نقوس المهدي
كاتب
الجزء الأول
ريـم
لم أتعرفها في بادئ الأمر..
كنت عائدة بمفردى من الرحلة الشهرية إلى كارفور، وأوقفت سيارتى أمام البيت على مقربة من موقف الحى العاشر.. الحركة ونداءات السائقين والمنادين لا تتوقف.. ألقيت نظرة على الأكياس المتراصة فى الحقيبة الخلفية ثم أخرى على ساعة يدي.. دقائق قليلة تفصلنى عن منتصف الليل.. تأخرت حقًّا، وكان الأفضل أن أستمع إلى نصيحة أمي وأبيت معها الليلة.. ولكنَّها حماقتي المعتادة.. زوجي مسافر والبيت خال، فلِمَ الإصرار على أن أبيت فيه وحيدة؟!
حملت الأكياس كيفما اتفق وأغلقت الحقيبة ثم استدرت متجهة لمدخل العمارة عندما انتابنى ذلك الشعور المزعج الّذى ينتاب المرء عندما يشعر بأن أحدهم يراقبه.. أدرت عينىّ تجاه موقف الميكروباصات لأصطدم بنظرتها الثابتة..
واقفة قرب المدخل، ترتدي عباءة سوداء فضفاضة، ويغطي شعرها إيشارب أخضر ذو نقوش.. تقبض بيدها على كف طفل صغير لا يزيد عمره عن الثلاث سنوات..
التقت عيناها بعينيَّ.. تأملتها لوهلة وقد شاعرة ببعض الانزعاج، ثم لم ألبث أن شعرت بأنَّ هذه الملامح مألوفة لي.. أنا أعرف صاحبة هذا الوجه..
- ريم ؟..
- رضوى؟!!..
وفي اللحظة التالية كنت بين ذراعيها.. تبادلنا الكثير من القبلات على جانبي الوجه، كلمات كثيرة قيلت في وقتٍ واحد.. وحشتينى كتير.. عاملة إيه؟.. بتشوفى لسه حد م البنات؟.. وليد ابني.. ما شاء الله زى القمر (أقبله) ازيك يا أستاذ؟.. بتشتغلى فين؟.. اتجوزت من شهرين بس.. البيت قريب هنا، لازم تطلعى معايا..
هنا فوجئتُ بأنَّها ترحب بالمجيء معي أثار هذا دهشتي بحق.. عقارب الساعة تجاوزت منتصف الليل، ودعوتي لها كانت للمجاملة فقط.. عزومة مراكبيَّة لا أكثر.. غير أنَّها لم تبدِ أي اعتراض، بل على العكس، بدا لي وكأنَّها كانت تنتظر دعوتي لها..
للحق، توجست خيفة، ولكن لم يكن أمامي بأي حال مجالاً للتنصل.. رحبت بها بالطبع، إبتعدنا عن موقف الميكروباصات المليء بالضجيج، لم تكد تمضي بضعة دقائق حتى كنت أُضيء نور الريسبشن وأفسح لها المجال للدخول..
رضوى إسماعيل.. أجمل فتيات كليَّتنا، بل وكليَّات عين شمس كلها.. صاحبة الشخصيَّة المرحة الجذَّابة، والعقليَّة الذكيَّة المتوقدة.. الشعر الأسود الناعم والوجه المستدير بارع الحسن والقوام الرشيق الملفوف.. نموذج رائع لإبداع الخالق عز وجل..
طافت ابتسامة بشفتيَّ وأنا أصب الماء الساخن من الكاتل في "مَجَّيْن يحتويان على عبوتي ليبتون، عندما تذكرت الغيرة التي كانت تعصف بنا ونحن نراقب تهافت أجمل شبَّان الكليَّة للظفر بالحديث معها أو مصادقتها.. حقًّا كانت ملكة الكليَّة بلا نزاع، ولكن.. المرأة الجالسة في الريسبشن تكاد لا تمت لـ رضوى بصلة إلا من حيث المظهر الخارجي فقط.. حتى هذا ذهبت الكثير من عذوبته السابقة.. الوجه المستدير المتورِّد صار شاحبًا بارز عظام الوجنتين.. العينان الخضراوان اللامعتان غارتا وانطفأ بريقهما وامتلأتا بحزن دفين.. ابتسامتها التي كانت تفتح القلوب من حولها صارت واهنة باهتة لا طعم لها.. جسدها المتناسق صار واضح النحول أسفل عباءتها السـوداء الرثة (هي التي كانت ترتدي أجمل الألوان وأحدث الأزياء).. ماذا أصابك يا رضوى؟ وأيَّة معاناة هائلة مررت بها وحفرت آثارها بوضوح على وجهك الجميل؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
غادرت المطبخ حاملة صينيَّة أكواب الشاي وعلبة عصير للصغير، بالإضافة إلى طبق مليء بالبسكويت.. وضعت الصينيَّة على منضدة الليفنج بالقرب من الأريكة، وضغطت أزرار الريموت كنترول لأضبط الإرسال على قناة سبيس تون وأنا أناديها بصوت مرتفع لتنقل الجلسة هنا.. أصوات خطواتهما قادمة عبر الردهة و..
فجأة، سمعتها تشهق.. أجفلت.. التفتُّ إليها بسرعة هاتفة:
- فيه إيه؟
كانت واقفة أمام المرآة الدائريَّة المعلَّقة على حائط الردهة.. تخفي عينيها بأصابع يدها اليمنى، بينما أصابعها اليسرى تضم ولدها إليها بقوة.. أما الولد نفسه، فلم يبد على وجهه أي تعبير.. كانت ترتعش، فهتفت بها:
- مالك يا رضوى؟
قالت بصوت مليء بالفزع:
- غطِّي المراية يا ريم.. غطيها بسرعة..
لم أفهم لأول وهلة.. رددت بغباء:
- أغطي المراية!
صرخت:
- بسرعة..
انتزعتني صرختها من مكاني وقد انتقل رعبها غير المفهوم إليَّ.. هرعت إلى غرفة نومي وعدت حاملة ملاءة عريضة.. قمت بتغطية المرآة بالكامل، ثم اقتدت صديقتي القديمة وطفلها إلى الـLiving.. بمجرد أن جلست على الأريكة دفنت وجهها بين كفَّيها وانفجرت في البكاء.. رحت أربِّت على كتفها وأنا أردد عبارات متداخلة محاولة تهدئتها، على غرار "اهدى ياحبيبتي".. محصلش حاجة.. طب فهمينى".. إلخ.
حانت منِّي التفاتة إلى الطفل، فوجدته جالسًا على الموكيت البيج أمامنا يمتص العصير من العلبة الكرتونيّة بواسطة الشفَّاط البلاستيكي المغروس فيها، وانتباهه منصرف تمامًا إلى متابعة الرسوم المتحرَّكة على شاشة التليفزيون، وكأنَّ شيئاً لم يحدث، أو كأنَّه معتاد على ما رآه منذ لحظات.
مرَّت بضع دقائق قبل أن تهدأ رضوى.. مسحت دموعها بالمنديل الورقي الذي أعطيته لها، وقامت بفك الإيشارب الذي يغطي رأسها بعد أن أخبرتها أنَّ زوجي مسافر، فانسدل شعرها على كتفيها، ولم تفتني ملاحظة الشعيرات البيضاء الغزيرة التي غزت سواد شعرها الفاحم.. ناولتها مَج الشاي وألححت عليها لتشرب.. راحت ترتشف منه ببطء، في حين حاولت أنا أن أثرثر في موضوعات شتَّى.. الفضول يكاد يمزقني لأسألها عن سر غرابة تصرُّفها الأخير، ولكنني لم أجرؤ.. الساعة تجاوزت منتصف الليل بما يزيد عن نصف الساعة.. ظللت أثرثر، في حين اكتفت هي بكلمات قليلة وابتسامات باهتة مفتعلة..
