نقوس المهدي
كاتب
جمال الدين بن النجار
إبراهيم بن سليمان بن حمزة بن خليفة، جمال الدين بن النجار الدمشقي المجود. ولد بدمشق سنة تسع وخمسمائة وتوفي سنة إحدى وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى. وحدث وكتب في الإجازات، وكتب عليه أبناء البلد، وله نظم وأدب، وسافر إلى حلب وبغداد، وكتب للأمجد صاحب بعلبك، وسافر إلى الاسكندرية وتولى نقابة الأشراف بها، وسمع بدمشق من التاج الكندي وغيره.
ومن شعره ما قاله في أسود شائب:
يا ربّ أسود شائب أبصرته ... وكأنّ عينيه لظىً وقّاد
فحسبته فحماً بدت في بعضه ... نارٌ وباقيه عليه رماد
وله أيضاً:
ما لهذي العيون قاتلها الل؟ ... ؟ هـ تسمّى لواحظاً وهي نبل
ولهذا الذي يسمونه العش؟ ... ق مجازاً وفي الحقيقة قتل؟؟
ولقلبي يقول أسلو فإن قل؟ ... ت نعم قال لست والله أسلو
وله أيضاً:
ومغرمٍ بالبدال قلت له ... يا ولدي قد وقعت في التعب
طوراً على الرّاحتين منبطحاً ... وتارة جاثياً على الركب
دخلٌ وخرجٌ وليس بينهما ... في اليد من فضة ولا ذهبِ (1)
أيسر ما فيه أن مسلكه ... تأمن فيه من عين مرتقب
وعندنا قهوةٌ معتّقةٌ ... كأنّ في كأسها سنا لهب
ومن بنات القيان مخطفةٌ ... تغار منها الأغصان في الكثب
ومطربٌ يحسن الغناء لنا ... إن كنت ممن يقول بالطرب
ولست تخلو مع كل ذلك من ... عمود أير كالزّند منتصب
ينطح نطح الكباش متصلاً ... بطول رهزٍ كالخرز في القربِ
وله أيضاً:
لقد نبتت في صحن خدّك لحية ... تأنّق فيها صانع الإنس والجنّ
وما كنت محتاجاً إلى حسن نبتها ... ولكنها زادتك حسناً إلى حسن
***
ابن سهل الإسلامي
إبراهيم بن سهل الإسرائيلي؛ قال ابن الأبار في تحفة القادم (2) : كان من الأدباء الأذكياء الشعراء، مات غريقاً مع ابن خلاص (3) والي سبتة سنة تسع وأربعين وستمائة، وكان سنه نحو الأربعين أو ما فوقها، وكان قد أسلم وقرأ القرآن، وكتب لابن خلاص بسبتة فكان من أمره ما كان.
قال أثير الدين أبو حيان: هو إبراهيم بن سهل الإشبيلي الإسلامي، أديب ماهر، دون شعره في مجلد، وكان يهودياً فأسلم، وله قصيدة مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، وأكثر شعره في صبي يهودي كان يهواه، وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم.
قلت: والقصيدة النبوية على حرف العين، ذكرها ابن الأبار في ترجمة المذكور.
وكان يهوى يهودياً اسمه موسى فتركه، وهو شاباً اسمه محمد، فقيل له في ذلك
فقال:
تركت هوى موسى لحبّ محمّد ... ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي
وما عن قلىً منّي تركت وإنما ... شريعة موسى عطّلت بمحمّدٍ
قال الشيخ أثير الدين: أخبرنا قاضي الجماعة قال: نظم الهيثم (1) قصيدة يمدح بها المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود ملك الأندلس، وكانت أعلامه سوداء لأنه كان بايع الخليفة ببغداد، فوقف إبراهيم بن سهل على قصيدة الهيثم وهو ينشدها لبعض أصحابه، وكان إبراهيم إذ ذاك صغيراً، فقال إبراهيم للهيثم: زد بين البيت الفلاني والبيت الفلاني:
أعلامه السود إعلاماً بسؤدده ... كأنهنّ بخدّ الملك خيلانُ فقال له الهيثم: هذا البيت ترويه أم نظمته؟ قال: بل نظمته الساعة، فقال الهيثم: إن عاش هذا ليكونن (2) أشعر أهل الأندلس.
