علي حسين - وجوه الحب الثلاثون..

من دون النساء لا أستطيع أن أعمل شيئاً
علي حسين

21

في الساعة الحادية عشرة من ليلة الخامس والعشرين من تشرين الأول عام 1881، وفي إحدى قرى الجنوب الإسباني، أبلغ معلم الرسم جوزيه بلاسكو بأن زوجته انجبت له طفلاً ميتاً، تسلم الجسد الطري وهو ينظر بحسرة الى الطفل الذي كان يتمنى أن يعلمه الرسم، في تلك اللحظة تقدم العم سلفادور بلاسكو وحمل الطفل بين يديه، نافخاً في وجهه دخان سيجارته ، وفجأة تحرك الجسد الصغير وصرخ الطفل، وقع الأب مغشياً عليه ، وهو يصرخ "ابني حي".

وقد اخبرته عمته فيما بعد وهو في العاشرة من عمره ، أنه يشبه اشبال الأسود التي تولد ميتة الى أن ينفث الأسد فيها فتدب الحياة في أوصالها، كانت هذه الحكاية جزءاً من المعتقدات التي يؤمن بها القرويون في إسبانيا ، وأضافت العمة، أن حياة ابن أخيها ستكون أشبه بحياة الأسد، متقلب المزاج، يهوى مطاردة فريسته الى أن ينقض عليها، وسيكون دائم الحركة، حتى وهو نائم لايعرف الراحة.. أطلق على هذا الطفل اسم بابلو جوزيه بلاسكو، لكنه اختار فيما بعد، أن يضع اسم أمّه الى جانب اسمه وهو يوقع أولى لوحاته "بابلو بيكاسو" ، فقد كانت ماريا لوبيز بيكاسو أول حب في حياته ، ويكتب في احدى رسائله: "كل النساء اللواتي عشقت تمنيت لو أن اسمهن ماريا لوبيز، فعندما كنت صغيراً كانت امي تقول لي: عندما تكبر ستلاحقك النساء، فأحذر أن تقع في شباكهن، وكنت اتمنى أن اقع في شباكها هي" . حين دخل مدرسة الفنون الجميلة في برشلونة، كان أول رسم حققهُ بالألوان "بورتريه لأمّه" التي : "فهمتني أكثر من أي إنسان في العالم" وأصرّت على أن ابنها سيصبح في يوم من الأيام عبقرياً : "اعتقد أن كل شيء ممكن بالنسبة لك، ولو قيل لي يوم أنك غنيت لصدقت ذلك أيضاً" .
ويبدو أن نبوءة عمّته قد تحققت، فما أن بلغ العشرين من عمره حتى ظهرت النساء في حياته، فرناند، ايفا، اولغا، ماري تيريز، دورا مارا، فرانسواز، جنفياف، جاكلين. سُئل يوماً ما الذي يستهويه في المرأة ؟ فأجاب عنادها قبل جمالها؟ وقال يوماً لجنفياف: أنا في الحب مثل الرجل الأعمى، أحب الأشياء التي لا أراها ، وإنما احس بها ".
ويقول للناقد الفني الشهير هربرت ريد: "منذ الوهلة الأولى نبتت في داخلي الرغبة في المغامرة، وحب عذريات الوجود. فالمرأة تشدني دائماً، إنها في هذا العالم مثل الأسماك الحمراء ".
************

فرناند اول القائمة
في ليلة من ليالي نيسان عام 1904 ، شاهدها وهي تركض باتجاه البناية التي يقع فيها مرسمه، كان المطر غزيراً، أصطدمت به دون أن تراه
- آه عفواً يبدو أن هناك أحداً
كان الرجل القصير يحمل بين ذراعيه قطّة صغيرة أراد أن ينقذها من الوحل : التقطتها من الشارع، كانت تائهة وتُقاسي البرد .
ومن دون أن تشعر تناولت القطّة من يده، كانت هذه الفتاة اسمها "فرناند اوليفيه" وستصبح أولى النساء في مجموعته التي ضمّت سبع نساء، وقد قالت عنه فيما بعد: "عندما رأيته للمرة الأولى ظننته يعمل بهلواناً في السيرك، كان يرتدي قميصاً وردياً وربطة خضراء ومعطفاً أسود يصل الى قدميه".
كانت تصغره بثلاثة أعوام، من عائلة بسيطة، تعمل موديلاً بعد أن فشلت في تجربة زواج قاسية، وعندما دعاها الى مرسمهِ وجدت نفسها وسط كومة من اللوحات والإطارات التي تملأ المكان، مرسمهُ يدّل على أنه فقير أيضاً، سرير عتيق وكرسي مربوط به كلب صغير، ومنضدة تتجول في أدراجها الفئران، وقالت لنفسها وهي تتفحص المكان: " ما هذه الحياة البائسة " .
لكنها منذ اللحظة الأولى تركت في نفسه أثراً كبيراً، حتى أنه وصف حبّه لها بـ "الحب الجنوني"، فقرر أن يستحوذ عليها وبدأ يرسمها: امرأة نائمة أمام رجل يجلس قرب السرير، سانداً ذقنه بقبضة يديه، يتأمل مشدوهاً بالمرأة الغارقة في نوم عميق وقد طوت ذراعها على رأسها . لم تمانع فرناند، أن يرسمها بيكاسو من كل الجهات، ومن دون أن يهمل أدقّ التفاصيل، حتى ثيابها التي أصر على أن يرسمها باللون الوردي .
وكان يقول لأصدقائه: "أنا بحاجة الى الحب لأتمكن من العمل، فالحب هو الجدار الواقي الذي يرد الصدمات والخيبات".
لم تكن لوحات بيكاسو آنذاك تحظى باعجاب هواة الفنون، وكان بيكاسو يعيش في فقر دائم: "كنا مفلسين ولم نحظَ يوماً بوجبة طعام فاخرة" هكذا تصف فرنارد حياتها مع بيكاسو، لكنَّها تخبرنا أن الحظ حالفهما ذات يوم: "وصل تاجر اللوحات الشهير فولار الى مرسمنا من غير موعد، وفجأة اشترى 25 لوحة من لوحات بيكاسو ودفع نقداً 2000 فرنك فرنسي ليحولنا من شحاذين الى برجوازيين".
بدأت فرناند تحلم بأن تصبح سيدة وتملك بيتاً وأثاثاً، ورضخ لها بيكاسو الذي وجد لها شقة في حيٍ راق من احياء باريس، هناك عاشت احلامها، فهاهي تملك غرفة نوم حديثة الطراز، وصالة بها بيانو، وضيوف من طبقة اجتماعية راقية، لكنَّ بيكاسو العنيد لم يكن فرحاً بهذه الانتقالة، فهو يحنّ الى مرسمهِ القديم، وأخذ يشعر أن توهجه في طريقه الى الانطفاء، وأخيراً قرر أن يعود الى المرسم ويترك فرنارد لعالمها الجديد، وحين علمت بالأمر، أرادت أن تثير غيرته فارتبطت برسام ايطالي شاب وسافرت معه، لتسدل الستار على أوّل قصة حب، وليبدأ بيكاسو حكاية جديدة مع امرأة اسمها مارسيل ولقّبها هو بـ "إيفا الغامضة".
************

المرأة الغامضة
ظلّت حياتها على شيء من الغموض، وزادها أنها اتخذت لنفسها ثلاثة اسماء ، بيبي ومارسيل وإيفا، عاش معها بيكاسو مرحلة الحب العظيم كما اسماها، وبرغم ذلك لم يرسمها إثباتاً لحبّهِ لها وتأكيداً على أنها ملكٌ له لوحده، ولهذا أصر في تلك المرحلة من حياته أن يوقّع على لوحاته باسم إيفا اضافة الى اسمه، وقد عاملها معاملةً خاصةً، فهي لاتتدخل في أموره الشخصية، وتكتفي بدورها كامرأة الى جانب رجل متميز، ولم تكن تعلق على قوله: "إن الرجل المتميز يحب عمله أكثر من أي شيء في العالم، حتى اكثر من المرأة التي يحب".
رافقته في رحلة صعوده الى الشهرة والنجاح، وكانت بصحبتهِ في تنقلاته، وشهدت معه ولادة مرحلة التكعيبية، ونراه يكتب في كرّاس معرض مشترك مع الرسام براك، عرضت فيه أعمالهما التكعيبية: "كنت قبل أن امسك بالفرشاة، أنظر الى واحد من أجمل الأعمال التي يحتويها بيتي، محبوبتي إيفا ".
في سنة 1914 نشبت الحرب العالمية الأولى، ويشعر بيكاسو بأن الكارثة ستحل قريباً، وبالفعل حلّت حين أخبره الطبيب، أن إيفا مصابة بالسل، ولم يمهلها المرض طويلاً لتتوفى في مطلع عام 1916، فدفنها في مقبرة قريبة من مرسمه، وأصيب بحالة من العزلة والاكتئاب، وفي كتابها بيكاسو، تشير جيرترود ستاين الى أن: "بعد موت إيفا. لم نسمع من بيكاسو أية ضحكة" – جيرترود ستاين بيكاسو، ترجمة ياسين طه حافظ - وحين شاهده صديقه الشاعر أبولينير وهو يغوص في الحزن قال له: "انت بحاجة يا صديقي لضربة سوط حب جديد، وعاطفة جديدة" وكان السوط هذه المرّة امرأة روسية اسمها أولغا .
************

مصيدة الزواج
كانت أولغا كوكلوفا، راقصة استعراضية في فرقة باليه، في العشرين من عمرها، وهو في السادسة والثلاثين، بدأت شهرتها تظهر بوضوح، سحرت بيكاسو ببرائتها التي تشبه براءة الأطفال، فقال له صديقه جان كوكتو: " احذر يا صديقي، إن الروسيات ينشدن الزواج".
صحب بيكاسو أولغا الى إسبانيا، فقدمها الى عائلته، وما أن رأتها والدته حتى قالت لها: "يا صغيرتي المسكينة، لو كنت صديقتك لأقنعتك بالابتعاد عنه وتركه، لأنه لا يستطيع أن يحب امرأة واحدة، مهما كانت جميلة وطيبة ومخلصة. لن يكون ملكاً لها، لن يكون ملكاً سوى للرسم فقط". لكنهما تزوجا في الثاني عشر من تموز عام 1917 ، ليبدأ معها مرحلة جديدة، وتقول له: إذا رسمتني فإنني اريد أن يكون وجهي متميزاً. وقد رسم لها ولابنه باولو، اكثر الصور الشخصية وداعةً ووضوحاً في فنه. كان بيكاسو ينظر الى أولغا بأنها انسانة تعتمد على العقل ولاتعرف أن تسلم أمورها الى الفوضى العارمة، في الرابع من شباط عام 1921 ولد ابنهما البكر بولو، فطلبت أولغا أن ينتقلوا الى سكن جديد، وأن يشتري لهما سيارة فخمة، وأن يدخل خادمة الى البيت، وفي عز نشاطه الفني، بدأت الغيرة تشتعل في نفس أولغا التي كانت تشكو من الفوضى التي تتسم بها حياة بيكاسو، بينما كان يشكو هو من الهدوء والنظام، وبدأت المشاكل، وحين سُئل لماذا لايستطيع العيش مع امرأة واحدة أجاب : "لقد سعيت جاهداً أن أكون مخلصاً للمرأة التي تكون إلى جانبي. فمن الظلم أن أقول أنّي لم أغرم بالنساء اللاتي رافقنني". ولم يكن هناك من حل سوى الفراق، فمنح أولغا قصراً في منطقة بواجولو، وانتقل هو للعيش في مرسم جديد في وسط باريس .
حياة بيكاسو مع أولغا كانت متميزة بالنتاجات التي شكلت علامة مهمّة في حياته ومنها لوحته الشهيرة " الجورنيكا "، وبالرغم من افتراقهما ، إلا أن بيكاسو لم يتخلص من مراقبة أولغا الشديدة، فكانت تطارده في المعارض التي يذهب إليها، ويُقال انها كانت تذهب لتجلس قبالة بيت بيكاسو، لتراقب الزوار الذين يدخلون إليه، وكانت تقول لكل من يراها: "بيكاسو ليس في المنزل، أنا عدت لأعيش معه، لقد تخلّى عن كل النساء من أجلي" وبقيت هكذا حتى وفاتها عام 1955، اثناء فترة الفراق بينه وبين أولغا، عاش بيكاسو متقلباً في علاقته مع النساء، ومرة قال لصديقه الشاعر الفرنسي اراغون: "كيف تستطيع أن تعيش على حب امرأة واحدة، ستصبح في يوم من الأيام عجوزاً".
************

الفتاة المثالية
في عام 1931 يضيف بيكاسو الى قائمته امرأة جديدة، ماري تيريز أو الفتاة المثالية ، كما كان يحب أن يصفها، التقى بها مصادفة وهي تنظر الى احدى اللوحات، كانت شقراء ذات مظهر اغريقي، ركض نحوها وأمسك يدها قائلاً: "أنا بيكاسو سننجز أنا وأنت، معاً أشياء عظيمة" ، لم تكن الفتاة قد بلغت الثامنة عشرة، وعندما تحدث معها عن الرسم والشعر سخرت منه، كانت تعشق الرياضة، وحين أخبره أحد الأصدقاء بفرق العمر بينهما، قال بيكاسو: "لا يهمني كلامهم، اريد أن أصغر 20 سنة جديدة مع كل فتاة جديدة"، لقد وجد فيها الحياة الوردية، وخلال الخمس عشرة سنة التي ارتبط معها بيكاسو بعلاقة غرام، رفضت أن تسكن معه في منزل واحد: "أريد المحافظة على حريتي، ولا أقبل أن أسجن، من أجل حب رجل، في بيت ضيق". وبرغم ذلك اصبحت المرأة المفضلة بين كل نساء بيكاسو، كان يعمل المستحيل لإرضائها، استمر في علاقته المتميزة معها ثماني سنوات، كان فيها يشعر بالهدوء والراحة، إلا أن حياته كانت رتيبة، لامجال للتغيير فيها، ونجده يكتب في دفتر يومياته" :الحب كالفطر، على أنواع، ولاندري إذا كان هذا النوع أو ذاك من الأنواع الجيدة أو السامّة إلا بعد فوات الأوان".
وقد بدأت ماري تشعر بالملل الذي يحيط بحياتها، فحاولت أن تسترجع حياتها السابقة وأن تعود الى ماضيها، وزاد في حيرتها، أن بيكاسو تعرف في ذلك الوقت على الفتاة دورا، التي كان يتعمد رسمها أمام ماري، ففضّلت الابتعاد، كانت قد انجبت له ابنته "مايا"، تركته لمغامرته الجديدة، لكنه ظلّ يزورها كل خميس، مثلما كان يزور زوجته أولغا كل يوم أحد، انه يحتاج الى أن يجمع النساء من حوله، يحتاج الى العواصف والمرح والضحك والغضب، وللنساء خاصة: "بدون النساء لا استطيع أن أعمل شيئاً".
وتحولت الحياة بين بيكاسو وماريا الى مراسلات وزيارات متباعدة، وقد استمرت الحال بينهما لسنوات طويلة، كان خلالها بيكاسو ارتبط بأكثر من امرأة، مما زاد من آلام ماريا وعذاباتها، ولم تستطع تحمّل الغيرة التي تحاصرها، فقررت أن تضع حداً لشكوكها ومرارتها من الحب، فانتحرت في كاراج منزلها، وعثر عليها رجال الشرطة بعد يومين، كانت ابنتها في المدرسة الداخلية، وعلّق بيكاسو على حادث الانتحار بقوله: أنا رجل مسكين، تعذبت كثيراً مع النساء". لكن الصحافة أخذت تحاصره وتعلّق على نبأ الانتحار، بأن بيكاسو هو الذي دفع حبيبته السابقة الى التخلص من حياتها.
ظلَّ بيكاسو يقول للمقربين منه، إن سيحب النساء حتى يفقد عقله، وسيلتصق بهن الى آخر يوم في حياته : "اشعر امام النساء بطاقة بالغة لا تمحى، بل وبالهلع أحياناً، فلا استطيع أن أرسم دون أن أرى امرأة جميلة الى جانبي" .. وكانت المرأة هذه المرة ابنة مهندس يوغسلافي وأم فرنسية .
************
المرأة المفكرة
اسمها دورا ماركوفيتش، وجه جميل، عينان خضراوان، في قوامها نوع من الاثارة، لكنها أيضاً المرأة الأكثر ثقافة من بين جميع النساء اللواتي تعرف عليهن.
كانت دورا شغوفة بالحركة السريالية، وتطالب بيكاسو بأن يرفض كل قديم ، وقد بدأت حياتها كرسامة، ثم مصورة فوتغرافية، التقى بها في أحد المقاهي الباريسية، قال لرفيقه اندريه بريتون وهو ينظر اليها: "انها جميلة جداً".
فرفعت رأسها وابتسمت له فسألها: هل انت أسبانية ؟ أجابت انها عاشت طويلاً في الارجنتين. عرف بيكاسو فيما بعد انها جربت الرسم وفشلت، وإن المشاكل تؤرقها، قالت له: اريد ان أجري حواراً معك، فأجاب بيكاسو: حسناً لنبدأ الآن. وبدأت اللعبة الكبيرة، والحب الكبير، لقد اشتاق بيكاسو للمرأة المفكرة بعد سذاجة ماري تيريز، لقد شعر أن دورا تحمل نفس الهموم والضيق الذي يغمره بين الحين والآخر ويكتب في يومياته: "وجدت فيها لأول مرة الشخص الذي استطيع أن اقول له كل شيء من دون أن انطق".. ومنذ ذلك اللقاء لم يفارقها، كان في السادسة والخمسين من عمره لكنه يبدو في أوج حيويته ونشاطه، تخلت دورا عن الاستوديو الذي كانت تعيش فيه وذهبت لتعيش معه، لكن قصة حبهما لم تدم طويلاً، اذ كانت مشاجراتهما تتكرر كل يوم، وقد رسم بيكاسو دورا في لوحته الشهيرة "المرأة الباكية" ويقول الشاعر الفرنسي بول ايلور: "إن العلاقة المضطربة التي عاشتها دورا مع بيكاسو خلقت في نفسها نوعاً من الضياع والإرتباك " ، لم تعد تعرف كيف تتصرف وذات يوم صرخت في وجهه: "بابلو اترك نصائحك لنفسك" ، ثم بدأت كأنها تعاني مرضاً ما، الأمر الذي دفع بيكاسو الى عرضها على طبيب نفسي ونجده يخبر بول ايلور قائلاً : "كل مرة أتعرف فيها على امرأة جديدة، يجب ان احرق التي مرت قبلها. هكذا أكون حراً طليقاً من دون قيود. ولن تستطيع واحدة، ايّ واحدة، أن تشغلني طيلة حياتي، أو أن تتملكني. اترك المرأة، وانسى الماضي، كل الماضي، ربما هذا يعيدني الى الشباب الدائم".
أقامت دورا معرضاً لأعمالها، عرضت فيه لوحات كان فيها الكثير من روح بيكاسو الذي قال عنها: " ليس للفنان الحرية التامة كما يعتقد، ودورا بالنسبة إلي المرأة التي تبكي، وقد رسمتها هكذا، ليس لأنني سادي، بل لإظهر الحقيقة التي عشتها، وأحسست بها.
أنهى بيكاسو فجأة علاقته بدورا، ولاحت الأفق امرأة جديدة اسمها فرانسوز جيلو التي تعد المرأة الاكثر جرأة في حياة بيكاسو .
************

حياتي مع بيكاسو
في الحادية والعشرين من عمرها تعرفت عليه ، كان قد تجاوز الستين بأعوام ، صاحب اسم كبير وصاحب ثروة هائلة. كانت تحلم بأن تلتقيه، ورسمت في مخيلتها صورة له، شاهدته عن قرب للمرة الأولى عام 1943 كان يجلس في أحد المطاعم، تأملته طويلاً، كانت تشاهد صوره في المجلات والصحف، لكنه في الواقع يختلف كثيراً وفي كتابها "حياتي مع بيكاسو" الذي ترجمته الى العربية مي المظفر، تصف لحظة اللقاء الأول: "لاحظت بعد برهة، انه كان يتطلع إلينا باستمرار ثم يبتسم، ويرفع صوته باتجاهنا وهو يروي بعض نكاته، بعد فترة قصيرة نهض من مكانه وحمل بيده حفنة من الكرز وهو يسأل، ماذا تعملين:
- انا رسامة
• اذا ، لقد خُلقنا لكي نتفاهم، تعالي يوماً لزيارتي في المرسم.
ولم تنتظر طويلاً، ذهبت مع صديقتها جنفياف لزيارته، احتفى بها كثيراً وعرض امامها لوحاته ومنحوتاته وتقول في مذكراتها: " نسى شهرته وعظمته وتصرف مثل مراهق، وقد دهشت عندما قال لي: آمل أن تزورينني ثانية، وألا تكتفي بالتطلع الى اللوحات فقط".
كانت فرانسواز جميلة جداً، ويصفها بيكاسو بأنها: "ذات وجه نبيل، وشعر ذهبي هائل، وعينان كبيرتان، وكان يزيد من جمالها شيئاً من الاستغراب"، ذات يوم قال لها: "أنا عجوز لم يبق لي من العمر كثيراً، ومن واجبك أن تلازميني ، لكي أسعد في الفترة المتبقية من حياتي" ومرة اخرى قال لها، أخاف أن اموت قبل أن أحب كل النساء.
ثم أشار الى لوحة وهو يقول : " هذه انت، هل عرفتي كم احبك؟" ، وحين انجبت فرانسوز ابنها كلود، قال لها بيكاسو: " الآن اصبحت جزءاً من حياتي، ويجب أن نرتبط برباط لن ينفصل"، لكنه لا يستطيع الابتعاد عن النساء وتكتب فرانسواز في حياتي مع بيكاسو: " ازداد يقيني بأنه يعاني نوعاً من العقد النفسية، تجعله يحتفظ بكل نسائه في متحف خاص به"، سنوات عشر قضتها فرانسواز جيلو مع بيكاسو، وانجبت له ولدين، كلود وبالوما، عاشت فيها سنوات مليئة بالأفراح والهموم والغيرة أيضاً، وفي لحظة ما قررت أن ترحل، وكان رحيلها اشبه بمشهد مسرحي، ودعته الوداع الأخير أمام الجماهير في افتتاح عرض لمصارعة الثيران سنة 1953 وهي ترتدي زي فارسة، وذلك بترتيب بينها وبين بيكاسو، ونزع من يده ساعة كانت قد أهدته إياها فرانسواز وأعادها إليها قائلاً: وقتك لم يعد ملكاً لي..
لكنه بعد فترة استشاط غضباً. لقد اصبح البيت خاويا الآن. لقد وفت بوعدها ورحلت مع الطفلين بشكل نهائي، طفليه هو! يا لها من فعلة شنيعة.
. لقد أمضيا عشر سنوات معا ، وقد عرفته بشكل أفضل من أي شخص آخر تقريبا وعرفت شخصيته بكلا جانبيها، الرقيق والشرس. ولكنها عرفت أيضا بأنها ستضيع هي وطفلاها إن أمضت إلى جانبه فترة أطول. ونظرت فرانسواز إلى كلود وبالوما اللذين كانا يجلسان إلى جانبها في السيارة. ما تزال تحب بابلو ولكنها تحب أطفالها أكثر.
"لا امرأةً تتخلى عن رجلٍ مثلي"، هذا ما قاله بيكاسو لها قبل أسابيع من الفراق . لكنها استطاعت ان تفارقه .
************

خاتمة المطاف رصاصة
في الرأس
بعد انفصال فرانسواز عنه شعر بيكاسو بأنه في الجحيم، كل شيء حوله تلفّه الوحدة، مات صديقه الرسام ماتيس، ولاتوجد امرأة قربه تواسيه، صار كهلاً، وبدأ يشك في أن هناك امرأة يمكن أن تعيد إليه حيويته، الى أن التقى جاكلين روك، امرأة ناعمة الخدين، زرقاء العينين ، تتكلم الاسبانية قالت وهي تنظر إليه: "كيف يمكنني أن اترك هذا الرجل المسكين وهو في مثل هذا العمر" ، أخذت تتردد كثيراً على مرسمه، قال لها ذات يوم: " كل النساء اللواتي تعرفت عليهن كن حبيباتي ، أما أنت فستكونين أرملتي" لقد وجد نفسه امام امرأة تهتم به وتحترم كل طباعه: "انها أوّل امرأة تفهمني، وترجع لي حب الخلق الفني " ، بدأ يعمل بنشاط ، عمره الآن اربعة وسبعون عاماً، وقرر الزواج منها، واحتفل بالأمر بكل سرية، وأخذ وجه جاكلين يتكرر في أعماله، وجه المرأة الموحية، المرأة التي تحيي، المرأة التي يخاف منها.
قال لها بيكاسو بعد أن بلغ الخامسة والثمانين من عمره
- يا للعجب لقد استغرقت خمسة وثمانين عاماً، لكي أصبح شاباً
• وستبقى شاباً الى الأبد.. قالت له
وذات صباح من عام 1973 ، اتصلت بالطبيب وقالت له، بأن صحة بابلو ليست على مايرام، وعندما وصل الطبيب كان كل شيء قد انتهى، مات الرسام العظيم الذي قال عنه الرئيس الفرنسي بومبيدو: " انه الخلود الدائم للأمة الفرنسية"، شعرت جاكلين بأن الأشياء لم تعد لها معنى بعد غياب بابلو، عاشت وحيدة في القصر الكبير الذي تركه لها مع لوحاته وذكرياته، وقالت لاندريه مالرو في الحوار الذي نشره في كتابه "الحبل والفئران" عندما سألها عن أحوالها : "انها تفضل الموت على الحياة من دونه"، وهكذا قررت ذات يوم من تشرين الثاني عام 1986 أن تضع حداً لوحدتها وعذاباتها، فوضعت فوهة المسدس على صدغها وأطلقت النار .
يكتب بول ايلور: "بيكاسو أحبّ بشدة، لكنه دمر الشيء الذي أحبّه ".


* عن صحيفة المدى
 
.لابد أن نمر بالحب.. واذا لم نجده علينا أن نبتكره
علي حسين



| 22 |

عندما ولد عام 1799 ، كان أبوه يحتل مركزاً اجتماعياً ومالياً مرموقاً، لكنه يعاني من نزق زوجته "لورا سالومبيه" التي تصغره بأثنين وثلاثين عاماً، وتتمتع بجمال خارق وثقافة متميزة، لكنها قاسية القلب وتميل الى العبث، مما أثر كثيراً في علاقتها بابنها الذي اصبح فيما بعد أشهر أدباء فرنسا، رغم انه ظل يكنّ لها حباً كبيراً يخالطه شيء من الخوف لازمه حتى عندما اصبح شاباً، فكان لايقترب منها إلا وهو يرتجف، وقد أشار في الكثير من قصصه ورواياته بحاجة ابطاله الى الشعور بالحماية النسائية. ونرى سيرته الذاتية التي نشرت بعد وفاته، يتذكر طفولته التي كانت شبيهة بطفولة الشاعر بودلير والروائي ستندال، كانت أمه صعبة المراس استأثر ابنها الأصغر بكل اهتمامها وعنايتها.

