقال: أخبرني عن قولك:
أهيم بدعد ما حييت، فإن أمت ... فوا كبدي من ذا يهيم بها بعدي
أهمك ويحك، من يفعل بها بعدك؟ فقال القوم: الله أكبر، استوت الفرق، قوموا بنا من عند هذا.
ودخل كثير على سكينة بنت الحسين فقالت له: يا ابن جمعة، أخبرني عن قولك في عزة:
وما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يحج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
ويحك، وهل في الأرض زنجية منتنة الإبطين، توقد بالمندل الرطب نارها، إلا طاب ريحها؟ ألا قلت كما قال عمك امرؤ القيس؟
ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً؛ وإن لم تطيب
وسهر عبد الملك بن مروان ذات ليلة، وعنده كثير عزة، فقال له: أنشدني بعض ما قلت في عزة، فأنشده حتى انتهى إلى هذا البيت:
هممت وهمت، ثم هابت وهبتها ... حياء، ومثلي بالحياء خليق
فقال له عبد الملك: أما والله، لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك أشركتها في الهيبة ثم استأثرت بالحياء دونها، قال: فأي بيت عفوت به عني يا أمير المؤمنين؟ قال: قولك:
دعوتني، لا أريد بها سواها ... دعوني هائماً، فيمن يهيم
ودعا الأعور بن سنان التغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتاً قد فرش بالفرش الشريفة، والوطاء العجيبة، وله امرأة تسمى برة، في غاية الحسن والجمال، فقال له: يا أبا مالك، إنك تدخل على الملوك في مجالسهم، فهل ترى في بيتي عيباً؟ قال: ما أرى في بيتك عيباً غيرك، قال: إنما ألوم نفسي؛ إذ كنت أدخل مثلك بيتي، اخرج عليك لعنة الله، فخرج الأخطل، وهو يقول:
وكيف يداويني الطبيب من الجوى ... وبرة عند الأعور بن سنان
ويلصق بطناً منتن الريح دائماً ... إلى بطن خود دائم الخفقان

ودخل الشعبي على بشر بن مروان، وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية، في حجرها عود، فلما دخل الشعبي، أمرها فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده، قال: صدقت، ثم قال للجارية: هات ما عندك، فأخذت عودها وغنت:
ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت، وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلي التفاتاً، أسلمته المحاجر
فقال الشعبي الصغير أكيسهما يريد الزير، ثم قال لها: يا هذه، أرخي من فمك، واشددي في زيرك، قال له بشر: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما، قال: صدقت، ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.
وقال الأصمعي: قدم أعرابي بعدل من خمر العراق إلى المدينة، فباعها إلا السود، فشكى ذلك إلى الدرامي، وكان قد تنسك، وترك الشعر، ولزم المسجد، فقال له: ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها؟ قال: حكمك، فعمد الدرامي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه، وعاد إلى مثل شأنه الأول، وقال شعراً ودفعه إلى صديق له من المغنين، وقال له: تغن بهذا الشعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بزاهد متعبد
قد كان شمر للصلاة رداءه ... حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تفتنيه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء بالمدينة، وقالوا: قد رجع الدرامي، وتعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود، وباع التاجر ما كان معه، فكان إخوان الدرامي من النساك يلقون الدرامي فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين، فلما أنفذ العراقي ما كان معه، رجع الدرامي إلى نسكه وثيابه فلبسها.
وقال الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة نتحدث معها، ونستمع من غنائها، وغناء جواريها، فمضيا، فألفيا على بابها معاذ الأنصاري وابن صياد، فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فقالت: نحن على الأحوص غضاب فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال:
ضنت عقيلة عنك اليوم بالزاد ... وآثرت حاجة الثاوي على الغادي
قولا لمنزلها: حييت من طلل ... وللعقيق، ألا حييت من وادي
إني وهبت نصيبي من مودتها ... لمعبد ومعاذ، وابن صياد
وخرج أبو السائب مع عمر بن أبي ربيعة متنزهاً إلى بعض نواحي مكة، فذهب أبو السائب ليبول، وعليه طويلة، فرجع دونها، فقال له ابن أبي عتيق؛ ما فعلت طويلتك؟ قال: ذكرت قول كثير عزة:
أرى الإزار على لبنى فأحسده ... إن الإزار على ما ضم محسود
فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لساني، فأخذ ابن أبي عتيق طويلته، ورمى بها وقال: إلى من تقدمته أنت إلى بر الشيطان.