والقصيدة التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم (3) :
وركبٍ دعتهم نحو طيبة نية ... فما وجدت إلاّ مطيعاً وسامعا
يسابق وخد العيس ماء شؤونهم ... فيقفون بالسوق المدى والمدامعا
إذا انعطفوا أو رجّعوا الذكر خلتهم ... غصوناً لداناً أو حماماً (4) سواجعا
تضيء من التقوى حنايا صدورهم ... وقد لبسوا اللّيل البهيم مدارعا
تكاد مناجاة النبيّ محمّدٍ ... تنمّ بهم مسكاّ على الشم ذائعا
تلاقى على ورد اليقين قلوبهم ... خوافق يذكرن القطا والمشارعا
قلوبٌ عرفن الحقّ فهي قد انطوت ... عليها جنوبٌ ما عرفن المضاجعا
سقوا دمعهم غرس الأسى في ثرى الجوى ... فأنبت أزهار الشحوب الفواقعا
تساقوا لبان الصدق محضاً بعزمهم ... وحرّم تفريطي عليّ المراضعا
وهي طويلة؛ ومن شعره (1) :
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خبري
أبيت أسجع بالشكوى وأشرب من ... دمعي وأنشق ريّا ذكرك العطر
حتى أخيّل أني شاربٌ ثملٌ ... بين الرياض وبين الكأس والوتر
بعض المحاسن يهوى بعضها عجباً ... تأملوا كيف هام الغنج بالخفر
إن تقصني فنفارٌ جاء من رشإٍ ... أو تضنني (2) فمحاقٌ جاء من قمر
وله أيضاً (3) :
ردّوا على طرفي النوم الذي سلبا ... وخبروني بقلبي أيّةً ذهبا
علمت لما رضيت الحبّ منزلة ... أن المنام على عينيّ قد غضبا
فقلت (4) واحربا والصمت أجدر بي ... قد يغضب الحبّ إن ناديت واحربا
إني له عن دمي المسفوك معتذرٌ ... قول حملته في سفكه تعبا
نفسي تلذّ الأسى فيه وتألفه ... هل تعملون لنفسي في الجوى نسبا
قالوا عهدناك من أهل الرشاد فما ... أغواك؟ قلت اطلبوا في لحظه السببا
من صاغه الله من ماء الحياة وقد ... جرت بقيّته في ثغره شنبا
يا غائباً مقلتي تهمي لفرقته ... والقطر إن حجبت شمس الضحى انسكبا
كم ليلةٍ بتّها والنجم يشهد لي ... رهين شوقٍ إذا غالبته غلبا
مردداً في الدجى لهفاً ولو نطقت ... نجومها ردّدت من حالتي عجبا
ماذا ترى في محبّ ما ذكرت له ... إلاّ بكى أو شكا أو حنّ أو طربا
يرى خيالك في الماء الزلال وما ... ذاق الشراب فيروى وهو ما شربا
وله أيضاً (1) :
ولما عزمنا ولم يبق من ... مصانعة الشوق غير اليسير (2)
بكيت على النهر أخفي الدموع ... فعرّضها لونها للظّهور
ولو عرف السّفر حالي إذن ... لما صحبوني عند المسير
إذا ما سرى نفسي في الشراع ... أعادهم نحو حمصٍ زفيري
وقفت سحيراً وغالبت شوقي ... ونادى الأسى حسنه من مجيري
أنار وقد لفحت زفرتي ... فصار الغدوّ كوقت الهجير
ومنّ الفراق بتوديعه ... فشبهت ناعي النوى بالبشير
وقبّلت وجنته في الدّموع ... كما التقطت وردةٌ من غدير
وقبلت في الترب منه خطاً ... أميّزها بشميم العبير
تغرّب نومي عن مقلتي ... وأما حديث المنى في ضميري
أموسى تهنّ (3) نعيم الكرى ... فليلي بعدك ليل الضرير
وله أيضاً (4) :
كأن الخال في وجنات موسى ... سواد العتب في نور الوداد
أخطّ لصدغه في الحسن واو ... فنقطة خاله بعض المداد
لواحظه محيّرة ولكن ... بها اهتدت الشجون إلى فؤادي
وله مخمس (5) :
غريب الحسن عنّ لنا فعنّى ... ووسنانٌ طريق الهجر سنّا
ثنى أعطافه فاستعطفتنا ... أغنّ عن الرشا والبدر أغنى فهمنا سرّ مقلته فهمنا ...
شكوت له من الحرق التهابا ... فأسداها مراشفه العذابا
فكانت رحمة لقيت عذابا ... ومال وقد تطارحنا العتابا كأني طائرٌ ناجيت غصنا ...
أمولىً حاز حتى الحسن عبدا ... حكيت الورد لي عهداً وخدّا
ونجم الأفق إشراقاً وبعدا ... وسوّى الله بدر التمّ فردا فإذ سوّاك قال الناس: ثنّى ...