برودة الحب
في تموز 1821 يكتب اورونيه دو بلزاك الى اخته لورا: "أما أمي فكانت تسير على غرار الطبيعة، فهي مزعجة طوال خمس ساعات، ومرحة ولطيفة للحظة واحدة"، وبعد أعوام يكتب الى امه: "لا اطلب منك أن تصطنعي شعوراً لن يخامرك لأنك انت والله تعلمان انك لم تغمرينني بالقبل والحنان منذ خلقت، وحسناً فعلت، لأنك لو لم احببتني كما احببت اخي هنري، لكنت حيث هو الآن، ومن هذه الناحية كنت لي أماً صالحة".
ويكتب في رسالة الى اخته لورا: "ما هي العاهة الجسدية أو المعنوية التي سببت لي برودة أمي تجاهي، هل كنت ابن الواجب، ذلك الذي يولد بمجرد المصادفة أو حتى ذلك الذي حياته ملامة؟ سُلمت الى المربية في الريف، فنسيني اهلي طوال ثلاث سنوات، وعندما عدت الى البيت كان حظي منه قليلاً، فأثرت شفقة الناس، اني لا اعرف العاطفة ولا القدر السعيد اللذين مكّناني من النهوض من هذه السقطة الأولى ، فلا الطفل فيَّ يعلم ولا الرجل يدري شيئاً".
هذا الجرح هو الذي جعله يكتب: "هناك أناس يخلقون تعساء وأنا منهم "ولكن مع شعور الحرمان والفراق تستيقظ قوى التعويض، فيقرر الولد المُهمل أن يفرض الحب، ويصمم على بلوغ المجد، وفي واحدة من رسائله الى اخته يكتب: "فكري بسعادتي، لو جعلت اسم بلزاك شهيراً ! ما اعظمها وسيلة لقهر النسيان". وبعدها يرسل الى امه كلمات قصيرة: " لا شيء إلا الحب والمجد يملآن قلبي، ولا همّ لي الا رغبة الارتفاع ". ويحاول بلزاك من خلال رواياته أن يعوّض هذا الحنان والحب ويكتب في سيرته الذاتية: "أردت أن انتقم من المجتمع، أردت أن امتلك كل النساء، وأن أرى الانظار تتصوب كلها اليّ".
عندما بلغ بلزاك الثامنة من عمره، تم ادخاله الى مدرسة داخلية، فكان خلال تلك الفترة اكثر التلاميذ كسلاً واقلهم نشاطاً واكثرهم شروداً، وقد اهتم منذ صغره بالقراءة، وتخبرنا شقيقته، أن المطالعة أصبحت بالنسبة إليه مثل جوع لايرتوي منه، كان يلتهم الكتب من كل نوع بدون تمييز بين كتب دين وفلسفة وأدب، قال لأحد زملائه، إنه يشعر بلذة لاتوصف وهو يقرأ القواميس، واضطر مدير المدرسة الى ارسال خطاب الى عائلته يرجوهم فيه إخراجه من المدرسة، لأن صحته تدهورت، وسرعان ما سافر مع أبيه الى باريس، وحين أتمّ السابعة عشرة من عمره، يعينه والده بمكتب احد المحامين للعمل فيه، لكنه في ذلك الوقت كان يمجد شيئين، الشهرة ، والحب، وهما كانا آنذاك امنيتين بعيدتا المنال بالنسبة لشاب مغمور يعمل في مكتب للمحاماة، لايوحي شكله البدين بأنه يمكن أن يثير اعجاب النساء.
وحين بلغ العشرين من عمره ،عرض عليه أبوه أن يزوجه ابنة أحد اصدقائه الأثرياء، لكنه يرفض فهو يبحث عن الحب وليس الزواج، ومع الحب كان هناك هاجس الأدب والكتابة، فسخرت منه امه، إلا أن الأب حاول أن يساعده، فمنحه فرصة أن يجرب حظه في الكتابة مع مبلغ ثلاثة آلاف فرنك، واشترط عليه اذا لم يستطع خلال عام أن يثبت موهبته في الكتابة ، ويحصل على دخل كافٍ يعيش فيه، وإلا فالزواج من ابنة الصديق الغني لامفر منه.
قبل بلزاك التحدي، فاعتكف في غرفته على الكتابة، يدفعه حافز قوي أن يحقق حلمه في كتابة المأساة المسرحية، لكنه يفشل حين يعرض أول اعماله على فكتور هيجو الذي ينصحه بأن يجرب كتابة القصص ومعها الحب، وهنا تظهر المرأة الاولى في حياته. كانت في الخامسة والأربعين من عمرها تدعى "مدام دي برني" ، لم تكن جميلة، لكنها تملك شخصية مرحة، وحين التقاها بلزاك كان يقرأ كتب جان جاك روسو، وأغرم بروايته الشهيرة "هلُويز" حتى انه حفظ معظم صفحاتها عن ظهر قلب، وكان يرددها امام اخته لورا، ومثل روسو كان يحلم أن يجد امرأة مثل بطلة الرواية "جولي" شابة جميلة ومثقفة، تقع في حب معلمها الخاص، ونراها في الرواية تهتف: "لقد جعلت السماء أحدنا للآخر! لم يكن هناك اتحاد اكثر مثالية من هذا، روحانا متداخلتان ايضا بشكل وثيق، ولم يعد بوسعهما الانفصال أبداً". كان بلزاك في شبابه يريد أن يقلد حياة جان جاك روسو، الذي أقام وهو شاب علاقة حب مع امرأة تكبره بتسعة عشر عاماً، إلا أن بلزاك كانت تعوزه الجرأة، فهو شاب شديد الخجل وهو يصف نفسه في رساله الى اخته لورا: "هكذا انا، وهكذا سأظل دائماً خجولاً الى الدرجة القصوى ، وعاشقاً مجنوناً بحبه، وعفيفاً الى الدرجة التي لا أجرؤ معها على أن اقول لامرأة : اني احبك! واعترف انني ابعد ما أكون عن مظهر العاشق ومسلكه أو بالأحرى انني مثل بعض الفتيات اللواتي تبدو الواحدة منهن خجولة ورقيقة لكنها خرقاء وغبية في نفس الوقت، وتخفي تحت هذا القناع ناراً تحرق القلب، ولكني لن ابلغ وصف حالتي ما بلغه كاتب عظيم هو روسو، فأقرأي وصفه لنفسه في اعترافاته".
وهو يكتب في سيرته الذاتية: "اتخذ الحب لديّ شكل الهوى، الهوى الجبان المطلق الذي يتملك بعض الشيوخ".
لكنه في النهاية يتغلب على خجله ويقرر أن يرسل رسالة الى المرأة التي شغلته: "لست انتظر منك حباً ولا اعجاباً ولا سخرية، لكني كنت دائماً اؤمن ، ان في اعماق كل امرأة شعوراً يقرب من الرقة والصداقة. هو الحنان، هو الشفقة الكريمة التي تمد يدها للمجانين كما تمدها للتعساء. فأسمحي لي ياسيدتي أن اودع عندك روحي كلها، روحي النقية غير الملوثة التي أجرؤ أن اقدمها لك كهدية من اطهر الهدايا التي يستطيع انسان أن يهديها". ويبدو أن الرسالة اعجبت مدام دي برني التي أرسلت له رداً قصيراً تشكره على مشاعره الرقيقة الطاهرة.
************

استعادة اللحظات الاولى
في روايته التي كتبها عام 1835 زنبقة في الوادي، نستعيد اللحظات الأولى التي التقى فيها بلزاك بمدام دي برني : "حين رأيتها للمرة الأولى اضطربت حواسي، آنذاك كنت جالساً عابساً على طرف مقعد مهجور وعيناي ثابتتان لاتتحركان. فجأة شعرت بعطر امرأة يلتمع في نفسي . تطلعت الى جارتي فأبهرتني اكثر مما ابهرني العيد، ولو علمت جيداً حياتي السالفة لأدركت الشواعر التي دفقت في قلبي. لقد ادهشت عينيّ الكتفان البيضاوان البارزان. وودت أن الامسهما. كتفان موردتان تنطويان على روح تلمع بشرتها في النور كوشاح من حرير. سحرتني العنق المغطاة بنسيج شفاف . إن اتفه تفاصيل هذه الرأس كان كالطعم يوقظ فيّ لذات متناهية . اما بريق الشعر الممسد فوق عنق مخملية. كل هذا ضيع رشدي، ولما تيقنت أن لا أحد يراني عصت في الظهر كولد يستلقي في احشاء أمه".
إن هنريت في " زنبقة في الوادي،" هي طيف مدام دي برني، التي سيكتب لها بلزاك: "حين رأيتك في المرة الأولى، اثار مرآك حواسي وانعش خيالي الى حد صورك لي أمرأة كاملة المواصفات، هكذا يمكنك أن تعتبري سنواتك الخمس والأربعين كأن لا وجود لها في نظري، أو فلأقل انني تنبهت اليها لحظة، فإنما لأنظر اليها كبرهان على قوة عواطفي".
وبعد عشرات الرسائل، يلتقي العاشقان، ونرى بلزاك يكتب في مذكراته: "أن روحي كلها صارت مرتبطة بروحها، لا أرى غير المقعد الخشبي الذي جلست عليه، ولا احس غير ضغط جسدها الناعم على جسدي، لقد تغيرت، فأنا احب الى حد الجنون".
لايزال بلزاك يحفظ ما كتبه جان جاك روسو في "الاعترافات": الحب حالة معدية" ، ونعرف أن بلزاك جنَّ بمدام دي برني، ويعترف بأن ما من حب من دون أن يُجرح، وما من حب من دون أن نُذبل فيه، وما من عشق من دون قلق يفيض من الأعين، فالمشاعر جميعها معذِية ومعذَبة، اذن لابد أن نمر بالحب، واذا لم نجده علينا أن نبتكره" يكتب معلم بلزاك جان جاك روسو: "حتى اكثر النساك، ورعاً ليسوا في مأمن من أن يصيروا اطفالاً صغاراً أمام امرأة جميلة".
ويبدو أن بلزاك أراد من خلال رواياته العاطفية "امرأة في الثلاثين، زنبقة في الوادي، اوجيني غراندة " ، السعي دائماً الى الحب المجنون، الى المرأة الجامعة بين الأم والحبيبة. ونراه يكتب الى اخته لورا: "لو علمت بأية قوة تندفع نفسي المستوحدة المهملة نحو عاطفة حقيقية، إن هذا الأمر ليس الا نتيجة طبيعية لحياة فارغة دوماً وتعيسة، اني كسجين يسمع من بعيد، وهو في اعماق أسره، صوت امرأة بالغ العذوبة". ولكي يقدم لنا مفهومه للحب، يكتب في روايته امرأة في الثلاثين: "نفوس النساء التي تقوى على جعل اللا متناهي في الحب تشكل استثناءات ملائكية، انها بالنسبة لسائر النفوس النسائية كالعبقريات بين الرجال، الأهواء الكبرى نادرة كالروائع".
ونراه في اوجيني غرانده، يعبر من خلال بطل الرواية لوسيان عن مفهوم العشق الذي يصيب الانسان أول مرة : "مهما تكن قدرة هذا الفتى ولامبالاته بالنسبة للذات ، ورغم تخمته في العشية، فإنه وجد في الفتاة الذهبية العينين، النعيم الذي تخلفه المرأة المحبة لتأسر الرجال، هذا المعبر الذي دفع بدون جوان الى التنقيب في قلب النساء على أمل العثور على الفكرة المتناهية الحدود التي لطالما سعى إليها الكثيرون من صيادي الأشباح".
ولعلّ المثير في قصة الحب التي عاشها بلزاك مع مدام دي برني، أن هذه السيدة التي تكبره بسنوات، استطاعت أن تنمّي معارفه في مجالات عدّة، فهي عاشت في قصور الأمراء وتعرف خفايا التاريخ، وقد كانت امرأة غنية بالذكريات، وفي جلساتهما المسائية، استطاعت أن تزوده بكل ما تعرفه عن السياسة وخفايا النساء وأثاث البيوت ومباني باريس، والأهم أنها استطاعت أن تزوده بالجرأة على مواجهة الواقع، وكيف يمكن الاستفادة مما يراه في كتابة رواياته، بل يؤكد معظم دارسي أدب بلزاك، أن مدام دي برني، كانت هي التي اعطته العديد من الافكار التي تحولت فيما بعد الى روايات، حتى انه كتب بعد وفاتها: " في بداية حياتي، كانت لي أماً حقيقية.. يا الهي، لم تعد توجد روح واحدة تفهمني، فقد كانت هناك روح واحدة فقط".
ولعلّ رسائل بلزاك الى مدام برني، التي نشرت بعد وفاته تكشف لنا عن التأثير الذي مارسته هذه المرأة على حياته وأدبه فهو يكتب إليها: "ثقي بأنك محبوبة كما ولا امرأة، انظري خلال التخريب الذي تحدثينه في رأسي، في قلبي، تعرفي الى أيِّ حد انت الكل بالكل، الزهرة والثمرة، القوة والضعف، السرور والالم، الالم عن غير عمد، السرور الدائم، حتى في الالم، الفن والسعادة، الرجاء، كل الامور الانسانية الحسنة والجميلة، حتى الدين، لا استطيع أن اقول انك كآلهة، لاني اعتقد انك اكثر".
ثم نراه يكتب لها بعد أيام: "انك كل عائلتي، تقومين مقام امي منذ الثالثة عشرة من عمري، ومقام الصديقة (الوحيدة) والأخت والأخ والرفيقة والعشيقة".
************

الخوف من الحب
الحب الثاني كان مع مدام "زولما كارو" التي كانت زميلة لاخته لورا في المدرسة، لكنها كانت صعبة المنال، فلم يجرؤ أن يتحدث معها عن الحب، لكنها في المقابل كانت معجبة بما يكتبه، وقد كتبت اليه: "لست اريد، الصداقة الممتعة التي تقدمها للنساء اللواتي، يفضلنني الف مرة، وانما اطمح الى عاطفة اسمى، هي أن احظى بتقديرك الكافي بحيث تجعل مني امرأة (احتياطية) تستجيب فوراً لندائك، حيث يزعج بهجتك طارئ أو تجرح قلبك خيبة أمل مفاجئة، فتناديها مستغيثاً".
إلا أن علاقة الحب هذه لم تدم طويلاً، كما انها لم تؤثر في بلزاك، الذي انتقل لحب المركيزة دي كاستري، وكانت هذه التجربة مغامرة خاسرة بالنسبة اليه، فقد تورط في الحب مثلما تورط في الديون لأنه كان يريد أن يرضيها، ونجد مدام دي برني تحذره من هذه المغامرات فتكتب اليه: "أن خوفاً مميتاً يزحف أحياناً على قلبي، كلما سمعت بأحوالك، فأصغ الى صوت العقل ياصديقي العزيز المحبوب".
لكن مدام دي برني بلغت أخيراً السابعة والخمسين من عمرها عام 1832، فكان لابد أن يبحث بلزاك عن حب شاب وهو يكتب في مذكراته: "منذ أن صارت لي افكار ومشاعر، كرست نفسي للحب وحده، فكانت اول امرأة صادفتها ذات قلب ملائكي وروح فطنة، لكنها –وياويلتي– كانت تكبرني باثنين وعشرين عاماً، بحيث اذا تغاضيت عن مغزى ذلك من ناحية المبدأ، وضعت الطبيعة في وجهي عوائق مادية لايمكن تخطيها".
ولأن بلزاك أحب دائماً نساء اكبر منه عمراً، نجده في رواياته يتوقف كثيراً عند سن المرأة، فأوجد ولأول مرة في الأدب الروائي البطلة التي تحب بعد أن تجاوزت الاربعين، لكنه لم يجرؤ على أن يصور في رواياته، بعض ملامح سيرته الذاتية والنهاية التي انتهت فيها علاقته مع مدام دي برني، بعد أن اصيبت بالمرض، ونجده في مذكراته يكتب: "انها تسمو بصداقتها إلى حد اخفاء آلامها عني، فهي تريد أن تشفى من اجلي، يا إلهي، لكم تغيرت في الشهرين الأخيرين، لقد اصابني الرعب حين رأيتها ".
وحين ماتت كتب: "ها انذا انفّذ وصية حبيبتي وكلماتها الأخيرة التي كتبتها لي والتي قالت فيها: "الآن استطيع ان اموت مطمئنة، فإني واثقة انك ستضع فوق جبينك التاج الذي طالما حلمت بأن أراه، إن قصتك زنبقة في الوادي عمل أدبي عظيم".
************

بين الحياة والأدب
يخبرنا بلزاك، أن روايته زنبقة في الوادي كتبها بعد أن علم بمرض مدام دي برني الخطير، فأراد أن يخلد صديقته، وأن يكتب لها عملاً أدبياً تقرأه قبل موتها.
وفي الرواية نحن بمواجهة الشاب "فيليكس" الذي ينتمي الى عائلة غنية، لكنه يعاني من طفولة قاسية – مثل بلزاك – ولايعرف شيئاً عن النساء، والنموذج الوحيد الذي عاش معه هي امه التي لاتهتم به كثيراً، لكنه ذات يوم وبعد أن بلغ العشرين من عمره، يحضر حفلة ساهرة، فنجده يجلس الى جوار امرأة مجهولة يفتنه جمالها الى حد أنه دون أن يعي يقترب منها ويقبل كتفها، فتطلق المرأة صيحة حادة وتستدير حوله لتشتمه ثم تغادر القاعة.
ويبدأ فيليكس يسأل عن المرأة من هي، ويمضي في رحلة البحث عنها في كل مكان ، وذات يوم يقترب من أحد القصور ويقول لنفسه: "اذا كانت هذه المرأة المجهولة تعيش في مكان ما على الأرض .. فهذا هو المكان".
ويصدق حدسه، ففي هذا القصر الكبير تعيش مدام دي مورسوف، ويعرف انها متزوجة من رجل عجوز، ولديها طفلان، ويقرر التقرب الى زوجها فيزورها في البيت بدعوة من الزوج الذي شعر بألفة مع هذا الشاب، وأراد أن يلقي عليه دروساً في الزراعة وتربية الكلاب.
إلا أن في اللحظة التي يقرر فيها فيليكس أن يتحدث مع مدان مورسوف عن مشاعره توقفه قائلة : "هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب أن لاتفعله، وإذا لم تتوقف سوف امنعك من دخول المنزل ". ويقبل بشروطها ، لكنه يفاجأها بين الحين والآخر، بأن يقبّل يديها: " حين تفشل الكلمات، يحدث الصمت أثره في النفوس، ويسأل أحدنا الآخر بنظراته : ترى هل يقدر لنا أن نحظى بيوم نستطيع أن نسميه يومنا".
وتقرر مدام مورسوف أن تساعد فيليكس في حياته العملية، وتختار له العمل في السياسة، ويحصل على منصب حكومي كبير، وفي هذه الاثناء يلتقي بامرأة انكليزية جميلة تحاول أن تقيم معه علاقة حب : "كانت تعرض عليّ وهي تضحك اكثر العروض تواضعاً، بأن اسمح لها أن تحبني، وذات يوم قالت لي، سوف اظل دائماً صديقتك، خليلتك أينما تريد". ونجد فيليكس ممزقاً بين مدام مورسوف وليدي ردلي، كما وجد بلزاك نفسه ذات يوم حائراً بين مدام دي برني وفتاة أخرى تصغرها سناً، وحين تعرف مدام مورسوف بالأمر، تخبره بأنها ستتركه لحبيبته الجديدة :" وداعاً يا طفلي الغالي، من روح سكبت أنت فيها الأفراح والمباهج ما انوء بحمله، وما يغفر لك الكارثة التي انتهى امري اليها، انا موقنة انك تحبني، ولهذا اقترب من راحتي الابدية، وأنا ارتجف أسفاً وندماً" .
ونجده يكتب لمدام دي برني في احدى رسائله :" بدونك ما كنت كتبت زنبقة في الوادي "وهو يخبرها وهي على فراش المرض :"اني اكتب لك، اريد المجد من اجلك، انك كل شيء ، الجمهور، المستقبل".
في الخمسين من عمره يتعرف بلزاك على مدام دوهانسكا. وكانت سيدة روسية غنية . ولأنه ضعيف الحظ مع النساء، شديد الاحساس بالنقص تجاه كل سيدة وبسبب هذا الاحساس تضخمت في ذهنه فكرة الزواج من مدام دوهانسكا، لما سيناله بزواجها من استقرار ليتفرغ بعد ذلك في هدوء لإتمام رسالته الأدبية الضخمة.
وكانت صحة بلزاك قد أخذت في الانهيار، وأجمع الأطباء على أن حالة القلب لديه لا تسمح له بحياة طويلة. عندئذ. وعندئذ فقط دوهانسكا على أن تحقق للرجل الذي صبر السنين الطوال لينال يدها الأمنية الكبرى التي يجيش بها صدره. فما الذي ستفقده بهذا الزواج وقد أجمع الأطباء أنه لم تبق له في الحياة إلا شهور معدودة!
وسافر بلزاك إلى روسيا رغم اعتلاله، ليعقد أخيراً زواجه في آذار عام 1850 في هدوء وصمت، وقدر بلزاك أن يعيش معها خمسة وعشرين عاماً، يكتب أثناءها خمسين كتاباً ليتم قائمة مؤلفاته التي تكون (المهزلة الإنسانية) والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وأربعين مؤلفاً. وكان قد أعد لذلك غرفة مكتب فاخرة إلى جانب غيرها من الغرف الحافلة بأفخم أنواع الأثاث، فإلى أي مدى تحقق هذا الحلم؟ لم يخط بلزاك حرفاً في غرفة المكتب الفاخرة. باستثناء كتاب صغير اسماه " فلسفة الزواج " ، والذي يعد تحفة فنية ونادرة ، يقول بلزاك عن مؤلفه هذا: سيدتي، هذا كتاب من أجل الدفاع عن النساء، وهكذا فإن معنى كتابي هو تحميلي الحصري لجميع الخطايا التي ارْتُكِبت من طرف النساء لأزواجهن.. إنها تبرئة عظيمة، بعد ذلك أطالب بالحقوق الطبيعية وغير القابلة للتقادم للمرأة، ليس هنالك زواج سعيد إذا لم تسبقه معرفة شاملة من طرف الزوجين، فيما يتعلق بالتقاليد والعادات والطبائع إلى غير ذلك، ولم يحدث أن تراجعت عن هذا المبدأ أمام أية عواقب، ويضيف الكاتب متهكماً، أولئك الذين يعرفونني، يعلمون بأنني كنت دائماً وفياً منذ سن الرشد، بأن قوانين الحب تربط بقوة مخلوقين لا يستطيع أي قانون بشري أن يفرق بينهما؟
في مساء الثامن عشر من آب عام 1850 يصاب بلزاك بأزمة قلبية تلزمه الفراش ولاينهض منها ، يزوره فكتور هيجو، الذي يروي لنا اللحظات الأخيرة من حياة اكبر ادباء فرنسا :"كان وجهه بنفسجياً، ويكاد يكون أسود، منحنياً لجهة اليمين، لحيته كثة، شعره رمادي قصير ، عيناه مفتوحتان ومحدقتان، رأيته من جانبه، فبدا لي شبيهاً بالامبراطور " ، وعلى السرير وجد هيجو هذه الرسالة معنونة الى مدام دي برني : " لا اقوى على تركيز افكاري ، افهم ان الموت افضل نهاية لهذه الحالة التي اعيش فيها منذ ان غادرتي انت الحياة ، ولهذا صممت على الذهاب من هذه الدنيا الفانية " .
 
.لابد أن نمر بالحب.. واذا لم نجده علينا أن نبتكره
علي حسين



| 22 |

عندما ولد عام 1799 ، كان أبوه يحتل مركزاً اجتماعياً ومالياً مرموقاً، لكنه يعاني من نزق زوجته "لورا سالومبيه" التي تصغره بأثنين وثلاثين عاماً، وتتمتع بجمال خارق وثقافة متميزة، لكنها قاسية القلب وتميل الى العبث، مما أثر كثيراً في علاقتها بابنها الذي اصبح فيما بعد أشهر أدباء فرنسا، رغم انه ظل يكنّ لها حباً كبيراً يخالطه شيء من الخوف لازمه حتى عندما اصبح شاباً، فكان لايقترب منها إلا وهو يرتجف، وقد أشار في الكثير من قصصه ورواياته بحاجة ابطاله الى الشعور بالحماية النسائية. ونرى سيرته الذاتية التي نشرت بعد وفاته، يتذكر طفولته التي كانت شبيهة بطفولة الشاعر بودلير والروائي ستندال، كانت أمه صعبة المراس استأثر ابنها الأصغر بكل اهتمامها وعنايتها.

برودة الحب
في تموز 1821 يكتب اورونيه دو بلزاك الى اخته لورا: "أما أمي فكانت تسير على غرار الطبيعة، فهي مزعجة طوال خمس ساعات، ومرحة ولطيفة للحظة واحدة"، وبعد أعوام يكتب الى امه: "لا اطلب منك أن تصطنعي شعوراً لن يخامرك لأنك انت والله تعلمان انك لم تغمرينني بالقبل والحنان منذ خلقت، وحسناً فعلت، لأنك لو لم احببتني كما احببت اخي هنري، لكنت حيث هو الآن، ومن هذه الناحية كنت لي أماً صالحة".
ويكتب في رسالة الى اخته لورا: "ما هي العاهة الجسدية أو المعنوية التي سببت لي برودة أمي تجاهي، هل كنت ابن الواجب، ذلك الذي يولد بمجرد المصادفة أو حتى ذلك الذي حياته ملامة؟ سُلمت الى المربية في الريف، فنسيني اهلي طوال ثلاث سنوات، وعندما عدت الى البيت كان حظي منه قليلاً، فأثرت شفقة الناس، اني لا اعرف العاطفة ولا القدر السعيد اللذين مكّناني من النهوض من هذه السقطة الأولى ، فلا الطفل فيَّ يعلم ولا الرجل يدري شيئاً".
هذا الجرح هو الذي جعله يكتب: "هناك أناس يخلقون تعساء وأنا منهم "ولكن مع شعور الحرمان والفراق تستيقظ قوى التعويض، فيقرر الولد المُهمل أن يفرض الحب، ويصمم على بلوغ المجد، وفي واحدة من رسائله الى اخته يكتب: "فكري بسعادتي، لو جعلت اسم بلزاك شهيراً ! ما اعظمها وسيلة لقهر النسيان". وبعدها يرسل الى امه كلمات قصيرة: " لا شيء إلا الحب والمجد يملآن قلبي، ولا همّ لي الا رغبة الارتفاع ". ويحاول بلزاك من خلال رواياته أن يعوّض هذا الحنان والحب ويكتب في سيرته الذاتية: "أردت أن انتقم من المجتمع، أردت أن امتلك كل النساء، وأن أرى الانظار تتصوب كلها اليّ".
عندما بلغ بلزاك الثامنة من عمره، تم ادخاله الى مدرسة داخلية، فكان خلال تلك الفترة اكثر التلاميذ كسلاً واقلهم نشاطاً واكثرهم شروداً، وقد اهتم منذ صغره بالقراءة، وتخبرنا شقيقته، أن المطالعة أصبحت بالنسبة إليه مثل جوع لايرتوي منه، كان يلتهم الكتب من كل نوع بدون تمييز بين كتب دين وفلسفة وأدب، قال لأحد زملائه، إنه يشعر بلذة لاتوصف وهو يقرأ القواميس، واضطر مدير المدرسة الى ارسال خطاب الى عائلته يرجوهم فيه إخراجه من المدرسة، لأن صحته تدهورت، وسرعان ما سافر مع أبيه الى باريس، وحين أتمّ السابعة عشرة من عمره، يعينه والده بمكتب احد المحامين للعمل فيه، لكنه في ذلك الوقت كان يمجد شيئين، الشهرة ، والحب، وهما كانا آنذاك امنيتين بعيدتا المنال بالنسبة لشاب مغمور يعمل في مكتب للمحاماة، لايوحي شكله البدين بأنه يمكن أن يثير اعجاب النساء.
وحين بلغ العشرين من عمره ،عرض عليه أبوه أن يزوجه ابنة أحد اصدقائه الأثرياء، لكنه يرفض فهو يبحث عن الحب وليس الزواج، ومع الحب كان هناك هاجس الأدب والكتابة، فسخرت منه امه، إلا أن الأب حاول أن يساعده، فمنحه فرصة أن يجرب حظه في الكتابة مع مبلغ ثلاثة آلاف فرنك، واشترط عليه اذا لم يستطع خلال عام أن يثبت موهبته في الكتابة ، ويحصل على دخل كافٍ يعيش فيه، وإلا فالزواج من ابنة الصديق الغني لامفر منه.
قبل بلزاك التحدي، فاعتكف في غرفته على الكتابة، يدفعه حافز قوي أن يحقق حلمه في كتابة المأساة المسرحية، لكنه يفشل حين يعرض أول اعماله على فكتور هيجو الذي ينصحه بأن يجرب كتابة القصص ومعها الحب، وهنا تظهر المرأة الاولى في حياته. كانت في الخامسة والأربعين من عمرها تدعى "مدام دي برني" ، لم تكن جميلة، لكنها تملك شخصية مرحة، وحين التقاها بلزاك كان يقرأ كتب جان جاك روسو، وأغرم بروايته الشهيرة "هلُويز" حتى انه حفظ معظم صفحاتها عن ظهر قلب، وكان يرددها امام اخته لورا، ومثل روسو كان يحلم أن يجد امرأة مثل بطلة الرواية "جولي" شابة جميلة ومثقفة، تقع في حب معلمها الخاص، ونراها في الرواية تهتف: "لقد جعلت السماء أحدنا للآخر! لم يكن هناك اتحاد اكثر مثالية من هذا، روحانا متداخلتان ايضا بشكل وثيق، ولم يعد بوسعهما الانفصال أبداً". كان بلزاك في شبابه يريد أن يقلد حياة جان جاك روسو، الذي أقام وهو شاب علاقة حب مع امرأة تكبره بتسعة عشر عاماً، إلا أن بلزاك كانت تعوزه الجرأة، فهو شاب شديد الخجل وهو يصف نفسه في رساله الى اخته لورا: "هكذا انا، وهكذا سأظل دائماً خجولاً الى الدرجة القصوى ، وعاشقاً مجنوناً بحبه، وعفيفاً الى الدرجة التي لا أجرؤ معها على أن اقول لامرأة : اني احبك! واعترف انني ابعد ما أكون عن مظهر العاشق ومسلكه أو بالأحرى انني مثل بعض الفتيات اللواتي تبدو الواحدة منهن خجولة ورقيقة لكنها خرقاء وغبية في نفس الوقت، وتخفي تحت هذا القناع ناراً تحرق القلب، ولكني لن ابلغ وصف حالتي ما بلغه كاتب عظيم هو روسو، فأقرأي وصفه لنفسه في اعترافاته".
وهو يكتب في سيرته الذاتية: "اتخذ الحب لديّ شكل الهوى، الهوى الجبان المطلق الذي يتملك بعض الشيوخ".
لكنه في النهاية يتغلب على خجله ويقرر أن يرسل رسالة الى المرأة التي شغلته: "لست انتظر منك حباً ولا اعجاباً ولا سخرية، لكني كنت دائماً اؤمن ، ان في اعماق كل امرأة شعوراً يقرب من الرقة والصداقة. هو الحنان، هو الشفقة الكريمة التي تمد يدها للمجانين كما تمدها للتعساء. فأسمحي لي ياسيدتي أن اودع عندك روحي كلها، روحي النقية غير الملوثة التي أجرؤ أن اقدمها لك كهدية من اطهر الهدايا التي يستطيع انسان أن يهديها". ويبدو أن الرسالة اعجبت مدام دي برني التي أرسلت له رداً قصيراً تشكره على مشاعره الرقيقة الطاهرة.
************

استعادة اللحظات الاولى
في روايته التي كتبها عام 1835 زنبقة في الوادي، نستعيد اللحظات الأولى التي التقى فيها بلزاك بمدام دي برني : "حين رأيتها للمرة الأولى اضطربت حواسي، آنذاك كنت جالساً عابساً على طرف مقعد مهجور وعيناي ثابتتان لاتتحركان. فجأة شعرت بعطر امرأة يلتمع في نفسي . تطلعت الى جارتي فأبهرتني اكثر مما ابهرني العيد، ولو علمت جيداً حياتي السالفة لأدركت الشواعر التي دفقت في قلبي. لقد ادهشت عينيّ الكتفان البيضاوان البارزان. وودت أن الامسهما. كتفان موردتان تنطويان على روح تلمع بشرتها في النور كوشاح من حرير. سحرتني العنق المغطاة بنسيج شفاف . إن اتفه تفاصيل هذه الرأس كان كالطعم يوقظ فيّ لذات متناهية . اما بريق الشعر الممسد فوق عنق مخملية. كل هذا ضيع رشدي، ولما تيقنت أن لا أحد يراني عصت في الظهر كولد يستلقي في احشاء أمه".
إن هنريت في " زنبقة في الوادي،" هي طيف مدام دي برني، التي سيكتب لها بلزاك: "حين رأيتك في المرة الأولى، اثار مرآك حواسي وانعش خيالي الى حد صورك لي أمرأة كاملة المواصفات، هكذا يمكنك أن تعتبري سنواتك الخمس والأربعين كأن لا وجود لها في نظري، أو فلأقل انني تنبهت اليها لحظة، فإنما لأنظر اليها كبرهان على قوة عواطفي".
وبعد عشرات الرسائل، يلتقي العاشقان، ونرى بلزاك يكتب في مذكراته: "أن روحي كلها صارت مرتبطة بروحها، لا أرى غير المقعد الخشبي الذي جلست عليه، ولا احس غير ضغط جسدها الناعم على جسدي، لقد تغيرت، فأنا احب الى حد الجنون".
لايزال بلزاك يحفظ ما كتبه جان جاك روسو في "الاعترافات": الحب حالة معدية" ، ونعرف أن بلزاك جنَّ بمدام دي برني، ويعترف بأن ما من حب من دون أن يُجرح، وما من حب من دون أن نُذبل فيه، وما من عشق من دون قلق يفيض من الأعين، فالمشاعر جميعها معذِية ومعذَبة، اذن لابد أن نمر بالحب، واذا لم نجده علينا أن نبتكره" يكتب معلم بلزاك جان جاك روسو: "حتى اكثر النساك، ورعاً ليسوا في مأمن من أن يصيروا اطفالاً صغاراً أمام امرأة جميلة".
ويبدو أن بلزاك أراد من خلال رواياته العاطفية "امرأة في الثلاثين، زنبقة في الوادي، اوجيني غراندة " ، السعي دائماً الى الحب المجنون، الى المرأة الجامعة بين الأم والحبيبة. ونراه يكتب الى اخته لورا: "لو علمت بأية قوة تندفع نفسي المستوحدة المهملة نحو عاطفة حقيقية، إن هذا الأمر ليس الا نتيجة طبيعية لحياة فارغة دوماً وتعيسة، اني كسجين يسمع من بعيد، وهو في اعماق أسره، صوت امرأة بالغ العذوبة". ولكي يقدم لنا مفهومه للحب، يكتب في روايته امرأة في الثلاثين: "نفوس النساء التي تقوى على جعل اللا متناهي في الحب تشكل استثناءات ملائكية، انها بالنسبة لسائر النفوس النسائية كالعبقريات بين الرجال، الأهواء الكبرى نادرة كالروائع".
ونراه في اوجيني غرانده، يعبر من خلال بطل الرواية لوسيان عن مفهوم العشق الذي يصيب الانسان أول مرة : "مهما تكن قدرة هذا الفتى ولامبالاته بالنسبة للذات ، ورغم تخمته في العشية، فإنه وجد في الفتاة الذهبية العينين، النعيم الذي تخلفه المرأة المحبة لتأسر الرجال، هذا المعبر الذي دفع بدون جوان الى التنقيب في قلب النساء على أمل العثور على الفكرة المتناهية الحدود التي لطالما سعى إليها الكثيرون من صيادي الأشباح".
ولعلّ المثير في قصة الحب التي عاشها بلزاك مع مدام دي برني، أن هذه السيدة التي تكبره بسنوات، استطاعت أن تنمّي معارفه في مجالات عدّة، فهي عاشت في قصور الأمراء وتعرف خفايا التاريخ، وقد كانت امرأة غنية بالذكريات، وفي جلساتهما المسائية، استطاعت أن تزوده بكل ما تعرفه عن السياسة وخفايا النساء وأثاث البيوت ومباني باريس، والأهم أنها استطاعت أن تزوده بالجرأة على مواجهة الواقع، وكيف يمكن الاستفادة مما يراه في كتابة رواياته، بل يؤكد معظم دارسي أدب بلزاك، أن مدام دي برني، كانت هي التي اعطته العديد من الافكار التي تحولت فيما بعد الى روايات، حتى انه كتب بعد وفاتها: " في بداية حياتي، كانت لي أماً حقيقية.. يا الهي، لم تعد توجد روح واحدة تفهمني، فقد كانت هناك روح واحدة فقط".
ولعلّ رسائل بلزاك الى مدام برني، التي نشرت بعد وفاته تكشف لنا عن التأثير الذي مارسته هذه المرأة على حياته وأدبه فهو يكتب إليها: "ثقي بأنك محبوبة كما ولا امرأة، انظري خلال التخريب الذي تحدثينه في رأسي، في قلبي، تعرفي الى أيِّ حد انت الكل بالكل، الزهرة والثمرة، القوة والضعف، السرور والالم، الالم عن غير عمد، السرور الدائم، حتى في الالم، الفن والسعادة، الرجاء، كل الامور الانسانية الحسنة والجميلة، حتى الدين، لا استطيع أن اقول انك كآلهة، لاني اعتقد انك اكثر".
ثم نراه يكتب لها بعد أيام: "انك كل عائلتي، تقومين مقام امي منذ الثالثة عشرة من عمري، ومقام الصديقة (الوحيدة) والأخت والأخ والرفيقة والعشيقة".
************