وقال الأصمعي: كان أبو الطمحان شاعراً مجيداً، وكان يطلب الإذن على يزيد بن عبد الملك، فلم يصل إليه، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من الشعر تغني بهما أمير المؤمنين، فإن سألك من قالها، فأخبره أني بالباب، فما رزقني الله منه فهو بيني وبينك، قال: هات، فأعطاه هذين البيتين:
يكاد الغمام الحر يرعد أن رأى ... محيا ابن مروان، وينهل بارقه
يظل فتيت المسك في رونق الضحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه
قال: فغناه بهما في وقت أريحيته، وطرب لهما طرباً شديداً وقال: لله قائلهما، من هو؟ قال: أبو الطمحان، وهو بالباب يا أمير المؤمنين، قال: ما أعرفه، فقال بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين، قال: وما قصة الدير؟ قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك؟ قال: ليلة الدير قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت ليلة دير نصرانية، فأكلت عندها طفيشلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وسرقت كساءها ومضيت، فضحك يزيد، وأمر له بألفي درهم، وقال: لا يدخل علينا، فأخذ أبو الطمحان الألفين، وانسل بهما وخيب المغني.
وقال إبراهيم الموصلي: دخلت على هارون الرشيد، فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال، غنيته بأبياته التي يقول فيها:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
فارتاح وطرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
وقال أبو العباس: حدثت أن أبا العباس عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة، فسمعت غناء من القرى لم أر مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه، فإذا هو عبد أسود، فقلت: أعد علي ما سمعت، فقال: والله، لو كان عندي قرى أقريكه لفعلت، ولكني أجعله قراك، فإني، والله، ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم اندفع يغني:
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض، ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
قال عمر: فحفظته عنه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فهو كما ذكر.
وحكى الشيباني قال: كان بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، فكانت تظهر له أنها لا تحب غيره، وكان كلما جاءها وجد عندها فتى يجلس إليها ويتحدث معها، فقال فيها:
ومظهرة لخلق الله وداً ... وتلقى بالتحية والسلام
أتيت فؤادها أشكو إليها ... فلم أخلص إليه من الزحام
فيا من ليس يكفيه خليل ... ولا خمسون ألفاً كل عام
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف، وهو القائل في ضيف له:
تجهز كفاه، ويحدر حلقه ... إلى الزور، ما ضمت عليه الأنامل
أتانا، وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً، ما الذي هو قائل
فما زال عنه اللقم، حتى كأنه ... من العي، لما أن تكلم باقل
وحكى ابن عدي قال: نزل على أبي حفصة الشاعر رجل باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب؛ مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما احتاج إليه، ثم رجع وكتب إليه:
يا أيها الخارج من بيته ... وهارباً من شدة الخوف
ضيفك قد جاء بزاد له ... فارجع وكن ضيفاً على الضيف
وصلى الوليد بن عقبة بأهل الكوفة الصبح ثلاث ركعات، وهو سكران، ثم التفت إليهم وقال: وإن شئتم زدتكم، فشهدوا عليه وجلده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان رضي الله عنهما، وهو أخو عثمان لأمه، فقال فيه الحطيئة، وكان نديمه:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى، وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيراً على خير
ليريدهم خيراً، ولو قبلوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كبحوا عنانك إذ جريت، ولو ... تركوا عنانك لم تكن تجري
وكان بعض الظرفاء ينادم رجلاً من الرؤساء، فكان يكسوه إذ سكر قميصاً، فإذا صحا نزعه عنه، فقال في ذلك:
كساني قميصاً مرتين، إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحة في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا
فيا ليت حظي من سروري وترحتي ... بكسوته أن لا علي ولا ليا
وحدث أبو جعفر قال: بينما الأمين في قصر له، إذ مر بجارية سكرى، وعليها كساء خز، تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على ما ترى، ولكن إذا كان في غد إن شاء الله، فلما كان من الغد، سار إليها، فقال لها: الميعاد، فقالت: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار، فضحك، وخرج من مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟ فقيل له: مصعب والبرقاش وأبو نواس، فأمر فأدخلوا عليه، فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً، يكون آخره: كلام الليل يمحوه النهار: فقال الرقاشي:
متى تصحو، وقلبك مستطار ... وقد منع القرار، فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاما ... فتاة، لا تزور ولا تزار
إذا استنجزت منها الوعد، قالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب:
أتعزلني، وقلبي مستطار ... كئيب، لا يقر به قرار
بحب مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ، يخالطها احورار
ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار
ولما جئت مقتضياً، أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وليلى أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز الريح أردافاً ثقالا ... وغصناً، فيه رمان صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التكريه، وانحل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي، فقالت ... كلام الليل يمحوه النهار
فقال: أخزاك الله، يا حسن، أكنت معنا، أم مطلعاً علينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عرفت ما في نفسك، فأعربت عما في ضميرك، فأمر له بأربعة آلاف درهم، ولصاحبيه بمثلها.