أخاف على مكانك من فؤادي ... فلا تضرمه ناراً بالبعاد
ودع حظاً لطيفك من رقادي ... تنازعني الكواكب في سهاد وتعجز عن دموع سح معنا ...
أحوريّ الطّهارة والجمال ... هجرت الخلد هجراً عن دلال
أول تركت الحور بعدك في ضلال ... فمن للناس عندك بالوصال وقد فارقت رضواناً وعدنا ...
وسيم الحسن قيّض لي لأشقى ... فليت ابن البقاء عليّ أبقى
أيوسف إنني يعقوب حقّا ... كملت ملاحةً وكملت عشقا فمن ذا مثلنا حسناً وحزنا ...
وله أيضاً موشح (1) :
يا لحظاتٍ للفتن ... في كرها أوفى نصيب
ترمي وكلّي مقتل ... وكلها سهمٌ مصيب
اللوم (1) للأحي مباح ... أما قبوله فلا
علّقته وجه صباح ... ريق طلاً عنق (2) طلا
كالظبي ثغره أقاح ... وما ارتعى شيح الفلا (3)
يا ظبي خذ قلبي وطن ... فأنت في الإنس غريب
وارتع فدمعي سلسل ... ومهجتي مرعىً خصيب
بين اللّمى والحور ... منه الحياة والأجل
سقت مياه الخفر ... في خده ورد الخجل
زرعته (4) بالنّظر ... وأجتنيه بالأمل
في طرفه (5) الساجي وسن ... سهّد أجفان الكئيب
والردف فيه ثقل ... خفّ له عقل اللبيب
أهدى إلى حرّ العتاب ... برد اللّمى وقد وقد
فلو (6) لثمته لذاب ... من زفرتي ذاك البردْ
ثم لوى جيد كعاب ... ما حليه (1) إلاّ الغيد
في نزعة الظبي الأغن ... وهزة الغصن الرطيب
يجري لدمعي جدول ... فينثني منه قضيب
أأنت حورا أرسلك ... رضوان صدقاً للخبر
قطّعت القلوب لك ... وقيل ما هذا بشر
أمّ الصفا مضنىً هلك ... من النوى أم الكدر
حتى تزكيه المحن ... أمر الهوى أمر غريب
كأنّ عشقي مندل ... زاد (2) بنار الهجر طيب
أغربت في الحسن البديع ... فصار دمعي مغربا
شمل الهوى عندي جميع ... وأدمعي أيدي سبا
فإستمع عبداً مطيع ... غنى لبعض الرقبا
هذا الرقيب ما أسواه يظن ... ايش لو كان لانسان مريب
مولاي قم تا نعملو (3) ... ذاك الذي ظن الرقيب
وله أيضاً موشح (1) :
روض نضير وشادن وطلا ... فاجتن زهر الربيع والقبلا
واشرب يا ساقياً ما وقيت فتنته ... حكت رحيق الكؤس صورته ... فمثّلت ثغره ووجنته ...
هذا حباب كالسلك (2) معتدلا ... وذا رحيق لدى الزجاج علا
كوكب أقمت حرب الهوى على ساق ... وبعت عقلي بالخمر من ساقي ... أسهر جفني بنوم أحداق ...
تمثّل السحر وسطها كحلا ... معتلةٌ وهي تبرىء العللا
فاعجب قلبك صخر والجسم من ذهب ... أيا سميّ النبيّ يا ذهبي (3) ... جاورت من مهجتي أبا لهب ...
يا باخلاً لا أذمّ ما فعلا ... صيرت عندي محبة البخلا
مذهب يا منيتي المنى من الخدع ... ما نلت سؤلي ولا الفؤاد معي ... هل عنك (4) صبر أو فيك من طمع ...
أفنيت فيك الدموع والحيلا ... فلا سلوّاً في الحب نلت ولا مأرب
أتيت أشكوه لوعتي عجبا ... فصدّ عنّي بوجهه غضبا ... فعند هذا ناديت واحربا ...