في النهاية ساد الصمت بيننا.. أطبقت شفتيَّ ولم أجد مزيدًا يمكن قوله.. هي لا تتجاوب معي، شاردة ولا يبدو أنَّها تريد الكلام.. لماذا أتت معي إذن في هذه الساعة المتأخرة؟
الطفل مازال جالسًا أمام التليفزيون.. من آنٍ لآخر يطلق ضحكات مرحة.. نحن جالستان في صمت، النعاس يداعب أجفاني.. يبدو أنَّها لا تفكر في الانصراف.. قالت لي أنَّها تعمل في إحدى المصالح الحكوميَّة.. ألن تنم حتى تستطيع الذهاب إلى عملها باكر؟!! تثاءبت.. لم أعد حتى راغبة في معرفة سر فزعها من المرآة المكشوفة.. فقط أرغب في أن ترحل حتى أنام.
مع دقات الساعة الواحدة صباحًا بدا أنَّها قررت التكلم أخيرًا.. نظرت لي لحظة ثم قالت بتردد:
- ريم.. ممكن طلب؟
جال بذهني على الفور أنَّها تريد نقودًا.. لهذا أتت معي إلى هنا في هذا الوقت.. الأمور هكذا دائمًا.. من الواضح من مظهرها وحالة ثيابها أنَّها تمر بضائقة ماليَّة، وهاهي صديقتها القديمة أمامها.. لم تنجب بعد، وحالتها الماديَّة تبدو متيسرة.. فلِمَ لا تقترض منها؟
امتلأت نفسي بالحنق.. صحيح أن أموري الماديَّة مستقرة نوعًا، ولكنَّها لا تسمح بالإقراض.. ثم إنَّها المرة الأولى التي نتقابل فيها منذ أعوام طويلة.. فهل من المناسب أن تطلب منِّي قرضًا بمجرد أن نلتقي مصادفة في الشارع!
قلت لها وأنا أرتب في ذهني أسباب اعتذاري عن إقراضها:
- تفضلي..
قالت آخر شيء أتوقعه:
- ممكن انا ووليد نبات معاكى هنا الليلة؟
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
رضـوى
يمكنني عزيزتي ريم أن أتخيَّل ما يعتمل في نفسك من قلق وحنق وصدمة منذ لحظة لقائنا، وحتى هذه اللحظة.. لقد تطفلت عليك وأحرجتك بقدومي معك إلى بيتك في وقتٍ متأخر من الليل.. أفزعتك ومنعتك من النوم بمكوثي معك حتى الآن.. صدقيني، لو كنتُ في موضعكِ لطردتكِ من منزلي شرَّ طردة..
لاريب أنَّ مظهري قد صدمك عندما وقعت عيناك عليَّ للمرَّة الأولى بعد سنوات من الفراق.. رضوى إسماعيل، فتاة الكليَّة رقم واحد.. نظرات الافتتان والرغبة في عيون الأساتذة قبل الطلبة، الابتسامات العريضة، ألسنة الغيرة الملتهبة تندلع من أعين زميلاتي وصديقاتي، محاولات التملق والتزلُّف.. الكل يهرع لمساعدتي عند أول إشارة من إصبعي، المذكرات الدراسيَّة تأتي إليَّ في مكاني دون أن أتحرَّك، لوحاتي ومشاريعي يتزاحم حولها الزملاء لإنجازها في محاولات مستميتة لإرضائي والتقرب منِّي.
همممفففف (زفرة).. كانت أيامًا جميلة، أتذكرها الآن وكأنها ذكريات لا تخصني، أو كأنها فيلم سينمائي شاهدته قديمًا.. ما تلى ذلك من أحداث عادي جدًّا: أتممت دراسة الهندسة، خضت بعض دورات الكمبيوتر في أحد المعاهد المتخصصة.. ثم التحقت بالعمل في مكتب استشاري بـ المعادى.. وهناك قابلته..
من هو؟ هشام الشربيني.. المهندس الشاب.. ابن الدكتور عبد الحافظ الشربيني صاحب العمل.. رآني، وكان من الطبيعي أن يقع في هواى من النظرة الأولى.. وبالنسبة لي، فقد وجدته عريسًا مناسبًا.. شاب وسيم ثري ينتظره مستقبل واعد، باختصار: تزوجنا في خلال أشهر قليلة.. وانتقلتُ من منزل أسرتي بـ الزيتون إلى منزلي الجديد بـ المهندسين..
قصة زواج تقليدي جدًّا.. وما تلى ذلك من أحداث أيضًا ليس به أي شيء مهم، غير أنَّ الشهور راحت تمر وتتوالى دون أن تظهر عليَّ أيَّة بوادر تبشر بحملٍ قادم.. بدأت حماتي تتذمر بصوت مسموع، وراحت أخواته البنات يتلمَّزن عليَّ، الأقارب، الجيران، الكل يسألني إن كان هناك شيء ما، وعندما أجيب بالنفي يهزون رؤوسهم بحكمة مرددين: "كل شيء بميعاد.. خير إن شاء الله".
هشام؟ لم يكن يتكلَّم، ولكنني كنت أشعر بما يعتمل بأعماقه من مشاعر، كانت تظهر بوضوح عندما تتعلَّق عيناه بطفلة صغيرة تلهو، أو طفل يمرح في النادي، وعندما يلاعب أطفال أخواته البنات.. كنت أرى ابتسامته الحزينة فأشعر بغصةٍ في حلقي وبقبضةٍ باردة تعتصر قلبي.
بدأت رحلتي مع الأطباء.. سلسلة لا تنتهي من الفحوص والتحاليل والأشعَّة، والنتيجة: ضَعف في قدرة المبيض على استقبال الحيوان المنوي.. العلاج؟ ممكن طبعًا، ولكنَّه سيستغرق وقتًا..
لم أضع المزيد من الوقت.. كنت أعرف أن صبر (هشام) لن يطول لذا بدأت العلاج على الفور، وبذلت جهدًا لأبدو طبيعيَّة أمام أهلي وأهله.. في إحدى المرَّات كنت جالسة في شرفة منزل والديَّ، أستمتع بشمس العصاري الدافئة وأثرثر مع ناهد جارتي وصديقة طفولتى، سألتني السؤال إياه، ولما أجبتها بالنفي وأخبرتها بمشكلتي، قالت أنَّها تملك الحل..
- الشيخ عرفان..
- مين دا؟
أجابت بثقة:
- راجل عارف بالله من أهل الخطوة.. مفيش حاجة تستعصي عليه.. كل اللى راحله رجع مجبور الخاطر.
ولمَّا لاحظت استخفافي قالت:
- ماتستهزئيش يا رضوى، أنا برضه مكنتش مصدقة لغاية ماشوفت معجزات الرجل بنفسي.. عارفة منيرة؟ منيرة صاحبة إيمان بنت خال علي جوزى؟ هي رخرة ربنا مادهاش عيال.. ولاد الحلال دلّوها على الراجل الصالح دا.. وببركته وبركة أولياء الله وآل البيت حبلت بعدها بشهر واحد.. والله دا اللى حصل..
بالطبع لم ألقِ بالاً لهذه التخاريف، توكلت على الله ورحت أتناول الكبسولات والأقراص بانتظام، وأحاول قدر جهدي تفادي الاصطدام بأهلِ زوجي، خاصة بعد أن نزعوا أقنعتهم، وبدؤوا يهاجمونني ويسخرون منِّي بصورةٍ سافرة..