وحدث حماد بن إسحاق الموصلي قال: حدثني أبي قال: غدوت يوماً وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة، فركبت عازماً على أن أطوف في الصحراء وقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة، فعرفوه أني ركبت في مهم لي، ومضيت وطفت ما بدا لي، وعدت وقد حمى النهار، فوقفت في ظل شارع لأستريح فلم ألبث أن جاء خادم يقود حماراً فارهاً، عليه جارية، عليها لباس فاخر، فرأيت لها شمائل ظريفة، وطرفاً فاتراً، فحدست أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفاً عليها، فعلقها قلبي، ولم أستطع براحاً، وأقبل رجلان يتماشيان، لهما هيئة تدل على قدرهما، وهما راكبا، فحملني حب الجارية، وحسن حالهما أن توسلت بهما، فدخلت معهما، فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن هو أني معهما، فجلسنا ودعا بالطعام فأكلنا وجيء بالشراب، فخرجت الجارية، وفي يدها عود، فرأيت جارية حسناء، فغنت غناء صالحاً، فتمكنت من قلبي وشربنا، ثم قمت للبول، فسألهما صاحب الدار عني، فأنكراني، فقال: هذا طفيلي، ولكن ظريف، فأجملوا عشرته، فجئت وجلست، فغنت في لحن لي:
ذكرتك، أم مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تستريب وتسنح
من المؤلفات الرمل، إذ ماء خدها ... شعاع الضحى في لونه يتوضح
فأدته صالحاً، ثم غنت من صنعتي في شعري:
قل لمن صد عاتبا ... ونأى عنك جانبا
قد بلغت الذي أردت، ... وإن كنت لاعبا
واعترفنا بما ادعيت، ... وإن كنت كاذبا
فغنته أصلح من الأول، فاستعدته منها، فأقبل علي أحد الرجلين وقال: ما رأيت طفيلياً أصفق وجهاً منك، لم ترض التطفيل حتى اقترحت؟ وهذا تصديق المثل: طفيلي ويقترح، فلم أجبه، وكفه عني صاحبه، فلم ينكف، ثم قالوا: للصلاة، فأخذت عود الجارية وأصلحته إصلاحاً محكماً، وعدت إلى موضعي فصليت، ثم عادوا، فعاد ذلك الرجل في عربدته علي، وأنا صامت، فأخذت الجارية عدوها وجسته وقالت: من مس عودي؟ فقالوا: ما مسه أحد، فقالت: والله، لقد مسه حاذق ومتقدم، وشد طبقته، فقلت لها: أنا أصلحته، فقالت: بالله عليك خذه واضرب به، فأخذته منها وضربت، فبدا ظريفاً عجيباً، فيه نقرات محكمات، فما بقي منهم أحد إلا وثب فجلس بين يدي وقالوا: بالله، يا سيدنا، أتغني؟ قلت: نعم، وأعرفكم بنفسي، أنا إسحاق الموصلي والله، إن لأتيه على الخليفة، وأنتم تشتمونني اليوم؛ لأني تملحت معكم بسبب هذه الجارية، والله، إني لا نطقت بحرف، ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد، ونهضت لأخرج، فتعلقوا بي، وتعلقت الجارية، فقلت: والله، لا أجلس إلا أن يخرج، فقال له صاحبه: من شبه هذا حذرت عليه، فأخرجوه، فغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فطرب رب الدار طرباً شديداً وقال لي: هل لك في أمر أعرضه عليك؟ قلت: ما هو؟ قال: تقيم عندي شهراً، والحمار والجارية مع ما عليها لك، قلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوماً لا يعرف أحد أين أنا، والمأمون يطلبني، فجئت بذلك منزلي بعد شهر، وركبت إلى المأمون، فقال لي: إسحاق، ويحك، أين كنت؟ فعرفته الخبر، فقال: علي بالرجل الساعة، فعرفتهم موضعه، فأحضر، وقال له: أنت رجل ذو مروءة، وسبيلك أن تعاون عليها، ثم أمر له بمائة ألف درهم، ونهاه أن يعاشر ذلك المعربد الرذيل، وأمر لي بخمسين ألفاً، وقال: أحضروا الجارية فأحضرت فغنته، فقال: قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء، تغني مع الجواري، وأمر لها بخمسين ألفاً.