الخوف من الحب
الحب الثاني كان مع مدام "زولما كارو" التي كانت زميلة لاخته لورا في المدرسة، لكنها كانت صعبة المنال، فلم يجرؤ أن يتحدث معها عن الحب، لكنها في المقابل كانت معجبة بما يكتبه، وقد كتبت اليه: "لست اريد، الصداقة الممتعة التي تقدمها للنساء اللواتي، يفضلنني الف مرة، وانما اطمح الى عاطفة اسمى، هي أن احظى بتقديرك الكافي بحيث تجعل مني امرأة (احتياطية) تستجيب فوراً لندائك، حيث يزعج بهجتك طارئ أو تجرح قلبك خيبة أمل مفاجئة، فتناديها مستغيثاً".
إلا أن علاقة الحب هذه لم تدم طويلاً، كما انها لم تؤثر في بلزاك، الذي انتقل لحب المركيزة دي كاستري، وكانت هذه التجربة مغامرة خاسرة بالنسبة اليه، فقد تورط في الحب مثلما تورط في الديون لأنه كان يريد أن يرضيها، ونجد مدام دي برني تحذره من هذه المغامرات فتكتب اليه: "أن خوفاً مميتاً يزحف أحياناً على قلبي، كلما سمعت بأحوالك، فأصغ الى صوت العقل ياصديقي العزيز المحبوب".
لكن مدام دي برني بلغت أخيراً السابعة والخمسين من عمرها عام 1832، فكان لابد أن يبحث بلزاك عن حب شاب وهو يكتب في مذكراته: "منذ أن صارت لي افكار ومشاعر، كرست نفسي للحب وحده، فكانت اول امرأة صادفتها ذات قلب ملائكي وروح فطنة، لكنها –وياويلتي– كانت تكبرني باثنين وعشرين عاماً، بحيث اذا تغاضيت عن مغزى ذلك من ناحية المبدأ، وضعت الطبيعة في وجهي عوائق مادية لايمكن تخطيها".
ولأن بلزاك أحب دائماً نساء اكبر منه عمراً، نجده في رواياته يتوقف كثيراً عند سن المرأة، فأوجد ولأول مرة في الأدب الروائي البطلة التي تحب بعد أن تجاوزت الاربعين، لكنه لم يجرؤ على أن يصور في رواياته، بعض ملامح سيرته الذاتية والنهاية التي انتهت فيها علاقته مع مدام دي برني، بعد أن اصيبت بالمرض، ونجده في مذكراته يكتب: "انها تسمو بصداقتها إلى حد اخفاء آلامها عني، فهي تريد أن تشفى من اجلي، يا إلهي، لكم تغيرت في الشهرين الأخيرين، لقد اصابني الرعب حين رأيتها ".
وحين ماتت كتب: "ها انذا انفّذ وصية حبيبتي وكلماتها الأخيرة التي كتبتها لي والتي قالت فيها: "الآن استطيع ان اموت مطمئنة، فإني واثقة انك ستضع فوق جبينك التاج الذي طالما حلمت بأن أراه، إن قصتك زنبقة في الوادي عمل أدبي عظيم".
************

بين الحياة والأدب
يخبرنا بلزاك، أن روايته زنبقة في الوادي كتبها بعد أن علم بمرض مدام دي برني الخطير، فأراد أن يخلد صديقته، وأن يكتب لها عملاً أدبياً تقرأه قبل موتها.
وفي الرواية نحن بمواجهة الشاب "فيليكس" الذي ينتمي الى عائلة غنية، لكنه يعاني من طفولة قاسية – مثل بلزاك – ولايعرف شيئاً عن النساء، والنموذج الوحيد الذي عاش معه هي امه التي لاتهتم به كثيراً، لكنه ذات يوم وبعد أن بلغ العشرين من عمره، يحضر حفلة ساهرة، فنجده يجلس الى جوار امرأة مجهولة يفتنه جمالها الى حد أنه دون أن يعي يقترب منها ويقبل كتفها، فتطلق المرأة صيحة حادة وتستدير حوله لتشتمه ثم تغادر القاعة.
ويبدأ فيليكس يسأل عن المرأة من هي، ويمضي في رحلة البحث عنها في كل مكان ، وذات يوم يقترب من أحد القصور ويقول لنفسه: "اذا كانت هذه المرأة المجهولة تعيش في مكان ما على الأرض .. فهذا هو المكان".
ويصدق حدسه، ففي هذا القصر الكبير تعيش مدام دي مورسوف، ويعرف انها متزوجة من رجل عجوز، ولديها طفلان، ويقرر التقرب الى زوجها فيزورها في البيت بدعوة من الزوج الذي شعر بألفة مع هذا الشاب، وأراد أن يلقي عليه دروساً في الزراعة وتربية الكلاب.
إلا أن في اللحظة التي يقرر فيها فيليكس أن يتحدث مع مدان مورسوف عن مشاعره توقفه قائلة : "هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب أن لاتفعله، وإذا لم تتوقف سوف امنعك من دخول المنزل ". ويقبل بشروطها ، لكنه يفاجأها بين الحين والآخر، بأن يقبّل يديها: " حين تفشل الكلمات، يحدث الصمت أثره في النفوس، ويسأل أحدنا الآخر بنظراته : ترى هل يقدر لنا أن نحظى بيوم نستطيع أن نسميه يومنا".
وتقرر مدام مورسوف أن تساعد فيليكس في حياته العملية، وتختار له العمل في السياسة، ويحصل على منصب حكومي كبير، وفي هذه الاثناء يلتقي بامرأة انكليزية جميلة تحاول أن تقيم معه علاقة حب : "كانت تعرض عليّ وهي تضحك اكثر العروض تواضعاً، بأن اسمح لها أن تحبني، وذات يوم قالت لي، سوف اظل دائماً صديقتك، خليلتك أينما تريد". ونجد فيليكس ممزقاً بين مدام مورسوف وليدي ردلي، كما وجد بلزاك نفسه ذات يوم حائراً بين مدام دي برني وفتاة أخرى تصغرها سناً، وحين تعرف مدام مورسوف بالأمر، تخبره بأنها ستتركه لحبيبته الجديدة :" وداعاً يا طفلي الغالي، من روح سكبت أنت فيها الأفراح والمباهج ما انوء بحمله، وما يغفر لك الكارثة التي انتهى امري اليها، انا موقنة انك تحبني، ولهذا اقترب من راحتي الابدية، وأنا ارتجف أسفاً وندماً" .
ونجده يكتب لمدام دي برني في احدى رسائله :" بدونك ما كنت كتبت زنبقة في الوادي "وهو يخبرها وهي على فراش المرض :"اني اكتب لك، اريد المجد من اجلك، انك كل شيء ، الجمهور، المستقبل".
في الخمسين من عمره يتعرف بلزاك على مدام دوهانسكا. وكانت سيدة روسية غنية . ولأنه ضعيف الحظ مع النساء، شديد الاحساس بالنقص تجاه كل سيدة وبسبب هذا الاحساس تضخمت في ذهنه فكرة الزواج من مدام دوهانسكا، لما سيناله بزواجها من استقرار ليتفرغ بعد ذلك في هدوء لإتمام رسالته الأدبية الضخمة.
وكانت صحة بلزاك قد أخذت في الانهيار، وأجمع الأطباء على أن حالة القلب لديه لا تسمح له بحياة طويلة. عندئذ. وعندئذ فقط دوهانسكا على أن تحقق للرجل الذي صبر السنين الطوال لينال يدها الأمنية الكبرى التي يجيش بها صدره. فما الذي ستفقده بهذا الزواج وقد أجمع الأطباء أنه لم تبق له في الحياة إلا شهور معدودة!
وسافر بلزاك إلى روسيا رغم اعتلاله، ليعقد أخيراً زواجه في آذار عام 1850 في هدوء وصمت، وقدر بلزاك أن يعيش معها خمسة وعشرين عاماً، يكتب أثناءها خمسين كتاباً ليتم قائمة مؤلفاته التي تكون (المهزلة الإنسانية) والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وأربعين مؤلفاً. وكان قد أعد لذلك غرفة مكتب فاخرة إلى جانب غيرها من الغرف الحافلة بأفخم أنواع الأثاث، فإلى أي مدى تحقق هذا الحلم؟ لم يخط بلزاك حرفاً في غرفة المكتب الفاخرة. باستثناء كتاب صغير اسماه " فلسفة الزواج " ، والذي يعد تحفة فنية ونادرة ، يقول بلزاك عن مؤلفه هذا: سيدتي، هذا كتاب من أجل الدفاع عن النساء، وهكذا فإن معنى كتابي هو تحميلي الحصري لجميع الخطايا التي ارْتُكِبت من طرف النساء لأزواجهن.. إنها تبرئة عظيمة، بعد ذلك أطالب بالحقوق الطبيعية وغير القابلة للتقادم للمرأة، ليس هنالك زواج سعيد إذا لم تسبقه معرفة شاملة من طرف الزوجين، فيما يتعلق بالتقاليد والعادات والطبائع إلى غير ذلك، ولم يحدث أن تراجعت عن هذا المبدأ أمام أية عواقب، ويضيف الكاتب متهكماً، أولئك الذين يعرفونني، يعلمون بأنني كنت دائماً وفياً منذ سن الرشد، بأن قوانين الحب تربط بقوة مخلوقين لا يستطيع أي قانون بشري أن يفرق بينهما؟
في مساء الثامن عشر من آب عام 1850 يصاب بلزاك بأزمة قلبية تلزمه الفراش ولاينهض منها ، يزوره فكتور هيجو، الذي يروي لنا اللحظات الأخيرة من حياة اكبر ادباء فرنسا :"كان وجهه بنفسجياً، ويكاد يكون أسود، منحنياً لجهة اليمين، لحيته كثة، شعره رمادي قصير ، عيناه مفتوحتان ومحدقتان، رأيته من جانبه، فبدا لي شبيهاً بالامبراطور " ، وعلى السرير وجد هيجو هذه الرسالة معنونة الى مدام دي برني : " لا اقوى على تركيز افكاري ، افهم ان الموت افضل نهاية لهذه الحالة التي اعيش فيها منذ ان غادرتي انت الحياة ، ولهذا صممت على الذهاب من هذه الدنيا الفانية " .
 
.الحبُّ كالزمن.. لا ينقسمُ ولا يُقاس
علي حسي

| 23 |

أراد له والده أن يصبح محامياً، في الوقت الذي تمنت فيه والدته أن يدخل ابنها سلك الرهبان ، كانت امرأة : " حنون، قريبة على قلبي، وكانت أعجب كائن عرفته في حياتي، بوسعي رؤية وجهها الآن، على غاية الرقة ، وقد غدا أكثر جمالاً ". لم يذكر جبران خليل جبران المولود في السادس من كانون الثاني عام 1883 ، من أمه شيئاً سوى طريقتها في تعليمه الحب: " كانت والدتي تدربني على حب الآخرين ، لقد حررتني من ذاتي".

وقد مارست الام "كاملة رحمة"، تاثيراً كبيراً على ابنها، فتعلم اللغة العربية بفضلها، وعندما انتبهت الى ميوله الفنية، أهدته البوماً مصوراً عن ليوناردو دافينشي، وقد وصف جبران فيما بعد هذه الهدية في رسالة كتبها لأمه وهو في المهجر: " لن انسى رسوم ليوناردو دافنشي، فقد كان تأثيرها مشابهاً لتأثير البوصلة على مركب تائه في كنف الضباب".
وللتعبير عن تأثره العميق بأمه، نجده يكتب في كتابه الأجنحة المتكسرة : " أن اعظم ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة الأم، وأجمل مناداة هي: يا أمي ، كلمة صغيرة كبيرة مملؤة بالأمل والحب، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة ".
وبعد ذلك نراه يكتب للمرأة التي أحبها ماري هاسكال : " أنت وأنا، واحدنا أم للآخر، وأحس في نفسي بعض الأمومة نحوك، ولاشك أنك تشعرين انت أيضاً، ببعض الأمومة نحوي "ويخبرني زيادة أنه "يرى أمه مجسدةً في كل امرأة أحبها".
ويكتب جبران خليل جبران مقالة عن الروائي الانكليزي د.ه. لورنس ومدى تأثير امه على اعماله الروائية : "أمه التي ماتت كانت في حقيقة الأمر دعامة حياته، هي التي احبها، وقد واجه كلاهما الحياة معاً، والآن وقد ذهبت، وستظل وراءه دائماً هذه الفجوة في الحياة، انه في حاجة الى انسان آخر يقدم له العون من تلقاء نفسه، ويشد أزره بمحض رغبته، للأشياء الأقل شأناً بدأ يدعها تذهب عنه، من فرط خشيته من ذلك الشيء الكبير، ذلك الزلل نحو الموت في اعقاب رحيل محبوبته".
هكذا كان جبران، فحبّه لأمه لم يمت برحيلها، لأنه كان دائماً يلتقي بنساء كل منهن تمثل جانباً من الجوانب التي كانت تعنيها له أمه، ، فقد كان يبحث في النساء، ولهذا كانت معظم النساء اللواتي ارتبط معهن بعلاقات حب يكبرنه سناً.
• سلطانة ثابت أول امرأة يتعرف عليها كانت تكبره بخمسة عشر عاماً
• ماري هاسكل التي عاش معها أجمل قصة حب، تكبره بعشر سنوات
• ماري خوري التي كانت ملامحها تشبه ملامح أمه تكبره بتسع سنوات
• مي زيادة التي لم تحب رجلاً غيره كانت تكبره بخمس سنوات
ونجده في معظم رسائله يخاطب ماري هاسكال بقوله: هكذا أنت أم هذا الكئيب بشكل من الأشكال"، ويكتب الى ماري خوري: "يداك الالهيتان وهبتاني الحياة الفضلى" ويصف حبه لسلطانة ثابت: "لقد تمسكت بأذيالك، كطفل يلاحق أمه"، وفي إحدى رسائله الى مي زيادة يخاطبها: يا أمي الحسناء، ذهب الربيع وجاء الصيف ومحبتي تتدرج من شغف، إلى نوع من تلك العبادة الخرساء التي يشعر بها الصبي اليتيم نحو أمه".
وقد كانت ماري هاسكال تأمل أن يتزوجها جبران وتكتب في يومياتها: "رجالات هذا العصر الذين أتوا بباهر الأعمال جميعهم متزوجون، إلا أن جبران، على ما اعتقد لم يحقق شخصيته كفاية التحقيق بعد، فيوم يتم له هذا سيظفر بالحياة حينئذ ربما يفكر بالزواج، فالحب والاستمرار فيه، مع صرف النظر نهائياً عن الزواج، ينطوي على صعوبة استحسنت أن أصارحه بها على الفور".
************
السير على خطى نيتشه
في تلك السنوات التي تعرف فيها جبران خليل جبران على ماري هاكسل، كان قد تأثر بالفيلسوف الألماني نيتشه، وظل يردد أمام ماري عبارة نيتشه الشهيرة: " الحب ابرز مافي حياة المرأة، وإنما مجدها وشرفها يدفعانها الى أن تمثل الدور الأول في الحب بالزواج، وأن تهب كيانها كله جسداً وروحاً للرجل الذي تصطفيه زوجاً لها، انها تفتش عن سعادتها في الانسلاخ عن إرادتها الخاصة".
وكان نيتشه يعتبر الزواج غباوة تفصح عن جهل بحقائق النفس البشرية: " إنه تحكم اللذة البائسة في روح الزوجين، انه ذلك الدنس يتمرغان في أوحاله، انه ذلك الخواء الروحي الذي يجمع بينهما، لكن جهلهما يجعلهما يريان فيه الرباط المقدس الذي عقدته السماء بينهما".
ونعرف من سيرة نيتشه، أنه لم يجرب الزواج، لكنه حاول اكثر من مرة أن يستسلم لهذه "الكذبة الصغيرة المهندمة"، ونقرأ في سيرة حياته، كان امامه الكثير من المرشحات للارتباط به، إلا أن شخصيته النزقة أرادت أن تمارس تكتيكاً شديداً في العلاقة مع المرأة، فهو يرى أن علينا أن لانحذف الحب من حياتنا بشرط أن لانعمقه بالزواج: "ما الحب إن لم يكن أن نتفهم أن شخصاً ما يعيش ويتصرف ويشعر بطريقة مختلفة عن طريقتنا ومتعارضة معها، ولكي يوحّد الحب الأضداد، لاينبغي له أن يلغيها أو ينكرها ". - نيتشه العلم المرح - .
وكان جبران يهتم كثيراً بآراء الفيلسوف الالماني، حيث اعتبر الزواج أمراً يورث الخوف والتعاسة. كان جبران في العشرين من عمره، حين سيطرت عليه افكار نيتشه الى جانب اعجابه بالشاعر الانكليزي كولردج الذي ذاق مرارة الفشل في الزواج، ومعاناة الارتباط بامرأة لا تفهم حياة الشاعر الداخلية، ويكتب جبران خليل جبران رأيه في الزواج في احدى رسائله الى ماري هاسكال: "ترين أن أمرأة تتدفق حياة ونضارة وهي في سن الخامسة والعشرين، ثم تتزوج رجلاً مليئاً بالحيوية والجاذبية أيضاً، ولما تلتقين بهما بعد خمس سنوات ترين المرأة وقد ذبلت جاذبيتها، لاجسدياً، بل كيان وحياة".
وعلى الرغم من علاقاته المتعددة بالنساء، إلا أن جبران كان يفتقد للمرأة الوحيدة التي بإمكانها أن تغنيه عن كل النساء، امرأة تكون حبيبة وليست زوجة، ولهذا نجد مثل هذه العبارات في كتابه النبي: "أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لاتقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحراً متموجاً بين شواطئ نفوسكم. ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه، ولكن لاتشربوا من كأس واحدة. قفوا معاً، ولكن لايقرب أحدكم من الآخر كثيراً، لأن عموديّ الهيكل يقفان منفصلين".
ويكتب في "المواكب":
والحب إن قادت الأجسام موكبه
إلى الفراش من الأغراض ينتحر
والحب في الروح لا في الجسم نعرفه كالخمر للوحي لا للسكر ينعصرُ.
************

البحث عن حنان الام
كانت في الثلاثين من عمرها حين أربكت الشاب البالغ من العمر عشرين عاماً، عندما التقاها في المعرض التشكيلي الذي أقامه لرسومه، كانت تطيل النظر باللوحات، وجهها كان مشرقاً وعيناها الزرقاوان تشعان ببريق لامع ، تجرأ على الاقتراب منها وهو يقول:
• هل تود سيدتي أن اشرح لها معاني بعض اللوحات ؟
- بكل سرور تجيبه ماري هاسكال، دون أن تعرف من هو ثم تضيف: صحيح أنني من عشاق الفن، غير أنني لست فنانة. هل أنت فنان ؟
• لي الشرف أن أكون فناناً
- هل تعرف من هو مبدع هذه اللوحات
• إنه أنا!
• فوجئت ماري هاسكال، ونظرت الى الشاب الأسمر القصير القامة الذي كان يبدو عليه الخجل وهو يتحدث معها.
- تبدو فتى موهوباً، قل لي، لِمَ كل وجوه النساء هذه تتكرر في لوحاتك ؟
• إنها وجه أمي حبي الأول والأخير
ترك اللقاء مع ماري هاسكال أثره في جبران، الذي نراه يكتب في يومياته: "ها هي اول امرأة مختلفة التقي بها، كانت تحاول الاصغاء إلى ما في ذاتي ، وتحثني على الكلام كمن يحفر في قرارة نفسه".
بعد أيام يتلقى دعوة لتناول الشاي في منزل ماري، وطلبت منه أن يعرض لوحاته في المدرسة التي تعمل بها، ثم راحت لقاءاتهما تتكرر، بدأ جبران يطلعها على تجاربه الأولى في الكتابة، فاقترحت عليه أن ينشرها في احدى الصحف، فظهرت له مقالة بعنوان "رؤيا" يتحدث فيها عن معاناة القلب البشري الذي يعاني من أسر التقاليد.
في عام 1904 تقترح ماري على جبران أن تساعده في دراسة الرسم بباريس، وأن تتحمل هي نفقات الدراسة، وبعد عام يحطّ الرحال في فرنسا ويكتب لماري هاسكال: "آمل أن تطول بي الأيام، فأتمكن من انجاز ما يستحق أن اقدمه لك انت التي تقدمين لي الكثير، وآمل أيضاً أن يأتي اليوم الذي يمكنني القول فيه ها إني صرت فناناً بفضل ماري هاسكال".
ويكتب الى شقيقته: "إن وجودي في الحياة مرتبط بحضور ملاك يشبه إمراة يقودني نحو مستقبل زاهر ويمهّد لي الطريق نحو النجاح".
واثناء وجوده في باريس تبادل معها عشرات الرسائل، ونكتشف أن شرارة الحب قد اتقدت بين الاثنين. فيكتب لها: "حين تطل ساعات الكدر، أطالع رسائلك ياماري، وعندما يلف الضباب الـ (أنا) اخذ من العلبة الصغيرة رسالتين أو ثلاثاً وأعيد قراءتها، فرسائل تذكرني بذاتي الحقيقية، وتجعلني أتخطى كل ما ليس سامياً وجميلاً في الحياة ".
وفي يومياتها كتبت ماري هاسكال: "أفكر مراراً أني اسمع همسات الكائن الذي يرشدك وهو يخاطبني بشأنك "فأجابها برسالة "لقد اصبحت قدري" فتكتب اليه: "أنت الذي أجده دائماً كلما انطويت على نفسي، فأنت لن تتسلل من حول قلبي، اكثر ما يستطيع سواري التسلل من معصمي".
عندما احتفل مع ماري بعيد ميلاده السابع والعشرين، همس لها بأن تقبله زوجاً، كانت ماري في السابعة والثلاثين من عمرها، سبق لها وأن رفضت العديد من عروض الزواج، فقبلت عرضه فوراً. لكن خطبتهما لم تدمْ طويلاً ، إذ إن ماري كانت تتألم من فارق السنِّ بينهما، وكانت تعتقد بأن زواجهما سيؤذي مساره كفنان وكاتب. ونجده يكتب لها: "سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائماً. أنت أعزُّ شخص على قلبي في هذا العالم. وهذه القربى، هذه الحميمية في كياننا الروحي، لن تتغير، حتى وإن اتفق لك أن تتزوجي سبع مرات، ومن سبعة رجال مختلفين".
وبمرور السنين وبعد أن كانت ماري تمثل دور الحبيبة بالنسبة لجبران، تحولت لتمثل دور الأم، وتعترف هي بهذا الدور الجديد الذي بدأت تمثله في حياة جبران، فتكتب له: "اشعر أحياناً يا جبران، أن لي جناحين منتشرين وغالباً عندما ابسطهما للطيران، تضمّ انت اليهما جناحيك الصغيرين فتحصل على كل قوتك في التحليق معي".
ويقول لها ذات يوم: الآن أعرف أنك تحبينني
وتنتفض ماري قائلة :
• أما كنت تعلم من قبل
- بلى، ولكن بطريقة مغايرة، حبي أكبر من أن أرضى بك زوجة.
وأخذ يخبرها أنه لم يكن في حياته قريباً من انسان مثلما هو قريب منها: "لقد ملكت عليَّ مشاعري ومفاتيح خيالي".
وتكتب له في احدى رسائلها: "اذا كان بوسعي حب رجال آخرين، فإن لدي الكثير من الفرص، لقد التقيت بالكثير من الرجال، لكن بيني وبينك قرابة" ويكتب لها من نيويورك: "أريد أن تعرفي انك أعز شخص لي في الدنيا، فأرجوك لاتخافي الحب، لاتخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه".
واستمرت العلاقة بين جبران وماري، حتى بعد أن تزوجت من أحد اقاربها ، وانتقلت الى بيتها الزوجي، حيث بقيا يتراسلان، ويبعث إليها جبران مسودات كتبه لتنقحها وتبدي رأيها فيها، وخلال هذه العلاقة التي استمرت سنوات، كانت ماري بالنسبة لجبران أمّاً وحبيبةً، ويقول عنها ميخائيل نعيمة في كتابه "جبران خليل جبران": "لا أثر في روحها لغيرة النساء، ولا في قلبها لشهواتهن، كأنها لم تصنع من ضلع الرجل، بل جُبلا من شرفه دون قساوته، ومن عفة المرأة دون ضعفها، وكان جبران يحبها، لكن بغير الحب الذي يحب به الرجل المرأة ".
************

البحث عن الحب بين الحروف
قالت لزوار مجلسها الأسبوعي المنعقد في يوم الثلاثاء من تشرين الأول عام 1912، أنها قرأت مقالة مثيرة لأديب لبناني اسمه جبران خليل جبران بعنوان " يوم مولدي" وسترسل إليه رسالة تبدي اعجابها بما كتبه وإنها تشاطره الرأي في مبدأ المناداة بحرية المرأة، لأن المرأة في رأيها ينبغي أن تمتلك حرية اختيار الرجل الذي تشاركه حياته وفق ما تمليه عليها ميولها واحاسيسها الخاصة.
كانت مي زيادة في السادسة والعشرين من عمرها حين تعرفت الى جبران خليل جبران، وكان هو في الواحد والعشرين من عمره، وكانت اول رسالة ترسلها اليه قد بدأتها بعبارة الى الأديب الموهوب، لكنه في رسائله ظل يناديها ياعزيزتي، ومن دون أن يلتقيا، شعر كل واحد منهما بأن هناك عاطفة تحركه نحو الآخر، كانت مي امرأة فنانة وحالمة، وقد عبرت بعد سنوات من المراسلات مع جبران، عن امنيتها أن تلاقي الوجه الحبيب الذي تحول المسافة دون رؤيته، متخيلة نفسها محلقة فوق مياه البحر لملاقاته، فقد اصبح جبران يحتل مكانة مميزة في عالمها الرومانسي، فيما كان جبران يشعر بأن "خيوطاً غير مرئية تربطني بك" وكتب مقالاً تخيل فيه أن روح مي ترافقه بفضل ما اسماه "العنصر الشفاف" وقد أخذ يستخدم صيغة نحن عندما يكتب لها: "منذ كتبت اليك حتى الآن وانت في خاطري، ولقد صرفت ُ الساعات الطوال مفكراً بك مخاطباً إياك مستجوباً خفاياك مستقصياً أسرارك، والعجيب انني شعرت مرات عديدة بوجود تلك الاثيرة ترقب حركاتي، وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في أعمالي".
وفي حزيران عام 1921 ترسل مي صورتها الى جبران ويكتب لها "شعرت بسعادة وأنا انظر الى وجهك المستدير وعينيك المجروحتين، وشفتيك المكتنزتين، في نظراتك بريق ما، معبّر، وفي قسماتك ملمح ذكرى "ويبدأ يرسم لها صورة بأقلام الفحم ويقول لميخائيل نعيمة وهو يريه البورتريه: "ما أجمل وما احلى هذه البنية، وما اوضح دلائل الذكاء في عينيها" كان جبران يجد فيها حبه الروحي، الحب الذي لم يستطع أن يعيشه مع ماري هاسكال ويكتب لها: "انت معي في هذه الساعة، انت معي يا مي، اعلم اننا اقرب من عرش الله في هذه الليلة منا في اي وقت من ماضينا، انت اقرب الناس الى روحي، وانت اقرب الناس الى قلبي، ونحن لم نتخاصم قط روحينا أو قلبينا" وتكتب مي في احدى رسائلها: "احبك ياصغيري، غير انني لا ادري بعقلي لماذا احبك؟ ولا اريد أن ادري بعقلي ، يكفي انني احبك بروحي وقلبي، يكفي انني اسند رأسي الى كتفه كئيبة غريبة مستوحدة، فرحة، مدهوشة، مجذوبة، يكفي أن اسير الى جانبه نحو قمة الجبل واقول له بين الآونة والأخرى (انت رفيقي، انت رفيقي).
وفي مقالة نشرتها بجريدة الاهرام بعنوان أنت "تخاطب مي جبران من دون أن تسميه : "من انت، هل انت وحي يفيض عن شعري، طيف من اطياف رغبتي وعذابي؟ أم انك واقع ملموس عبر أفق حياتي كما تعبر سفينة عباب البحر قاصدة الشطآن البعيدة".
وكتب لها معبراً عن فرحه بتسلم رسائلها: "أن يوماً يجيئني منك رسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل" ثم يتابع رسائله حاثاً إياها على السير وراء نداء القلب: "تقولين لي انك تخافين الحب، لماذا تخافينه ياصغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ اتخافين مد البحر؟ انا اعلم أن القليل من الحب لايرضيك، كما أعلم أن القليل من الحب لايرضيني. أنت وأنا لا لن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير . نحن نريد كل شيء . نريد الكمال".
بعدها أحسّ جبران بحالة من الحيرة والقلق وتشتت عاطفي بين ماري هاسكال ومي زيادة، فنقل لها ما يعانيه في احدى رسائله: "ماذا اقول يامي عن رجل اوقفه الله بين امرأتين. امرأة تحوك من احلام اليقظة، وامرأة تحوك من يقظة الأحلام".
وتعيش مي في حيرة، هل قرر جبران أن يختار بينها وبين ماري هاسكال وتكتب في احدى رسائلها: "انت قادر على الحب، وليس على حب امرأة من لحم ودم " فكتب اليها: وما المرأة سوى الطريق المؤدية الى الحب المطلق، الحب بذاته".
وبعد رسائل عديدة يكتب لها في الثالث من آب عام 1923: انك محبوبتي، كلمة الحب، ما معنى هذا الذي اكتبه، لا اعرف ماذا اعني به، ولكني اعرف انك محبوبتي، واني اخاف الحب، اني انتظر من الحب كثيراً، فأخاف أن لايأتيني بكل ما انتظر، اقول هذا مع علمي، بأن القليل من الحب كثير، ولكن القليل من الحب يرضيني".
لكنه يشعر في أحيان كثيرة ببرودة تحيط علاقته بمي وتأخذ رسائلها بالانقطاع، فيأخذ بالتوسل إليها أن لاتتركه وحيداً في صحراء الحياة القاحلة: "يامي أنت تعرفين سكوتك، اما انا فأجهله، وليس من العدالة أن يكون جهل المرء مصدراً لتشويش أيامه ولياليه" وعندما لم يجد رداً، كتب اليها ثانية: "ما اغرب سكوت صغيرتي المحبوبة، ما اغرب سكوتها، ذلك السكوت الطويل كالأبدية، العميق كأحلام الآلهة".
لقد أثارت العلاقة التي نشأت بين جبران ومي، عبر الرسائل عدداً لايحصى من التأويلات، حتى انها كتبت رسالة قبل رحيله: "يلومني البعض لأني احببتك، نعم احبك وفي قلبي قبلة خاصة لك، وصومعة تختلي بها لتجد راحتك وتعزيتك".
************

النهاية المؤلمة
ظلت مي زيادة تخبيء قصة حبها لجبران خلف الورق والمسافات ولكن بعد اثنتى عشرة سنة منذ بدأت تراسل جبران، كانت تامل أن يصرّح لها برغبته فى الزواج منها، ولكنه لم يفعل. فاكتفى جبران بالحب عن بعد، مفضلا عدم اللقاء، لتكون حبيبته مىّ مجرد ملهمة لخياله لا أكثر، ولأنه لم يكن يسعى للزواج من أى امرأة، مفضلا الحرية.
مرت السنوات ولم تستطع مى زيادة التى عشقها الجميع، التخلى عن حبها لظل رجل مغترب خلف البحار، أخلصت له مشاعرها قرابة عشرين سنة، ولم تلتق به، بينما عوّض هو احتياجاته الذكورية فى علاقاته العديدة، وأشبع روحه فى نفس الوقت بعلاقته بمىّ زيادة، وظلت هى تواجه بسببه تأنيب ضميرها ومجتمعها لقرارها، أن تصبح راهبة فى محراب عشقه، رافضة للزواج، ومحافظة بقداسة على "الأغلال العنيدة" التى كبلت بها نفسها حتى غزا الشيب مفرقها.
وفى سنة 1931 رحل جبران عن الحياة، فقدت مي والدها، ثم رحلت والدتها سنة 1932 وعانت من الوحدة، وظلم أولاد عمومتها الذين أودعوها مصحة نفسية فى لبنان طمعاً فى ميراثها، وفقدت زيادة رغبتها وشغفها بالحياة حتى رحلت سنة 1941 عن عمر يناهز الـ55 عاما فى مستشفى المعادى بالقاهرة.