تصدّ عني يا منيتي مللا ... وأشتكي من صدودك العللا تغضب (1)
وله من قصيدة في محبوبه موسى (2) :
وإني لثوب الحزن أجدر لابسٍ ... وموسى لثوب الحسن أحسن مرتد (3)
تأمّل لظى شوقي وموسى يشبّها ... تجد خير نار عندها خير موقد
إذا ما رنا شزراً فقل لحظ أحورٍ ... وإن يلو إعراضاً فصفحة أغيد
وعذّب بالي أنعم الله باله ... وسهّدني لا ذاق طعم التسهد
شكوت فجاءوا بالطبيب، وإنّما ... طبيب سقامي في لواحظ مبعدي
فقال على التأنيس طبّك حاضرٌ ... فقلت نعم لو أنه بعض عوّدي
بكيت فقال الحبّ هزواً أتشتري ... بماء جفونٍ ماء ثغر منضد
فأنشدته شعراً به أستميله ... فأبدى ازدراء بابن حجرٍ ومعبد
كأنّي بصرف البين حان فجاد لي ... بأحلى سلامٍ منه أفظع مشهد
تغنمت منه السير خلفي مشيّعاً ... فأقبلت أمشي مثل مشي المقيد
وجاء لتوديعي فقلت له اتئد ... مشت لك روحي في الزفير المصعد
جعلت يميني كالنّطاق لخصره ... وصاغت جفوني حلي ذاك المقلّد
وجدت بذوب التبر فوق مورّسٍ ... وضنّ بذوب الدرّ فوق مورد
ومسّح أجفاني ببرد بنانه ... فألّف بين المزن والسوسن الندي
فيا آفة العقل الحصيف وصبوة ال ... عفيف وغيّ النّاسك المتعبّد
رعيت لحاظي في جمالك آمناً ... فأذهلني عن مصدري حسن مورد
أظلّ ويومي فيك هجرٌ ووحشةٌ ... ويومي بحمد الله أحسن من غدي
وصالك أشهى من معاودة الصبا ... وأطيب من عيش الزمان الممهد
عليك فطمت العين من لذة الكرى ... وأخرجت قلبي طيّب النفس من يدي
وله أيضاً (1) :
ضمانٌ على عينيك أني عاني ... صرفت إلى أيدي العناء عناني
وقد كنت أرجو الوصل منك غنيمة ... فحسبي منك اليوم نيل أماني
ومن لي بجسم أشتكي منه بالضنا ... وقلبٍ فأشكو منه بالخفقان
وما عشت حتى اليوم إلاّ لأنّني ... خفيت فما يدري الحمام مكاني
ولو أنّ عمري عمر نوح وبعته (2) ... بساعة وصلٍ منك قلت: كفاني
وما ماء ذاك الريق عندي غالياً ... بماء شبابي واقتبال زماني
خليليّ عندي في السّلوّ بلادة ... فإن شئتما علم الهوى فسلاني
خذا عدداً من مات من ألم الهوى ... فإن كان فرداً فاحسباني ثاني
وله أيضاً (3) :
يقولون لو قبّلته لاشتفى الجوى ... أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا
ولو غفل الواشي لقبلت نعله ... أنزّهه أن أذكر الجيد والثغرا
وما أنا من يستحمل الريح سرّه ... أغار حفاظاً أن أذيع له سرّا
إذا فئة العذّال جاءت بسحرها ... ففي وجه موسى آية تبطل السحرا
وله من أبيات (4) :
غضّ الصبا يسفر عن منظرٍ ... أحسن من عصر الصبا المقبل
صوّر من نور ومن فتنةٍ ... والناس من ماء ومن صلصل
أحلت أشواقي على ذكره ... أسلّط النار على المندل
أخشى عليك العار من قولهم: ... معتدل القمامة لم يعدل
وقال أيضاً (1) :
أموسى ولم أهجرك والله إنّما ... هجرت الكرى والأنس واللب والصبرا
تركتك لا غدراً بعهدك بل أرى ... حياتي ذنباً بعد بعدك أو غدرا
قنعت على رغمي بذكرك وحده ... أدير عليه الخمر والأدمع الحمرا
أقبل من كاس المدير حبابها ... إذا مثلت عندي المنى ذلك الثغرا
وله أيضاً (2) :
لاموا فلما لاح موضع صبوتي ... قالوا لقد جئت الهوى من بابه
شرقت بدمعي وجنتي شوقاً إلى ... ذي وجنة شرقت بماء شبابه
حلو الكلام كأنّما ألفاظه ... يشربن عند النطق شهد رضابه
بالله يا موسى وقد لذّ الردى ... اجبر ولا تبق الجريح بما به
هاروت أودع في لحاظك سحره ... فأصاب قلبي منك مثل عذابه
وديوانه كله من هذا النوع، رحمه الله تعالى وسامحه.
* فوات الوفيات
المؤلف: محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن شاكر بن هارون بن شاكر الملقب بصلاح الدين (المتوفى: 764هـ)
المحقق: إحسان عباس
.../...