وتشبه هذه الحكاية حكاية إبراهيم بن المهدي، إذ تشفع إلى المأمون من طفيلي، قدمنا ذكره في الباب قبل هذا، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، أحدثك بحديث في التطفيل عن نفسي، قال: قل، قال: خرجت يوماً فمررت في سكك بغداد، فشممت رائحة أبزار وقذور قد فاحت، فسألت خياطاً عن رب الدار، فقال: هو رجل من التجار اسمه فلان، وخرج من شباك في أعلى الدار كف ومعصم، ما رأيت مثلهما قط، فذهب عقلي وبهت، فإذا رجلان مقبلان، فقال لي الخياط: هذان نديماه، وهما فلان وفلان، فحركت دابتي، ودخلت بينهما وقلت: قد استبطأكما أبو فلان، فأتينا الباب ودخلنا، فلم يشك صاحب الدار أني منهما، فرحب بي، وأجلسني في أجل موضع، فأتينا بالألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: أكلت الألوان، وبقي الكف والمعصم، ثم سرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا هو أنبل مجلس، وصاحب الدار يقبل باللطف والحديث علي؛ لما ظن أني منهما، فخرجت جارية تتثنى، كأنها خوط بان، فسلمت وجلست وأخذت عوداً وجسته، فتبينت الحذق في جسها، وغنت بهذا الصوت:
أشرت إليها: هل حفظت مودتي ... فردت بطرف العين: إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على العمد
فجاءني ما لم أملك معه نفسي، وقلت: السلام، ثم غنت:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمنا ... وإياك، لا نخلو، ولا نتكلم؟
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وترجع أحشاء على النار تضرم
إشارة أفواه، وغمز حواجب ... وتكسير أجفان، وقلب متيم
فحسدتها على حذقها وقالت: يا جارية، بقي عليك شيء، فغضبت ورمت بالعود وقالت: متى كنتم تحضرون البغضاء في مجالسكم مثل هذا؟ فندمت، ورأيت تغير القوم، فدعوت بالعود وغنيت:
ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم بعد المدى فبلينا
راحوا العشية روحة مذكورة ... إن متن متنا، أو حيين حيينا
فأكبت على رجلي تقبلها وتقول: المعذرة يا سيدي، ما سمعت من يغنيه مثلك، وقام مولاها وصاحباه فصنعوا مثلها، وشربوا بالطاسات طرباً، ثم غنيت:
غداً محبك مطوياً على كمده ... صب مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به، ويد أخرى على كبده
يا من رأى كلفاً مستهدفاً أبداً ... كانت منيته في طرفه ويده
فصاحت الجارية: السلام، هذا، والله، الغناء يا مولاي، وسكروا، وأمر صاحب الدار غلمانه بحفظهم إلى منازلهم، وبقيت أشرب معه، وكان جيد الشراب، وقال لي: يا سيدي، ذهب، والله، ما خلا من أيامي باطلاً، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ فأخبرته، فقبل رأسي، وقال لي: أنا أعجب من هذا الأدب، وسألني عن قصتي، فأخبرته خبر الطعام والمعصم، فأحضر جواريه فلم أره: فقال: ما بقي غير أمي وأختي، ولأنزلهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، وقلت: أبدأ بالأخت، فلما رأيت معصمها قلت: هي هي، فأرسل إلي عشرة مشايخ، وأحضر بدرتين وقال: أشهدكم أني زوجت أختي فلانة من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم، فدفعت إليه بدرة، وفرقت الأخرى على المشايخ فانصرفوا، وقال لي: يا سيدي، أمهد لك بعض البيوت، فاحشمني، فقلت: بل أحملها إلى منزلي في عمارية، فو حقك يا أمير المؤمنين، لقد جمل إلي من جهازها ما ضاق عنه بعض دوري، فتعجب المأمون من كرمه، وأمر بإحضاره فصار من خواصه؛ لأجل كرمه.