شكوتهم لـ هشام ذات مرَّة فقال لي باقتضاب:
- لازم تعذريهم..
- (بدهشة): إزاى اعذرهم؟!
- (ببرود): أنا ابنهم الوحيد، ونفسهم يشوفوا ولد من صلبي..
هكذا أعلن بوضوح وبلا مواربة أنَّ صبره قد نفد.. ابتلعت الصدمة، وهرعت في اليوم التالي –بعد ليلة من البكاء الصامت– إلى الطبيب.. قرأ نتائج التحاليل التي أجريتها في معمله الخاص، ثم وضع الأوراق على مكتبه قائلاً:
- لسه في البداية.. النتيجة مؤكدة إن شاء الله.. ولكن الوقت.. لسه أودامنا شوية وقت..
ولكن بالنسبة لي، لم يكن هناك وقتًا متاحًا.. تغيَّرت شخصيَّة هشام بصورة ملحوظة.. صار أكثر جفاءً وبرودًا في التعامل معي، طالت فترات غيابه عن المنزل، ثم بدأتْ الأقاويل تتناثر وتصل إلى مسامعي..
قالت لي صديقتي شادية:
- أنا متأكدة انه هوَ.. هشام بشحمه ولحمه.. كانوا بيتعشوا في جوني كارينوس بتاع مصر الجديدة..
وقالت إيمي:
- كريم شافه أول امبارح في سينما جالاكسي.. كانت معاه بنت أول مرة يشوفها..
أما ميرهان صديقتي التي تعمل بشركة مصر للطيران فهاتفتني:
- شفت الاسم بنفسي في قوايم حجز طيارة شرم الشيخ على الكمبيوتر.. هشام عبد الحافظ سليمان الشربيني.. البوكينج عن طريق مكتب الدكتور الشربيني الاستشاري.. آه، التذكرة التانية باسم داليا حجازي.. مين داليا دى يا رضوى؟
كدت أجن.. لا ريب أنَّه فعلها.. تزوج –السافل- عليَّ.. هشام زوجي تزوَّج عليَّ.. قضيت أيَّامًا لا أراكِ الله مثلها.. بكاء في الليل، بكاء في النهار، بكاء طيلة اليوم حتى التهبت عيناي تمامًا.. لم أعد أخرج من المنزل، لم أعد أجيب الهاتف.. أمي تسألني بجزع:
- مالك يا رضوى؟
فأجيبها بابتسامة مغتصبة:
- مفيش يا ماما..
- إزاى مفيش؟!
- البيريود بس تعبتنى زيادة المرادى..
- (بقلق): هشام؟..
- خالص..
أما هو فلم يُبدِ أي اهتمام.. يغيب طيلة اليوم، ثم يعود ليلاً.. يلقي عليَّ تحيَّة المساء ببرود، يتناول عشاءه، ثم يجلس إلى الكمبيوتر أو يشاهد التليفزيون لبعض الوقت، قبل أن يندس تحت الأغطية ويتصاعد شخيره ليشنف آذاني وأنا مستلقية بجواره في ظلام غرفة النوم..
لن أقف – فكرت- مكتوفة الأيدي.. قمت بإجراء المزيد من التحاليل، وجاء رد الطبيب كالمعتاد:
- النتيجة مؤكدة إن شاء الله.. ولكن الوقت.. لسه محتاجين وقت.
وهنا فكرت في شيء آخر..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
لم يكن يمت لأولياء الله الصالحين بصلة..
خبيث الرائحة والمظهر، نحيف أشبه بحقيبة مليئة بالعظام، لحية بيضاء شعثاء طويلة اصفرَّت أطرافها.. ملابس رثة متسخة، وجه مغضن مليء بالتجاعيد، ثم العينان.. العينان ضيِّقتان أشبه بعيني ذئبٍ مفترس، تلمعان بشكل مخيف.. تأملتاني من أعلى لأسفل بنظرة طويلة متفحصة بعثت القشعريرة في جسدي، قبل أن تنفرج الشفتان عن ابتسامة ثعلبيَّة أبرزت أسنانًا صفراء نخرة.. ثم تكلَّم بصوتٍ مبحوح:
- إنتى مش مصدقة..
قلت بصراحة:
- آه..
لكزتني (ناهد) في جنبي وهي تقول بسرعة:
- متآخذهاش يامولانا، اللى مايعرفك يجهلك..
لم يُبدِ أي اهتمام بها وكأنها غير موجودة.. سحب نفسًا طويلاً من لىّ شيشة فخيمة الشكل، ونفث دخانًا غريب الرائحة ثم سألني:
- أومال ليه برجليكى جيتى؟
سحب البخور الهندي تملأ سماء تلك الغرفة المضاءة بالشموع.. تلك بالتأكيد لزوم إحكام الشغل، أو بمعنى أصح الديكورات اللازمة لخداع الحمقى والنصب عليهم.. تنهدت قائلة:
- الطب ما أفادنيش لغاية دلوقتى.. وكلمتنى ناهد عن كراماتك، فقلت اجرب.. المثل بيقول "ضربوا الأعور على عينه فقال: خسرانة خسرانة".
لكزتني ناهد محذرة مرة أخرى، في حين ضحك هو بصوتٍ أشبه بصوت السلاسل المعدنية.. سعل قليلاً ثم قال:
- كله بمشيئة الله.. احكيلى مشكلتك..
رحت أقص عليه تفاصيل مشكلتي، وأنا أفكر في أنه لا يجيد النصب بالفعل.. أمثاله -كما قرأت ورأيت في الأفلام- يعرفون مشاكل ضحاياهم مُسَبَّقًا عن طريق معاونين لهم يثرثرون مع هؤلاء الضحايا قبل دخولهم، ثم يبلغونه بها.. بعدها تقف الضحيَّة الحمقاء أمامه مذهولة من معرفته أسراراها.. أما في حالتنا هذه فلم يسألني أحد عن شيء (برغم الزحام الكبير داخل وخارج هذا البيت القديم الذي يعيش فيه على أطراف حلوان)، ولم أكن أنا لأخبر أحدًا لو سألني..
- يبقى انتى جيالى طالبة الخَلَف..
- (أزدرد لعابى): أيوه..
- طلبك مُجاب..
- (بسرعة): والثمن؟
كنت قد دفعت مئتىّ جنيه لامرأة ضخمة الجثة ترتدي السواد وتجلس عند مدخل البيت، هي بمثابة السكرتيرة أو التومرجيَّة الخاصة به، غير أنني خمَّنت أنَّ مقابل خدماته لن يكون بسيطًا.. ابتسم ابتسامة كريهة المنظر والرائحة، وقال:
- لازم تمن؟..
- هتساعدني لوجه الله؟!
تأملني من جديد بتلك النظرة الفاحصة التي أثارت خوفي.. هاتان العينان المليئتان بالشهوة والخبث لا يمكن أبدًا أن تكونا لوليٍّ من أولياء الله الصالحين..
لم يرد عليَّ.. مد يده إلى جعبته، ثم أخرجها مضمومة، وألقى بعض الذرَّات في إناءٍ من الطين الجاف موضوع أمامه ويتصاعد منه البخور.. أغمض عينيه، وراح يهمس بكلماتٍ غير مفهومة.. تضاعفت سحب البخور الخارجة من الإناء الطيني داكن اللون.. راح يرتعش، ويهمهم بالمزيد من الكلمات بتلك اللغة المجهولة.. وجهه يتقلص فيزداد قبحًا.. مرَّت دقائق وهو على هذا الوضع، ونحن جالستان أمامه نراقبه بتوجس، قبل أن ينهض متوكئًا على عصا خشبيَّة قديمة، ويختفي في كُوَّة قريبة من دون أن ينطق بحرف..