إبراهيم بن سليمان بن حمزة بن خليفة، جمال الدين بن النجار الدمشقي المجود. ولد بدمشق سنة تسع وخمسمائة وتوفي سنة إحدى وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى. وحدث وكتب في الإجازات، وكتب عليه أبناء البلد، وله نظم وأدب، وسافر إلى حلب وبغداد، وكتب للأمجد صاحب بعلبك، وسافر إلى الاسكندرية وتولى نقابة الأشراف بها، وسمع بدمشق من التاج الكندي وغيره.
ومن شعره ما قاله في أسود شائب:
يا ربّ أسود شائب أبصرته ... وكأنّ عينيه لظىً وقّاد
فحسبته فحماً بدت في بعضه ... نارٌ وباقيه عليه رماد
وله أيضاً:
ما لهذي العيون قاتلها الل؟ ... ؟ هـ تسمّى لواحظاً وهي نبل
ولهذا الذي يسمونه العش؟ ... ق مجازاً وفي الحقيقة قتل؟؟
ولقلبي يقول أسلو فإن قل؟ ... ت نعم قال لست والله أسلو
وله أيضاً:
ومغرمٍ بالبدال قلت له ... يا ولدي قد وقعت في التعب
طوراً على الرّاحتين منبطحاً ... وتارة جاثياً على الركب
دخلٌ وخرجٌ وليس بينهما ... في اليد من فضة ولا ذهبِ (1)
أيسر ما فيه أن مسلكه ... تأمن فيه من عين مرتقب
وعندنا قهوةٌ معتّقةٌ ... كأنّ في كأسها سنا لهب
ومن بنات القيان مخطفةٌ ... تغار منها الأغصان في الكثب
ومطربٌ يحسن الغناء لنا ... إن كنت ممن يقول بالطرب
ولست تخلو مع كل ذلك من ... عمود أير كالزّند منتصب
ينطح نطح الكباش متصلاً ... بطول رهزٍ كالخرز في القربِ
وله أيضاً:
لقد نبتت في صحن خدّك لحية ... تأنّق فيها صانع الإنس والجنّ
وما كنت محتاجاً إلى حسن نبتها ... ولكنها زادتك حسناً إلى حسن
***
ابن سهل الإسلامي
إبراهيم بن سهل الإسرائيلي؛ قال ابن الأبار في تحفة القادم (2) : كان من الأدباء الأذكياء الشعراء، مات غريقاً مع ابن خلاص (3) والي سبتة سنة تسع وأربعين وستمائة، وكان سنه نحو الأربعين أو ما فوقها، وكان قد أسلم وقرأ القرآن، وكتب لابن خلاص بسبتة فكان من أمره ما كان.
قال أثير الدين أبو حيان: هو إبراهيم بن سهل الإشبيلي الإسلامي، أديب ماهر، دون شعره في مجلد، وكان يهودياً فأسلم، وله قصيدة مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، وأكثر شعره في صبي يهودي كان يهواه، وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم.
قلت: والقصيدة النبوية على حرف العين، ذكرها ابن الأبار في ترجمة المذكور.
وكان يهوى يهودياً اسمه موسى فتركه، وهو شاباً اسمه محمد، فقيل له في ذلك
فقال:
تركت هوى موسى لحبّ محمّد ... ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي
وما عن قلىً منّي تركت وإنما ... شريعة موسى عطّلت بمحمّدٍ
قال الشيخ أثير الدين: أخبرنا قاضي الجماعة قال: نظم الهيثم (1) قصيدة يمدح بها المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود ملك الأندلس، وكانت أعلامه سوداء لأنه كان بايع الخليفة ببغداد، فوقف إبراهيم بن سهل على قصيدة الهيثم وهو ينشدها لبعض أصحابه، وكان إبراهيم إذ ذاك صغيراً، فقال إبراهيم للهيثم: زد بين البيت الفلاني والبيت الفلاني:
أعلامه السود إعلاماً بسؤدده ... كأنهنّ بخدّ الملك خيلانُ فقال له الهيثم: هذا البيت ترويه أم نظمته؟ قال: بل نظمته الساعة، فقال الهيثم: إن عاش هذا ليكونن (2) أشعر أهل الأندلس.