الباب الثالث في حكايات الأولياء والصلحاء والزهاد، وما يرجع إلى ذلك
حدث محمد بن مسلم الرجل الصالح قال: رأيت يحيى بن أكثم في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقت بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه، فلما أفقت، قالها ثانياً وثالثاً، فقلت: يا رب، ما هكذا حدثت عنك، فقال تعالى: وما حدثت عني؛ قلت: حدثني عبد الرزاق قال: حدثني معمر بن راشد عن الزهري عن أنس بن مالك عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عنك يا عظيم أنك قلت: "ما شاب لي عبد في الإسلام شيبة إلا استحييت أن أعذبه بالنار"، فقال الله تعالى: صدق عبد الرزاق وصدق معمر، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق جبريل، أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنة.

وجاء في حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يتجر من بلاد الشام إلى المدينة ولا يصحب القافلة توكلاً على الله، فبينما هو جاء من الشام إذ عرض له لص على فرس، فصاح بالتاجر: قف، فوقف التاجر وقال له: شأنك ومالي؟ فقال له اللص: المال مالي، وإنما أردت نفسك، فقال له: أنظرني حتى أصلي، فقال: افعل ما بدا لك، فصلى أربع ركعات، ورفع رأسه إلى السماء وجعل يقول: يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما يريد، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على خلقك، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، لا إله إلا أنت، يا مغيث أغثني، ثلاث مرات، وإذا بفارس بيده حربة، فلما نظر إليه اللص ترك التاجر ومضى نحوه، فلما دنا منه طعنه الفارس فأداره عن فرسه وقتله، وقال للتاجر: اعلم أني ملك من السماء الثالثة، دعوت الأولى فسمعنا لأبواب السماء قعقعة، فقلنا: أمر حدث، ثم دعوت الثانية ففتحت أبواب السماء ولها شرر، ثم دعوت الثالثة، فهبط جبريل ينادي: من لهذا المكروب؟ فدعوت الله أن يوليني قتله، واعلم يا عبد الله أنه من دعا بدعائك هذا في كل شدة أغاثه وفرج عنه، ثم جاء التاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: لقد لقنك الله أسماء الله الحسنى التي إذا دعي بها أجاب، وإذا سئل بها أعطى.
ووجه سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد إلى العراق، فأطلق أهل سجون الحجاج، وضايق على يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فظفر به بعد ذلك يزيد، لما ولي أفريقية فجعل محمد يقول: اللهم احفظ لي إطلاق الأسرى، وإعطاء الفقراء، فلما دنا يزيد منه، وفي يده عنقود قال: يا محمد، مازلت أسأل الله أن يظفرن بك، فقال له محمد: وما زلت أستجير الله منك، قال: فوالله، ما أجارك ولا أعاذك مني، والله، لأقتلنك قبل أن آكل هذه الحبة من العنب، والله لو رأيت ملكاً يريد قبض روحك لسبقته إليها، وأقيمت الصلاة، ووضعت حبة العنب بين يديه، وتقدم فصلى بهم، وكان أهل أفريقية قد اجتمعوا على قتل يزيد، فلما ركع ضربه رجل بعمود فقتله، وقيل لمحمد: اذهب حيث شئت.