تبادلنا –ناهد وأنا– نظرات خرساء تموج بالخوف.. فكرت في أن أنهض فارَّة من هذا المكان المخيف بأقصى سرعة، ولكنني تماسكت.. هذا رجل دجال يجيد فن الإيحاء.. لأثبُتنَّ أمامه حتى أفضح دجله.. التقطت نفسًا عميقًا لأستجمع شجاعتي، غير أنني في اللحظة التالية فقدت ما استجمعته عندما سمعت صوت فحيح أشبه بفحيح الأفاعي، اقترن بهواءٍ بارد هبَّ من مكانٍ ما فأطفأ بعض الشموع.. أجفلت وشهقت صديقتي.. هببنا معًا واقفين وقد تشابكت أصابعنا والتصق جسدينا ببعضهما.. كدت أطلق ساقيَّ للريح بالفعل في هذه اللحظة، غير أنَّ الرجل المقيت ظهر عند فتحة الكُوَّة.. الإنهاك واضح على وجهه.. خطا نحونا بصعوبة..
- اقعدوا..
جلسنا.. مد يده المضمومة نحوي..
- خدى..
تناولت منه الشيء الذي لم يكن سوى لفافة صغيرة من الجلد.. حدقت فيها بدهشة..
- (بلهجة آمرة): فـ الشنطة..
أسرعت أدسها فى حقيبتى وأنا أتساءل:
- إيه دى؟..
- بالنار تحرقيها في دورة الميه.. مش لوحدها.. بنفس النار تحرقى معاها شئ من أترك، وأتر زوجك..
- (برهبة): أترى!..
- حذار ثم حذار تنظري لها وهي بتتحترق.. اللفافة والأترين فـ الحوض.. اشعلى فيهم النار.. الشبابيك مقفولة.. المكان تتركيه كأن شياطين بتطاردك.. وبابك تقفليه عليكى.
وصمت لحظة قبل أن يتابع بلهجة مخيفة:
- هتسمعى أصوات غريبة، متخافيش.. شرٌ مش هيمسَّك طالما بابٌ بيفصل بينك وبين اللفافة المحترقة.. بعدها تَزَيَّني واستعدى.. هيطلبك زوجك، فلبى طلبه.
قالها وسكت تمامًا.. مغمض العينين، البخور المتصاعد من الإناء الطيني يحيط بوجهه فيمنحه -رغم بشاعته- طابعًا فاتنًا لا شك فيه.. سألته بتردد:
- وبعدين؟
- (باقتضاب): مشكلتك هتتحل..
ثم أشار بكفه المفتوح لأعلى إيذانًا بانتهاء المقابلة..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
كانت حيرتي عظيمة.. وترددي أعظم..
ما هذا الذي أفعله؟ ما هذا المنحدر الذي أوشك على السقوط فيه؟ دجل!! سحر!! هل انحدرتُ إلى هذا الدرك؟ كيف ومتى؟
ملأني شعور عارم بالذنب.. استغفرت واستعذت.. أمسكت باللفافة الجلديَّة وقذفت بها في سلة المهملات، اغتسلت وكأنني أطهر جسدي وروحي من كل هذا الهراء.. أدَّيتُ صـلاة العشاء، وصلَّيت ركعتين بنيَّة الاستغفار، وعندما انتهيت، كنت قد اتخذت قراري بالفعل.. سأصبر وأستمر في تلقي العلاج، ولتكن مشيئة الله..
طهوت طعامًا للعشاء، وارتديت ثوبًا جديدًا.. خففت الإضاءة وأشعلت شموعًا، وقمت بتشغيل موسيقى هادئة بعثت جوًّا لطيفًا في الشقة.. تعطرت، وطفقت أنتظر قدوم زوجي.. لابد أن يجد لديَّ من التجديد مايعوِّضه عن الولد حتى يأتي.. سأغمره حبًا وعطفًا.. سيجد مني تواصلاً وتفاهمًا لن يجده لدى تلك الأخرى –ماذا كان اسمها؟- مهما كانت جاذبيَّتها..
راحت الساعات تمر دون أن يأتي.. أو حتى يتصل بي هاتفيًّا.. حاولت الاتصال به مرارًا، ولكن هاتفه كان مغلقًا.. غلى الدم في عروقي.. الوغد.. لابد أنَّه في أحضانها الآن.. العاهرة خاطفة الرجال.. فلتنتظر.. لن أدعها تهنأ به أبدًا.
كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل عندما وقفت أنظر إلى صورتي في المرآة العريضة في حمام داري..
بالنار تحرقيها في دورة الميه.. مش لوحدها.. بنفس النار تحرقى معاها شئ من أترك، وأتر زوجك..
في قاع الحوض أمامي قطعة الجلد الملفوفة التي أعطانيها الشيخ عرفان، وقد أحطتها بقطعتين من الثياب الداخليَّة.. واحدة لي وأخرى لزوجي.. ظللت واقفة لدقائق لا أفعل شيئًا إلا النظر إلى نفسي..
حذار ثم حذار تنظري لها وهي بتتحرق.. اللفافة والأترين فـ الحوض.. اشعلى فيهم النار.. الشبابيك مقفولة.
الدموع متجمدة في مقلتيَّ، القدَّاحة في يدي.. بأصابع مرتعشة ضغطت زنادها، فانبعثت منها شعلة النار، أدنيتها من الجسم المتكوِّر الراقد في الحوض.. مرَّت لحظة قبل أن تنبثق منه النار ببطء، ثم تبدأ في الانتشار..
المكان تتركيه كأن شياطين بتطاردك.. وبابك تقفليه عليكى.
قبعتُ في فراشي أرتعش من فرط الرعب.. برغم باب الحمَّام الموصد، إلا أنَّ.. ياإلهى.. هل تخدعني عيناي، أم أنَّ ثمة وهجًا ما ينبعث بالفعل من أسفل فرجة الباب؟
ثم هـذه الأصوات..
هتسمعى أصوات غريبة
أصغيت.. لا شك في ذلك.. صوت أشبه بزفير عميق أو فحيح كالذي سمعت منذ ساعات في بيت الشيخ عرفان.. كأن أحدهم يتنهد بارتياح، أصخت السمع أكثر، ليس صوتًا واحدًا.. تجمد الدم في عروقي.. هناك همسات.. ضحكات مكتومة..
متخافيش.
كيف لا أخاف؟ أنا وحيدة في شقتي، وعلى بعد خطوات منِّي يحدث شيء مرعب لا أدري عنه شيئًا ولا يفصلني عنه سوى باب.. خامرني شعور هائل بالندم.. أصوات الهمسات والضحكات الخافتة.. ياللهول.. ما الذي أقحمني في كل هذا؟ ما أشد حماقتي.. ما أشد رعونتي..
شرٌ مش هيمسَّك طالما بابٌ بيفصل بينك وبين اللفافة المحترقة.
بالفعل.. مرَّت الدقائق ببطء قاتل دون أن يحدث أي شيء مؤذٍ.. مرَّت الدقائق، وبمرورها اختفى الوهج القادم من أسفل فرجة باب الحمَّام، وتضاءلت الأصوات حتى تلاشت تمامًا.. هل كنت أهلوس؟!
شيئًا فشيئًا بدأت أتشجع.. خطوت بوجل نحو الباب المغلق.. مددت يدًا مترددة.. أمسكت بالمقبض.. التقطت نفسًا عميقًا، ثم فتحت الباب..