منقول لفائدة عن مجلة المدى
 
الحبّ.. حياةٌ وموتٌ من أجل بلوغ المستحيل
علي حسين



| 24 |

" كل شيء مقبض هنا. أو هكذا يبدو لي ، ذهب كل شيء ، كل يوم اتمشى أجد مقعدنا خالياً فأمر عبره ولا أجلس عليه. تذكرين النافذة المقوّسة الكبيرة الى يمين الشرفة، كم كانت ركناً جميلاً، الزهور والنباتات ذات العطر الساحر، هنا لاتزال. ولكن هي فارغة، وحيدة، مهجورة " . كان صاحب هذه الرسالة الغرامية في الواحد والستين من عمره، يعتبر أشهر رجل في اسكندنافيا، فهو الى جانب تولستوي يعد أعظم كاتب حي في العالم، وكان الصحافيون يقطعون آلاف الأميال لإجراء حوارات معه في شقته الكئيبة، كما كان ظهوره اليومي في مقهى المدينة فرحة للسكان، حيث يجلس وحيداً يقرأ الجريدة أو يشرب قهوته المعتادة،

وعندما كان يدخل الى المقهى كان جميع الجالسين في القاعة يقفون ويرفعون قبعاتهم، ولم يكن أحد يجرؤ على الجلوس قبل ذلك الرجل العظيم، ويصف جورج برنادشو الذي كان مغرماً بإبسن ويفضّله على شكسبير مشهد حضور إبسن في الأماكن العامة بقوله: "كان مبجلاً، يرتدي معطفاً أسود وأشرطة الاوسمة وقميصاً لامعاً من الكتان، ربطة عنق انيقة، قبعة سوداء من الحرير اللامع، نظارة ذهبية .. فم مزموم مثل نصل سكين. كأنك تقف امام جبل مصمت".

*********
موظف يحترم الدقة
ظل هنريك إبسن يمارس حياة منتظمة تماماً مثل حياة أحد الموظفين الذين يتميزون بالدقة واحترام الوقت والمواعيد، فكان يخصص خمس أو ست ساعات للكتابة، يمضيها في مكتبه، بعدها يقوم بنزهة، حيث نجده يتخذ كل يوم مكانه المعتاد في احد المقاهي. يقرأ الصحف بتمهل، وكان يقدم نتاجه المسرحي بانتظام يثير الاستغراب أحياناً، عملاً مسرحياً كل عامين، ويصر على أن تنشر مؤلفاته الجديدة بعد عيد رأس السنة الجديدة مباشرة، ولم يكن يشاهد بروفات مسرحيات، ويرفض حضور العرض الأول، لم يكن من محبي الحفلات الاجتماعية. والمقربون منه يعتقدون أنه يختفي وراء قناع صارم ، كما إنه لم يكن له صديق مقرب يأتمنه على اسراره الخاصة، يكره السياسة ويرفض الانتماء الى الأحزاب السياسية : "انني كافر بالسياسة ، فأنا لا أؤمن بقدرتها على التحرير، وأشك فيمن يمارسون السلطة ولا أعتقد في نزاهتهم أو في إرادتهم". كان إبسن ذا قدرة فائقة على التخيل. ولكنه كان منطوياً. كما كان يتميز بالخجل في علاقاته النسائية، ومع كل هذه الشهرة العالمية والأوسمة والنياشين التي حصل عليها، فإنه ظل يعاني من الفراغ، يبدو احياناً وكأنه يبحث عن شيء ، وكان يقول عن نفسه: " أحمل ثقلاً من الغيظ الذي لايهدأ، ومثل روسو حملت الكدمات نفسها طوال حياتي " يتعرّف في صيف عام 1888 على فتاة اسمها اميلي تبلغ من العمر عشرين عاماً، عندما كان يقوم بنزه مع زوجته في قرية على الحدود الالمانية انذاك شاهد فتاة جميلة خضراء العينين ذات شعر اشقر طويل تحمل سلّة من الزهور اقتربت منهم وناولت كلاً منهم وردة ، احتفظ بالوردة في أحد كتبه، وقرر أن يهدي لهذه الفتاة احدى مسرحياته ويكتب في الإهداء: "قدر سامق ومؤلم يجعلنا نمد الذراع جاهدين لنطول ما لايطال . وأرفق الإهداء بعبارة : الى الشمس التي أشرقت في طريق حياتي". بعدها تتوالى الرسائل ويكتب في يومياته: "أميلي أعادت لي الأمل بحياة جديدة" ، وبعد اسابيع يرسل لها رسالة جدية يكتب فيها: "أكان لقاؤنا غباءً أم جنوناً؟ أم تراه كان غباءً وجنوناً معاً؟ أرى إنه شيء لا هو بالجنون ولا بالغباء إنه القدر".
ويطلب من أميلي أن ترسل له صورتها وحين تتأخر بالرد يكتب لها: "افضل هذا من أن تصلني صورة غير مميزة، ومع ذلك فما اوضح ملامحك الراسخة الجميلة في مخيلتي، ما زلت أرى اميرة تخفي كثيراً من الأسرار وراء تلك الملامح، هذه الأسرار ، ما هي ؟ يحلم المرء بأشياء كثيرة ويخلق من أحلامه جمالاً كبيراً، وهذا ما أفعل، إنه عوض صغير عن الحقيقة، الحقيقة بلا قرار، الحقيقة التي لا تطال " ، بعدها يكتب في يومياته: "تعرفت على طيف جميل من أطياف الصيف، جزء من موسم الفراشات والزهور البرية.. أميرة أعادت إليّ بعضاً من اسرار الحب، وكنت قد تصورت إنني على خصام معه .. وإننا اصبحنا غريبين".
ثم يقرر أن يهدي لها نسخة من مسرحيته براند، ويكتب في الإهداء: "الى صغيرتي، عسى أن تعبّر حياتك كالقصيدة الكاملة عن الوفاق التام بين السعادة والواجب".
وتصل له أخيراً صورة فوتغرافية من اميلي فيكتب لها: "صورتك الجميلة ، الساحرة بما تحمل من شبه غريب لك، منحتني فرحة لا توصف، شكراً لك .. ألف شكر من اعماق الفؤاد في عز الشتاء، أعدت لخيالي ذكرى تلك الأيام القليلة الساطعة من أيام صيف انقضى".
وحين بلغه مرضها يكتب لها في السادس عشر من كانون الثاني عام 1890 رسالة يقول فيها: "هل تصدقين انني حدست أمر مرضك بوضوح! في خيالي رأيتك راقدة في الفراش، شاحبة ومحمومة لكنك تملكين جمالاً لا يقاوم".

******
مساعد الصيدلي الذي تحول الى اشهر شخصية
هنريك إبسن المولود في شهر آذار من عام 1828 ، كان الابن الأكبر بين خمسة اطفال لأب يعمل في التجارة وأم من عائلة اكثر رجالها يعملون في البحر، وعندما بلغ السادسة من عمره أفلس والده واصبح مشاكساً وعنيداً وصعب المزاج، وأمه التي كان يضرب المثل بجمالها ذات يوم، وكانت تطمح أن تصبح ممثلة، اكتأبت بسبب تصرفات زوجها وراحت تختفي في غرفتها لتلعب بدمى الأطفال، كانت الأسرة غارقة في الديون وتعيش على أكل البطاطس والخبز، وعندما بلغ إبسن السابعة عشرة من عمره، أرسله والده ليعمل مساعداً لأحد الصيادلة، وهنا أيضاً رافقه الحظ السيئ، فقد افلس الصيدلي وأغلق دكانه ، ولعل حياة إبسن اشبه بالملحمة عن العصامية والاعتماد على النفس، ففي سنة 1850 دخل الجامعة، وبدأت محاولاته الأولى للكتابة، إلا أنها جميعاً كانت محاولات فاشلة، فمسرحيته الأولى "نورما" لم تجد مسرحاً تعرض عليه، وفشلت أولى أعماله التي قدمت على المسرح وكانت مأساة شعرية بعنوان "كاترين"، ولم يكن حظه أفضل مع ثاني أعماله المسرحية ، ومسرحيته الثالثة فشلت فشلاً ذريعاً، واضطر أن يقدم مسرحيته الرابعة "السيدة انجاز" باسم كاتب آخر، ابتسم له الحظ عام 1866 حين قدمت اولى اعماله الكبيرة "براند" ، حيث ظهرت المسرحية في الوقت نفسه الذي نشر فيه كارل ماركس الجزء الأول من رأس المال.. كانت مسرحية براند هجوماً على المادية التقليدية ، ودعوة الى اتباع الضمير الفردي في مواجهة نظم المجتمع، وربما يكون ذلك هو الموضوع الرئيس لكل أعماله، وقد أثارت "براند" عند نشرها جدلاً كبيراً وبدأ النظر الى إبسن كقائد للتمرد على المعتقدات التقليدية، ليس في بلاده النرويج فقط وإنما في معظم بلدان أوربا . وربما كانت حياة إبسن مثل حياة ابطال مسرحياته، حيث نجده وهو في الثامنة عشرة من عمره ويعيش فوق محل الصيدلي الذي يعمل عنده، يعيش قصة حب عاصفة مع امرأة تعمل بائعة في أحد المحال، كانت تكبره بعشر سنوات، ويخبرنا كاتب سيرته أن هذه العلاقة تطورت فأنجبت المرأة "صوفي جنسداثر" ولداً وحصلت بعد ذلك على حكم من المجلس المحلي بأن يدفع لها إبسن نفقة حتى يبلغ ابنه "جاكوب" الرابعة عشرة"، ويكتب إبسن عن تجربته تلك في يومياته: "كنت شاباً أؤمن بما قاله افلاطون ذات يوم من أن الجمال متعة أبدية، إن الحب يمنح للوجود طعماً، إذن فعلى المرء أن يتمتع اكثر واكثر بالحب. أي أن نحب ونعيش في التو واللحظة، ثم كتب بعد ذلك بسنوات: "بالنسبة إلي مازلت ابحث عن الحب، وانتهز ما اصادفه من جميلات لأعيش قصة عشق حقيقية".
حين شارف إبسن على "عتبات الكهولة" تنازعته قصص حب، كانت حكاية اميلي قد انتشرت برغم كتمانه، فقرر أن يوقف رسائله لها، وتسجل اميلي في مفكرتها: "غيرته تجعلني أشعر بالفخر، كل كلامه معي مملوء بالأحاسيس والمشاعر القوية، اخبرني أنه يشعر في حياته أبداً بمتعة كتلك التي يشعر بها معي، لم يعجب بأحد قدر اعجابه بي" إلا أن إبسن يخبر كاتب سيرته إنه : " كان يشعر أن من الأفضل أن نبدو وكأننا غرباء". وتخبر اميلي احدى صديقاتها إن الكاتب الكبير عرض عليها امكانية طلاقه من زوجته، واستعداده للزواج منها .
ولأن عاش صراعاً بين حبّه لاميلي والتزامه الأخلاقي امام عائلته، نجده يكتب في احدى رسائله: "من حق ضميري عليّ أن أقطع مراسلاتي لك، أو في القليل الحدّ منها، عليك في الوقت الحاضر أن تخفضي اهتمامك بي الى أدنى الدرجات. أمامك اشياء أخرى تشغلين بها وقتك، وأنت بعد شابة" وترسله رساله عتاب تقول فيها: "لماذا تريد أن تهرب بعيداً، بعد أن جعلتني اتعلق بأذيالك"، فيرسل لها رسالة رجاء: "أرجوك في الوقت الحاضر لا تواصلي الكتابة، حين تتغير الظروف، سأخبرك، أرسل لك قريباً مسرحيتي الجديدة، أقبليها في عطف وصمت".
وتمضي السنوات على هذا الغرام، الذي اكتفى فيه إبسن بالرسائل ولقاءات بين الحين والآخر، فيما تؤكد اميلي إنهما عاشا حباً افلاطونياً حتى انهما لم يتبادلا القبلات .
ويضع أ[ٍن تعريفاً لهذا الحب على لسان جينا اكدال، بطلة مسرحيته الشهيرة البطة البرية: "الحب هو حب الجمال، ولا يمكن قصره على الحب الجسدي". وبمرور الزمن تفقد رسائله لأميلي توهجها، ونراه يشعر من جديد بالحرمان العاطفي، وفجاة ترسل له رسالة شوق بمناسبة عيد ميلاده السبعين، فيعود لسابق عهده بالحب وانشغاله فيه فيكتب لها: "ياعذب الكل، يا آنستي الحبيبة الغالية، اقبلي اعمق الشكر على رسالتك ، ذلك الصيف الذي شاهدتك فيه لأول مرة، كان أسعد ما في حياتي".
بعد ذلك بعام يقدم مسرحيته الشهيرة "حين نبعث نحن الموتى" – صدرت بالعربية في سلسلة المسرح العالمي بترجمة محمد سامي احمد" - ويكتب في الإهداء: " الى تلك الفتاة التي أعادت لي أسعد وأجمل ما في حياتي " وكان يقصد أميلي، وفي المسرحية نحن امام نحات "روبك" يصنع تمثالاً رائعاً لامرأة فائقة الجمال اسماه "يوم البعث" وعندما ينتهي منه ينفض يديه بقسوة وأنانية من المرأة التي وقفت أمامه عارية، كنموذج وعرضت أمامه كل أسرار جسدها وروحها أيضاً، واقامت معه نوعاً من الحب الروحي، فقد كان التمثال ثمرة فنّه وجمال الموديل، لكن النحات الأناني أدار ظهره لكل هذا ومضى يحاول أن يستمد الإلهام من موديل جديد، وتمضي السنوات الطويلة بين الفنان وموديله، ثم يلتقيا آخر الأمر، فيكتشف الفنان فجأة أنّه كان ميتاً طوال السنوات الماضية، وإنه قد بعث من جديد.
روبك : لاشك أن حبنا لم يمت يا أيرين
أيرين: إن الحب يتصل بالحياة الأرضية الغامضة، هذا الحب قد مات في قلبينا
روبك: "بانفعال" ولكن أتعرفين إن هذا الحب بالذات، مازال يحرق ويغلي في احشائي كما لم يكن يغلي من قبل
أيرين : وانا نسيت من اكون
روبك: كوني من تكونين أو ما تكونين، فلن اهتم بذلك، فلست عندي إلا تلك المرأة التي أراها عندما أحلم بك
أيرين: وقد وقفت على منصة النماذج بعدك، واظهرت نفسي لمئات الرجال من بعدك
روبك: مازالت امامنا فسحة من العمر لنحيا حياتنا يا أيرين
ايرين: لقد ماتت فيّ الرغبة، فها وقد بعثت وبحثت عنك حتى وجدتك، وإذا ذاك رأيت إنك أنت والحياة كلاكما ميتان .
روبك: لكن هذه هي الحياة فينا ومن حولنا تختلج وتضطرب كما لو لم تكن من قبل !
أيرين: المرأة الشابة في تمثالك "يوم البعث" تستطيع أن ترى الحياة كلها ترقد على قاعدتها .
ويختتم إبسن مسرحيته حين يصرخ روبك: ذلك الصيف كان أسعد وأجمل ما في حياتي، مرة أخرى من يدري هل سأعيش صيفاً جديداً .
********
قصص حب في آخر العمر
لم تكن أميلي الفتاة الوحيدة التي أحبها إبسن، ففي مراسلاته نجد هيلين، ولورا كلير وثالثة اسمها روز، ، أما هيلين فكانت فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها من مدينة ميونخ، على درجة كبيرة من الثقافة وتعشق المسرح، وسمحت له أن يقبلها، وعندما سألته ماذا يرى فيها، أجاب: "الطفولة، الشباب مجسداً، وأنا احتاج لذلك في كتاباتي "وتكتب هيلين أن حاجة إبسن الى الفتيات الشابات لم تكن تنطوي على نوع من الخداع أو الغش، كانت كلها نابعة من احتياجاته ككاتب، ولهذا نجد النساء اللواتي تعرف عليهن يتحولن الى بطلات من لحم ودم في مسرحياته، نساء حقيقيات بمشاعر يتمنى أن يعيشها، وفيما كانت لورا كريل، الشابة التي تعلق بها إبسن عندما كان في السادسة والخمسين من عمره، كانت امراة متزوجة في الثلاثين من عمرها، خاضعة تماماً لنفوذ زوجها، وتنفذ كل ما يطلبه منها، عندما تعرف عليها إبسن، قال لأحد مقرّبيه: " إنها تملك عينين ساحرتين، حزينتين"، كانت قد خرجت تواً من مصحّة نفسية دفعها إليها زوجها الذي كان يتهمها بأنها تسرقه، وجد فيها إبسن نموذجاً للمراة المضطهدة، وما تعانيه من ظلم، وعندما تقرب منها اكثر أحبها جداً، حتى أنه قرر أن يساعدها في محنتها، وتكفل بأن يكون مسؤولاً عنها، يلبي كل رغباتها: "الآن وجدت المرأة التي سأكرس نفسي لها، إنسانة رقيقة، إلا أن الزمن غدر بها كثيراً".. ولان المسرح هو شاغله نجده يستخدم شخصية لورا في مسرحيته الشهيرة "بيت الدمية" من خلال بطلة المسرحية "نورا"، ولم يكن من الصعب على الذين يعرفون لورا أن يكتشفوا أنها هي بطلة المسرحية الشهيرة، وقد طلبت لورا من إبسن أن يعلن أن "نورا" في بيت الدمية ليست هي، فيكتب لها: "لا استطيع أن افهم ماذا يدور في عقلك، إن إعلاناً من جانبي كالذي تقترحينه ، اقول فيه إنك لست نورا، سيكون بلا معنى وضرباً من العبث، حيث انني لم أقل ابداً إنها أنتِ".
تزوج إبسن عام 1858، من سوزانا توريسين، كان في الثلاثين من عمره، وعاشت معه حياة مليئة بالتقلبات، ولهذا كانت اشبه بالشريكة له، فقد استطاعت أن تدير دفة حياتهما ببراعة رغم معرفتها أن زوجها يقيم علاقات بين الحين والآخر، فهي كانت ترى أن زوجها كاتباً انطوائياً، ويحتاج الى فترات من الراحة النفسية .

******
اكتشاف كيركجارد
اكتشف أبسن معنىً جديداً للحب من خلال اهتمامه بقراءة كتب الفيلسوف الدانماركي كيركجارد، والتي كان إبسن معجباً بها بشغف، وقد اعترف إبسن في مقدمة مسرحيته "كوميديا الحب" بأنه استطاع من خلال فلسفة كيركجارد، أن يتغلب على التناقض بين متطلبات الحياة العملية والعائلية، وموهبة الكاتب التي تفرض عليه أن يعيش أنواعاً أخرى من الحب. وكان إبسن يعتقد أن الحب رسالة بالنسبة لكل من الرجل والمرأة، ولكن هو بالنسبة للنساء الرسالة الوحيدة، لكنه في مسرحياته يقدم لنا نماذج لنساء لا يتزوجن ولا يجدن السعادة إلا بالحب، وأن يهبن حياتهن لمهمة عظيمة، فنجد بنات ستوكمان في مسرحية "عدو الشعب" يسعين بأداء مهمة من اجل مجتمع افضل، أما النساء اللواتي يقررن الزواج، فإنهن لا ينشغلن بشيء سوى بمنازلهن.
يقول إبسن، إن الرجل لايمكن أن يخطئ في اختيار المرأة التي يحبها، كما أن المرأة تقودها أقدارها دوماً في اختيار رجل حياتها: "كائنان ينجذبان كل منهما للآخر ويشعران بواجبهما إزاء تسخير كل شيء لتحقيق ارتباطهما". إن قبول زواج العقل والمصلحة والاستسلام للاعتبارات العائلية، يعد خيانة عند إبسن، وهو يدين مجتمع الرجال الذي يعامل المرأة على أنها قاصر دائماً ولا تصلح سوى لتزيين البيت، وهو يعتبر الزواج تنظيماً غامضاً علينا أن نلامسه .
قصة الحب الأخيرة في حياة إبسن كانت مع هيلدور، ابنة عائلة يعرفها منذ سنوات طويلة، كانت الفتاة قد عادت من رحلة على الدراجات حين التقى بها الكاتب الكبير لأول مرة، وقد تلا هذا اللقاء لقاءات كثيرة، وتبادل معها رسائل غرام مشحونة بالعواطف، ونراه يكتب لها وهو يهديها باقة زهور حمراء: "هذه تسع وردات حمراء لك، وتسع وردات أخرى لي، خذي الورود آياتاً للعرفان على ما امضيناه معاً من أوقات سعيدة". وكان قد قدّم لها في مناسبة أخرى خاتماً من الماس محفور عليه تاريخ 19 ايلول، وهو ذكرى لقائهما الأول، كما أهداها مخطوطة مسرحيته الشهيرة "سيد البنائين"، ورغم شدة العاطفة التي كان إبسن يحسّ بها نحو هيلدور التي فاقت كل قصص الحب التي عاشها، إلا أنه في النهاية نظر اليها على أنها مصدر إلهام، ومجددة لحياته وفنّه، ومن خلالها سيستطيع أن يعيد الشباب الى قلبه، ومثله مثل بطل مسرحية سيد البنائين – ترجمها الى العربية صلاح عبد الصبور – هالفارد سولنس، الذي يواجه اعصاراً نارياً يتمثل في شخص فتاة شابة في الثانية والعشرين من عمرها اسمها هيلدا، تحط فجأة على عش سيد البنائين، لرجل الكهل، فتثير فيه عاصفة تقتلع كلاً من سولنس وحياته المستقرة.
هيلدا هذه شابة جميلة تؤمن بالمستحيل، وهي تدفع سولنس الى تحقيق ذلك المستحيل، فغايتها أن تجده يبني بناءً عظيماً، ونجد أن حبها لسولنس هو حب من نوع غريب، فهي لا تحبه لشخصه، وإنما لأنها تستطيع من خلاله أن تحقق المستحيل، وسولنس بدوره يحب هيلدا الحب ذاته، فهو لايحبها لأنها هي الفتاة الجميلة الصغيرة، بل لأنها توقد النار في داخله، نار الرغبة في تحقيق المستحيل.
والمستحيل هو: "قصر في الهواء، عالٍ ..عالٍ كأعلى ما تكون الأشياء" ويسألها سولنس إن كانت ستسمح له بالصعود معها الى القمة، فتقول نعم ستسمح، إذا سمح المعلم لنفسه بالصعود. ويقرر سولنس أن يفعل المستحيل، أن يصعد الى أعلى البرج الذي أقامه متحدياً خوفه وكهولته ونظرة المجتمع إليه، ليضع باقة من الزهور، غير أنه يسقط من قمّة البرد ليتحطم جسده، ونجده وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة سعيداً، لأنه حقق نصراً روحياً كبيراً، لايهم بعدها ما يجري، ويكتب إبسن في آخر رسائله الى هيلدور قبل وفاته بأشهر – توفي عام 1906 –: " يا أميرتي، لقد استطعت أن تقودي خطاي الى النصر الكبير".



عن المدى
 
محاولة قهر الحب أسهل بكثير من محاولة قهر العلم
 علي حسين

| 25 |

قال الطبيب الذي حضر وفاة إسحق نيوتن إن العالم الكبير أخبره وهو على فراش الموت ، أنه على الرغم من انشغاله وكثرة اعبائه كان يحاول أن يجد تفسيراً علمياً لمعنى الحب ، ففشل ، مثلما فشل في أن يُقبل أي امرأة في حياته ، ونجد صاحب النظرية النسبية أينشتاين يكتب في دفتر يومياته :" لقد أدركت أخيراً معنى الحب ، عندما انقطعت رسائلك عني طوال شهر كامل ، فأنا أتوق إليك بشدة " ، بعدها يكتب الى ميليفيا مارتيش :" كم كان جميلاً منك في تلك المرة الأخيرة إن سمحت لي بأن اضمك الى صدري بتلك الطريقة العفوية " .


ما هو الحب ؟
الى جانب نيوتن وأينشتاين كانت هناك ملايين الاجابات عن سؤال ما الحب ؟ ، ولعل أشهرها ما قدمه لنا شاعر اغريقي ولد سنة 43 قبل الميلاد ، وعاش اثنين وستين عاماً ، كانت مليئة بالمتعة وبالحب ، اسمه بيبلوس اوفيديوس نازو ، لكن العالم يعرفه باسم أوفيد ، ويصفه لنا معاصره الفيلسوف سنيكا بالقول :" أنت أمام رجل رقيق ، أزرق العينين ، ممتلئ بالوسامة لدرجة إن النساء يتهافتن عليه " .
إلا أن هذا الوسيم صاحب الشعر الأشقر والعينين الزرقاوتين والذي أعده أبوه ليشغل إحدى الوظائف الادارية في الدولة ، يختار الشعر ، مثلما يختار من نساء روما فتاة واحدة يعشقها ، ويشاء القدر أن تكون هذه الفتاة الجميلة " آرلان " حفيدة الامبراطور أوغسطيس ، وكان قد إلتقاها في إحدى الاحتفالات التي يقيمها الامبراطور ، فقرر أن يرتبط بها ، وأن يتزوجها بالسر ، لأنه يدرك إن الامبراطور لن يقبل أن يتزوج شاعر بإحدى حفيداته ، وحين علم أوغسطيس إن حفيدته تزوجت سراً بأوفيد قرر أن ينفيه الى بلاد البرابرة ، كما أمر أن تنفى حفيدته الى مصر .
وفي منفاه يكتب أوفيد واحداً من أهم كتبه أسماه " فن الهوى " يهديه الى محبوبته آرلان .
فيه يسجل كل فلسفته في الحب ، فهو يرى ان العاشق المثالي ليس بالصبي الحالم ولا بالذي يسمح لنفسه أن تفقد إتزانها في حضرة المحبوب. ، والكتاب يضم ثلاثة كتب ، في أولها يشرح كيف يستطيع العاشق الاستيلاء على قلب محبوبته ، وفي الثاني يعلمه كيف يحتفظ بهذا الحب الى أطول مدة ممكنة ، والكتاب الثالث مخصص للمرأة وبه يقدم لها نصائح في كيفية المحافظة على حب الرجل .
و " فن الهوى " كتب على شكل قصيدة طويلة تميزت بالوضوح وحب الدعابة ، وفي افتتاحية الكتاب يصف لنا " كوبيد آله الحب بـ " الصبي الغض " ثم ينتقل ليشبه الحب بالحرب ، وان مركبته لاتعدو حدود هذا الميدان الممتع :" بأهازيج النصر أشدُ يافتى .
ثم اصدح مهلّلا أنّى مضيت .
فها هي ذي من كنتُ أطاردها تقع فريسة في الشراك .
وليتّوج بإكليل الغار جبيني من سَعِدَ في عشقه
وليرفعني فوق مرتبة هيسود شاعر أسكرا ،
وهوميروس الضرير حكيم مايونيا العجوز .
ويحاول أوفيد يأخذ دور المعلم وهو يلقي على تلامذته دروساً في العشق ، ويضع لهم وصفات مفيدة تناسب الجميع، سواء كان العاشق مستجدًا أو متراخيًا أو متردداً ، ويقدم لقرائه الخطط التي تجعلهم يكسبون قلب حبيباتهم : " عليكم بفنون القول الرفيعة، لا تقصروها على موكليكم المتوجسين فى ساحات القضاء، فليست المرأة أقلّ استسلاماً لسحر البلاغة، من القاضي الجاد أو الشيوخ المنتخبين أو جموع المستمعين " .
وينظر أوفيد الى الحب على إنه فن ، مثل كل الفنون الاخرى ، بل يذهب صاحب كتاب " فن الهوى " الى تشبيه الحب مثل فن زراعة الأرض ، فالفلاح البارع هو الذي يعرف أن هناك وقتاً لحرث الأرض ، ووقتاً معيناً لوضع البذور ، ووقتاً للحصاد ، والذي يريد أن يجني ثمار زرعه عليه أن يراعي هذه القواعد .