والقصيدة التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم (3) :
وركبٍ دعتهم نحو طيبة نية ... فما وجدت إلاّ مطيعاً وسامعا
يسابق وخد العيس ماء شؤونهم ... فيقفون بالسوق المدى والمدامعا
إذا انعطفوا أو رجّعوا الذكر خلتهم ... غصوناً لداناً أو حماماً (4) سواجعا
تضيء من التقوى حنايا صدورهم ... وقد لبسوا اللّيل البهيم مدارعا
تكاد مناجاة النبيّ محمّدٍ ... تنمّ بهم مسكاّ على الشم ذائعا
تلاقى على ورد اليقين قلوبهم ... خوافق يذكرن القطا والمشارعا
قلوبٌ عرفن الحقّ فهي قد انطوت ... عليها جنوبٌ ما عرفن المضاجعا
سقوا دمعهم غرس الأسى في ثرى الجوى ... فأنبت أزهار الشحوب الفواقعا
تساقوا لبان الصدق محضاً بعزمهم ... وحرّم تفريطي عليّ المراضعا
وهي طويلة؛ ومن شعره (1) :
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خبري
أبيت أسجع بالشكوى وأشرب من ... دمعي وأنشق ريّا ذكرك العطر
حتى أخيّل أني شاربٌ ثملٌ ... بين الرياض وبين الكأس والوتر
بعض المحاسن يهوى بعضها عجباً ... تأملوا كيف هام الغنج بالخفر
إن تقصني فنفارٌ جاء من رشإٍ ... أو تضنني (2) فمحاقٌ جاء من قمر
وله أيضاً (3) :
ردّوا على طرفي النوم الذي سلبا ... وخبروني بقلبي أيّةً ذهبا
علمت لما رضيت الحبّ منزلة ... أن المنام على عينيّ قد غضبا
فقلت (4) واحربا والصمت أجدر بي ... قد يغضب الحبّ إن ناديت واحربا
إني له عن دمي المسفوك معتذرٌ ... قول حملته في سفكه تعبا
نفسي تلذّ الأسى فيه وتألفه ... هل تعملون لنفسي في الجوى نسبا
قالوا عهدناك من أهل الرشاد فما ... أغواك؟ قلت اطلبوا في لحظه السببا
من صاغه الله من ماء الحياة وقد ... جرت بقيّته في ثغره شنبا
يا غائباً مقلتي تهمي لفرقته ... والقطر إن حجبت شمس الضحى انسكبا
كم ليلةٍ بتّها والنجم يشهد لي ... رهين شوقٍ إذا غالبته غلبا
مردداً في الدجى لهفاً ولو نطقت ... نجومها ردّدت من حالتي عجبا
ماذا ترى في محبّ ما ذكرت له ... إلاّ بكى أو شكا أو حنّ أو طربا
يرى خيالك في الماء الزلال وما ... ذاق الشراب فيروى وهو ما شربا
وله أيضاً (1) :
ولما عزمنا ولم يبق من ... مصانعة الشوق غير اليسير (2)
بكيت على النهر أخفي الدموع ... فعرّضها لونها للظّهور
ولو عرف السّفر حالي إذن ... لما صحبوني عند المسير
إذا ما سرى نفسي في الشراع ... أعادهم نحو حمصٍ زفيري
وقفت سحيراً وغالبت شوقي ... ونادى الأسى حسنه من مجيري
أنار وقد لفحت زفرتي ... فصار الغدوّ كوقت الهجير
ومنّ الفراق بتوديعه ... فشبهت ناعي النوى بالبشير
وقبّلت وجنته في الدّموع ... كما التقطت وردةٌ من غدير
وقبلت في الترب منه خطاً ... أميّزها بشميم العبير
تغرّب نومي عن مقلتي ... وأما حديث المنى في ضميري
أموسى تهنّ (3) نعيم الكرى ... فليلي بعدك ليل الضرير
وله أيضاً (4) :
كأن الخال في وجنات موسى ... سواد العتب في نور الوداد
أخطّ لصدغه في الحسن واو ... فنقطة خاله بعض المداد
لواحظه محيّرة ولكن ... بها اهتدت الشجون إلى فؤادي
وله مخمس (5) :
غريب الحسن عنّ لنا فعنّى ... ووسنانٌ طريق الهجر سنّا
ثنى أعطافه فاستعطفتنا ... أغنّ عن الرشا والبدر أغنى فهمنا سرّ مقلته فهمنا ...
شكوت له من الحرق التهابا ... فأسداها مراشفه العذابا
فكانت رحمة لقيت عذابا ... ومال وقد تطارحنا العتابا كأني طائرٌ ناجيت غصنا ...
أمولىً حاز حتى الحسن عبدا ... حكيت الورد لي عهداً وخدّا
ونجم الأفق إشراقاً وبعدا ... وسوّى الله بدر التمّ فردا فإذ سوّاك قال الناس: ثنّى ...