ريـم
لم أتعرفها في بادئ الأمر..
كنت عائدة بمفردى من الرحلة الشهرية إلى كارفور، وأوقفت سيارتى أمام البيت على مقربة من موقف الحى العاشر.. الحركة ونداءات السائقين والمنادين لا تتوقف.. ألقيت نظرة على الأكياس المتراصة فى الحقيبة الخلفية ثم أخرى على ساعة يدي.. دقائق قليلة تفصلنى عن منتصف الليل.. تأخرت حقًّا، وكان الأفضل أن أستمع إلى نصيحة أمي وأبيت معها الليلة.. ولكنَّها حماقتي المعتادة.. زوجي مسافر والبيت خال، فلِمَ الإصرار على أن أبيت فيه وحيدة؟!
حملت الأكياس كيفما اتفق وأغلقت الحقيبة ثم استدرت متجهة لمدخل العمارة عندما انتابنى ذلك الشعور المزعج الّذى ينتاب المرء عندما يشعر بأن أحدهم يراقبه.. أدرت عينىّ تجاه موقف الميكروباصات لأصطدم بنظرتها الثابتة..
واقفة قرب المدخل، ترتدي عباءة سوداء فضفاضة، ويغطي شعرها إيشارب أخضر ذو نقوش.. تقبض بيدها على كف طفل صغير لا يزيد عمره عن الثلاث سنوات..
التقت عيناها بعينيَّ.. تأملتها لوهلة وقد شاعرة ببعض الانزعاج، ثم لم ألبث أن شعرت بأنَّ هذه الملامح مألوفة لي.. أنا أعرف صاحبة هذا الوجه..
- ريم ؟..
- رضوى؟!!..
وفي اللحظة التالية كنت بين ذراعيها.. تبادلنا الكثير من القبلات على جانبي الوجه، كلمات كثيرة قيلت في وقتٍ واحد.. وحشتينى كتير.. عاملة إيه؟.. بتشوفى لسه حد م البنات؟.. وليد ابني.. ما شاء الله زى القمر (أقبله) ازيك يا أستاذ؟.. بتشتغلى فين؟.. اتجوزت من شهرين بس.. البيت قريب هنا، لازم تطلعى معايا..
هنا فوجئتُ بأنَّها ترحب بالمجيء معي أثار هذا دهشتي بحق.. عقارب الساعة تجاوزت منتصف الليل، ودعوتي لها كانت للمجاملة فقط.. عزومة مراكبيَّة لا أكثر.. غير أنَّها لم تبدِ أي اعتراض، بل على العكس، بدا لي وكأنَّها كانت تنتظر دعوتي لها..
للحق، توجست خيفة، ولكن لم يكن أمامي بأي حال مجالاً للتنصل.. رحبت بها بالطبع، إبتعدنا عن موقف الميكروباصات المليء بالضجيج، لم تكد تمضي بضعة دقائق حتى كنت أُضيء نور الريسبشن وأفسح لها المجال للدخول..
رضوى إسماعيل.. أجمل فتيات كليَّتنا، بل وكليَّات عين شمس كلها.. صاحبة الشخصيَّة المرحة الجذَّابة، والعقليَّة الذكيَّة المتوقدة.. الشعر الأسود الناعم والوجه المستدير بارع الحسن والقوام الرشيق الملفوف.. نموذج رائع لإبداع الخالق عز وجل..
طافت ابتسامة بشفتيَّ وأنا أصب الماء الساخن من الكاتل في "مَجَّيْن يحتويان على عبوتي ليبتون، عندما تذكرت الغيرة التي كانت تعصف بنا ونحن نراقب تهافت أجمل شبَّان الكليَّة للظفر بالحديث معها أو مصادقتها.. حقًّا كانت ملكة الكليَّة بلا نزاع، ولكن.. المرأة الجالسة في الريسبشن تكاد لا تمت لـ رضوى بصلة إلا من حيث المظهر الخارجي فقط.. حتى هذا ذهبت الكثير من عذوبته السابقة.. الوجه المستدير المتورِّد صار شاحبًا بارز عظام الوجنتين.. العينان الخضراوان اللامعتان غارتا وانطفأ بريقهما وامتلأتا بحزن دفين.. ابتسامتها التي كانت تفتح القلوب من حولها صارت واهنة باهتة لا طعم لها.. جسدها المتناسق صار واضح النحول أسفل عباءتها السـوداء الرثة (هي التي كانت ترتدي أجمل الألوان وأحدث الأزياء).. ماذا أصابك يا رضوى؟ وأيَّة معاناة هائلة مررت بها وحفرت آثارها بوضوح على وجهك الجميل؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
غادرت المطبخ حاملة صينيَّة أكواب الشاي وعلبة عصير للصغير، بالإضافة إلى طبق مليء بالبسكويت.. وضعت الصينيَّة على منضدة الليفنج بالقرب من الأريكة، وضغطت أزرار الريموت كنترول لأضبط الإرسال على قناة سبيس تون وأنا أناديها بصوت مرتفع لتنقل الجلسة هنا.. أصوات خطواتهما قادمة عبر الردهة و..
فجأة، سمعتها تشهق.. أجفلت.. التفتُّ إليها بسرعة هاتفة:
- فيه إيه؟
كانت واقفة أمام المرآة الدائريَّة المعلَّقة على حائط الردهة.. تخفي عينيها بأصابع يدها اليمنى، بينما أصابعها اليسرى تضم ولدها إليها بقوة.. أما الولد نفسه، فلم يبد على وجهه أي تعبير.. كانت ترتعش، فهتفت بها:
- مالك يا رضوى؟
قالت بصوت مليء بالفزع:
- غطِّي المراية يا ريم.. غطيها بسرعة..
لم أفهم لأول وهلة.. رددت بغباء:
- أغطي المراية!
صرخت:
- بسرعة..
انتزعتني صرختها من مكاني وقد انتقل رعبها غير المفهوم إليَّ.. هرعت إلى غرفة نومي وعدت حاملة ملاءة عريضة.. قمت بتغطية المرآة بالكامل، ثم اقتدت صديقتي القديمة وطفلها إلى الـLiving.. بمجرد أن جلست على الأريكة دفنت وجهها بين كفَّيها وانفجرت في البكاء.. رحت أربِّت على كتفها وأنا أردد عبارات متداخلة محاولة تهدئتها، على غرار "اهدى ياحبيبتي".. محصلش حاجة.. طب فهمينى".. إلخ.
حانت منِّي التفاتة إلى الطفل، فوجدته جالسًا على الموكيت البيج أمامنا يمتص العصير من العلبة الكرتونيّة بواسطة الشفَّاط البلاستيكي المغروس فيها، وانتباهه منصرف تمامًا إلى متابعة الرسوم المتحرَّكة على شاشة التليفزيون، وكأنَّ شيئاً لم يحدث، أو كأنَّه معتاد على ما رآه منذ لحظات.
مرَّت بضع دقائق قبل أن تهدأ رضوى.. مسحت دموعها بالمنديل الورقي الذي أعطيته لها، وقامت بفك الإيشارب الذي يغطي رأسها بعد أن أخبرتها أنَّ زوجي مسافر، فانسدل شعرها على كتفيها، ولم تفتني ملاحظة الشعيرات البيضاء الغزيرة التي غزت سواد شعرها الفاحم.. ناولتها مَج الشاي وألححت عليها لتشرب.. راحت ترتشف منه ببطء، في حين حاولت أنا أن أثرثر في موضوعات شتَّى.. الفضول يكاد يمزقني لأسألها عن سر غرابة تصرُّفها الأخير، ولكنني لم أجرؤ.. الساعة تجاوزت منتصف الليل بما يزيد عن نصف الساعة.. ظللت أثرثر، في حين اكتفت هي بكلمات قليلة وابتسامات باهتة مفتعلة..