***
مغامرات علمية في الحب
كان في التاسعة عشرة من عمره حين أخبر والدته انه ينوي الزواج من حبيبته " ميليفيا مارتيش" ويذكر أينشتاين أن أمه :" ألقت بنفسها على السرير ، ودفنت رأسها في الوسادة ، وأخذت تبكي كالاطفال ، فهي لم تتوقع يوماً أن ابنها سيختار فتاة يمضي حياته الباقية معها " .
وقبل أن يكمل حديثه كان والده يخبره إنه اختار المرأة غير المناسبة ، فقد كانت ميليفيا تكبره بثلاث سنوات وقال له :" عندما تصل الى الثلاثين ، ستكون هي عجوز شمطاء " .
وكان تبرير اهله إن الزواج في هذا السن ترف لايتحمله فتى بعمره ، لايستطيع أن يوفر معيشة مريحة له . وكتب اينشتاين رسالة الى ميليفيا يشكو فيها ما يتعرض له من ضغوط من قبل والديه : " كثيرا ما تبكي أمي بمرارة ، ولا أنعم بلحظة واحدة من السلام ، إن والديّ يبكيان من أجلي كما لو كنت قد فارقت الحياة ، ويشكوان مرة تلو المرة من انني جلبت البلاء على نفسي بحبي لك " .
ويبدو أن هذه الضغوط العائلية أذكت عواطف أينشتاين المتمردة وزادت من تعلقه بالفتاة " الطائشة " كما كانت تدعوها أمه وكتب إليها :" الآن فقط أدرك كم أحبك بجنون".
ويكتب والتر إيزاكسون في كتابه سيرة أينشتاين : " إن عائلته كانت تلحظ عليه ولعه بالنساء ، وضعفه أمام عبارات الحب ، وبعد وفاته اكتشف الباحثون إن اينشتناين يحتفظ في صندوق أحذيته بمجموعة من الرسائل الغرامية التي كانت ميليفيا ترسلها اليه وعليها تعليقات شديدة الحساسية". ففي رسالة تشكو إليه عذاب الفراق يعلق أينشتاين :" كلانا من الشياطين الفقيرة، المكبّلة بأغلال الواجبات. لا أستطيع أن أعبّر بما يكفي عن مدى رغبتي في أن أكون معك. لكن إذا استسلمنا لحبنا، فالنتيجة لن تكون جيدة. أنت تعرفين هذا جيدًا".
ويكتب على ظهر احدى رسائل حبيبته: "أنا أحبك وسأكون سعيدًا إذا سمحت لي برؤيتك والسير إلى جانبك فقط حتى ولو لحظات، أو إذا ما كان بإمكاني أن أكون قريبًا منك".
لم تكن ميليفيا الحب الاول في حياة أينشتاين ، فقد تعلق وهو في السادسة عشر من عمره ، بابنة مدرس التاريخ ، اسمها ماري ونتيلر والغريب إنها ايضا كانت تكبره بثلاثة أعوام ، وكانت أول رسالة يرسلها لها داخل في رواية " العقل والعاطفة " لجين أوستن ، والتي كانت ماري مغرمة بها وفي الرسالة يكتب لها ردا على خطاب حب تلقاه منها : " ياملاكي الصغير أدرك الآن مدى ما أكابده من لوعة الشوق إليك ، إنني أدرك الآن فقط كم إنك ياشمسي الصغيرة غالية ، أنا عاجز عن الاستغناء عنك من اجل سعادتي ..أنتِ أهم لروحي من كل العالم الذي عرفته من قبلك " .
ونجد ماري تكتب له بعد أيام قائلة :" إنها تعد الدقائق في انتظار رجوعه إليها " .ويبدو إن هذا الحب لم يستمر طويلاً فقد قررت ماري السفر الى بلدة اخرى للعمل في إحدى المدارس ، وبسبب انشغاله بالدراسة توقف اينشتاين عن إرسال خطابات الغرام لها ، إلا إنه يعترف لكاتب سيرته أن خيال ماري لم يفارقه طوال عمره : " إنني معظم الوقت أشعر بالطمأنية الكاملة في قلعة هدوئي الحصينة ، ولكنني سوف أصاب بالجنون بكل تأكيد لو أن طيف ماري غاب عني كثيراً " .
ويبدو أن ماري شعرت بأن أينشتاين يبتعد عنها ، كان آنذاك قد تعرّف على ميليفيا ، مما دفع ماري الى الزواج من مدير أحد المصانع ، وانجبت منه ولدين ، ويبدو انها لم تستطع أن تنسى حبها لأينشتاين ، فانتهت حياتها مريضة في إحدى المصحات النفسية .
كانت ميليفيا هي الحب الثاني متفوقة في دراسة الرياضيات ، تؤمن بان أينشتاين يملك قدرات خارقة ، وعندما قام زملاء لها بانتقاد كتابات إينشتاين العلمية الغربية ردت عليهم بقولها :" لكنه سيتمكن ذات يوم من إدهاش العالم"
وقد استغرب زملاؤه في الجامعة كيف أن شابا وسيما مثله يغرم بفتاة أكبر منه وفي مشيتها شيء من العرج ، وكان يقول لهم : " إنها تملك صوتاً حبيبا الى النفس " ، وفي تلك الفترة كتب عدداً من أشعار الحب ، أهداها الى ميليفيا مع عبارة :" في مقدوري التفكير بأشياء كثيرة من بينها طبع قبلة على فمك الصغير "

*******
البحث عن امراة
تنبأ أينشتاين في رسالة الى أمه وهو شاب ، إن العلم سيكون ملاذه من العواطف الشخصية ، وعندما قرر الارتباط بميليفا ذكرته أمه بتلك الرسالة فاخبرها إن محاولة قهره للحب أسهل بكثير من محاولة قهره للعلم ، كان عمله في نظريته النسبية يأخذ معظم وقته ، لكنه يشير بين الحين والآخر الى أن حياته العاطفية تزدهر باستمرار ، ويكتب في يومياته :" أحيانا أجد نفسي في منطقة مختلفة تماما ..وجدت نفسي مليئا بمشاعر جميلة ولدي رغبة للعثور على فلسفة ما ، تجعل حياة الإنسان سعيدة " وكانت الفلسفة التي عثر عليها أينشتاين نسخة من كتاب فن الهوى للروماني أوفيد :" كنت أتصفح الكتب المستعملة عصر أحد الأيام في أحد مخازن بيع الكتب ، ولمحت العنوان ، انذاك كنت مهتما بقراءة كل ما يتعلق بالمعلم نيوتن ، لكني وجدت في كتاب فن الهوى لأوفيد ، محطة للاستراحة " كان من الصعب على أينشتاين صاحب الماكنة المنطقية في عقله كما كان يسميه زملائه أن يتفرغ لقراءة كتب عن العشق لكنه فعل ، فهو يريد اكتشاف الشعر والفنون ، حتى إنه فكر أن يتوقف عن التجارب العلمية ليتفرغ لكتابة الشعر ، ونراه يكتب في يومياته : " هناك عواطف عند الانسان تكون مؤكدة بل لايستطيع انسان منطقي أن يشكك بها " ولهذا يقرر في السادس من كانون الثاني عام 1903 ان يرتبط بمفيليا ورغم اعتراض والديه على الزواج ، إلا ان الزواج يتم في برن ، ليعيش أينشتاين وميليفيا في بيت متواضع للغاية ، وفي هذا البيت شهد ولادة ابنه هانز عام 1904 ونظريته النسبية عام 1905 ، وفي هذا البيت كتب اينشتاين الى أمه : " أشعر بذروة السعادة عندما أكون الى جانب ميليفيا " .
وبعد ان بدأ نجم أينشتاين يسطع في سماء العلم ، نشرت الصحافة في زيورخ نبأ تعيينه أستاذاً في جامعتها ، وتشاء الصدف أن تطالع امرأة متزوجة اسمها آنا مايلر شميد هذا الخبر وهي المرأة نفسها التي كان قد تعرف عليها عندما كانت فتاة وأهداها قصيدة غزل من تأليفه ، فترسل إليه رسالة تهنئة بمناسبة تعيينه ، وبعد أشهر يبعث لها أينشتاين برسالة يذكرها بلقائتهما القديمة وإنه مسرور جدا ببطاقة التهنئة ، ثم اضاف في رسالته :" إنني أتمنى لك موفور الحظ ، ويمكنني أن اتصور انك اصبحت الآن امرأة تجمع بين الامتياز والسعادة مثلما كنت فتاة محبوبة وسعيدة " وذكرها أينشتاين بالايام الساحرة التي انقضت ، وكتبت اليه آنا رسالة تطلب فيها عنوانه ، غير أن خطابها وقع بيد زوجته ميليفيا التي شَكت بوجود علاقة بين صاحبة الرسالة وزوجها ،فارسلت الى زوج آنا خطاباً تخبره فيه برسالته ، وشعرأينشتاين بالغضب ، وقد سببت له هذه التجربة مرارة لم تنجح السنوات في ازالتها ، فنراه يكتب لابنه الاكبر عن " العيب المرضي الذي كانت أمه مصابة به " ، ويبدو أن ميليفيا طبقت سياسة الرقابة الدقيقة والمحكمة مع زوجها اينشتاين حتى لاتتكرر قصته .، الا أن حكايات غرامه لم تنته عند هذه القصة ، فعندما حضر محاضرة لأحد اصدقائه من علماء النفس وبينما كان الصديق يشرح نظريته للحضور كان أينشتاين يركز بصره على فتاة جميلة مما أثار ضيق عالم النفس الذي التفت الى اينشتاين ليقول له :" ياسيدي البروفيسور اذا كنت في حالة حب ، فسوف نعتقد ان الحب أهم من نظريات الكمية " فيرد عليه اينشتاين : لا ياسيدي ان نظرياتي الكمية ترتبط ارتباطا مباشراً بجمال المراة " .
ويذهب كاتب سيرة أينشتاين والتر إيزاكسون الى ان جميع علاقات اينشتاين بالنساء لاتعدو ان تكون علاقات افلاطونية ، ورغم معرفة زوجته بمغامراته العاطفية إلا انها حرصت على اظهاره بمظهر الزوج المخلص الوفي . فقد كتبت في احدى رسائلها ان :" رجلا في عبقرية زوجها لابد من ان يكون كامل الأوصاف" .

*****
معنى الحب
قبل وفاته بعشر سنوات تلقى اينشتاين كتاب من عالم النفس والفيلسوف الالماني إريك فروم ، الكتاب بعنوان " فن الحب " وقد كتب في اهدائه لاينشتاين العبارة التالية : الى البروفيسور الذي كانت حياته العاطفية دافعا لي لأن اضع هذا الكتاب .
ويستهل فروم كتابه بهذه العبارة لأوفيد
" من لايعرف ..لايحب " ، ويحاول فروم ان يجيب على سؤال هل الحب علم ؟
فالناس محاصرون بالحب من كل مكان ، الكتب الافلام والموسيقى ، كل شئ يتحدث عن الحب ، ولكن لا احد يريد ان يجد تفسيرا لهذا الحب . وكل الناس يعتقدون ان النجاح في الحياة هو النجاح في الحب .
ولد إريك فروم بمدينة فرانكفورت في 23 اذار 1900،. وكان وحيد والديه اللذين أرادا منه أن يكون رجل دين ، درس القانون. ودرس أيضاً الفلسفة ليحصّل على درجة الدكتوراه في الفلسفة، ثمّ انصرف إلى التحليل النفسي برفقة أستاذته المحللة النفسيّة الألمانيّة الشهيرة فريدا رايخمان التي اصبحت زوجته سنة 1929، لم تكن حياته مستقرّة، فقد تزوّج مرّات عدّة، اعترف لكاتب سيرته قبل وفاته انه عاش قصة حب واحدة اثناء شبابه ، وانه حاول الاحتفاظ في قلبه بقطعة الحب هذه التي رآها ضرورية لمن يعمل في مجال علم النفس . كان في العشرين من عمره ، خجولاً وحساساً، يدرس القانون ، ويقصد معهد للفلسفة انذاك تعرّف في عيد الميلاد الى فتاة دعاها للعشاء قالت له . لا أحب تصرفات المراهقين ، وفرح بأول قبله يحصل عليها من امراة ، كان يتحدث معها وهو يحمل رواية آلام فارتر لغوته، في انتظار ان تساله الفتاة عن الكتاب ، ما إذا كان يتحدث عن الحب .؟
كتب اليها رسالة: " كنا مثل الاطفال وسنبقى كذلك أبداً" . يرى فروم أن رد فعل الطفل ، كان السعي الى الحب دوما ، في الخامسة والاربعين من عمره اصدر كتابه " فن الحب "
يعتقد " فروم " أن مشكلة الحب الأساسية هي كيف أُحَبّ بدلًا من كيف أُحِبّ، وقدرة الشخص على بذل الحب، ومن هنا تنشأ معضلة كيف أحصل على الحب، وكيف أصبح محبوبًا :" يعتقد الناس إن القدرة على بذل الحب شيء بسيط، ولكن أن تجد الأدوات الصحيحة للحب، وأن تجد من يبذل لك الحب، فهو شيء صعب. هذا السلوك له عدة أسباب مرتبطة بتقدم المجتمع المعاصر، أحد هذه الأسباب هو التغير الكبير الذي ظهر في القرن العشرين، فيما يتعلق بمعنى الحب" .
ويخبرنا فروم ان الفكرة الراسخة لدينا عن معنى الحب أنه خليط من التجارب الأولى للوقوع في الحب، أو حالة دائمة من الوقوع في الحب، ويمكن أن نطلق عليه مصطلح " الوقوف في انتظار الحب " ، ويحاول فروم ان يفند نظرية الروائي الفرنسي ستندال عن الحب ، يكتب اريك فروم في كتابه " فن الحب " ، ان ستندال أراد في كتابه عن الحب ، أنْ نحب من دون أنْ نعرف كيف نحب يجرح مَنْ نحب ، إنه يقدم لنا عاطفة مُربكة إلى أقصى مدى من خلال رواياته التي دائماً ما تطرح الحب جانباً بوصفه شيئاً يحدث لنا بتأثير سلبي ومُصادفة، شيئاً نقع في شباكه، يُصيبنا كسهم، وليس ممارسة بارعة نُنَميها بمهارة دقيقة كأية حرفة تتطلب تفوقاً إنسانياً. لعل فشلنا في الاعتراف بجانب البراعة هذا هو السبب الرئيس في أنَّ الحب يمتزج بالإحباط.
ويضيف فروم ان ستندال يريد أنْ يُبيِّن أنَّ الحب ليس عاطفة يمكن لأي إنسان أنْ ينغمس فيها، بغض النظر عن مستوى النضج لديه ، إنه يريد أنْ يُقنع قراء رواياته بأنَّ كل محاولاته لنيل الحب مصيرها الفشل، إلا إذا حاول بكل حماس أنْ يُطوّر شخصيته كلها، وذلك لكي يُحقق توجّهاً مُثمراً، وأنَّ الإشباع في الحب الفردي لا يمكن بلوغه إلا بالقدرة على الحب بمذلّة حقيقية، وشجاعة، وإيمان وانضباط.
ويرى " فروم" إن الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها هي إدراك أن الحب ما هو إلا فن، تمامًا كما الحياة، فإذا أردنا أن نتعلم كيف نحب، فعلينا أن نتخذ نفس الخطوات التي يجب علينا اتخاذها إذا أردنا أن نتعلم أي نوع آخر من الفنون، اختر ما شئت من الفنون: الموسيقى أو الرسم أو النجارة أو فن الطب أو الهندسة، ما هي الخطوات الأساسية لدراسة أي فن؟
إن دراسة أي فن تنقسم بديهيًّا إلى قسمين، أحدهما الإلمام بالنواحي النظرية، والآخر إجادة الممارسة، فإذا أردت دراسة فن الطب، يجب عليَّ في البداية أن أٌلم بالحقائق حول الجسم البشري، وما يتعلق بالفيروسات والأمراض، وبعد تحصيلي لكل هذه المعارف النظرية، لا يعني أنني أصبحت متخصصًا في فنون الطب، سأصبح ماهرًا في هذا الفن فقط بعد قدر كبير من الممارسة العملية، وفي النهاية يتم مزج تحصيلي النظري مع خبراتي العملية ليتبلور في شيء واحد.
أعتقد أن جوهر التمكن من أي فن بجانب الإلمام النظري والممارسة العملية، توافر عامل ثالث مهم لتتمكن من إتقان أي نوع من الفنون، وهو أن تمتلك الشغف والاهتمام البالغ بهذا الفن، وألا يكون لديك ما هو أهم من هذا الفن على وجه الأرض، وينطبق هذا على الموسيقى والطب والنجارة.
أما بخصوص الحب، وربما يكمن هنا الجواب عن سبب ندرة من يسعون لدراسة هذا النوع من الفن، بالرغم من الفشل الواضح، وبالرغم من الشغف الشديد بالحب، يعتبر كل شيء تقريبًا مقدمًا في الأهمية عن الحب، فالنجاح والمستوى الاجتماعي والثروة والسلطة كلها مقدمة عن الحب، وغالبًا ما توجه كل طاقاتنا لنتعلم كيف نحقق هذه الأهداف، والتي ليس أحدها تعلم فن الحب.



* منثول عن المدى
 
من رأسي حتّى القدمين إني مخلوقة للحب

 علي حسين

|26|

كانت تتناول الطعام بصحبة المخرج جوزيف فون سترنبرغ، الذي قدّمت من خلاله أشهر أفلامها، وكانت تردّد كلما سألوها عنه : "عندما التقيت سترنبرغ في ألمانيا لم أكن شيئاً، لكنه صقل موهبتي فجعلني أعمل تحت إدارته وكرّس كل علمه وكل فنّه، وكل تجاربه وكل طاقته، ليجعل مني نجمة، لقد غيّرني كلياً". في تلك اللحظة تقدم منها رجل لم يتجاوز الأربعين من عمره ليقدم نفسه: "سيدتي، اتسمحين لي بتقديم نفسي، فأنا إيريك ماريا ريمارك".



كانت مارلين ديتريش تكره أن يدنو منها الغرباء، ودائماً ما تصد أناساً طفيليين يلهثون وراء نجمة شهيرة، لكن اسم ريماك ومظهره الساحر لفت نظرها.. تكتب في مذكراتها، تصف اللقاء الأول : "كدت أسقط عن مقعدي. هذا ما يحدث لي دائماً عندما التقي برجال شهيرين، مرموقين يتحدث العالم كله عنهم. أصاب دائماً بصدمة، إن هم وقفوا هناك شخصياً، بصورة مفاجئة أمامي".
مدّت له يدها وهي نتظر اليه بإعجاب ، دعته الى الانضمام الى مائدتهم، وبعد لحظات استأذن سترنبرغ لانشغاله بالتصوير وتركهما لوحدهما.
بعد سنوات سيكتب ريماك في يومياته عن هذا اللقاء: "تحدثنا حتى الفجر، كانت ليلةً رائعةً. نظرت إليّ وهي تقول : "عليّ أن اخبرك انني مزعجة جداً ، نَظرت إليها للتخفيف عنها وانا اقول : إنه أمر رائع، انني سعيد، فأنا أيضاً اصبح مزعجاً في الكثير من الأوقات، إذن يمكن أن نلتقي ثانية، فكل شيء ممكن".
بعدها بأيام وجدته يقف قبالتها ، كانت تجلس على الشاطئ، تقرأ بكتاب حين اقترب منها وألقى نظرة على الكتاب. قال وهو يبتسم: "أرى أنك تحبين الشعر"، كان الكتاب ديوان "أزهار الشر" لبودلير.
نظرت إليه وكأنها أدركت أنه يريد أن يقول هل تقرأ نجمة سينمائية لشاعر منبوذ وكئيب ؟ لم يدعها تتحدث، فقد بدا يتلو عليها إحدى قصائد بودلير:
" شبابي لم يكن سوى زوبعة قاتمة
اخترقته هنا وهناك الشموس اللامعة
فقد عبث المطر والرعد ببستاني
فلم يبقيا فيه إلا القليل من الثمار الذهبية
وها إن أفكاري قد بلغت خريفها
ولا بد لي من استعمال الرفش والمسلفة
لأعيد تنظيم هذه المزارع التي غمرتها المياه
وحفرت فيها حفراً واسعة كالقبور
من يدري إذا كانت هذه الأزهار الجديدة
التي كنت بها أحلم
ستجد في التربة المغسولة كالرمل
الغذاء الرمزي الذي يبعث فيها النشاط ".

****
آخر قصة حب
كان ريمارك المولود عام 1898، في ذروة مجده، اضطر لمغادرة ألمانيا، بسبب رسائل مجهولة تصله باستمرار تهدده بالموت، الحزب النازي يواصل صعوده بقوة، ريمارك مقتنع تماماً بأن هتلر سوف يتسلّم مقاليد السلطة الآن أو بعد سنوات، وستكون ألمانيا مهدّدة، يقرر السفر الى سويسرا، ليصبح أول أديب منفيّ. يصحو ذات يوم من عام 1933 على نشرات الاخبار تعلن تعيين أدولف هتلر بمنصب مستشار ألمانيا، وها هو عدوّه القديم غوبلز يؤدي اليمين وزيراً للدعاية. لايزال ريمارك يتذكر مقال غوبلز عنه، وطافت في ذهنه صور وزير دعاية هتلر عام 1930، وهو يقود مع رفاقه في برلين الهجوم بالقنابل على دار السينما التي عرضت الفيلم المقتبس من رواية "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، الأمر الذي دفع بالرقابة الى منع عرض الفيلم، كان هذا اول انتصار لغوبلز، والآن جاء الانتصار الثاني، فقد صدر قرار بمنع الرواية، وحرق جميع النسخ الموجودة منها، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فلابد من قرار جديد بسحب الجنسية من الكاتب الذي باع وطنه للأجانب، هكذا صدر الأمر بإمضاء أدولف هتلر، يكتب في يومياته: "كانت صدمة بالنسبة لي أن أغادر المانيا التي احتجتها لمدة أربع سنوات لأكمل كتاب الرفاق الثلاثة. كنت بدون وطن، كحيوان لايملك شيئاً يأكله"، حاول في سنوات الغربة أن يخفي آلامه النفسية بالبحث عن علاقات حب جديدة، هذا ما تتذكره مارلين ديتريش التي كتبت في مذكراتها: "كان في أعلى درجات الحزن، حساساً سريع التأثر تلك الميزة في شخصيته، أثرت بي كثيراً. غالباً ما كانت لديّ فرصة للتخفيف عن يأسه".
عندما بدأت قصة الحب بين مارلين ديتريش وايريك ريمارك، أكد لها أنها ستكون "آخر قصة حب من قصصه"، كانت مارلين ديتريش، من جانبها عاشت قصصاً غرامية شهيرة، اضافة الى المخرج سترنبرغ، الذي كان جزءاً من أسرتها، وكان هناك أيضاً جون غالبرت وغاري غرانت الذي ظلت تطارده حتى آخر يوم في حياته، وجون واين. وتتكرر العلاقات التي يصفها الشاعر آلن بوسكيه في كتابه "مارلين ديتريش: حب على الهاتف "ترجمه الى العربية محمد حنانيا بأنها علاقات لتعويض سني الحرمان التي عاشتها ديتريش في طفولتها ومراهقتها، فأسطورة التمثيل التي ولدت تحت اسم ماريا ماغدالينا ديتريش في برلين يوم 27 كانون الأول 1901، لأب كان ضابطاً في الشرطة. لكن الأب سرعان ما مات إثر أزمة قلبية، وكانت مارلين لا تزال طفلة، فتزوجت أمّها من ضابط في الجيش الألماني، سيموت لاحقاً على الجبهة أواخر أيام الحرب العالمية الأولى، فيما كانت الفتاة تكمل دراستها من دون أن تلفت نظر أحد، حقاً إذ كانت، كما ستقول لاحقاً في مذكراتها "نحيلة شاحبة وذات شعر طويل يضفي عليّ مسحة المرض".
في صباها الباكر، اهتمت بالقراءة وأرادت أن تدرس الموسيقى، لكن لم تكن تملك المال الكافي لكي تدفعه أجوراً للدراسة، فقررت الاتجاه للعمل في أحد المسارح: "الحاجة الى المال دفعتني الى ترك هوايتي الموسيقى، والاتجاه للعمل بأحد المسارح الصغيرة لأداء دور الكومبارس من اجل الحصول على مال لإعالة عائلتي، هناك اطلق عليّ اسم مارلين".
في العام 1922 مثلت لأوّل مرة في السينما في دور صغير أمام النجم الألماني إيميل جاننغز، الذي لم تثر اهتمامه، وسنراه بعد سبع سنوات يرفض أن تشاركه البطولة في فيلم "الملاك الأزرق" وكانت حجته أن "ردفيها صغيران"، لكن إصرار فون سترندبرغ، جعل جاننغز يرضخ في النهاية، وفي مذكراتها تكتب ديتريش أن "أحداً لم يكن يسعى الى هذه الممثلة الجديدة، لحظة تصوير الفيلم، وإن أحداً لم يكن يعرفها كممثلة، وإنه كان عليها القيام باختبارات الاداء كغيرها"، كان الممثل جانبنغر هو من اقنع المنتج بالتعامل مع سترندبرغ الذي كان آنذاك قد وقع في غرام مارلين ، فقرر أن يصنع منها أسطورة، وتتذكر مارلين، إنها ليلة الافتتاح كانت في طريقها الى الولايات المتحدة، لكنها علمت من خلال البرقيات التي تلقتها وهي على السفينة. أن نجاح الفيلم كان بسبب آدائها لشخصية، لولا تلك الفتاة التي كانت تعرض ساقيها بالغتي التناسق والجمال وهي تغني:
" إني من رأسي حتى القدمين
مخلوقة للحب
هناك هو عالمي".
وسترتبط مارلين بعلاقة حب مجنونة وعنيفة مع سترندبرغ الذي سيضعها في الصفوف الأولى من نجمات السينما، حيث راح يختار لها أدوارها بعناية المغنية تعشق الرجال في فيلم "مراكش"، جاسوسة في "اكسبرس شانغهاي" ثم "فينوس الشقراء" و"الأمبراطورة القرمزية" وصولاً الى الفيلم "الشيطان امرأة". كل هذه الأفلام استطاعت أن ترسخ صورة مارلين ديتريش، صاحبة الصوت المبحوح والساقين الطويلتين والنظرة الحالمة والتي قال عنها ارنست همنغواي بعد ان عاش معها قصة حب قصيرة: "لو إن مارلين لم تمتلك سوى صوتها، لكان في وسعها أن تحطم قلبك به. لكنها كانت تمتلك أيضاً جسداً جميلاً، وحباً كبيراً في وجهها وتقف خارج كل زمن".

****
كل شيء هادئ
في إحدى قرى الجنوب الألماني، وفي صيف العام 1898 استقبلت عائلة ماريا ريمارك مولودها الرابع، وكان هذه المرة ذكراً بعد ثلاث بنات، الأمر الذي دفع الجدّ أن يعلق آمالاً على حفيده، في أن يوصل تراث هذه العائلة المُحبة للمغامرة والرحلات. كان الجدّ قد طاف العالم كلّه، ضابطاً يعمل في البحرية الألمانية، لكن الأب لم يكن يحب المغامرات، فانتهى به الأمر أن يعمل مشرفاً على معمل للورق. لم تكن العائلة غنية، ولكنها كانت ميسورة الحال، قضت الأم حياتها على سرير المرض تشكو من مرض السل، وعلى امتداد فترة مرضها، كان على الابن الصغير أن لايقترب منها خشية أن تصيبه العدوى، مما دفع الأهل بأن يوكلون تربية الصبي الصغير الى جدّه المغامر، وبينما كانت الأم المريضة تفكر بأبنها ومستقبله، كان الجد يحاول أن يجعل من حفيده نسخة ثانية منه، فيما الأب تمنى لأبنه وظيفة مستقرة، معلم مثلاً، مهنة تعني له الأمان والضمان. كان كل شيء ينبئ بأن المصير الذي أعدّته العائلة لابنها سيتحقق لا محالة، إلا أن القدر كان يخفي ما لم يتوقعه أحد، فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكان على الشاب الذي لم يكمل دراسة مهنة التعليم أن يلتحق بالجيش ليُرسل الى الجبهة. هناك يعيش تجربة مريرة جداً، حيث يُجرح مرتين ويتخلص من الموت بأعجوبة. وعندما تنتهي الحرب، ويعود الجنود الى أهاليهم، يعود إريك ماريا ريمارك شخصاً آخر، لايشغله سوى موضوع واحد: مصير الإنسان وكيف يتخلص من مأساة الحرب. إنها الفكرة الوحيدة التي تسلطت عليه، وحين يعود الى مدينته ليمارس مهنة التدريس كانت أول محاضرة له بعنوان: "كيف نعيش في مجتمع لا نسمع فيه صفارات الإنذار"، الأمر الذي جعل مدير المدرسة يستدعيه ليوجه له إنذاراً شديد اللهجة بأن يترك الحديث عن الحرب، وينشغل بتدريس المادة المقررة. وبما إنه لم يكن سعيداً بهذه المهنة، فقد قرر أن يعمل في محل صديق له يبيع رخام القبور وتماثيل تذكارية للحرب، مهنة رتيبة، لكنه تغلب عليها بالتفرغ للقراءة، فقضى أوقاتاً ممتعة مع دستويفسكي وجيمس جويس وشكسبير، والتهم الإلياذه حتى إنه كان يحفظ منها مقاطع طويلة، وانغمس في قراءة اعمال توماس مان، وكانت عائلة بودنبروك تسحره، فكتب عنها مقالاً أرسله الى إحدى الصحف التي لم تنشره، فقرر أن يرسله بنفسه على عنوان توماس مان وكتب على المظروف: "الى أبينا في المعرفة، هذه الصفحات في تمجيد اعضاء عائلتك المقدسة اتمنى أن تطلع عليها"، ولم يصدق حين سلمه ساعي البريد بعد اسابيع مظروفاً كتب على غلافه بخط توماس مان: "الى السيد اريك ماريا ريمارك مع المودة".
كانت رسالة مان دافعاً له لأن يقرر التفرغ للكتابة، بدأ يرسل بعض كتاباته إلى الصحف والمجلات. صار يشعر بالملل من مهنة بيع شواهد القبور، فيقرر السفر الى برلين، وهناك يجد عملاً في صحيفة "الرياضة المصورة"، كل ما مطلوب منه هو أن يكتب تقارير عن ما يجري في حلبات الملاكمة، التي وجد فيها وجهاً "قذراً" آخر من وجوه الحرب الكريهة، لكن لا مفر، عليه أن يكتب ويحرر. وقد تعلق بمهنة الصحافة لأنه كان مقتنعاً أن حياته لا معنى لها من دون الورق، ورغم أن مهنة الصحافة في المانيا التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، لم تكن تضمن له حياة مرفّهة مثلما كان يتمنى، لكنه هنا في برلين ذاق طعماً مختلفاً للحياة. كتب روايته الاولى "كل شيء هادئ في الميدان الغربي " – العنوان كما جاء في الترجمة العربية التي قامت بها دار الهلال بترجمة محمود مسعود - حاول أن يبعث بمخطوطتها الى إحدى دور النشر، لكن مصاريف البريد كانت عائقاً أمام طموحاته.

****
ليس لدى أحد سوى نفسي
لم يكن هناك شخصان يعانيان من الأسى والوحدة، ليرى كل واحد منهما أن حكايته اكثر بؤساً، اكثر من ريمارك ومارلين في اللحظة الأولى التي التقيا فيها. قالت لريمارك وهي تندب حظها :" ليس لدى أحد سوى نفسي، التي يمكن أن تسدي إلي النصح . لا استطيع ان اطلب النصح من أحد".
كانت آنذاك تعيش لحظة حرجة في حياتها فيلمها الجديد "الفارس بدون درع" احتل مرتبة متأخرة في شباك التذاكر، وكانت آنذاك تنتظر رجلاً جديداً يدخل حياتها، كانت قصة حبها التي استمرت ست سنوات مع سترندبرغ قد وصلت الى طريق مسدودة، كتب سترندبرغ رسالة إليها ليخبرها: " يبدو أن حكايتنا قد استنفدت مداها" في ذلك الوقت كان ريمارك على خلاف مع زوجته غوتا، ونجده يكتب في مذكراته: "لست سعيداً، ولست حزيناً، تتقاطع الذاكرة مع الحاضر. استطيع أن اكتب لو ملكت نفسي".
كانت غوتا إلس انغيبورغ ممثلة وراقصة، ونموذجاً من الأنوثة بالنسبة الى ريمارك، تقابلا في برلين، كانت اطول قليلاً من ريمارك، شقراء نحيلة، لها قامة وبنية تصلح كعارضة أزياء، يصفها ريمارك بأنها: "رقيقة، لكن بملامح هشّة واحساس داخلي بالغيرة من كل النساء".