وقال أبو علي الدارني: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكاً ولا مبتسماً إلا يوم مات ابنه، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله تعالى أحب أمراً فأحببته، والفضيل هذا من رجال رسالة القشيري، مشهور بزهد وصلاح، وكان يقول: إذا رأيت الليل مقبلاً فرحت، وقلت: أخلو لربي، وإذا أبصرت الصبح استرجعت؛ كراهة أن يجيء من يشغلني، وكان في أول أمره شاطراً يقطع الطريق، وسبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو ذات ليلة، يرتقب الجواز إليها، إذ سمع تالياً يتلو: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) ، فقال: يا رب، قد آن، فرجع إلى خربة، فإذا فيها قافلة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى يصبح؛ فإن الفضيل على الطريق يقطع علينا، فأمنهم وجاور الحرم.
وقال محمد بن المبارك: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان، فصلينا ركعات، فسمعت صوتاً من أصل الرمانة يقول: يا أبا إسحاق، أكرمنا بأن تأكل منا، فطأطأ رأسه قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: يا محمد، كن شفيعنا إليه، ليتناول منا شيئاً، فقلت: يا أبا إسحاق، لقد سمعت، فقام فأخذ رمانتين، فأكل الواحدة وناولني الأخرى، فأكلتها، وهي حامضة، وكانت قصيرة، فلما رجعنا مررنا بها، وهي شجرة عالية، ورمانها حلو، وهي تثمر في كل عام مرتين، وسموها رمانة العابدين، وإبراهيم هذا من كبار شيوخ الصوفية وهو من رجال رسالة القشيري.
وركب في مركب فهاجت ريح شديدة، فلف رأسه، وطرح نفسه مع الناس، فسمعوا من البحر صوت يقول: لا تخافوا؛ ففيكم إبراهيم بن أدهم، وصاح الناس في المركب: أين إبراهيم بن أدهم، ثم سكنت الريح، فخرجوا وما عرفوه.
وتوفي رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مسرفاً على نفسه، وحين حضرته الوفاة رفع رأسه، فإذا أبواه يبكيان عليه، فقال: ما يبكيكما فقالا: نبكي؛ لإسرافك على نفسك، فقال: لا تبكيا؛ فوالله ما سرني أن الذي بيد الله من أمري بأيديكما، فأتى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن فتى توفي اليوم، فأشهده بأنه من أهل الجنة، فاستكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه عن عمله، فقالا: ما علمنا عنده شيئاً من خير إلا أنه قال عند الموت: كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ها هنا، إن حسن الظن بالله من أفضل العمل عنده".
وكان محمد بن نافع الناسك صديقاً لأبي نواس، قال: لما بلغني موته أشفقت عليه، فرأيته في المنام، فقلت: أبو نواس فقال: لات حين كنية، قلت: الحسن؟ قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: بأي شي؟ قال: بتوبة تبتها قبل موتي بأبيات شعر قلتها، قلت: وما هي؟ قال: هي عند أهلي، فسرت إلى أمه، فلما رأتني أخذت في البكاء، فأخبرتها بما رأيت، وبما قال، فسكتت، وأخرجت إلي كتباً منظمة، فوجدت بخطه كأنه قريب:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو المسيء المجرم
أدعوك رب، كما أمرت تضرعاً ... فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحم؟
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا=وجميل ظني، ثم إني مسلم وقال سفيان الثوري لرابعة العدوية: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوف النار، ولا رجاء الجنة، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً فيه وشوقاً إليه، وقالت في معنى ذلك:
أحبك حبين، حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
واحتاجت إلى شيء، فقيل لها: لو بعثت إلى فلان، فقالت: والله، لا أطلب الدنيا ممن يملكها، فكيف من لا يملكها.
وزارها أصحابها، فذكروا الدنيا، وأقبلوا على ذمها، فقالت: اسكتوا من ذمها؛ فلولا موضعها من قلوبكم، ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
وقال عبد الواحد بن زيد: رأيت ليلة مات الحسن البصري في النوم أبواب السماء، كأنها منفتحة، وكأن الملائكة صفوف، فقلت: إن هذا لأمر عظيم، فقال لي قائل: الحسن البصري قدم على الله، وهو عنه راض.