في النهاية ساد الصمت بيننا.. أطبقت شفتيَّ ولم أجد مزيدًا يمكن قوله.. هي لا تتجاوب معي، شاردة ولا يبدو أنَّها تريد الكلام.. لماذا أتت معي إذن في هذه الساعة المتأخرة؟
الطفل مازال جالسًا أمام التليفزيون.. من آنٍ لآخر يطلق ضحكات مرحة.. نحن جالستان في صمت، النعاس يداعب أجفاني.. يبدو أنَّها لا تفكر في الانصراف.. قالت لي أنَّها تعمل في إحدى المصالح الحكوميَّة.. ألن تنم حتى تستطيع الذهاب إلى عملها باكر؟!! تثاءبت.. لم أعد حتى راغبة في معرفة سر فزعها من المرآة المكشوفة.. فقط أرغب في أن ترحل حتى أنام.
مع دقات الساعة الواحدة صباحًا بدا أنَّها قررت التكلم أخيرًا.. نظرت لي لحظة ثم قالت بتردد:
- ريم.. ممكن طلب؟
جال بذهني على الفور أنَّها تريد نقودًا.. لهذا أتت معي إلى هنا في هذا الوقت.. الأمور هكذا دائمًا.. من الواضح من مظهرها وحالة ثيابها أنَّها تمر بضائقة ماليَّة، وهاهي صديقتها القديمة أمامها.. لم تنجب بعد، وحالتها الماديَّة تبدو متيسرة.. فلِمَ لا تقترض منها؟
امتلأت نفسي بالحنق.. صحيح أن أموري الماديَّة مستقرة نوعًا، ولكنَّها لا تسمح بالإقراض.. ثم إنَّها المرة الأولى التي نتقابل فيها منذ أعوام طويلة.. فهل من المناسب أن تطلب منِّي قرضًا بمجرد أن نلتقي مصادفة في الشارع!
قلت لها وأنا أرتب في ذهني أسباب اعتذاري عن إقراضها:
- تفضلي..
قالت آخر شيء أتوقعه:
- ممكن انا ووليد نبات معاكى هنا الليلة؟
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
رضـوى
يمكنني عزيزتي ريم أن أتخيَّل ما يعتمل في نفسك من قلق وحنق وصدمة منذ لحظة لقائنا، وحتى هذه اللحظة.. لقد تطفلت عليك وأحرجتك بقدومي معك إلى بيتك في وقتٍ متأخر من الليل.. أفزعتك ومنعتك من النوم بمكوثي معك حتى الآن.. صدقيني، لو كنتُ في موضعكِ لطردتكِ من منزلي شرَّ طردة..
لاريب أنَّ مظهري قد صدمك عندما وقعت عيناك عليَّ للمرَّة الأولى بعد سنوات من الفراق.. رضوى إسماعيل، فتاة الكليَّة رقم واحد.. نظرات الافتتان والرغبة في عيون الأساتذة قبل الطلبة، الابتسامات العريضة، ألسنة الغيرة الملتهبة تندلع من أعين زميلاتي وصديقاتي، محاولات التملق والتزلُّف.. الكل يهرع لمساعدتي عند أول إشارة من إصبعي، المذكرات الدراسيَّة تأتي إليَّ في مكاني دون أن أتحرَّك، لوحاتي ومشاريعي يتزاحم حولها الزملاء لإنجازها في محاولات مستميتة لإرضائي والتقرب منِّي.
همممفففف (زفرة).. كانت أيامًا جميلة، أتذكرها الآن وكأنها ذكريات لا تخصني، أو كأنها فيلم سينمائي شاهدته قديمًا.. ما تلى ذلك من أحداث عادي جدًّا: أتممت دراسة الهندسة، خضت بعض دورات الكمبيوتر في أحد المعاهد المتخصصة.. ثم التحقت بالعمل في مكتب استشاري بـ المعادى.. وهناك قابلته..
من هو؟ هشام الشربيني.. المهندس الشاب.. ابن الدكتور عبد الحافظ الشربيني صاحب العمل.. رآني، وكان من الطبيعي أن يقع في هواى من النظرة الأولى.. وبالنسبة لي، فقد وجدته عريسًا مناسبًا.. شاب وسيم ثري ينتظره مستقبل واعد، باختصار: تزوجنا في خلال أشهر قليلة.. وانتقلتُ من منزل أسرتي بـ الزيتون إلى منزلي الجديد بـ المهندسين..
قصة زواج تقليدي جدًّا.. وما تلى ذلك من أحداث أيضًا ليس به أي شيء مهم، غير أنَّ الشهور راحت تمر وتتوالى دون أن تظهر عليَّ أيَّة بوادر تبشر بحملٍ قادم.. بدأت حماتي تتذمر بصوت مسموع، وراحت أخواته البنات يتلمَّزن عليَّ، الأقارب، الجيران، الكل يسألني إن كان هناك شيء ما، وعندما أجيب بالنفي يهزون رؤوسهم بحكمة مرددين: "كل شيء بميعاد.. خير إن شاء الله".
هشام؟ لم يكن يتكلَّم، ولكنني كنت أشعر بما يعتمل بأعماقه من مشاعر، كانت تظهر بوضوح عندما تتعلَّق عيناه بطفلة صغيرة تلهو، أو طفل يمرح في النادي، وعندما يلاعب أطفال أخواته البنات.. كنت أرى ابتسامته الحزينة فأشعر بغصةٍ في حلقي وبقبضةٍ باردة تعتصر قلبي.
بدأت رحلتي مع الأطباء.. سلسلة لا تنتهي من الفحوص والتحاليل والأشعَّة، والنتيجة: ضَعف في قدرة المبيض على استقبال الحيوان المنوي.. العلاج؟ ممكن طبعًا، ولكنَّه سيستغرق وقتًا..
لم أضع المزيد من الوقت.. كنت أعرف أن صبر (هشام) لن يطول لذا بدأت العلاج على الفور، وبذلت جهدًا لأبدو طبيعيَّة أمام أهلي وأهله.. في إحدى المرَّات كنت جالسة في شرفة منزل والديَّ، أستمتع بشمس العصاري الدافئة وأثرثر مع ناهد جارتي وصديقة طفولتى، سألتني السؤال إياه، ولما أجبتها بالنفي وأخبرتها بمشكلتي، قالت أنَّها تملك الحل..
- الشيخ عرفان..
- مين دا؟
أجابت بثقة:
- راجل عارف بالله من أهل الخطوة.. مفيش حاجة تستعصي عليه.. كل اللى راحله رجع مجبور الخاطر.
ولمَّا لاحظت استخفافي قالت:
- ماتستهزئيش يا رضوى، أنا برضه مكنتش مصدقة لغاية ماشوفت معجزات الرجل بنفسي.. عارفة منيرة؟ منيرة صاحبة إيمان بنت خال علي جوزى؟ هي رخرة ربنا مادهاش عيال.. ولاد الحلال دلّوها على الراجل الصالح دا.. وببركته وبركة أولياء الله وآل البيت حبلت بعدها بشهر واحد.. والله دا اللى حصل..
بالطبع لم ألقِ بالاً لهذه التخاريف، توكلت على الله ورحت أتناول الكبسولات والأقراص بانتظام، وأحاول قدر جهدي تفادي الاصطدام بأهلِ زوجي، خاصة بعد أن نزعوا أقنعتهم، وبدؤوا يهاجمونني ويسخرون منِّي بصورةٍ سافرة..