****
زمن الحب
رواية ريمارك الجديدة التي أثار بها اسئلة عن المصير الإنساني والحرب والحب، وضع لها عنواناً "للحب وقت وللموت وقت"، حيث نجد بطل الرواية ايرنست غريبر، نشأ منذ صباه على العقيدة النازية، جندياً شاباً على الحدود الروسية، وهو مصاب بوهم متفاقم بفعل الأعمال الفظيعة التي شهدها، لكنه موزّع بين الواجب والضمير.
عاد من إجازة الى مدينته ليجدها مدمّرة، وبيته تحوّل الى أطلال، ووالديه مفقودين، وفي محاولة منه للبحث عنهما، يلتقي بمعلّمه القديم البروفيسور بولمان، الذي طرد من عمله بسبب مواقفه من الحرب، ويقول ارنست لمعلمه: "أود أن أعرف إلى أيّ حد انا متورط في جرائم الحرب، كما أود أن اعرف ما عليَّ أن أفعله". وفي هذه الأثناء يعثر على صديق طفولته الذي أرسل والده الى معسكر الاعتقال، بعدها يعود الى الجبهة ويطلب منه أن يطلق النار على عدد من الأسرى الروس، كان الضابط الألماني الذي طلب منه تنفيذ الأمر مصرّاً على أن يقوم ارتست بالمهمة، لكنه يرفض فيطلق النار على الضابط ويطلق سراح الأسرى الروس، وبينما كان الأسرى يهربون غير مصدّقين، أستل أحد الروس بندقية كان يخفيها وأطلق النار عليه وقتله.
كان ريمارك يتفاوض مع الناشرين حول روايته الجديدة ويعيش قصة حب عاصفة مع مارلين ديتريش التي طلبت منه الزواج، لكنه كان يتردد، ويشعر إنه إزاء امرأة تملك عواطف غاضبة، فهو كان على الرغم من شهرته، يرى في تصرفات مارلين وعلاقاتها أمراً غريباً، فهو من بيئة محافظة، وبرغم شهرته إلا أن تربيته ونشأته أقرب الى الرجل العادي منه الى أولئك الذين يبحثون عن علاقات عابرة، ولهذا اصبحت مداعبة مارلين للرجال وعبثها وسهراتها تشكّل عذاباً له، وتثير غيرته. وفي مذكراتها نجد ديتريش تتحدث عن صفات ريمارك، الرجل الذي لايحب النزوات كثيراً، ويعشق عمله، ويفضل الهدوء والخلوة على أجواء الصخب والحفلات، ولهذا نجده يحاول أحياناً الهرب من اجواء مارلين باستغراقه في العمل، متحاشياً أجواء شاطئ البحر، وحفلات الشراب الصاخبة.
وتكتب مارلين: "عندما يختفي بضعة أيام أقلق عليه، فأبحث عنه في كل الأماكن خشية أن يكون قد اعتقل أو رحل الى ألمانيا، إنه كاتب حسّاس، ورقيق جداً، لايعرف الكذب".
ذات يوم قالت له، إنها ترغب بأن تلبس خاتم زواج يشتريه لها، حتى وإن كان قد قرر أن لا يتزوجها.
قال لها وهو يبتسم : "انصحك أن تتزوجي ممثلاً مشهوراً، فأنا اقل شهرة منك، واخشى أن يكون زواجي منك لاستغلال اسمك".
صاحت فيه غاضبة:
- انت كاتب كبير ويمكن أن ترشدني الى الطريق الصحيح
- ولكنك ستزهقين مني ذات يوم
قالت له غاضبة: صحيح إنك كاتب كبير .. لكنك تجاه النساء تتحول إلى رجل غبي دائماً.
كانت مارلين ديتريش، تعتقد انها بحاجة الى رجل قوي الشخصية، مثل ريمارك، إلا إنها تشعر أن مجدها كامرأة وممثلة، يحتاج منها أن تعيش الحياة بكل التفاصيل، وإن غيرة الرجال يمكن أن تقف عثرة في طريقها.
كان ريمارك من جانبه يؤمن أن الحياة تتطلب اكثر من حب امرأة، انها نضال في سبيل الخلاص من الظلم والعتمة والحروب، في روايته "للحب وقت وللموت وقت" يؤكد ريمارك، إن الحب هو قدر الانسان، بشرط أن لايتورط كثيراً في الحروب، قرر هتلر أن يحرق كتب ريمارك في ساحة عامّة، مثلما قرر أن يرسل وفداً الى مارلين ديتريش يقنعها في العودة الى وطنها ألمانيا وستكون النجمة الأولى، وحين ترفض يصدر قراراً بمنع أفلامها، فتقرر أن تقف بقوة ضد النازيين، وكان ذلك خلال تنقلها بين باريس وهوليوود، لتقوم بجولات فنية لرفع معنويات جيوش الحلفاء كما سجلت نصوصاً دعائية بالألمانية ضد هتلر، وهذا ما لن يغفره لها النازيون،
يقف الفن الحقيقي، ضد الظلم والعنف، وضد أيّ نوع من الوحشية. إنّ الفن، هو تمرّد. يحذّر لناس ضدّ الأكاذيب، والقمع، والحروب التي لا معنى لها ولا تنتهي أبداً، وجميع أشكال الشرّ.. كتب ريمارك رواية "للحب وقت وللموت وقت" لتبقى تروي لنا حكاية الفنان والأديب وهو يقف ضد الظلم ويحارب بقوة توحش الحروب ويفضح جرائمها .
في 1969 تتلقى مارلين مكالمة تخبرها أن ريمارك في وضع صحي سيئ ، تصر على أن تتحدث معه ورغم تعبه قال لها : "ليس بوسعك أن تفعلي شيئاً، لايستطيع أحد أن يساعدني. "كانت تلك آخر كلمات تسمعها منه، لكنها أصرّت على أن ترسل له الزهور كل يوم وكذلك البرقيات، في أيلول من عام 1970 توفي ريمارك، وترفض مارلين الذهاب الى جنازته، تقول لأحد اصدقائها: " لو أنني لم اكن عنيدة، لكنت اليوم الى جواره، أودعه الوداع الأخير "بعدها دخلت الى غرفتها لتغلق الباب عليها وتمتنع عن لقاء أي شخص، إنها في حالة حداد كاملة.. فقد رحل الشخص الوحيد الذي أحبته بصدق".
 
الحب ، حريق بلا انطفاء ، وجوع بلا شبع
 علي حسين

|27|

كتب الفرنسي فرانسو مورياك :" هل الحب نوع من الإدمان " ، في الاسطورة الصينية نجد الآلهة " تشانج بو " تقول لمحبوبها ميلان : إني أشتاق إليك ، وفي حكايات الشعر العربي ، يبكي مجنون ليلى وهو يقول : وقالوا لو تشاء سلوت عنها .
فقلتُ لهمْ فانِّي لا أشَاءُ
الحب الضائع
يخبرنا محقق ديوان " مجنون ليلى " عبد الستار فراج ، إن حب قيس وليلى كان مثل حب الناس جميعاً ..تختلط فيه الطهارة بالرغبة ، والشهوة بالتعفف ، والروح بالجسد ، وعلى عكس ما يعتقد العديد من الباحثين إن حب قيس لليلى ، كان حباً عذرياً ، فإن قيس كان يضم ليلى الى صدره بين الحين والآخر وهو القائل:
ضممتك حتى قلت ناري قد انطفأت
فلم تطف نيراني وزاد وقودها



ويقول في بيت آخر مخاطبا زوجها:
فان كان فيكم بعل ليلى ..فإنني
وذي العرش قد قبلت ليلى ثمانيا
فهل ظلم المؤرخون هذا العاشق حين جعلوه نموذجا للمحب الخائب ، المجنون ، الذي يتعلق بوهم ، ويجن في سبيل شبح امرأة في الوقت الذي ينشد هذه الآبيات :
تمتع بليلى ، إنما أنتَ هامة
من إلهام يدنو كل يوم حمامها
لم يُصب قيس بالجنون ، إنما طغى شعوره على سلطان عقله ، كما يقول طه حسين وإن عاطفته فاضت من القلب فملكت عليه حياته ، لقد دخل أول درجات الوجد .بالمقابل لم تكن ليلى مجرد امرأة .كانت رمزا لكل قصص العشق .ما من شاعر عشق إلا وهتف باسمها ، وما من أحد حلم بامرأة إلا وكانت هي . وهي تشبه " هيلانه " عند اليونان حيث أشعلت الحب والحرب ..ولم يكن لليلى شكل محدد .حين سألوه عنها وصفها بكل ما هو جميل وصعب :
تكاد يدي ، تندى إذا ما لمستها
وينبت في أطرافها الورق النضر
إنها القمر حين الظلام ، والمطر وقت العطش ، والمجنون لايختلف في الحب كثيراً عن عمر بن ربيعة ، كلاهما مولع بالعشق .لكن مدخل كل منهما للمرأة مختلف ، فاذا كان قيس هام بامرأة واحدة ، فان عمر بن ربيعة كانت له مع النساء صولات وجولات .
سأله سليمان بن عبد الملك : ياهذا ما يمنعك عن مدحنا ؟
قال عمر في إيجاز ..اني لا أمدح الرجال ..إنما أمدح النساء
يقول عنه عباس محمود العقاد :" إن العالم بالنسبة لعمر بن ربيعة بغير النساء ليس هو العالم ، بدونهن تصبح الصحراء مصيدة ..وإذا كانت حياة الشعراء تدور بين محورين المال والحب ، فإن المال لم يؤرقه يوماً ، وكانت المرأة هي الجزء المكمل لحياته .. هي الأكثر إحساساً به "
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
ومن بين قصص العلاقة مع النساء ، كانت قصة المتنبي التي حيّرت الباحثين فيكتب طه حسين في كتابه " مع المتنبي : " ان خشونته صرفته عن الإقبال الحقيقي على المرأة " . لكن العلامة محمود محمد شاكر يؤكد إنه عرف العشق وإلا ماكتب هذا البيت :
ياوجه داهية لولاك ما
أكل الضنى جسدي وروض الأعظما
فهل عرف المتنبي الحب ؟ وهل كانت المرأة جزءاً من طموحاته. لاشك إن المتنبي مر بأوقات اجتاحه فيها شعور كبير بالحب والحنين الى المرأة ، ونجد أن إحساسه بالحب يتعمق ويقوى في شبابه : وما أنا إلا عاشق "
لكنه في سنين عمره المتقدمة ، يحاول أن يقنعنا بأن الحب وهم يتشبّث به الإنسان العاجز ، وإنه أي المتنبي لديه مناعة ضد العشق ، وإن قلبه لايمكن أن تسيطر عليه امرأة ، فمطامحه وشهواته تنحصر في الحروب والبحث عن الأمجاد :
وما العشق إلا غرة وطماعة
يُعَرّضُ قَلب نَفسَه فَيُصاب
وغير فؤادي للغواني رمية
وغير بناني للرماح ركاب
لكن الشاعر العاشق لايستطيع أن يحجب الحقيقة دوماً ، ففي فترات حياته القصيرة ، عذبه الحب وأضناه ، وهو يعترف إنه بدون المرأة لايستطيع العيش في هذه الدنيا ، فالعشق لذة لايعرفها إلا من جرب الحب :
تَلَذُّ لَهُ المُروءَةُ وَهيَ تُؤذي وَمَن يَعشَق يَلَذُّ لَهُ الغَرامُ كان الشاعر يريد أن يقول إنه بريء من الحب ، ولا يهمه أمر النساء ، لكن العديد من قصائدة تخبرنا إنه قتيل الغرام ، ترديه سهام العيون ، وتحلو له القبل ، ويضنيه قوام المرأة الجميلة :
كم قتل كما قتلت شهيد
ببياض الطلى وورد الخدود
وعيون المها ولا كعيون
فتكت بالمتيم المعمود
ويؤكد الكثير من الدارسين إن المتنبي هاما عشقاً بخولة أخت سيف الدولة الحمداني ،إلا أن طه حسين يحاول أن يفند هذه الحكاية لأنه يعتقد إن شاعرا مثل المتنبي لايمكن أن يغامر بمكانته عند سيف الدولة من أجل امرأة ، لكن محمود شاكر يجزم أن الشاعر أحب خولة، وإن سيف الدولة كان يعلم ذلك بل وأنه قد وعد المتنبي أن يزوجه من أخته يستشهد شاكر بكثير من شعر المتنبي ليثبت ذلك الحب:
كَتَمْتُ حُبّكِ حتى منكِ تكرمَةً
ثمّ اسْتَوَى فيهِ إسراري وإعْلاني
كأنّهُ زادَ حتى فَاضَ عَن جَسَدي
فصارَ سُقْمي بهِ في جِسْمِ كِتماني
ويؤكد محمود شاكر إن قصيدة الرثاء التي كتبها المتنبي بعد سمعه خير موتها :" لم تكن أبيات رثاء وإنما هو كلام قلب محب مفجوع قد تقطعت آماله من الدنيا بموت حبيبته ".ويذهب الدكتور جلال خياط في كتابه الممتع عن المتنبي وحياته الى تأييد هذا الرأي:" لماذا لاتحب أميرة رجلاً مثل المتنبي كان أشعر الناس " ونجد المتنبي يخبرنا بهذه العلاقة وهو يقول :
ولاذكرت جميلاً من صنائعها
إلا بكيت ولا ود بلا سبب .
واذا لم يكن المتنبي عاشقا لخولة ، فمن أين له هذا الرأي ، بان أحلى الحب ما صاحبه شك ، فيحيا المحب بين الرجاء والإتقاء ، أي أن يعيش حبه حقاً ، فلا يموت بهجر ونسيان:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
وهذا ما يفسره أحد شراح ديوان المتنبي " أبو الحسن بن محمد الواحدي " بانه " كتم الحب إكراما للمحبوب لأنه رجل شهم "
ولهذا يؤكد الواحدي أن عاطفة الحب والعشق لدى المتنبي ظهرت بشكل قوي خلال وجوده في الدولة الحمدانية، فأبيات العشق والحب في قصائده لم تكن حاضرة بكثرة قبل التحاقه ببلاط سيف الدولة وتواصلت تلك العاطفة بألم الفراق والشوق بعد مغادرته بلاط سيف الدولة، ويظهر في مقدمات قصائده وجود حب متوقد في قلب المتنبي :
لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي
وللحُبّ ما لم يَبقَ منّي وما بَقي
وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه
وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ
يكتب جاك ماريون في كتابه ظاهرة الحب ان الرفض في الحب يغرق العاشق في أعقد وأعمق أوجاع الاضطراب العاطفي مما يمكن أن يمر به الإنسان .

**********
جنون الهجران
كانت في الثامنة والعشرين من عمرها ، شقراء نحيلة جداً بسبب إصابتها بمرض السل ، تزوجت من معلم طُرد من عمله بسبب إدمانه على الكحول ، سوف يتعرّف هذا الرجل العاطل ، على جندي شاب كان يعاني آنذاك من مرض الصرع ، كان فيدور دستويفسكي قد تم نفيه الى هذه البلدة " سيمبالاتنسك " بعد أن أطلق سراحه بعفو من القيصر حيث إتّهم بمحاولة القيام بثورة مع مجموعة من الشباب ، ومنذ أن وصل دستويفسكي الى هذه البلدة حتى ألحق بفوج عسكري .
منذ اللقاء الاول بين المعلم العاطل والجندي الخارج من عذاب السجن ، كان هناك رابط خفي ربط بين الاثنين ، فقد عطف كل منهما على الآخر ، ويصطحب المعلم ذات يوم دستويفيسكي الى بيته وهناك يتعرف على زوجته " ماري دمتريفنا " ، وسرعان ما عقدت صداقة بين الزوجة المريضة والجندي دستويفسكي ، وها هو للمرة الاولى يجد امرأة تصغي إليه بانتباه ، والمرة الأولى التي تتعاطف معه امرأة بهذا الشكل ، كان كلا الاثنين يعاني من الوحدة ومصاعب الحياة ، وكانت أحلامهم قد تبددت بسبب قسوة الحياة ، وكثيراً ما كان يفكر دستويفيسكي بعلاقته بماريا ، يكتب الى شقيقه :" آه لو كنت حراً ..آه لو كانت حرة " ، ومع مرور الأيام تبدأ قصة الحب بينهما تتوطد ، وكان دستويفيسكي يكثر من زياراته لبيت صديقه المعلم وكان يعود من هذه الزيارات وهو يشعر بنوع من النشوة والسعادة ، فهو يجرب الحب للمرة الاولى ، فقبل لقائه بماريا كان لامباليا حيال النساء ونراه يكتب الى شقيقه يصف ماريا : تعرفت على سيدة مليحة ومثقفة جدا ، وذكية للغاية وطيبة ورقيقة وأنيقة بقلب رائع كبير " . وفي رسالة أخرى يكتب الى صديقه " الكسندر فرانغيل " معترفاً : "نعم .. أحبها بكل ما في قلبي من عنفوان العشق .ولكن لا أجسر على أن أخبرها بذلك ، حتى لو قالت لي أحبك يافيدور لصرخت فيها إنك متزوجة ، ولكن ليس ما كنت سأقوله لها نابع من قلبي أبداً !! إنما ما أعانيه هو إنني أخاف من الاقتراب أكثر منها ، فماذا أفعل يا صديقي " .ونراه يكتب في يومياته :" هل ماريا تحبني حقاً أم أن خيالي هيّأ لي ذلك ، فجعل منها وكأنها تجن بحبي ، وكم تمنيت أن تترك زوجها ، وتأتيني تحت ثلوج سيبيريا لتطرق بابي قائلة : لقد تخلصنا منه يافيدور" .
وتشاء الأقدار أن يحصل الزوج على وظيفة في بلدة تقع على بعد 700 كيلومتر عن " سيمبالاتنسك " وأخبِرت ماريا بقرارها السفر مع زوجها ونجده يكتب الى شقيقه :" لقد وافقت وقبلت ولم تحتج أو تعترض ، وهذا هو الأمر المثير والمزعج في الموضوع " .
ونجد دستويفيسكي يفقد كل حماسة للعمل ،تنتابه حالات من الحزن والضجر ، وهو يسمع الأخبار التي تأتيه من محبوبته ماريا ، فهي أيضا تشكو وحدتها ، ومن إدمان زوجها على الخمر ، وتزداد الرسائل بينهما ، وكان دستويفيسكي لايعيش إلا في انتظار ساعي البريد ، وأخذت نوبات الصراع تزداد عنده ، وبتاريخ 14 آب يتلقى رسالة من ماريا لقد مات زوجها ، وأخيراً أصبحت حرة وسوف يتمكن من الإرتباط بها ، وبعد بضعة أسابيع يكتب لشقيقه : " عن بعد تبادلنا الأعترافات والأمنيات والعهود والمواثيق ، إنها تحبني " والحقيقة إن ماريا كانت حائرة ، فهي تعاني العوز والمرض وفي هذه الأثناء يتقدم رجل لخطبتها تكتب لدستويفيسكي : ما العمل ، تقدم رجل يتصف بمزايا حسنة ، ويشغل وظيفة ثابتة ومضمونة ، وطلب مني أن أتزوجه ؟ فماذا أجيبه ؟
ويرد عليها برسالة يعترف فيها للمرة الاولى بحبه :" سأموت اذا فقدتك ياملاكي ، أو إني سأصبح مجنوناً ، أو سألقي بنفسي في النهر ، فأنا لي حقوق عليك ، بحق السماء أتفهمين".
لكنها بعد أشهر تخبره إنها ستتزوج من هذا الرجل ، فهي الآن في التاسعة والعشرين وتحتاج الى من يقف الى جانبها في الحياة ، ويعترف في رسالة الى شقيقه انه خسر الرهان ، وان كل شيء في طريقه للضياع ، ويقرر أن يصبح صديقاً لها يرعاها ويهتم بإبنها :" كل هذا من أجلها هي ، من أجل أن لاتظل تعاني من البؤس والشقاء ، وهذا التعاطف الذي يبديه دستويفيسكي لماريا سيجعل منه الموضوع الرئيس لروايته " مذلون مهانون "
تقول بطلة الرواية :" لقد خنتك ، فغفرت لي كل شيء ، ولم تعد تفكر إلا بسعادتي " .
ونجد صدى لحكاية عشقه اليائس في رواية الأبله ، فالامير موشكين بطل الرواية على الرغم من حبه الشديد لنستاسيا ، يدعها تهرب مع الرجل الذي اختارته .
لكن بعد شهور وفي لحظة يأس يعيشها ينتبه لطرقات على بابه وما أن يهم بفتح الباب حتى يجد ماريا ترتمي بحضنه ، لقد تركها الرجل الذي قررت أن تتزوجه ولم تجد أمامها غير دستويفيسكي : " إنك قديس يافيدور . انا لاأستحقك .ولم أحب أحداً سواك .
فاستعاد دستوفيسكي الأمل وقرر الزواج منها فوراً ، وتبدأ ماريا رحلة صعبة مع الرجل العبقري الذي تنتابه حالات صرع ويعاني من مطاردة الدائنين ومن الهوس بلعب القمار ، لكنها رغم ذلك تكتب الى شقيقتها :" لست محبوبة ومدللة وحسب من قبل زوجي الطيب جدا والذكي جدا ، بل أني محترمة جدا من قبل ذويه ومعارفه .
كان دستويفيسكي يخبر شقيقه بأنه يخشى هذا النوع من الحب ، وفي الشهر الاول من الزواج سقط على الارض فجأة وانتابته نوبة من نوبات داء الصرع .وبسبب حالة البؤس والفقر والديون التي تلاحقهما عاشت ماريا تعاني من الخوف والمرض الذي بدا ينهكها ، الى أن قضى عليها مرض السل ليجد دستويفيسكي نفسه من جديد وحيداً يكتب الى شقيقه : يبدو إنني على خصام مع الحب ، فها هو يغدر بي ويتركتي أعاني الوحدة والمرض "
*********
يأس الحب
اقترب منها معلمها ليخبرها أن هناك كاتباً بحاجة الى مساعدة موظفة اختزال ، من هو هذا الكاتب؟ سألت الشابة آنا جريجوريفنا ، أجاب الأستاذ إنه فيدور دستويفسكي . لم تصدق أول الأمر إن الاسم الذي يقصده الاستاذ هو نفسه كاتبها المفضل الذي طالما ذرفت الدموع وهي تعيد قراءة "ذكريات من منزل الأموات" ، وأنها كانت مغرمة بـ " فرنكا " بطلة قصته الأولى "الفقراء" ، فهي مثلها تكتب رسائل لشخص مجهول تخبره إن حياتها تغيرت منذ أن توفي والدها، لتبدأ الخطوة الأولى لها في مسيرة الفقر ومخاطره وهمومه !
وفي صبيحة اليوم التالي استيقظت أنّا جريجوريفنا على غير عادتها نشطة ، كانت تنتظر هذا اليوم منذ شهور، أن تتحول من طالبة صغيرة الى موظفة ، غادرت البيت مبكراً ، كان لابد أن تمر على منزل صديقتها ايميليا لتخبرها إنها ستضع أولى خطواتها على سلّم الحياة ، ولتغيضها أيضا فهي ستلتقي وجها لوجه مع فيدور دستويفسكي الذي طالما تبادلت مع ايميليا كتبه .
في الساعة الحادية عشرة كانت تقف أمام الشقة 13 الواقعة في شارع بولشايا . ذكرتها البناية بأحداث رواية "الجريمة والعقاب" التي كانت قد أتمت قراءتها قبل مدة ، تتلفت حولها ، ربما في واحدة من هذه الشقق سكنت ذات يوم العجوز "اليونا" القاسية الأنانية التي ظهرت فجأة في طريق راسكولينكوف الذي شعر أمامها في لحظة أنها عقبة تقف في طريقه :" لم تكن العجوز إلا وعكة أردت أن أتخطاها مسرعاً قدر الإمكان ، أنا لم أقتل العجوز ، بل قتلت مبدأ".
تتذكر أنا جريجوريفنا إن والدها أعطاها يوماً مجلة الرسول الروسي ،وفيها قرأت تلخيصاً قدمه دستويفسكي لروايته الشهيرة هذه، حين كتب ردا على تساؤلات القراء عن مغزى الجريمة قائلا :" هذه الرواية انما هي عرض سيكولوجي لجريمة ... والحدث يدور في زمننا الراهن ، أي في هذه السنة بالذات. أما صاحب الحدث فهو شاب طالب في الجامعة من أصول بورجوازية لكنه يعيش في فقر مدقع، لذلك يقرر ،تحت تأثير بعض الأفكار الغريبة التي نراها رائجة هذه الأيام، أن يخرج بضربة واحدة من وضعه المزري : لقد قرر أن يقتل امرأة عجوزً، هي أرملة لمستشار وتعمل اليوم في الربا . والشاب ينطلق في مشروعه من تساؤلات لا ينفك يطرحها على نفسه :"ما فائدة هذه المرأة؟ لماذا تراها تعيش؟ هل تنفع أحداً في عيشها؟ وهو يؤمن أن في مقتل العجوز خلاص له وأداء واجب تجاه إخوته في الإنسانية ، لقد شعر وهو يفك الساطور من الإبزيم بأنه لم تعد لديه لحظة يضيعها "
أخيراً انتبهت آنا جريجوريفنا على صوت امرأة عجوز تقول لها : تفضلي ماذا تريدين ؟
للحظة تصورت انها تقف أمام عجوز "الجريمة والعقاب" بشالها الأخضر وعينيها الماكرتين ، وقبل أن تعيد الخادمة عليها السؤال أجابت بنبرة مترددة : "انا قادمة من طرف السيد أولخين وان صاحب المنزل على علم بموعدي معه ."
دعتها الخادمة للدخول ، وبعد دقيقتين ظهر أمامها كاتبها المفضل الذي لم يترك لها فرصة أن تأخذ نفسها حيث سألها مباشرة : " هل أنتِ بارعة بالاختزال؟ وقبل أن تجيب طرح عليها سؤالاً آخر : منذ متى وأنتِ تعملين بهذه المهنة ؟ لكنه أخيراً تنبه الى أنها لم تجلس فطلب منها أن تدخل معه غرفة مكتبه، وقال للخادمة : "أحضري لنا الشاي

*********
ادمان الحب
- كم أنجزنا من الصفحات؟ سألها دستويفسكي ذات يوم.
كان العمل قد انتظم برواية "المقامر" ، واخذ دستويفيسكي يطمئن بأن الرواية ستسلم في موعدها المحدد ، كان يشعر بمتعة غريبة وهو يعمل الى جانب هذه الفتاة الشابة ، التي ستكون يوما بطلة قصة حياته الحقيقية ، كان يملي عليها قصة غرام ألكسي ايفانوفيتش بالشابة الجميلة بولين سوسولوفا ، فتاة بالغة العذوبة يقع في غرامها رجل مقامر، يضيف الى بطلة الرواية بعضاً من ملامح آنا جريجوريفنا ، كانت هي تصغي إليه وتحاول أن تتخيل بطل الرواية يقع في غرامها إنه يقول لها :"في حضورك أفقد كل كرامتي" وحين يصل دستوفيسكي الى السطور التي يقول فيها ايفانوفيتش : "ضممتها بين ذراعي ، قبلت يديها وقدميها ، وجثوت على ركبتي أمامها". تكتب آنا جريجوريفنا في مذكراتها :"بعد أشهر وجدت دستويفيسكي وهو يعيد مشهد المعلم أليكسي ايفانوفيتش ، وقع عند قدمي مقبلا ، ضاماً إليه ركبتي وهو ينتحب بصوت عال ، لا أتخيل أن بمقدوري أن أفقدك."
بتاريخ 30 تشرين الاول عام 1866 ، وبعد خمسة وعشرين يوما من العمل المتواصل ، أصبحت "المقامر" جاهزة للطبع ، وفي اليوم الأول من تشرين الثاني وحسب الموعد المحدد ذهب دستويفسكي لمقابلة ستيلوفسكي وتسليمه مخطوطة الرواية.
كان قد اعتاد على فتاة الاختزال والتي أصبحت تناقشه بشؤون أبطال رواياته بحماسة ، كانت فكرة فراقها تؤرقه وسألها ذات يوم :"ضعي نفسك مكان بطلة قصة المقامر لدقيقة واحدة وافترضي أن إيفانوفيتش هو أنا وأني أبوح لك بحبي ، وأني أطلب منك أن تكوني زوجتي قولي بماذا يمكن أن تجيبي؟"
كان منزعجاً من جرأته وخائفاً أن تفسد كلماته هذه الصداقة اللطيفة، ولم يكن يتوقع أن موظفة الاختزال ستنظر الى عينيه بهدوء ثم تقول له بكل بساطة : "سأجيبك بأني أحبك وأني سأظل أحبك طوال حياتي
نظر إليها دستويفسكي غير مصدق ، ثم عانقعها بعنف وهما يقفان وسط الشقة ويكتب في يومياته :" كانت كلماتها مثل روح بعثت في لحظة قدسية من جحيم مأساة أو موت " .

********
لكي يدوم الحب
كان ديستويفسكي يشعر بأن القراء خذلوه في رواية "المقامر" ، والمبلغ الذي حصل عليه من الناشر تقلص كثيرا بسبب الديون المتراكمة ، ولاحظ إن زوجته حامل، وقرر إن المولود سيكون بنتا وانه سيسميها "ايمي" ، وأخفى عن آنا جريجوريفنا رواية "الحرب والسلام" التي صدرت حديثا ، لان تولستوي يروي فيها احتضار الاميرة بولكونسكي اثناء الولادة.
الامير ميشكين المصاب بالصرع يعود من عيادة في سويسرا حيث يعالج من مرض الصرع ، وهو يتيم ولايملك شيئا سوى صرة ملابس هزيلة ، ولايعرف شيئاً من أمور الحياة، وقد قال له الطبيب : لقد حصلت لدي قناعة تامة بأنك طفل حقيقي" ، هذا الطفل الذي بلغ السادسة والعشرين من العمر مهذب خجول طيب القلب وساذج ، وقد انقضت حياته في تأملات داخلية ، وعندما صدرت "الأبله" أربك بطلها النقاد وحيّرهم، يقول تورجنيف لأحد النقاد :"يا إلهي ما الذي لم يقله السيد دستويفسكي في هذه الرواية التي هي في الحقيقة اشبه بكتاب اعترافات ؟"
في "الأبله" يستعير دستويفيسكي حياته أكثر من أي رواية أخرى له، ويروي فيها على لسان بطله كيف وقف على منصة مرتفعة وهو في الثامنة والعشرين واعتقد انه بقيت له من الحياة ثلاث دقائق لا أكثرولم يكن يتوقع ان سيقع في يوم من الايام بحب امرأة .
 
حين يتحول الحب الى لحظات قصيرة من الجنون
 علي حسين

| 28|

تبدأ الحكاية بلقاء رجلين ، في أمسية ماطرة، في إحدى الحدائق. الأول متخصص في علم الصوتيات البروفيسور هيغنز . أما الثاني فهو الجنرال بيكرينغ، المتخصص باللغات واللهجات الهندية.وأثناء حوارهما يتحدى هيغنز زميله في استخدام خبرته في علم الصوتيات، لتحويل الفتاة إليزا دوليتل، بائعة الزهور في الحديقة، الى سيدة مجتمع ، بمجرد تعليمها أناقة الحديث وأسرار اللهجة الراقية.