أخاف على مكانك من فؤادي ... فلا تضرمه ناراً بالبعاد
ودع حظاً لطيفك من رقادي ... تنازعني الكواكب في سهاد وتعجز عن دموع سح معنا ...
أحوريّ الطّهارة والجمال ... هجرت الخلد هجراً عن دلال
أول تركت الحور بعدك في ضلال ... فمن للناس عندك بالوصال وقد فارقت رضواناً وعدنا ...
وسيم الحسن قيّض لي لأشقى ... فليت ابن البقاء عليّ أبقى
أيوسف إنني يعقوب حقّا ... كملت ملاحةً وكملت عشقا فمن ذا مثلنا حسناً وحزنا ...
وله أيضاً موشح (1) :
يا لحظاتٍ للفتن ... في كرها أوفى نصيب
ترمي وكلّي مقتل ... وكلها سهمٌ مصيب
اللوم (1) للأحي مباح ... أما قبوله فلا
علّقته وجه صباح ... ريق طلاً عنق (2) طلا
كالظبي ثغره أقاح ... وما ارتعى شيح الفلا (3)
يا ظبي خذ قلبي وطن ... فأنت في الإنس غريب
وارتع فدمعي سلسل ... ومهجتي مرعىً خصيب
بين اللّمى والحور ... منه الحياة والأجل
سقت مياه الخفر ... في خده ورد الخجل
زرعته (4) بالنّظر ... وأجتنيه بالأمل
في طرفه (5) الساجي وسن ... سهّد أجفان الكئيب
والردف فيه ثقل ... خفّ له عقل اللبيب
أهدى إلى حرّ العتاب ... برد اللّمى وقد وقد
فلو (6) لثمته لذاب ... من زفرتي ذاك البردْ
ثم لوى جيد كعاب ... ما حليه (1) إلاّ الغيد
في نزعة الظبي الأغن ... وهزة الغصن الرطيب
يجري لدمعي جدول ... فينثني منه قضيب
أأنت حورا أرسلك ... رضوان صدقاً للخبر
قطّعت القلوب لك ... وقيل ما هذا بشر
أمّ الصفا مضنىً هلك ... من النوى أم الكدر
حتى تزكيه المحن ... أمر الهوى أمر غريب
كأنّ عشقي مندل ... زاد (2) بنار الهجر طيب
أغربت في الحسن البديع ... فصار دمعي مغربا
شمل الهوى عندي جميع ... وأدمعي أيدي سبا
فإستمع عبداً مطيع ... غنى لبعض الرقبا
هذا الرقيب ما أسواه يظن ... ايش لو كان لانسان مريب
مولاي قم تا نعملو (3) ... ذاك الذي ظن الرقيب
وله أيضاً موشح (1) :
روض نضير وشادن وطلا ... فاجتن زهر الربيع والقبلا
واشرب يا ساقياً ما وقيت فتنته ... حكت رحيق الكؤس صورته ... فمثّلت ثغره ووجنته ...
هذا حباب كالسلك (2) معتدلا ... وذا رحيق لدى الزجاج علا
كوكب أقمت حرب الهوى على ساق ... وبعت عقلي بالخمر من ساقي ... أسهر جفني بنوم أحداق ...
تمثّل السحر وسطها كحلا ... معتلةٌ وهي تبرىء العللا
فاعجب قلبك صخر والجسم من ذهب ... أيا سميّ النبيّ يا ذهبي (3) ... جاورت من مهجتي أبا لهب ...
يا باخلاً لا أذمّ ما فعلا ... صيرت عندي محبة البخلا
مذهب يا منيتي المنى من الخدع ... ما نلت سؤلي ولا الفؤاد معي ... هل عنك (4) صبر أو فيك من طمع ...
أفنيت فيك الدموع والحيلا ... فلا سلوّاً في الحب نلت ولا مأرب
أتيت أشكوه لوعتي عجبا ... فصدّ عنّي بوجهه غضبا ... فعند هذا ناديت واحربا ...