شكوتهم لـ هشام ذات مرَّة فقال لي باقتضاب:
- لازم تعذريهم..
- (بدهشة): إزاى اعذرهم؟!
- (ببرود): أنا ابنهم الوحيد، ونفسهم يشوفوا ولد من صلبي..
هكذا أعلن بوضوح وبلا مواربة أنَّ صبره قد نفد.. ابتلعت الصدمة، وهرعت في اليوم التالي –بعد ليلة من البكاء الصامت– إلى الطبيب.. قرأ نتائج التحاليل التي أجريتها في معمله الخاص، ثم وضع الأوراق على مكتبه قائلاً:
- لسه في البداية.. النتيجة مؤكدة إن شاء الله.. ولكن الوقت.. لسه أودامنا شوية وقت..
ولكن بالنسبة لي، لم يكن هناك وقتًا متاحًا.. تغيَّرت شخصيَّة هشام بصورة ملحوظة.. صار أكثر جفاءً وبرودًا في التعامل معي، طالت فترات غيابه عن المنزل، ثم بدأتْ الأقاويل تتناثر وتصل إلى مسامعي..
قالت لي صديقتي شادية:
- أنا متأكدة انه هوَ.. هشام بشحمه ولحمه.. كانوا بيتعشوا في جوني كارينوس بتاع مصر الجديدة..
وقالت إيمي:
- كريم شافه أول امبارح في سينما جالاكسي.. كانت معاه بنت أول مرة يشوفها..
أما ميرهان صديقتي التي تعمل بشركة مصر للطيران فهاتفتني:
- شفت الاسم بنفسي في قوايم حجز طيارة شرم الشيخ على الكمبيوتر.. هشام عبد الحافظ سليمان الشربيني.. البوكينج عن طريق مكتب الدكتور الشربيني الاستشاري.. آه، التذكرة التانية باسم داليا حجازي.. مين داليا دى يا رضوى؟
كدت أجن.. لا ريب أنَّه فعلها.. تزوج –السافل- عليَّ.. هشام زوجي تزوَّج عليَّ.. قضيت أيَّامًا لا أراكِ الله مثلها.. بكاء في الليل، بكاء في النهار، بكاء طيلة اليوم حتى التهبت عيناي تمامًا.. لم أعد أخرج من المنزل، لم أعد أجيب الهاتف.. أمي تسألني بجزع:
- مالك يا رضوى؟
فأجيبها بابتسامة مغتصبة:
- مفيش يا ماما..
- إزاى مفيش؟!
- البيريود بس تعبتنى زيادة المرادى..
- (بقلق): هشام؟..
- خالص..
أما هو فلم يُبدِ أي اهتمام.. يغيب طيلة اليوم، ثم يعود ليلاً.. يلقي عليَّ تحيَّة المساء ببرود، يتناول عشاءه، ثم يجلس إلى الكمبيوتر أو يشاهد التليفزيون لبعض الوقت، قبل أن يندس تحت الأغطية ويتصاعد شخيره ليشنف آذاني وأنا مستلقية بجواره في ظلام غرفة النوم..
لن أقف – فكرت- مكتوفة الأيدي.. قمت بإجراء المزيد من التحاليل، وجاء رد الطبيب كالمعتاد:
- النتيجة مؤكدة إن شاء الله.. ولكن الوقت.. لسه محتاجين وقت.
وهنا فكرت في شيء آخر..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
لم يكن يمت لأولياء الله الصالحين بصلة..
خبيث الرائحة والمظهر، نحيف أشبه بحقيبة مليئة بالعظام، لحية بيضاء شعثاء طويلة اصفرَّت أطرافها.. ملابس رثة متسخة، وجه مغضن مليء بالتجاعيد، ثم العينان.. العينان ضيِّقتان أشبه بعيني ذئبٍ مفترس، تلمعان بشكل مخيف.. تأملتاني من أعلى لأسفل بنظرة طويلة متفحصة بعثت القشعريرة في جسدي، قبل أن تنفرج الشفتان عن ابتسامة ثعلبيَّة أبرزت أسنانًا صفراء نخرة.. ثم تكلَّم بصوتٍ مبحوح:
- إنتى مش مصدقة..
قلت بصراحة:
- آه..
لكزتني (ناهد) في جنبي وهي تقول بسرعة:
- متآخذهاش يامولانا، اللى مايعرفك يجهلك..
لم يُبدِ أي اهتمام بها وكأنها غير موجودة.. سحب نفسًا طويلاً من لىّ شيشة فخيمة الشكل، ونفث دخانًا غريب الرائحة ثم سألني:
- أومال ليه برجليكى جيتى؟
سحب البخور الهندي تملأ سماء تلك الغرفة المضاءة بالشموع.. تلك بالتأكيد لزوم إحكام الشغل، أو بمعنى أصح الديكورات اللازمة لخداع الحمقى والنصب عليهم.. تنهدت قائلة:
- الطب ما أفادنيش لغاية دلوقتى.. وكلمتنى ناهد عن كراماتك، فقلت اجرب.. المثل بيقول "ضربوا الأعور على عينه فقال: خسرانة خسرانة".
لكزتني ناهد محذرة مرة أخرى، في حين ضحك هو بصوتٍ أشبه بصوت السلاسل المعدنية.. سعل قليلاً ثم قال:
- كله بمشيئة الله.. احكيلى مشكلتك..
رحت أقص عليه تفاصيل مشكلتي، وأنا أفكر في أنه لا يجيد النصب بالفعل.. أمثاله -كما قرأت ورأيت في الأفلام- يعرفون مشاكل ضحاياهم مُسَبَّقًا عن طريق معاونين لهم يثرثرون مع هؤلاء الضحايا قبل دخولهم، ثم يبلغونه بها.. بعدها تقف الضحيَّة الحمقاء أمامه مذهولة من معرفته أسراراها.. أما في حالتنا هذه فلم يسألني أحد عن شيء (برغم الزحام الكبير داخل وخارج هذا البيت القديم الذي يعيش فيه على أطراف حلوان)، ولم أكن أنا لأخبر أحدًا لو سألني..
- يبقى انتى جيالى طالبة الخَلَف..
- (أزدرد لعابى): أيوه..
- طلبك مُجاب..
- (بسرعة): والثمن؟
كنت قد دفعت مئتىّ جنيه لامرأة ضخمة الجثة ترتدي السواد وتجلس عند مدخل البيت، هي بمثابة السكرتيرة أو التومرجيَّة الخاصة به، غير أنني خمَّنت أنَّ مقابل خدماته لن يكون بسيطًا.. ابتسم ابتسامة كريهة المنظر والرائحة، وقال:
- لازم تمن؟..
- هتساعدني لوجه الله؟!
تأملني من جديد بتلك النظرة الفاحصة التي أثارت خوفي.. هاتان العينان المليئتان بالشهوة والخبث لا يمكن أبدًا أن تكونا لوليٍّ من أولياء الله الصالحين..
لم يرد عليَّ.. مد يده إلى جعبته، ثم أخرجها مضمومة، وألقى بعض الذرَّات في إناءٍ من الطين الجاف موضوع أمامه ويتصاعد منه البخور.. أغمض عينيه، وراح يهمس بكلماتٍ غير مفهومة.. تضاعفت سحب البخور الخارجة من الإناء الطيني داكن اللون.. راح يرتعش، ويهمهم بالمزيد من الكلمات بتلك اللغة المجهولة.. وجهه يتقلص فيزداد قبحًا.. مرَّت دقائق وهو على هذا الوضع، ونحن جالستان أمامه نراقبه بتوجس، قبل أن ينهض متوكئًا على عصا خشبيَّة قديمة، ويختفي في كُوَّة قريبة من دون أن ينطق بحرف..