وكان للمأمون غلام، فبينما هو يصب الماء على يده، إذ سقط الإناء، فغضب المأمون، فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: (والكاظمين الغيظ) ، قال: قد كظمت غيظي، قال: (والعافين عن الناس) ، قال: قد عفوت عنك، قال: (والله يحب المحسنين) قال: اذهب، فأنت حر.
وقال بكر بن سليمان الصواف: دخلنا على مالك بن أنس رضي الله عنه في العشية التي قبض فيها، فقلنا: يا عبد الله، كيف تجدك؟ فقال: لا أدري ما أقول لكم، ستعاينون من عفو الله تعالى ما لم يكن في حسابكم، ثم ما خرجنا حتى غمضنا عينيه.
وقيل: إن ثلاثة نفر من العابدين اجتمعوا في الموقف، فقالوا: تعالوا، حتى نعرض أنفسنا على مولانا، ونصف حالتنا، فتقدم أحدهم ورمى بثوبه عن عاتقه، وبقي في المتزر، ثم قال: نفسي معيوب، وكلامي معيوب، والكل مني معيوب، فإن كنت تقبل معيوباً، فلبيك اللهم لبيك، قال: فنودي في سره: عبدي، لم تعيب نفساً أنا خلقتها وبلطفي رزقتها، ولولا أني غفرت لها لما أدنيتها، وتقدم الثاني فقال: نفسي مطلوب، وعقلي مغلوب، ولساني مقر بالذنوب، فما حيلتي يا علام الغيوب؟ فنودي في سره: عبدي، لم تقبح نفسك ولم أجعل بيني وبينك ثالثاً، عصيتني سراً، وغفرت لك سراً، وتقدم الثالث فقال: مولاي، ما لي لسان أناديك، ولا سر أناجيك، ولا يد أرفعها لك، فارحم تضرعي وتذللي بين يديك، فنودي في سره: عبدي حجك مبرور، وسعيك مشكور، وذنبك مغفور، وقد وهبنا لك أهل الموقف، فمن جاءنا، بالذلة والافتقار، استقبلناه بالعز والافتخار، ومن جاءنا بالذلة والخضوع استقبلناه بحسن الرجوع.

وسئل سهل بن عبد الله التستري عن أصل عبادته فقال: اعلموا، رحمكم الله، أني كنت ألفت حوضاً من الجامع أصلي فيه، فلما كان في بعض الأيام، وكان يوم جمعة، توضأت وأسرعت إلى المسجد، فوجدته قد غص بالناس، فبقيت متحيراً، فأسأت الأدب، وتخطيت رقاب الناس، حتى وصلت إلى ذلك الحوض، فركعت وجلست، فإذا عن يميني شاب حسن الصورة، وعليه ثياب صوف بيض، وعلى كتفيه طيلسان أبيض، فنظر إلي وقال: كيف تجدك يا سهل؟ فقلت: بخير، أصلحك الله، وبقيت مفكراً في معرفته لي، وأنا لم أعرفه، فبينما أنا كذلك إذ أخذتني حرقة بول، فأكربتني، وبقيت على وجل حياء من الناس أن أسيء أدبي وأتخطاهم ثانية، وإن جلست لم يكن لي صلاة، فبينما أنا كذلك، إذ التفت إلي الشاب وقال: يا سهل، هل أخذتك حرقة البول؟ فقلت: أجل، فنزع طيلسانه من منكبيه، وغشاني به، ثم قال لي: يا سهل اقضي حاجتك، وأسرع تلحق الصلاة، قال: فأغمي علي ثم فتحت عيني، فإذا أنا باب مفتوح، وسمعت قائلاً يقول: لج، يرحمك الله فولجت الباب، فإذا قصر على البنيان شامخ الأركان، وإذا في وسطه نخلة قائمة، وإذا جانبها مطهرة مملوءة ماء، ونظرت إلى موضع إراقة الماء، وإذا منشفة معلقة وسواك، فحللت سراويلي وبلت واغتسلت، وتوضأت وضوءاً كاملاً، وتنشفت، فسمعته يقول: قد قضيت أربك؟ قلت: نعم، فوضع الطيلسان، فإذا أنا جالس في مكاني، لم يشعر بي أحد، فبقيت متحيراً، لا أدري ما حل بي، وأنا مكذب لروحي فيما جرى، وقامت الصلاة، فلم أدر ما صليت، ولم يكن همي غير الفتى، فلما خرج تتبعت أثره، فإذا به قد دخل إلى درب عظيم وأنا خلفه، فالتفت إلى ورائه، فلما رآني قال: يا سهل، كأنك ما أيقنت؟ فقلت: كلا، فقال: لج الباب يرحمك الله، فنظرت إلى الباب بعينه، فولجت القصر، فرأيت النخلة والمطهر والحال بعينه، والمنشفة مبلولة بحالها، فقلت: آمنت بالله تعالى فقال: يا سهل، من أطاع الله أطاعه كل شيء، يا سهل، اطلبه تجده، فتغرغرت عيناي بالدموع، فلما مسحتهما فتحتهما، فلم أر الفتى ولا القصر، فبقيت متحيراً على ما فاتني منه متأسفاً، فاجتهدت عند ذلك في الخدمة، واستعنت بالله تعالى فأعانني.