تصدّ عني يا منيتي مللا ... وأشتكي من صدودك العللا تغضب (1)
وله من قصيدة في محبوبه موسى (2) :
وإني لثوب الحزن أجدر لابسٍ ... وموسى لثوب الحسن أحسن مرتد (3)
تأمّل لظى شوقي وموسى يشبّها ... تجد خير نار عندها خير موقد
إذا ما رنا شزراً فقل لحظ أحورٍ ... وإن يلو إعراضاً فصفحة أغيد
وعذّب بالي أنعم الله باله ... وسهّدني لا ذاق طعم التسهد
شكوت فجاءوا بالطبيب، وإنّما ... طبيب سقامي في لواحظ مبعدي
فقال على التأنيس طبّك حاضرٌ ... فقلت نعم لو أنه بعض عوّدي
بكيت فقال الحبّ هزواً أتشتري ... بماء جفونٍ ماء ثغر منضد
فأنشدته شعراً به أستميله ... فأبدى ازدراء بابن حجرٍ ومعبد
كأنّي بصرف البين حان فجاد لي ... بأحلى سلامٍ منه أفظع مشهد
تغنمت منه السير خلفي مشيّعاً ... فأقبلت أمشي مثل مشي المقيد
وجاء لتوديعي فقلت له اتئد ... مشت لك روحي في الزفير المصعد
جعلت يميني كالنّطاق لخصره ... وصاغت جفوني حلي ذاك المقلّد
وجدت بذوب التبر فوق مورّسٍ ... وضنّ بذوب الدرّ فوق مورد
ومسّح أجفاني ببرد بنانه ... فألّف بين المزن والسوسن الندي
فيا آفة العقل الحصيف وصبوة ال ... عفيف وغيّ النّاسك المتعبّد
رعيت لحاظي في جمالك آمناً ... فأذهلني عن مصدري حسن مورد
أظلّ ويومي فيك هجرٌ ووحشةٌ ... ويومي بحمد الله أحسن من غدي
وصالك أشهى من معاودة الصبا ... وأطيب من عيش الزمان الممهد
عليك فطمت العين من لذة الكرى ... وأخرجت قلبي طيّب النفس من يدي
وله أيضاً (1) :
ضمانٌ على عينيك أني عاني ... صرفت إلى أيدي العناء عناني
وقد كنت أرجو الوصل منك غنيمة ... فحسبي منك اليوم نيل أماني
ومن لي بجسم أشتكي منه بالضنا ... وقلبٍ فأشكو منه بالخفقان
وما عشت حتى اليوم إلاّ لأنّني ... خفيت فما يدري الحمام مكاني
ولو أنّ عمري عمر نوح وبعته (2) ... بساعة وصلٍ منك قلت: كفاني
وما ماء ذاك الريق عندي غالياً ... بماء شبابي واقتبال زماني
خليليّ عندي في السّلوّ بلادة ... فإن شئتما علم الهوى فسلاني
خذا عدداً من مات من ألم الهوى ... فإن كان فرداً فاحسباني ثاني
وله أيضاً (3) :
يقولون لو قبّلته لاشتفى الجوى ... أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا
ولو غفل الواشي لقبلت نعله ... أنزّهه أن أذكر الجيد والثغرا
وما أنا من يستحمل الريح سرّه ... أغار حفاظاً أن أذيع له سرّا
إذا فئة العذّال جاءت بسحرها ... ففي وجه موسى آية تبطل السحرا
وله من أبيات (4) :
غضّ الصبا يسفر عن منظرٍ ... أحسن من عصر الصبا المقبل
صوّر من نور ومن فتنةٍ ... والناس من ماء ومن صلصل
أحلت أشواقي على ذكره ... أسلّط النار على المندل
أخشى عليك العار من قولهم: ... معتدل القمامة لم يعدل
وقال أيضاً (1) :
أموسى ولم أهجرك والله إنّما ... هجرت الكرى والأنس واللب والصبرا
تركتك لا غدراً بعهدك بل أرى ... حياتي ذنباً بعد بعدك أو غدرا
قنعت على رغمي بذكرك وحده ... أدير عليه الخمر والأدمع الحمرا
أقبل من كاس المدير حبابها ... إذا مثلت عندي المنى ذلك الثغرا
وله أيضاً (2) :
لاموا فلما لاح موضع صبوتي ... قالوا لقد جئت الهوى من بابه
شرقت بدمعي وجنتي شوقاً إلى ... ذي وجنة شرقت بماء شبابه
حلو الكلام كأنّما ألفاظه ... يشربن عند النطق شهد رضابه
بالله يا موسى وقد لذّ الردى ... اجبر ولا تبق الجريح بما به
هاروت أودع في لحاظك سحره ... فأصاب قلبي منك مثل عذابه
وديوانه كله من هذا النوع، رحمه الله تعالى وسامحه.
* فوات الوفيات
المؤلف: محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن شاكر بن هارون بن شاكر الملقب بصلاح الدين (المتوفى: 764هـ)
المحقق: إحسان عباس
.../...
صورة مفقودة