تبادلنا –ناهد وأنا– نظرات خرساء تموج بالخوف.. فكرت في أن أنهض فارَّة من هذا المكان المخيف بأقصى سرعة، ولكنني تماسكت.. هذا رجل دجال يجيد فن الإيحاء.. لأثبُتنَّ أمامه حتى أفضح دجله.. التقطت نفسًا عميقًا لأستجمع شجاعتي، غير أنني في اللحظة التالية فقدت ما استجمعته عندما سمعت صوت فحيح أشبه بفحيح الأفاعي، اقترن بهواءٍ بارد هبَّ من مكانٍ ما فأطفأ بعض الشموع.. أجفلت وشهقت صديقتي.. هببنا معًا واقفين وقد تشابكت أصابعنا والتصق جسدينا ببعضهما.. كدت أطلق ساقيَّ للريح بالفعل في هذه اللحظة، غير أنَّ الرجل المقيت ظهر عند فتحة الكُوَّة.. الإنهاك واضح على وجهه.. خطا نحونا بصعوبة..
- اقعدوا..
جلسنا.. مد يده المضمومة نحوي..
- خدى..
تناولت منه الشيء الذي لم يكن سوى لفافة صغيرة من الجلد.. حدقت فيها بدهشة..
- (بلهجة آمرة): فـ الشنطة..
أسرعت أدسها فى حقيبتى وأنا أتساءل:
- إيه دى؟..
- بالنار تحرقيها في دورة الميه.. مش لوحدها.. بنفس النار تحرقى معاها شئ من أترك، وأتر زوجك..
- (برهبة): أترى!..
- حذار ثم حذار تنظري لها وهي بتتحترق.. اللفافة والأترين فـ الحوض.. اشعلى فيهم النار.. الشبابيك مقفولة.. المكان تتركيه كأن شياطين بتطاردك.. وبابك تقفليه عليكى.
وصمت لحظة قبل أن يتابع بلهجة مخيفة:
- هتسمعى أصوات غريبة، متخافيش.. شرٌ مش هيمسَّك طالما بابٌ بيفصل بينك وبين اللفافة المحترقة.. بعدها تَزَيَّني واستعدى.. هيطلبك زوجك، فلبى طلبه.
قالها وسكت تمامًا.. مغمض العينين، البخور المتصاعد من الإناء الطيني يحيط بوجهه فيمنحه -رغم بشاعته- طابعًا فاتنًا لا شك فيه.. سألته بتردد:
- وبعدين؟
- (باقتضاب): مشكلتك هتتحل..
ثم أشار بكفه المفتوح لأعلى إيذانًا بانتهاء المقابلة..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
كانت حيرتي عظيمة.. وترددي أعظم..
ما هذا الذي أفعله؟ ما هذا المنحدر الذي أوشك على السقوط فيه؟ دجل!! سحر!! هل انحدرتُ إلى هذا الدرك؟ كيف ومتى؟
ملأني شعور عارم بالذنب.. استغفرت واستعذت.. أمسكت باللفافة الجلديَّة وقذفت بها في سلة المهملات، اغتسلت وكأنني أطهر جسدي وروحي من كل هذا الهراء.. أدَّيتُ صـلاة العشاء، وصلَّيت ركعتين بنيَّة الاستغفار، وعندما انتهيت، كنت قد اتخذت قراري بالفعل.. سأصبر وأستمر في تلقي العلاج، ولتكن مشيئة الله..
طهوت طعامًا للعشاء، وارتديت ثوبًا جديدًا.. خففت الإضاءة وأشعلت شموعًا، وقمت بتشغيل موسيقى هادئة بعثت جوًّا لطيفًا في الشقة.. تعطرت، وطفقت أنتظر قدوم زوجي.. لابد أن يجد لديَّ من التجديد مايعوِّضه عن الولد حتى يأتي.. سأغمره حبًا وعطفًا.. سيجد مني تواصلاً وتفاهمًا لن يجده لدى تلك الأخرى –ماذا كان اسمها؟- مهما كانت جاذبيَّتها..
راحت الساعات تمر دون أن يأتي.. أو حتى يتصل بي هاتفيًّا.. حاولت الاتصال به مرارًا، ولكن هاتفه كان مغلقًا.. غلى الدم في عروقي.. الوغد.. لابد أنَّه في أحضانها الآن.. العاهرة خاطفة الرجال.. فلتنتظر.. لن أدعها تهنأ به أبدًا.
كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل عندما وقفت أنظر إلى صورتي في المرآة العريضة في حمام داري..
بالنار تحرقيها في دورة الميه.. مش لوحدها.. بنفس النار تحرقى معاها شئ من أترك، وأتر زوجك..
في قاع الحوض أمامي قطعة الجلد الملفوفة التي أعطانيها الشيخ عرفان، وقد أحطتها بقطعتين من الثياب الداخليَّة.. واحدة لي وأخرى لزوجي.. ظللت واقفة لدقائق لا أفعل شيئًا إلا النظر إلى نفسي..
حذار ثم حذار تنظري لها وهي بتتحرق.. اللفافة والأترين فـ الحوض.. اشعلى فيهم النار.. الشبابيك مقفولة.
الدموع متجمدة في مقلتيَّ، القدَّاحة في يدي.. بأصابع مرتعشة ضغطت زنادها، فانبعثت منها شعلة النار، أدنيتها من الجسم المتكوِّر الراقد في الحوض.. مرَّت لحظة قبل أن تنبثق منه النار ببطء، ثم تبدأ في الانتشار..
المكان تتركيه كأن شياطين بتطاردك.. وبابك تقفليه عليكى.
قبعتُ في فراشي أرتعش من فرط الرعب.. برغم باب الحمَّام الموصد، إلا أنَّ.. ياإلهى.. هل تخدعني عيناي، أم أنَّ ثمة وهجًا ما ينبعث بالفعل من أسفل فرجة الباب؟
ثم هـذه الأصوات..
هتسمعى أصوات غريبة
أصغيت.. لا شك في ذلك.. صوت أشبه بزفير عميق أو فحيح كالذي سمعت منذ ساعات في بيت الشيخ عرفان.. كأن أحدهم يتنهد بارتياح، أصخت السمع أكثر، ليس صوتًا واحدًا.. تجمد الدم في عروقي.. هناك همسات.. ضحكات مكتومة..
متخافيش.
كيف لا أخاف؟ أنا وحيدة في شقتي، وعلى بعد خطوات منِّي يحدث شيء مرعب لا أدري عنه شيئًا ولا يفصلني عنه سوى باب.. خامرني شعور هائل بالندم.. أصوات الهمسات والضحكات الخافتة.. ياللهول.. ما الذي أقحمني في كل هذا؟ ما أشد حماقتي.. ما أشد رعونتي..
شرٌ مش هيمسَّك طالما بابٌ بيفصل بينك وبين اللفافة المحترقة.
بالفعل.. مرَّت الدقائق ببطء قاتل دون أن يحدث أي شيء مؤذٍ.. مرَّت الدقائق، وبمرورها اختفى الوهج القادم من أسفل فرجة باب الحمَّام، وتضاءلت الأصوات حتى تلاشت تمامًا.. هل كنت أهلوس؟!
شيئًا فشيئًا بدأت أتشجع.. خطوت بوجل نحو الباب المغلق.. مددت يدًا مترددة.. أمسكت بالمقبض.. التقطت نفسًا عميقًا، ثم فتحت الباب..