وقيل: إن سهلاً هذا صام من يوم خروجه من بطن أمه إلى دخوله إلى القبر، لم يفطر في عمره إلا أيام العيدين، وذلك أن أمه كانت تعرض عليه ثديها بالنهار فلا يرضعه فإذا كان المغرب رضعه، فلم يزل كذلك إلى أن بلغ سبع سنين، فأخذ في الصيام والعبادة، حتى لقي الله عز وجل.
وقيل: لما كان يوم وفاته، خرج الناس بنعشه في يوم حر وشمس، فإذا بيهودي يصيح: معشر الناس، هل ترون ما أرى؟ فنظروا، فإذا بنسور قد سدت الأفق، ونشرت أجنحتها؛ تستر الناس من الشمس، فقال اليهودي عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله حقاً حقاً، ثم قضى نحبه من ساعته، فأخذوا في غسله وتكفينه، وصلى عليهما جميعاً، ودفن إلى جانب قبر سهل.
وقال ابن شريح في مرضه الذي مات فيه: رأيت البارحة في المنام كأن قائلاً يقول: هذا ربك يخاطبك، فسمعت: "ماذا أجبتم المرسلين فوقع في قلبي أنه يراد مني زيادة في الجواب، فقلت؛ بالإيمان والتصديق، غير أنا قد أصبنا من هذه الذنوب، فقال: أما أني سأغفرها لكم.

وكان رجل شريف جمع قوماً من ندمائه ودفع إلى غلام له أربعة دراهم ليشتري بها فواكه للمجلس، فمر الغلام بمجلس منصور بن عمار الواعظ، وهو يسأل لفقير شيئاً، ويقول: من دفع له أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات، فدفع له الغلام الدراهم، فقال له المنصور: ما الذي تريد أن أدعو لك به؟ فقال: أن يعتقني الله من العبودية، فدعا منصور، وأمن الناس على دعائه، قال: والثانية يا غلام؟ فقال أن يخلف الله على الدراهم فدعا له وأمن الناس، ثم قال له والثالثة يا غلام؟ فقال: أن يتوب الله على مولاي، فدعا وأمن الناس، ثم قال: والرابعة يا غلام؟ قال: أن يغفر الله لي ولمولاي ولك يا منصور وللحاضرين، فدعا منصور، وأمن الناس على دعائه، فرجع الغلام فقال له مولاه: لم أبطأت؟ فقص عليه القصة، قال: وبم دعا؟ قال: سألت لنفسي العتق، قال: اذهب، فأنت حر، قال: والثانية؟ قال: أن يخلف الله على الدراهم، قال: لك أربعة آلاف درهم، قال: والثالثة؟ قال: أن يتوب الله عليك، قال: تبت إلى الله عز وجل، قال: والرابعة؟ قال: أن يغفر الله لي ولك وله وللحاضري، قال: هذه واحدة ليست إلي، فلما بات رأى في المنام كأن قائلاً قال له: أنت فعلت ما كان إليك، أتراني لا أفعل ما كان إلي؟ قد غفرت لك وللغلام ولمنصور وللحاضرين أجمعين.
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.


* كتاب: حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر
المؤلف: محمد بن محمد بن محمد، أبو بكر ابن عاصم القيسي الغرناطي (المتوفى: 829هـ)


صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...