وإذ يقول له الكولونيل أن هذا غير ممكن، منطقياً، يقوم الرهان بين الرجلين. وعلى إثر ذلك، يتقرب هيغنز من بائعة الزهور عارضاً عليها أن يعلمها الحديث بصورة صحيحة مقابل بعض مال يعطيه لها. وهكذا يصطحبها ، الى منزله، وتبدأ التمارين على الفور، فيما يشعر هيغنز بأنه يسابق الزمن طالما أن الرهان مدته ستة أسابيع.
غير أن إليزا لم تخيّب أمل هيغنز، حيث نجدها تبدي استجابة سريعة للتعلم ما أذهل هيغنز . وهكذا خلال الفترة المحددة، تنجح إليزا في الامتحان الذي يجري لها، ويتحسّن نطقهاوطريقتها في الحديث، وسنرى إن النطق لم يكن وحده ما تحسّن لديها. وانما سلوكها ونظرتها للمجتمع ، ويصطحب البروفيسور هيغنز تلميذته إليزا ليقدمها في حفل يقيمه أحد السفراء على أساس أنها أميرة من البلاط ، من دون أن يكشف سرها لأحد، وتتصرف إليزا مثل أميرة حقيقية، نطقاً وأناقة ، وتبدو وسط ذهول هيغنز و صديقه الجنرال ، كأنها حقا تنتمي الى واحدة من العائلات الارستقراطية . ويهنئ الجنرال والبروفيسور نفسيهما بما حققاه من انتصار ، وتنتبه إليزا أن الرجلان يتعاملان معها مجرد تمثال جميل ساهما في صناعته ، ولا يحسبان حساباً لمشاعرها ، فهي خلال الأسابيع التي امضتها في بيت هيغنز ، وقعت في حبه ، من دون أن ينتبه هو للأمر ، وها هو الآن يتجاهلها كامرأة من لحم ودم، معتبراً إياها مجرد آلة أجرى عليها بعض الاختبارات الناجحة ، وتسأل نفسها هل هي مجرد دمية صنعها هيغنز ليتباهى بها أمام الجميع ، أم امرأة لديها مشاعر ومن حقها أن تحب وتعشق ، وأن تجد رجلا يهيم بها ، لكن البروفيسور يعيش في عالم آخر ، إنه سعيد بنجاح تجربته ، ولم يخطر في باله إن المرأة التي خضعت للتجربة يمكن أن تتحرك مشاعرها تجاهه ، وانها ستقرر في لحظة غضب مغادرة الحفل ، وينتبه هيغنز الى غياب إليزا ، ويكتشف إنه لايستطيع الاستغناء عنها ، وانها اصبحت جزءاً من حياته، لكن ليس كما تتمنى إليزا العاشقة ، وإنما كامرأة يكمل معها تجاربه . وعندما يخبرها بالأمر تثور في وجهه ، فها هو أخيراً لايقدر مشاعرها ، ولايفهم إنها تحبه ، فهي ليست بحاجة الى صديق وإنما الى حبيب ، وتقرر أخيراً أن تخرج الى الحياة لتواجه المجتمع بشخصيتها الجديدة ، بعد أن اصبحت تدرك جيدا إن الحب لايمكن أن يُطلب من شخص أناني .
كان جورج برنادشو في الستين من عمره حين نشر مسرحيته " بيجماليون " والتي استمد فكرتها ، من قصة الشاعر الروماني أوفيد "تحولات". وفيها أن النحات بيجماليون يكره النساء، ويرى إن المرأة مخلوق كله عيوب وإنها وراء كل الكوارث التي تصيب الرجال ولم يكن موقفه هذا يحتمل المناقشة أو التغيير
لذلك أخذ على نفسه عهداً بألا يتزوج أو يفكر في النساء وقرر أن يهب حياته لفنه الذي أبدع فيه .
وبالرغم من موقف بجماليون من النساء فقد كانت أجمل تحفة فنية صنعتها يداه عبارة عن تمثال لامرأة فائقة الجمال ، ويجد بجماليون نفسه قد وقع في غرام تمثاله وأحبه حبا شديداً واصبح لا يقدر على فراقه لحظة واحدة ، كان ينظر الى التمثال وهو يعتقد انه أمام امرأة حقيقية وليس تمثالاً .
في 1898 تزوج برنادشو من تشارلوت باين ـ تاونزيند. وعلى الرغم من أن زواجهما استمر حتى مماتها في 1943، فقد قيل إنه طوال تلك الفترة التي أقام فيها شو علاقات عدة مع نساء أخريات. ومن هؤلاء الممثلة المسرحية ستيلا ـ بياتريس كامبل التي كتب لها عام 1913 القصيدة التالية :
أريد تلك الشقيّة المشرّدة كحالي
أريد سيدتي الداكنة، أريد ملاكي
أريد مغويتي بجمالها
أريد فْرِيّا بشجرة تفّاحها.
أريد الأخفّ وزنا بين مصابيح الجمال السبعة عندي
شرفي، ضحكتي، موسيقاي، حبّي وحياتي
وخلودي...
أريد إلهامي، ذنبي، حماقتي وسعادتي
ذاتي العليا، جنوني وأنانيتي
ختام سلامة عقلي وقدسيتي
تغيُّر شكلي وطهري
يا ضوئي على الطرف الآخر من الماء
يا نخلتي على الطرف المقابل من الخلاء
وحديقة أزهاري اليانعة
متعي المليون بلا اسم
راتبي اليومي
حلم ليلتي
حبيبتي ونجمتي الساطعة.
كان برناردشو يُؤْمِن بأن الحبّ الخيالي أهم من الحبّ الواقعي، فالخيال أقوى من الحقيقة ولا يمكن أن يحبّ الرجل من خلال الاحتكاك ما يقوم الأحلام الجميلة التي توحي بها النساء من بعيد. يكتب في إحدى رسائله إلى أليس لوكيت إذا كنتِ قد استطّعْتِ أن تجعليني أشعر فهل تنكرين أَنني أَفْلَحْتُ في أن أجعلك تفكرين.
************

الموت حباً
يبدو إن موضوع الحب الخالص هو موضوع يستهوي القراء منذ عصر الكلاسيكيات الشهيرة ، وانتهاء بقصص الحب الضائعة التي برعت السينما بتقديمها وكانت آخرها "تايتانيك". ويكتب إريك فروم في كتابه "فن الحب" : إن الانسان يتوق الى الحب الضائع ، ويشغف به أشد الشغف . فما الذي كان سيحدث لو إن جولييت عاشت وتزوجت روميو ؟
في العام 2008 يكتب أريك سيغال مقالاً بعنوان "هل مايزال الحب حاضراً بقوة عند الشباب ؟" وكان قبل أربعين عاماً ، حين كتب روايته الشهيرة "قصة حب" يعيش حياة بسيطة كأستاذ جامعي يلقي على طلبته محاضرات في الأدب ، ويقرأ كل يوم فصولاً من روايته الأثيرة "ذهب مع الريح" ، ويحلم أن يصبح نجماً محبوباً من النساء مثل كلارك غيبل الذي أدى باحتراف دور "ريت بتلر" في الفيلم الشهير المأخوذ من الرواية." لكن سيغال وهو يمسك بيد ابنته ، تساءل مع نفسه عما إذا كان في حياته إنساناً طيباً، أراد أن يقدم تفسيراً جديداً للحب الذي ظل الكُتّاب والمفكرون يضربون أخماساً بأسداس وهم يحاولون حل لغزه ، حيث لم يوفق "أوفيد" الذي ظهر قبل أكثر من ألف عام تاركاً القضاء والسياسة متفرغاً لكتابة موسوعته "فن الهوى" في أن يدرك سر العشق ، وحين عصفت الأهواء بشيخ مثل تولستوي انزوى جانبا ليسطر ملحمة الحب في "أنا كارنينا."
ظل سيغال يشرح لطلبته ويحدثهم عن كبار الكُتّاب الذين تركوا لنا أحكامهم عن العشق . ومن خلال آثارهم نعرف أن ستندال كان مغرماً بزوجة جاره فقرر ان تكون بطلة عمله الكبير"الأحمر والأسود"، ونعرف أن د.ج.لورنس الذي كتب أعنف قصص الغرام ، لم يقبل أن يرى ضعفه سوى شخص واحد هو محبوبته ، وان شاعراً مثل لويس أراغون يضع آلاف القصائد ونحو 60 "رواية" من أجل معشوقته إلزا ، وكان مواطنه فلوبير قد قسّم الحب الى أربعة أشياء :عاطفة، وذوق، وحس ، وكبرياء .
لكن إريك سيغال لم يكن مغرماً بأراغون ، ويعترف إن الحب لايمنحك الحق بأن تصبح مجرد ظل لمحبوبتك ، ولا هو سبب للهلاك ، مثلما كتب أراغون يوماً لإلزا : "يا حبي العظيم، يا سبب هلاكي، الحب السعيد لا يمكن أن يوجد
كان الشاب الثري أوليفر باريت ، يدرس القانون في جامعة هارفرد، لم يتوقع أن تسحره الصبية الجميلة جنيفر كافيلري ، والتي كانت تدرس الموسيقى، هو ينتمي الى أسرة ثرية تمارس السياسة والاقتصاد ، بينما هي فتاة من عائلة فقيرة والدها خباز ، لكن الحب بدأ يأخذ مجراه ، ولا مكان لأن نقول إننا آسفون.
ورغم أن الأحداث تجري في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن أسرة ذلك الشاب ترفض فكرة زواجهما وتقف حائلاً دون تلك العلاقة، التي كانت تشعر كلاً من الشاب والشابة بالأمان والاستقرار والفرح ، حكاية على غرار روميو وجوليت لكن بصيغة اميركية ، الشاب يقرر تحدي أسرته فيتزوج من حبيبته ، ليجد نفسه يعيش في عوز مالي بعد أن عاش في امبراطورية مالية ، لكنه يواصل المشوار ويتخرجان من الجامعة ، وكان حلمهما أن يرزقا بطفل ، فيذهبان الى طبيب تحاليل بحثاً عن أسباب العقم ليكتشفا سراً خطيراً ، فجنيفر مصابة بسرطان الدم ، والموت يقترب منها ، إلا إنها تصر على مواصلة الحياة والحب بنفس المتعة والمسرة التي عاشتها مع حبيبها في الجامعة ، سيفرق الموت بينهما ، لكن الحب أقوى ، ولن يجعلنا نقول آسفون على أيامنا التي مضت ، وتموت جوليت الأميركية ، لكن الرواية التي لم يتجاوز عدد صفحاتها الـ 150 صفحة ترفض أن تموت فهي وعلى مدى سنوات، ظلت على لائحة الكتب الأكثر مبيعاً ، عشرات الملايين من النسخ توزع في كافة أنحاء العالم
ما السر؟ يتساءل الناقد الأدبي لصحيفة النيويورك تايمز.
الجواب : لأنها رواية بلا مغامرات ولا بطولات ولامطاردات ، مجردة قصة رومانسية مؤلفها لم يحاول أن يتبع الأساليب الحديثة في الكتابة ، لم يقترب من جيمس جويس ولا فرجينيا وولف ، وكانت أستاذته في الكتابة امرأة ضعيفة البنية اسمها مرغريت ميتشل ، كتبت على سرير المرض رواية وحيدة اسمها "ذهب مع الريح" ، وحين تشفى وتستعيد عافيتها وتتذوق النجاح والشهرة ، تنتهي حياتها تحت عجلة سيارة مسرعة .
ومثل رواية ذهب مع الريح التي كان سيغال مغرما بها ، نجده حائراً في الفصل الأول ، هل يبدأ الرواية بلحظة التعارف أ م يبدؤها من النهاية ، لتكن "ذهب مع الريح" مرشده الى هذا العالم العجيب والمدهش ، فتبدأ الرواية بلا فصل أول :"ما رأيك ياقارئي في فتاة ماتت في الخامسة والعشرين من عمرها وكانت جميلة وذكية ، أحبت موزارت وباخ وأحبتني" ، نحن أمام محاولة لإستثارة مشاعر القارئ ، وطوال صفحات الرواية يمضي المؤلف في وصف حياة الشابين ، يخصص الصفحات الأخيرة لوصف موت جنيفر بكل تفاصيله ، إنها قصيدة ألم، وليست قصة حب ، حتى أن قراء الرواية يظلون مسمّرين في أماكنهم تخنقهم العبرات ، وتخرج مجلة التايم بغلاف الرواية على صفحتها الأولى مع عنوان مثير : شباب أميركا يذرفون الدموع ، قصة حب تعيد الحياة الى روميو وجوليت .
لم يكتب سيغال رواية محكمة الصنعة ، ولم تدخله قصة حب الى قائمة الروائيين العظام ، لكنها جعلت منه لسنوات الكاتب الأكثر مبيعاً والأكثر شهرة ، يقول لمراسل التايم انه كتب رواية بسيطة جدا لكنه اعتنى بلحظات الحب والألم ، لقد كان يريد أن يقول للجميع إن الموت هو النهاية المحتومة ، ولكن رغم كل ذلك، يظل الحب هو الذي يرسم الحياة
لم تكن رواية سيغال "قصة حب" ، نموذجاً للفن الحقيقي، يبدو إن سرّ ظاهرة نجاح الرواية، الذي بدأت مؤشراته تتضح منذ صدورها، يكمن في انسانيتها وسمتها التراجيدية. فسيغال يذكّر القارئ بعدد من الحقائق البسيطة المعروفة أبرزها أن المال ليس كل شيء عندما يتعلق الأمر بالمشاعر الانسانية، وإن الحياة ليست سهلة وخالية من الهموم كما تقدمها الدعاية.وإن الحب سيظل يعيش معنا برغم كل الظروف ، وان كلمة آسف لامكان لها في مواجهة المصاعب ، بعد قصة حب كتب سيغال عدداً من الروايات أبرزها ، " قصة أوليفر" ورواية " رجل، أمرأة، ولد " و " الصف " وكلها تدور حول ثمن النجاح وأهمية الحب، والزواج، والاخلاص الانساني، وتصور الإغراءات والضغوط التي تجعل من الصعب على الفرد أن يعيش على نحو ملائم.
في آخر حوار معه قال إريك سيغال : " ان الحب جزء من نسيج وجودنا في الحياة ، ويجب أن نعيشه بكل تفاصيله
************

العاطفة الصادقة والمزيفة
في كتابه " ساحرون ومنطقيون " يخصص اندريه مورا فصلا بعنوان " برنادشو والنفور من العاطفة التقليدية " يكتب فيه :" الانسان العاطفي هو صاحب العواطف الصادقة ، وليس الذي يلجأ الى اصطناع عواطف زائفة يستر بها رغبة كامنة في نفسه " ولكي نفهم ما يريد برنادشو علينا أن نعرف إن ساخر بريطانيا الشهير ، كان قد تأثر بالفيلسوف الألماني نيتشه، وظل يردد أمام النساء عبارة نيتشه الشهيرة: " النساء يبحثن في الحب عن سعادتهن فقط ".
كان فيلسوف المانيا قد اطاحت به أمراة في الحادية والعشرين من عمرها التقاها في روما ، واستهل حواره معها بعبارة :"من أي نجم سقط كل منا على الآخر ، كان قد ترك التدريس لأسباب تتعلق بصحته المتعبة ، راح يتنقل في فنادق متواضعة بين نيس وروما ، باحثاً عن الإنسان الكامل. كان يكتب في الصفحات الأخيرة من كتابه (العلم المرح) ، يكتب الى صديقه بول ري :"حيّوا تلك الروسية باسمي فأنا متعطش لهذا النوع من البشر، وسأضع نفسي قريباً فريسة لهذا النوع من الشرك ، فأنا بحاجه إليه في السنوات القادمة ". ورغم أن نيتشه كان يعتقد إنه غير مؤهل للاتحاد مع امرأة ترغب في منح الراحة الى زوجها والبيت الدافئ المريح، لكنها تسلب وبإرادة كاملة زخم الاندفاع الداخلي للروح البطولية عند الرجل . ويكتب في مقال طريف عن الزواج أن سقراط وجد في نهاية الأمر المرأة المناسبة ، (انخا كسانتيب) القبيحة التي شجعته باضطراد مستمر على اداء مهمته العقلية حيث جعلت المنزل منفراً ، وحين كانت تطرده خارج المنزل كانت بهذه الطريقة تسهم في جعله أكبر مجادل في اثينا ، وهو يصف نفسه في ختام المقال مثل الطير الحر الذي يفضل الطيران وحيدا .
ونراه يتساءل في (زرادشت) عن معنى الزواج فتكون الإجابة إنه :"فقر الروح الذي يتشارك فيه اثنان ..آه ! قذارة النفس التي يتشارك فيها اثنان ، هذا الهناء الشقي الذي يتشارك فيه اثنان ". ويضيف : "إن ما تسمونه حباً هو عبارة عن الكثير من لحظات الجنون القصيرة ، ويضع زواجكم نهاية للحظات الجنون القصيرة تلك ويستبدلها بغباء طويل الأمد " . عندما التقى فريدريك نيتشه بـ " لو اندرياس سالومي " ، فكر اكثر من مرة ان يجرب هذه الكذبة الصغيرة المهندمة ، انه الأمل في التخفيف من وحدة الفيلسوف ، وربما الرغبة في طمأنة شقيقته التي تراه غارقا في افكاره السوداوية ، والتي كانت تقول له دوما :"لابد أن تتزوج "، وكانت هذه الشقيقة تتقمص في مناسبات عديدة دور الخاطبة وتبحث له عن زوجة مناسبة ، وتضع أمامه كل اسبوع الكثير من المرشحات ، إلا أن هواجس الفيلسوف النزقة كانت شديدة الغرابة . ورغم أن الحلم بالعيش داخل منزل زوجي ظل يداعب خياله ، لكنه في عام 1877 سيكتب لشقيقته الكبرى : " ارجوك لا تشغلي نفسك بالبحث كثيراً ، فإن المرأة الكاملة التي تناسبني أصبحت سلعة شحيحة " . وفي رسالة أخرى يكتب لها :"إن الزواج يخلو من المعنى ، نحن نعيش لليوم ، نعيش سريعا جدا، ونعيش بطريقة غير مسؤولة ، وهذا ما نسميه تحديدا حرية ثم تتوالى الأزمات ويتوالد الكره ويصاب الأطفال بالخسارة ، ويختتم رسالته بقوله : "ينبغي أن يمنع على الانسان حين يكون عاشقاً ان يتخذ قراراً يكون ملزماً له طوال حياته"
ولم يكن البحث عن زوجة لنيتشه بالأمر السهل ، واذ كانت المشكلة عائدة في بعض الأحيان الى مظهره الفظ ، فإنها أيضا كانت مرتبطة بخجله الشديد وطريقته الخرقاء في التعامل مع النساء ، لكننا نراه في ربيع عام 1876 يقع في غرام ماتيلدا ترامبيداخ ، فتاة شقراء في الثالثة والثلاثين من العمر ، اثناء محادثة عن شعر هنري لونغفيلو . وبعد أيام فوجئت الفتاة بجملة طويلة يلقيها استاذ الفلسفة أمامها وعلى عجالة كأنه يريد أن يتخلص من أمر صعب . كانت الجملة عبارة عن عرض للزواج :" ألا تعتقدين أن كلاً منا سيكون أفضل وأكثر تحرراً لو كنا معاً مما لو كان كل منا سيفعله منفرداً ، فهل تجرؤين على القدوم معي في جميع دروب الحياة والتفكير". سألها وهو يتلعثم ، لكنها نظرت الى شاربه الغليظ ثم اختفت ، بعدها تتابعت سلسلة من حالات الرفض المشابهة ، وفي ضوء اكتئابه وضعف صحته قرر ريتشارد فاغنر إن ثمة علاجا واحدا ممكنا : "عليك أن تتزوج من امرأة ثرية " . ولم يخطر على بال الموسيقار الشهير ، ان المرأة الثرية الوحيدة التي كان يحلم بها تلميذه هي زوجته كوزيما . فلسنوات ظل نيتشه يخفي مشاعره نحو زوجة فاغنر بحرص تحت غطاء الصداقة ، ولم تكشف الحقيقة إلا بعد ان فقد عقله حيث كتب لها :"أنا أحبك يامعبودتي" في بطاقة معايدة أرسلها لها من المصحة .
عام 1888 اعتقد إنه وجد المرأة المناسبة "لو اندرياس سالومي" وهي حبه الأكبر والأشد إيلاماً ، فتاة جميلة وذكية ، مسحورة بفلسفته . قال لها بعد اسبوعين من تعارفهما : " لم أعد أرغب بالبقاء وحيداً أبداً " . كان في ذلك الوقت يعاني من مصاعب مالية ، لم يبع ايَّاً من كتبه سوى نسخاً قليلة ، وبعض المبالغ التي كان يحصل عليها من عائلته بالكاد تكفيه لحجز أرخص الغرف في فنادق بائسة وغالباً ما يتأخر في دفع الإيجار ، ولم يعد قادراً على دفع تكلفة طبق العشاء . وقد منحته سالومي في بداية علاقتهما الأمل الزائف ، رحلة الى مونت ساكرو. هناك اكتشفت رجلاً أشعث الشعر ، مثقل القلب دوماً ، شكاكاً ، وتدل هيئته على الجنون ، كتب الى شقيقته :"يبدو اني لم أعنِ شيئا بالنسبة لها أبداً". وفي الخطاب الأخير الذي أرسله الى سالومي لم يطلب منها أكثر من شيء واحد :" أن نشعر إننا متحدان في كل ما لم تبلغه الأرواح "، ولكن حتى هذا رفضت أن تعِده به، ونراها تقرر في النهاية الارتباط بالشاعر رينيه ريلكه ، الذي أراد أن يتحرش به ويدفعه الى مبارزة من اجل تلك الخائنة الروسية .
بعد هذه الخيبات التي تركت في أعماقه جروحاً عميقة، صب غضبه على النساء في كثير من مؤلفاته. قال: " النساء يتآمرن دائماً على نفوس أزواجهن الأكثر رفعة، يردن سلب مستقبلهم منهم لحاضر مريح بعيد عن الألم " . في كتابه " هكذا تكلم زرادشت" يكتب: " يجب أن يهيأ الرجال للحرب، وأن تهيأ النساء للترفيه عن المحارب".
وقد دفعه رفص سالومي لأن يعيش في أقصى درجات اليأس ونراه يكتب وهو يعيش اقصى حالات اليأس :"هذه اللقمة الأخيرة من الحياة كانت أصعب ما اضطررت الى مضغه حتى الآن ومازال من المحتمل ان أختنق بها ، إنني أعيش الآن في عزلة تامة ومحطماً على نحو لايطيقه إنسان ، ولو لم اكتشف الخدعة الكيميائية لتحويل هذا السماد الى ذهب ، لضعت ، انني هنا أمام أفضل فرصة لإثبات انها ليست لي ، فإن جميع التجارب مفيدة وجميع الأيام مقدسة".
يكتب برنادشو إن :" النساء يتحدثن دائما عن العاطفة والحب العاطفي ، ولكن هذا مجرد حديث وحيلة مرسومة ، ذلك إن الهدف الأخير الذي تسعى إليه كل امرأة هو الزواج " ونرى برنادشو يصوّر عواطف المرأة في مسرحيته " الميجور بربارة " على انها معادلة مقلوبة ، فالرجل هو الصيد ،والمرأة هي الصياد ، ولهذا فهي تواصل الصراع دون خوف و تردد حتى يستسلم الخصم " إن الحب كما يؤكد عليه برنادشو هو تضحية تقدمها المرأة لقوة لاتستطيع حيالها شيئا ، انها تضحي بنفسها من أجل هذا الهدف ، وتضحي بالرجل أيضا وفي مقدمة المسرحية يكتب برنادشو :" إن العلاقة بين المرأة والرجل هي علاقة رجل الشرطة بالسجين الذي يمسك به " .
ويضيف وهو يقدم لمسرحيته الشهيرة الزواج :" في صراع الحب ، نجد الرجل هو الخاسر دائماً بسبب أسرافه في الخيال".
 
ثلاثية الحب.. اللذة والألم والمغامرات
علي حسين

| 29|

رحل في الثالث والسبعين من عمره ، وطلب من إحد معارفه واصدقائه أن يبقى قبره مجهولاً ، كان كازانوفا المولود عام 1798 واسمه الحقيقي " جان كازانوفا دي سينيالت " ، قد أوحى الى العديد من الكتاب والفنانين بشخصية العاشق الماجن الذي ما أن يذهب الى فراشه في الليل ، حتى يبدأ بإحصاء النساء اللواتي سيسجل اسمائهن في يومياته ، وقد وصلت إلينا الملامح الأساسية لشخصية هذا العاشق من خلال مذكراته التي اطلق عليها اسم " حكاية حياتي " ، ترجمها الى العربية حلمي مراد ونشرت في سلسلة كتابي بعنوان " مذكرات كازانوفا ".

ويخبرنا المترجم إن هذه الصفحات تروي حياة " أعظم عاشق عرفه التاريخ " ، والغريب إن كازانوفا الذي يخبرنا في مذكراته إنه أوقع في شراكه أكثر من 125 امرأة ، ظل شكله غامضاً ، برغم العديد من اللوحات الفنية التي رسمت له ولمغامراته ، حيث لم يحفظ له العالم سوى صورتين غير واضحتين ، وظل شكله وهيئته لغزا يحير الباحثين ، حتى عثر عام 1953 وبطريق الصدفة في إحدى المخازن الخاصة بتاجر للصور في ايطاليا ، على صورة قديمة مكتوب عليها عبارة " جان جاك كازانوفا 1767 " وقد تحقق خبراء اللوحات الفنية ، من أن اللوحة تعود الى رسام كان صديقاً لكازانوفا ويدعى " رفائيل منجز " وقد رسمت الصورة للعاشق الايطالي الأشهر وهو في الثانية والاربعين من عمره حيث تُظهره مصاباً بتضخم في الغدة الدرقية ، جاحظ العينين ، ذا ذقن مدبب وأنف ضخم وشفتين تنمان عن ميل شهواني ، لكنه يملك وسامة محببة هي التي ساعدته على الإيقاع بالنساء .
يخبرنا كازناوفا في مذكراته انه جرّب الحب وهو في الخامسة عشر من عمره ، مع فتاة حسناء اسمها " باتينا " كان لها الكثير من المعجبين ، وكانت هي من جانبها تميل الى شاب أكبر منها عمراً، ولم يجد كازناوفا من وسيلة للوصول إليها سوى إنه أشاع أن الفتاة مصابة بمرض خطير ومعدٍ ، وهكذا ابتعد الجميع عنها ، لتصبح أول مغامرة نسائية ناجحة في حياته .
كان كازانوفا يرى إن الحب يجلب طمأنينة النفس ويكتب في احدى رسائله الى أحد اصدقائه :" لقد علمت ان لديك شهوة جسدية قوية نحو ملذات الحب ، عندما لاتسبب الحزن والغم لأحد ، لك أن تلبي رغباتك كما تريد " . وهكذا نرى الحب عند كازانوفا ينحصر في الملذات التي يمكن التسامح معها وقبولها ، ويقول في مذكراته انه لايمكن بأي شيء إشباع شهوة الحب ، فمثلها مثل الظمأ الذي يعاني منه الإنسان في حلمه ، والذي لايستطيع إرواءه .
واذا ما كان كازانوفا يشجع على مغامرات العشق ، ، فانه أيضاً يتوجه إلى الشباب ويقدم لهم نصائح عن أحوال الحب : كيف يتصرف الشاب أمام السيدة ، كيف يرتدي ثيابه ، كيف يتحادث مع امرأة جميلة ، كيف يصل إلى قلبها ، وبحسب كازانوفا فان جميع الوسائل صالحة ومناسبة من أجل الوصول الى الحب المتبادل ، بما في ذلك الخداع والتصنع ، وإظهار العواطف الغرامية المسبهة وحلف الأيمان ، وتعد مذكرات كازانوفا دليلاً تطبيقيا في فن الحب ، ويؤكد كازانوفا إن الحرية في الحب تأتي من المغامرة التي من شروطها أن تضع العاشق في موضع الخطر ، فلا حب من دون مخاطرة .
بدأ كازانوفا كتابة مذكراته في سنة 1791، واستمر في كتابتها عدة أعوام، حتى أنهاها عام 1798، قبل وفاته بأشهر قليلة؛ وكان يكتبها بتأثر، وهو يرى تلك الحياة المليئة بالمغامرات تمر أمام عينيه وتبعث إليه ذكريات المجد والشباب ، وكان يعتزم إصدار الجزء الأول منها منذ سنة 1797، ولكن الموت عاجله، ولم يتح له تنفيذ أمنيته .
وتقدم إلينا هذه المذكرات الممتعة شخصية كازانوفا في جميع صورها ، صورة المحب الذي يطارد المرأة بكل ما وسع من شغف واهتمام ، ليأسرها بظرفه وسحره، وصورة السائح المتجول الذي يجوب أوروبا من أقصاها إلى أقصاها باحثاً عن المال والنساء ، أو صورة الشريد الذي لا يملك قوت يومه، وأخيراً صورة المفكر الأديب الذي يلتمس في القراءة ، نسيان المراة ، وفي المذكرات نتعرف على نوع النساء اللواتي يثرن اهتمام العاشق فنراه يروي لنا هذه الحكاية التي توضح فلسفته في الحب :" ذات يوم كنت في طريقي ، فمرت بي عربة تحمل مغنية حسناء ذائعة الصيت يومئذ، وأنا أعشق المغنيات والممثلات بنوع خاص، ومع أن المغنية كانت فتية وكانت حسناء، فإنها لم تثر في نفسي رغبة ما، ذلك أنها كانت حسناء جداً،. ولكن خادمتها كانت بالعكس فتاة سمراء ساحرة ذات قد ممشوق وعينين وضاءتين، فوقعت في حبها على الأثر " .
يكتب في مذكراته إن " الحب أكثر الآلهة مكراً ودهاءً ، ولاتتجلى عبقريته قدر ما تتجلى وسط الصعاب والعراقيل ..ولما كان مجرد وجوده يتوقف على إمتاع اولئك الذين يتفانون في عبادته ، فإن هذا الإله ينتزع النجاح من أعماق الحالات المحفوفة باليأس ..ويخلق المناسبات التي تحقق هذا النجاح " .
************

جنون الحب
حذروها منه فهو مثل كازانوفا يتنقل من امرأة الى أخرى ، لكنه سحرها عندما شاهدته يؤدي على المسرح دورا كوميديا ، بعدها قدمت معه عام 1937 فيلما بعنوان " نار فوق إنكلترا " فوقع الاثنان في الحب .
قال لها مدير أعمالها إن علاقتها بلورنس اوليفيه ليست في مصلحتها خصوصا وانها نجمة كبيرة :" عليك أن تدركي ياسيدتي إنني أعرف هذا الوسط ودهاليزه ، أن لورنس أقل منك شهرة بكثير ، وأخاف أن تكون علاقتك به لاستغلال اسمك .
• صرخت بحدة : لكن لورنس ممثل موهوب وهو الذي يرشدني إلى الطريق الصحيح
العام 1940 يرتبطان رسمياً ، يصعد نجم اوليفيه في المسرح ، والصحف تلاحق بطلة ذهب مع الريح ، وذات يوم تخبره أن ايليا كازان يريدها أن تؤدي دور البطولة في فيلم عربة اسمها الرغبة
• قال لها متحمسا : مسرحية تنسي وليامز انها تحفة فنية
وتقف أمام مارلون براندو ويأتيها لورنس بالصحف التي تشيد بالنجاح الكبير الذي حققه الفيلم
• اقرئي ماذا كتبوا عنك : أدت فيفيان لي ، دور بلانش باقتدار الحسناء الجنوبية التي تتشبث بأوهام رومانسية ، دورها يذكرنا بالفتاة الجنوبية أيضا سكارليت أوهارا في ذهب مع الريح .
- أنتَ سبب كل هذا النجاح ياحبيبي
لكن رغم النجاح الكبير الذي حققته في الافلام التالية آنا كارنينا ، وكليوباترا، والعاشقة في جسر واترلو، وامرأة اللورد هاملتون وأوفيليا حبيبة هاملت... إلا أن اسطورة سكارليت أوهارا في ذهب مع الريح ظلت تلاحقها ولم تستطع أن تخرج من أسر سكارليت.
وتكتب في يومياتها : "كيف يمكنني ان أقتلها هذه السكارليت التي تحتلني تماماً وتكاد تمحوني؟".
ومن هنا راحت ترفض الأدوار تباعاً، لتقف أمام المرآة بوجهها الشاحب ويديها المرتجفتين وتخاطب صورتها وكأنها تخاطب سكارليت أوهارا.
في ذلك الحين لم يتردد تنسي ويليامز، الذي طالما عبّر عن حبه لها واعجابه بها اذ مثلت دور بلانش في مسرحية "عربة اسمها الرغبة"، في أن يقول آسفاً: "طالما أن فيفيان عرفت الحب والغيرة ، لم يعد في وسع شيء الآن ان يبعد عنها شبح الجنون .
بعد عشر سنوات من زواجها من لورنس اوليفية تصاب بمرض الغيرة القاتلة ، فقد كانت تبكي باستمرار لان اوليفيه مشغول عنها في المسرح ، ونراها تكتب له في احدى الرسائل :" أنا جائعة الى حبك " .
وذات يوم تقول له : هل أنا حقاً أجيد التمثيل ، أم الجمهور يراني مجرد امرأة جميلة ؟
• دعكِ من هذه الأوهام فأنت لاتزالين أفضل وأجمل ممثلة
وذات يوم أبلغها لورنس إنه سيسافر مع فرقته المسرحية وتطول غيبته فتكتب اليه عن معانتها وهي تعيش وحيدة :" يا أعز حبيب ، حبي معك في كل ثانية ، وأنا أعرف أن نجاحك لي فيه نصيب ، وسأكون فخورة بك . "
تطول أيام اوليفيه في السفر فتصاب فيفيان بمرض نفسي تُنقل على إثره للمستشفى .ويترك لورنس عمله في لندن ويسرع إليها ، وفي المستشفى تخبره إنها لاتستطيع العيش ثانية واحدة من دون وجوده معها
• أرجوك إني اختنق أريد العودة الى بيتنا
• وبعد أن عادت الى البيت زادت حالتها سوءاً حتى اضطر الطبيب أن يمنحها المهدئات
- هي مصابة بانفصام الشخصية ، قالها الطبيب للورنس اوليفيه
- لكنها لم تشكو من المرض طوال عشر سنوات
- يبدو أن أشياء جدت في حياتها ، جعلت المرض يظهر بقوة على السطح
وعند ما تخرج من المستشفى تقول لمدير أعمالها : ارجوك ابحث لي عن دور في السينما ، لابد أن أجد دورا بمستوى ذهب مع الريح
- لكنك لاتزالين ممثلة عظيمة
• لورنس أفضل مني ، لقد منح لقب الفارس ،ثم لقب لورد
- وهو زوجك وحبيبك .
• عندما تزوجته كنت اكثر شهرة ونجومية منه ، واليوم هو الأشهر وأخاف أن يبحث عن ممثلة اخرى اكثر شهرة مني ..ترى من سيختار
قال له الطبيب
- أنتَ مشكلتها ياسيد لورنس
- لكني أحبها ولا استطيع فراقها
- علاجها أن تتركها ، تبتعد عنها نجاحك المستمر يعذبها ، يبعدها عن احساسها كزوجة ، ويشعل الغيرة في قلبها ، انها تخاف أن تفقدك بسبب شهرتك .
- وأخاف ان يعذبها الطلاق
- ستعتاد عليه ، وسترتاح بدونك.
- سأفعل من أجلها فقط .
************

ذهب مع الريح
كانت مرغريت ميتشل تعاني من كسور في العظام ، وهي منذ ثلاث سنوات لاتستطيع مغادرة الفراش ، تقضي أيامها ولياليها بقراءة الروايات ، وذات يوم يسألها وهو يشير الى أكوام الكتب التي تكدست حولها : "لماذا لاتكتبين روايتك الخاصة" ، المرأة الصغيرة ذات العينين الزرقاوين والمولودة عام 1900 ، كانت كل مساء تذرف الدموع وهي تعيد قراءة صفحات من رواية الكسندر دوماس الشهيرة "غادة الكاميليا" ، ولا تزال تتذكر كيف أن أمها عاشت حياتها مغرمة بهذه الرواية ، وقد أخبرتها أنها أصرت أن تسميها مرغريت تيمناً باسم بطلة الرواية التي تواجه أخلاق المجتمع الزائفة ، فتموت وحيدة بعد أن وقف الجميع ضد قصة حبها مع الشاب أرمان دوفال
حين نشر دوماس الابن روايته "غادة الكاميليا" عام 1848 كان في الثالثة والعشرين من عمره، ولم يتوقع أن تحقق هذا النجاح الكبير الذي حوله ،بين ليلة وضحاها، من كاتب مغمور الى نجم تطارده المعجبات. الجميع يسأله عن الفتاة مرغريت غوتييه التي كانت تشتهر بحبها لأزهار الكاميليا ، وحكايتها وكانت مرغريت على وشك إقامة العائلة الأرستقراطية الثرية، الذي هامت به وهام بها و حين يبدآن في عيش حكاية غرام حقيقية تريد مرغريت عبرها أن تبتعد عن عالم اللهو الذي انغمست فيه، أملاً في أن يعطيها الحب طهراً تتوق إليه. وإذ يخيل إلى العاشقَين أن الحب ونبله سيدومان معهما إلى الأبد، يأتي تدخل والد آرمان، الذي يجن جنونه حين تتناهى إليه حكاية الحب بين ابنه ومرغريت ، فيسارع إلى لقائها ويقول لها إن حبها لابنه سيؤدي إلى دمار مستقبل الشاب، وسيقف عثرة في وجه مستقبله وتدفعها ونزعتها الإنسانية الى الاقتناع بمنطق الأب فتقرر بأن تضحي بنفسها وبحبها من أجل سعادة آرمان وسمعته ومستقبله.
أعادت مرغريت في ذهنها أحداث رواية دوماس الشهيرة ، ثم أمسكت القلم ووضعت أمامها مجموعة من الأوراق ، وبدأت تكتب : "لم تكن سكارلت أوهارا في الحقيقة فتاة خارقة الجمال ، لكن قلما كان الرجال يستطيعون مقاومة فتنتها الساحرة ، كان وجهها جذاباً ، أما عيناها فتلمعان بنظرات لاسعة كالسياط " . ستدور أحداث الرواية التي لم تختر اسماً لها في مدينة اتلانتا التي عاشت فيها طفولة سعيدة ، أمضت ساعات تكتب وحين انتهت أخفت الصفحات تحت الوسادة ، لم تكن تريد أن يعرف زوجها إنها أخذت بنصيحته ، كانت مقتنعة بأن محاولتها في الكتابة ستكون لها وحدها ، لأنها لن تجرؤ على نشر هذه الصفحات التي خطتها على أوراق ملونة وبأحجام مختلفة ، فالأمر أولاً وأخيراً ، هو محاولة لقضاء الوقت ، والتغلب على ضجر الرقاد في السرير لأكثر من ثلاثة أعوام .
لكن بعد أكثر من تسعة أشهر تبدأ الأوراق تتضخم ، ولم يعد الأمر سراً أنها تجرب حظها في الرواية ، فالفتاة النحيلة التي عملت في الصحافة كمراسلة لمدة سنوات في قسم المحليات ، كانت تدرك جيداً ان مايجري على أرض الواقع لاعلاقة له بالخيال ، فـ "جراند أوهارا" اللاجئ الايرلندي الذي دخل الولايات المتحدة عام 1848 قرر أن يقضي حياته في هذه المدينة ، فاشترى مزرعة وتزوج ، وها هو سعيد ببناته الثلاث ، إحداهن أطلق عليها اسم سكارليت ذات الشعر الأحمر والعينين الخضراوين والطباع الحادة ، والتي ما أن بلغت السادسة عشرة من عمرها حتى بدأت عيون الرجال تطاردها ، والجميع يطلب رضاها ، لكنها تختار أشلي ويلكس ، شاب عاطفي وحالم ، لكنه مغرم بفتاة أخرى اسمها ميلاني التي يتزوج منها ، ما يجعل سكارليت تفقد أعصابها ، وتقرر في لحظة غضب أن تتزوج أول انسان يتقدم اليها ، ويقع الاختيار على شقيق حبيبها أشلي ، وما هي إلا سنوات قليلة حتى تقع الحرب الأهلية الاميركية ، أشلي وشقيقه يذهبان الى القتال ، ويموت زوج سكارليت ، فيما يواصل أشلي القتال ، وخوفا من اقتراب نيران الحرب من أبواب اتلانتا ، تفكر سكارليت بالهرب مع ميلاني وطفلتها ، فتطلب من غني الحرب الشاب اللعوب ، ريت بوتلر مساعدتها ، تقضي شهوراً تتجول بين المنحدرات والغابات ، وما ان تضع الحرب أوزارها ، تقرر العودة الى مدينتها ، لكنها لا تجد الآن سوى بيوت محروقة ، الأم توفيت والأب أصيب بمرض عقلي بعد أن رأى عالمه الذي بناه بيديه ينهار أمامه ، لكن سكارليت تقرر أن تبني كل شيء من جديد معاهدة نفسها أن لاتهزم ثانية.
بعد أن علم الزوج أن مرغريت تواصل كتابة عملها الروائي أخذ يسألها بين الحين والاخر : أين وصلت الرواية؟
- لكنها ياعزيزي مجرد أوراق كتبتها للترفيه عن نفسي.
كان الزوج مقتنعها بأن زوجته المقعدة ، ليست في حالة صحية وذهنية تؤهلها للدخول الى عالم الأدب ، ولهذا لم يطلب منها يوماً أن يقرأ ما كتبته ، هذا إضافة الى أن خطها رديء ، لكنها لاتزال تطلب المزيد من الكتب ، كل شيء عن الحرب الأهلية ، مجلدات عن تاريخ أميركا وجغرافيتها ، يقول لشقيقتها :
– ليتني لم أقترح عليها ذلك الاقتراح.
وبعد أسابيع يسألها : ماذا سيكون اسم الرواية ؟
• "ذهب مع الريح" ، هذه العبارة التقطتها من قصيدة كانت قد قرأتها قبل أيام ، ثم أضافت : إذا ما انتهيت من هذه الأوراق فلن أعود للكتابة ثانية .
- كما تشائين قال لها ، وهو يلاحظ أن صحتها بدأت تتحسن ، كلما تقدمت في صفحات الرواية .
لكنها تواجه مشكلة ، فقد انتهت من كتابة الرواية باسثناء الفصل الأول الذي وجدت صعوبة في إكماله بعد ان كتبت السطورالأولى ، ولكن من سيهتم للفصل الأول ، اذا كانت الرواية لن ترى النور وسيقرأها المقربون فقط ، وذات مساء قالت لزوجها :
- لن أسمح لأحد بقراءة ماكتبت ، هذا قرار نهائي.
إلا أن المفاجاة كانت في انتظار الجميع ، فقد وقعت الأوراق بيد ناشر مغامر ، كان يبحث عن مؤلفين شباب ، لكنه يواجه مشكلة رغم إعجابه بالرواية فهي بلا فصل أول : "ربما تكون هذه صرعة جديدة" ، قال لأحد العاملين معه . لكن قرار طباعتها كان قد اتخذ رغم أن مرغريت كانت عاجزة عن اكمال الرواية ، لايهم ليقرأها الناس كما هي . الناشر الذي كان يتوقع ان الخمسة آلاف الاولى من الرواية التي طبعها ستباع خلال عام أو عامين ، ولم يكن يحلم أن تصل المبيعات خلال العام الأول الى عشرة ملايين نسخة .
************

الحب هو الرهان
تتعامل رواية ذهب مع الريح مع موضوع الحب على خلفية الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الاميركية والتي تكاد تكون قد دمرت كل شيء ويظل الحب هو الرهان الحقيقي للخروج من مأزق ذلك الدمار وانهار الدم التي سالت والعلاقات الاجتماعية التي اصابها الكثير من الخلل والعطب. فمع كل همسة حب عشرات القتلى ومع كل مفردة سخية بالاحاسيس العاطفية شلال من الدماء التي تصبغ الشاشة باللون الاحمر وكأن ذلك الفيلم يريدنا أن نقلب صفحة الألم وبلا رجعة من اجل شيء أكبر واسمى وهو الحب.
تكتب فيفيان لي في إحدى رسائلها الى لورنس اوليفيه :" لن أمل ولن أتعب أبداً في النظر اليك ، إن الحب يتدفق في كل عرق من عروقي ، إن حياتي كلها تتوقف على كلمة منك " .
 
علينا أن نبحث بأنفسنا عن السعادة والحب كل يوم
علي حسي

| 30 |

كان في الخامسة عشرة، حساساً رقيق القلب وخجولاً بحكم التربية العسكرية الصارمة التي فرضها عليه والده الضابط القديم في الجيش العثماني ، دخل دور المراهقة متوهماً إن الحب يأتي من النظرة الاولى ، وبسبب خجله وخوفه الذي لازمه طويلاً تعثـر في علاقاته مع النساء ، يكتب الفنان جواد سليم في مذكراته :" إن أكثـر النساء اللواتي قطعن علاقتهن معي كان سببها برودي وخجلي " .

وهو يعترف بعد ذلك إنه تأثر كثيرا بمفهوم افلاطون للحب ، ففي مكتبة والده عثر على كتاب " المأدبة " الذي يعد من أهم الكتب التي شرح لنا فيها الفيلسوف الأغريقي مفهومه للحب يقول افلاطون الحب أذن هو حب للجمال ، وإن المبدأ الملهم للرجال في حياتهم هو الحب ، وليس الثراء ولا المجد .ونجده يكتب لصديقه عيسى حنا في رسالة بتاريخ 1937 " :" الى الآن لم أتعرف الى فتاة لأجعلها صديقة لي ..أخرج معها وأشاركها قسماً من وقتي ، في عام 1938 ينتقل جواد سليم الى روما ويكتب لعيسى رسالة يعترف من خلالها :" إنني أحب ياصديقي ..أحب ..لقد رأيت كل ما كنت أتصوره عن الحب بل وأكثر " كان هذا في أوائل أيامه في روما التي مارست تأثيراً أشبه بالسحر عليه .كانت الفتاة التي أحبها اسمها ماريا ، يصفها لنا بأنها حسناء ذات شعر اسود فحم " .
في روما يقصد المتاحف وتسحره أعمال مايكل آنجلو ، ويقرأ عن تأثر هذا الفنان الايطالي الشهير بنظرية افلاطون عن الحب والخلق والتكوين ، فالعبقري الايطالي كان مشدودا الى أفكار الفيلسوف الأغريقي الذي كانت نظريته الجمالية مفتاحاً لأعمال مايكل آنجلو فيما بعد :" ليس ما أعنيه بجمال الأشكال ما يراه الناس عادةً جميلاً أو يحسبونه كذلك وراء ما يرونه من كائنات أو صوراً لهذه الكائنات ، إنما الجميل عندي قد يكون حزمة من الخطوط المستقيمة وما ينتج عنها من اشكال فريدة في ذاتها "
كان مايكل آنجلو ( 1475- 1564 ) فناناً شكلته الفلسفة والحياة ، غير أن قصص الحب الفاشلة كانت تطارده ، وبينما كان ذهنه منغمساً في أفكار افلاطون عن الجمال والحب ، كانت حياته العاطفية أشبه بالمأساة ، فقد عاش يعاني من فشل قصة حب في شبابة ، وحين عرف في الخمسين من عمره الفتاة الجميلة " فيتوريا كولينا " ، كانت هي قد خرجت من تجربة حب خاسرة ، ولهذا لم تتطور العلاقة العاطفية بينهما وظلت أشبه بالحب الافلاطوني الخالص .
************

على طريقة غادة الكاميليا
هل كان جواد سليم ينظر الى الحب نظرة إفلاطونية ؟ يكتب في دفتر يومياته :" كنت لا اتصل بامرأة إلا وأفكر ما ستقودني إليه تصرفاتي في المستقبل ، فإما أن أتركها وما إنْ أتجرد من العاطفة " يخبرنا جبرا إبراهيم جبرا ، بأن جواد سليم كان دائم البحث عن الجمال الانثوي ليتمتع بمعانيه ، وليستمد منه أعمالاً فنية .في يومياته نقرأ :" كانت الأوقات الصباحية للمعرض خاصة بالنساء ، فذهبت في أكثرها ، كنت أقضي الوقت في سماع قطع من الموسيقى والتفرج على النساء ..تلك الرقة الأنثوية الهائلة والعيون الواسعة السوداء المليئة بالرغبة المكبوتة والحياء الجذاب . وأجمل شيء لفت نظري هو هذا الرداء العجيب – العباءة – والطريقة التي يلبسن بها العباءة، وهو يتمخطرن أمام المعروضات بنعومة واهتزاز متثاقل. وهي تنزل من على رؤوسهن ثم تلتف حول أدوار الكتف وتأخذ قطعة منها في الدوران حول الذراع العاري الأسمر ويخر قسم منها إلى الأرض سابحاً حول الردفين بشكل مبهم ثم ملتفاً حول الساق الملونة " .( جواد سليم .. اليوميات – من كتاب الرحلة الثامنة جبرا ابراهيم جبرا ) .
في العام 1940 يتعرف جواد سليم على فتاة من عائلة ارستقراطية ، يكتب جبرا إبراهيم جبرا :" إن الفنان الشاب كان معجباً بعناصر الجمال التي استهوته في تلك الفترة " وفي يوميات جواد سليم نتعرف على فتاة :" سمراء ، جسدها الحار الممتلئ المثير ..شعرها الطويل المبعثر ، حركاتها ، ضحكاتها ، عطفها ، حنانها ، حبها " ونجد جواد يهيم بهذه الفتاة فيقرر ان ينصب خيمة على شاطئ دجلة قرب منزل تلك الفتاة ليراها كل يوم ، وشاهده الجميع كيف كان يدور حول البيت ولايجرؤ أن يدخل فيرجع الى خيمته ، ويكتب في يومياته :" أشعر بحالة اضطراب عندما اراها وارتجف ، واذا شاهدتها يخيم الصمت عليّ، أسير معها ثم أتركها ، قلت لها ذات يوم إن الاشياء الجميلة جداً تؤلمني بعض الأحيان " وفي مكان آخر من اليوميات يكتب ذهبت لترتدي ثوباً جديدا ، وعندما دخلت كدت انصعق في محلي ، لا أري ماذا اقول ..لقد ظهرت بثوبها هذا ، صورة من أفظع صور للجمال والفتنة .في تلك اللحظة كدت أذوب ، كدت أبكي ، أن هذه القطعة من القماش الإلهية الرائعة التي فصلتها أيدي الجنة كانت على بدنها العاري تماماً." .
ونجده يقتبس بيتا من الشعر للشاعر الانكليزي إليوت ليضعه في أول الصفحة مع تخطيط بعنوان " مرآة وجهي " :" أني أفكر كثيراً بك. ما أبعد الزمن منذ أن رأيتك !" .،
وفي صفحة أخرى يكتب انني شغوف برواية غادة الكاميليا ويقرر أن يعيد صياغة الرواية على شكل لوحات .
كانت جواد سليم يعاني آثار الحب ، وهو منذ أيام يجلس في خيمته بانتظار خروج فتاة أحلامه ، يقرأ ويخطط ويرسم ، وكل نهار يعيد قراءة صفحات من رواية الكسندر دوماس الابن "غادة الكاميليا" ، ويخبر أصدقائه انه مغرم بهذه الحكاية الساحرة وبالفتاة مرغريت التي تواجه أخلاق المجتمع الزائفة ، فتموت وحيدة بعد أن وقف الجميع ضد قصة حبها مع الشاب أرمان دوفال
حين نشر دوماس الابن روايته "غادة الكاميليا" عام 1848 كان في الثالثة والعشرين من عمره، لم يتوقع أن تحقق هذا النجاح الكبير الذي حوله ،بين ليلة وضحاها، من كاتب مغمور الى نجم تطارده المعجبات. الجميع يسأله عن الفتاة مرغريت غوتييه التي كانت تشتهر بحبها لأزهار الكاميليا ، وحكايتها وكانت مرغريت على وشك إقامة العائلة الأرستقراطية الثرية، الذي هامت به وهام بها و حين يبدآن في عيش حكاية غرام حقيقية تريد مرغريت عبرها أن تبتعد عن عالم اللهو الذي انغمست فيه، أملاً في أن يعطيها الحب طهراً تتوق إليه. وإذ يخيل إلى العاشقَين أن الحب ونبله سيدومان معهما إلى الأبد، يأتي تدخل والد آرمان، الذي يجن جنونه حين تتناهى إليه حكاية الحب بين ابنه ومرغريت ، فيسارع إلى لقائها ويقول لها إن حبها لابنه سيؤدي إلى دمار مستقبل الشاب، وسيقف عثرة في وجه مستقبله وتدفعها ونزعتها الإنسانية الى الاقتناع بمنطق الأب فتقرر بأن تضحي بنفسها وبحبها من أجل سعادة آرمان وسمعته ومستقبله.
بعد ثلاث سنوات من العشق والهيام ولوعة الآنتظار يقرر جواد سليم أنه لاأمل ، وان هذه الفتاة التي احبها لم تبادله نفس المشاعر : " اليوم أظن قد انتهى كل شيء بيني وبين ... وأظن أيضاً قد انتهى الحب بيني وبين أي امرأة أخرى ، يجب أن لا أنكر على نفسي أني وصلت عمراً جدياً يجب أن أكرسه لأمور أهم من التسلية والعواطف – الحب – وضياع الوقت. وفوق ذلك قد وصل عمري الخامسة والعشرين فأنا في طور آخر الآن غير طور الشباب. وأيضاً لا أعتقد أن امرأة أياً كانت ستتعلق بي. هذا ما أتصوره! من يدري؟ ، ونراه يختتم قصة الحب هذه بعبارة :" ستكون اللحظات والثواني التي رأيتك فيها خالدة كأيام الربيع " .
************

الحب من اللقاء الاول
خافت الأم على ابنتها الوحيدة من العيش بمفردها في مدينة كبيرة ومزدحمة مثل لندن كانت الفتاة " لورنا هيلز " في السابعة عشر من عمرها قد انهت الدراسة الثانوية بنجاح وحصلت على منحة للدراسة في معهد لاعداد المعلمين ، لكنها كانت ترغب في دراسة الفنون فتقرر أن تقدم أوراقها الى كلية سيلد للفنون ، يأتي الجواب بالموافقة .
في لندن التي تدخلها للمرة الاولى تجد سكنا لدى زوجين في السبعين من العمر ، كانت لورنا قد دخلت لندن في ايلول عام 1945 ( انعام كجه جي لورنا سنواتها مع جواد سليم) .
وصل جواد سليم الى لندن عام 1946 ، كان انذاك في الخامسة والعشرين من عمره ، يعاني من قصة حب فاشلة ، عندما شاهدته لورنا للمرة الاولى كان اشبه بالشاب العبثي في ملبسه وتصرفاته ، يهتم بالموسيقى ، والشعر وقراءة الروايات ، والأهم من ذلك كان لديه غيتارا ايطاليا وذات يوم فاجأ الجميع بارتدائه ثياباً اسبانية ، وقد ساهم حب الموسيقى والشعر والروايات في بناء علاقة صداقة بين الفتاة الانكليزية والشاب العراقي :" فكانا يذهبان معاً الى العروض المسرحية الراقصة حينما يتوفر لهما ثمن التذاكر ، أو يمضيان الوقت في الأحاديث الفنية " (لورنا سنواتها مع جواد سليم).
كان جواد سليم أول طالب عربي تتعرف عليه لورنا هيلز ، ولاحظت انه مثل معظم القادمين من الشرق ينطق اللغة الانكليزية بطريقة مختلفة وجذابة ، ولهذا شعرت منذ لقائهما الاول إنها أمام شاب يمكن أن تثق به كثيرا ، وإن صداقتهما يمكن أن تتحول الى حب في يوم من الايام ، وتخبرنا في حديثها مع انعام كجه جي إنها :" لم تقل له في ذلك الوقت انها تحبه ، ولا تذكر انه صارحها بانه يحبها او يريد أن يتزوجها ، لكنهما كانا مدركين لإحساس الحب في داخلهما ، ويشعران أن طريقهما باتت واحدة في الآتي من الايام " .
ويبدو أن لورنا كانت تشعر أن هناك ما يجذبها الى هذا الشاب الشرقي المرح ، سريع النكتة والبديهية إنها تقول :" من حظنا أننا التقينا .فلو ابديت شطارة أكبر في الفرع العلمي ، لما وصلت قدمي في سيلد يوماً".
عندما حصل جواد على شهادة التخرج عام 1949 وحان وقت عودته الى بغداد ، نجده يفكر بلورنا وحياته معها ، ويخبر اصدقاءه انه قرر الزواج منها ، وفي يوم يفاجأها بان يطلب منها ان تعرفه على أمها وابيها ، يركبان القطار الى منطقة شيفيلد التي تسكن فيها عائلة لورنا . هذه المرة يقرر جواد أن يتغلب على تردده ، وأن يعلن حبه صراحة ، وحين يواجه مشكلة مع دائرة البعثات التي تمنع الطالب من الزواج اثناء دراسته يخبر والد لورنا الذي يقول له :" عد الى بلدك أولاً ايها الشاب ، فإذا شعرت هناك انك مازلت راغبا في الزواج من ابنتي ..يكون لكل حادث حديث " ( لورنا سنواتها مع جواد سليم).
في أحد ايام شهر ايلول من عام 1950 تصل الشابة الانكليزية النحيلة لورنا هيلز الى بغداد ، وبعد اسبوع من وصولها وجدت نفسها تقف أمام قاضي المحكمة الشرعية لتصبح زوجة أشهر فنان عراقي ولتعيش معه اجمل قصة حب تنتهي بموته المبكر وتتذكر لورنا تفاصيل اللحظات الاخيرة من حياة جواد :" كنا في سيارتنا الصغيرة التي يقودها جواد متوجهين الى شارع الجمهورية ، عندما توقف زوجي فجأة ونحن وسط إحدى المستديرات ، وقال ان يشعر بوخز في قلبه ، نزلت بسرعة لآخذ القيادة بدلاً عنه ، عدنا الى البيت واتصلت بالدكتور سالم الدملوجي ، الذي تولى نقله الى المستشفى ، مرت عشرة أيام بدا لنا خلالها إن وضع زوجي تحسن وانه تجاوز مرحلة الخطر ، لكن بدأت بعض المضاعفات تسبب حالة خطيرة ، وفي نهار 23 كانون الثاني 1961 بينما أقف الى جوار سريره احمل قنينة المغذي ، لفظ جواد أنفاسه الاخيرة في صمت وهدوء وغادرنا مسرعا كعادته للحاق بموعد ينتظره " ( لورنا سنواتها مع جواد سليم )
كان جواد قبل أيام قد تسلق جدار نصب الحرية الذي اوشك على الانتهاء منه ، لينظر الى عمله النظرة الاخيرة .
في واحدة من رسائله التي بعث بها الى صديقه عيسى حنا من لندن يكتب جواد سليم : نحن نعيش كأننا لا نعيش ..نعيش في انتظار شيء لم ندر ما هو .نحن مسيرون ام مخيرون ؟ يمكنك أن تكون سعيدا ، ويمكنك أن تكون شقياً أيضاً ..اقرأ في رواية لجين أوستن إن علينا أن نكون أقوياء الإرادة ونبحث بإنفسنا عن السعادة والحب والفرح كل يوم " .
************
كبرياء وهوى
" مساء الاحد ، الساعة تقارب من العاشرة مساء ، أجلس في غرفة المكتب ، أكتب السطور الاولى من رواية جديد لم أختر لها عنوان بعد ، كانت الكلمات تنساب مني بسهولة ( من الحقائق التي يقر بها الناس جميعا ، أن الاعزب الذي يمتلك مالاً وفيراً لابد أن يكون في حاجة الى زوجة ) تركت القلم وذهبت باتجاه النافذة الطقس ينذر بالعواصف والأمطار " .
بهذه الكلمات التي كتبتها الروائية الانكليزية جين أوستن تبدأ في كتابة إحدى رواياتها الشهيرة " كبرياء وهوى " كانت في الثامنة والثلاثين من عمرها حققت روايتها " العقل والعاطفة " نجاحاً كبيراً ، وكانت قبلها قد أرسلت الى الناشر رواية بعنوان " انطباعات اولية " لم تلق استحسانا حيث رفضها الناشر ، فقررت أن تعود لها من جديد تعدل فيها وتضيف لها وتغير عنوانها الى " كبرياء وهوى " .
كانت جين اوستن فتاة جميلة ، عيناها براقتان ، شعرها مجعد ناعم ، لها وجنتان مستديرتان ممتلئتان ، وفم وأنف صغير وكانت مرحة ، بارعة في الحديث ، تحسن الغناء والرقص ، كانت مغرمة بالقراءة وسهرت ليال طويلة تذرف الدموع على "آلام فرتر" لغوته
عندما كتبت روايتها الأولى " انطباعات أولى " عام 1796 لم تجد ناشراً لها ، كانت في السابعة عشر من عمرها فقررت أن تتوقف عن الكتابة ، ويقال انها في تلك الفترة كانت تعيش قصة حب شغلتها عن التفكير بالرواية ، ويخبرنا كاتب سيرتها إنها وقعت في الحب أكثر من مرة لكن قصة الحب العنيفة عاشتها وهي في الرابعة والعشرين من عمرها ، إلا إنها لم تكن محظوظة في معظم قصص الحب التي عاشتها تكتب في سيرتها الذاتية ،
تقول لابن شقيقتها في صباح اليوم التالي من انهيار قصة الحب : " كل شيء يمكن أن يحدث، أي شيء يمكن أن يتحمله الإنسان، إلا أن يتزوج بغير حب " .
تحاول أوستن من خلال اعمالها الروائية ان تُشرك المرأة والرجل في حكاية رومانسية طرفها يجذب أحدهما الى الآخر وهي تحدد نظريتها عن الحب بالعبارة التالية :" يكون للرجل ميزة الاختيار، وللمرأة فقط قوة الرفض" . توصي على لسان اليزابيت في رواية كبرياء وهوى :" تأكّدي من أنّك تفهمين بالفعل ما تشعرين به لأنّ مشاعرك قد تخدعك، فكّري قبل أن تتصرّفي وحتّى لو مرّ الكثير من الوقت ستحبّين في نهاية المطاف وستحظين بحياة عاطفية رائعة " .
أنجزت جين أوستن خمس روايات في حياتها وسادسة نشرت بعد وفاتها ، لم تحقق لها الشهرة آنذاك، لكنها اكتسحت عالم الشهرة بعد وفاتها بـ 52 عاماً، بعدما نشر ابن شقيقتها سيرتها الذاتية. كانت أولى رواياتها " العقل والعاطفة" قد نشرت باسم مستعار عام 1811،. ثم توالت بعدها الروايات الأربع خلال ستة أعوام، ونشرت الرواية السادسة في العام الذي تلا رحليها.
أثارت روايات جين أوستن قضايا اجتماعية ونسوية مبكرة في ذلك العصر، حيث مثلت طموحات النساء في الطبقة الثرية والمتوسطة في التطلع صوب حياة أقل ألماً للوصول إلى ما يحقق ذواتهن، لا سيما ما يتعلق بتعقيدات الحب والأحلام التي تخبو في ظل حياة غالباً ما يستحوذ على تفاصيلها الرجال. وفي عرضها العلاقة بين الجنسين .
يتناول الفصل الأول من رواية " كبرياء وهوى" صوراً حول إغراء المال وينتهي بنهاية صاخبة لإحدى الشخصيات. تدور الأحداث في الريف الإنكليزي، وتحكي عن الواقع الذي تعيشه عائلات الطبقة الوسطى، ونظرتهم المتعالية إلى أفراد الطبقة الارستقراطية.
إليزابيث الابنة الثانية لعائلة (بنيت) تتمتع بشخصية مرحة، ذكية، وثائرة. تتمرد على واقعها الذي يفرض عليها القبول بأول شخص يتقدم إلى خطبتها كي يوفر لها مستقبلاً يقيها الفقر الذي تعانيه عائلتها، فتطلق أفكارها إلى ما هو أبعد من ذلك. تبحث عن الحب، الحياة، والسعادة الحقيقية. فتقودها أقدارها لتدخل في دهاليز علاقات متشابكة مع أفراد من الطبقة الارستقراطية، حيث تكتشف زيف هذه الحياة الباذخة المترفة. ورغم ذكائها، إلا أن تسرعها في الحكم على ظاهر الأمور وتصديق من تثق بهم، يجعلها تبني تصوراً جائراً لشخصية دارسي الذي تشعر نحوه بالانجذاب رغم كل شيء.
تكتب ابنة شقيقها تصف عمتها جين أوستن في خطاب وجهته الى ناشر سيرتها :" كانت العمة جين عطوفة ، وتعرف كيف تكون أكثر رقة وتهذيباً عند مخالطة الناس ، عاشت حياتها مخلصة لقصة الحب التي تملكتها وهي في الرابعة والعشرين من عمرها ، أدركت أن مرض التدرن لايمكن ان يجمعها مع من تحب ، فقررت أن تكتب وصاياها عن الحب والزواج في روايات تعد اليوم الأشهر حيث بيعت رواية " كبرياء وهوى " أكثر من 20 مليون نسخة منذ صدورها . تكتب في يومياتها :" إنّ الاستفادة من أيّ فرصة ليست دائماً بالأمر السيّئ، والحب المميّز يحتاج إلى بعض الدعم ، لذا لا تتصرّفي بطريقة دفاعيّة حين توجد الرومانسية لأنّ أيّ أمر ممكن الحصول " .
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...