نقوس المهدي
كاتب
الأدب في العراق
السيد محمد سعيد حبّوبي العراقي
ولد في النجف , وبها نشأ وحصل. وقضى شطراً من شبيبته في بلاد نجد حيث تشتغل أسرته بالتجارة. ثم هو في النجف يعد في صدور العلماء المجتهدين , وعمره ستون سنة ونيف.
تأثير الإقليم - للإقليم ولنوع المعيشة أثر كبير في تكوين أخلاق الإنسان وملكاتهِ النفسية. وإذا التفتنا إلى من تترجم اليوم رأينا الشاهد على ذلك. الوسط الذي وُجد فيهِ الرجل , أول ما وُجد , كان مباءَة علمٍ وأدبٍ وشعور , والسماءُ التي رمقها , أول ما رمق , وضَّاءَة جميلة , الحرارة شديدة الوقع , ولون النور ناصع بياضه. فأهّلهُ ذلك , فوق ما في فطرتهِ من الاستعداد , لأن يكون ملك الشعر والشعور , وربَّ الفصاحة والبلاغة , الساحر بيانه , الفاتن عيانهُ. ولم يكن ذلك كلَّ ما جعل الرجل كذلك؛ بل إنه وُجد في مهد البساطة , وتمكنت من نفسه آداب الفطرة الصحيحة , فصفا ذهنه , واتَقد خاطرهُ , وقد انتشق نسيم بلاد العرب الجافّ المعتدلة حرارته , وشاهد الأودية والجبال والشعاب النضرة , فانعكست في لوح باطنهِ صوَر تلك المشاهدات الغريبة , وطالع رياض الجزيرة وأرباضها , فأجال طرفه هناك في بساتين الطبيعة العامرة؛ هناك في موطن الحب والعواطف , موطن الدموع , وفي مهبط الشعر والعشق والحياة الخفيفة الهنية , وفي محطّ رحال الكلَف والهيام , والضلال والحيرة. في النجف وُلد , وفي نجدٍ والحجاز وُجد؛ فجاءَ آيةً في الشعراء الحقيقيين الذين لم يوجدوا إلاَّ ليكونوا أمثلة للروح الإِلهية المقدسة , وأشباحاً للنفس الملكوتية الطاهرة. أولئك هم أنوار العالم , وهم متمّمو نقصان الوجود.
كلمة في شعره - فسدت معاني الشعر العربيّ , قبل فساد ألفاظه , بزمنٍ طويلٍ عهدهُ , فخرج بالشعر كثير من ذوي القرائح عن غايتهِ , وانقلبوا خرَّاصين قوَّالين ما لا يفعلون , غالينَ في المدح , وتأليهِ العظماء , وإكبار الجبَّارين. وقد أكتسبهم بالمال عشّاق الشهرة والمجد الباطَلين , فأفسدوا فطرتهم. على أنه لم تخلُ تلك الفَتَرات من نبيٍّ للشعراء يرسل كأبي العلاء ابن المعرّة. وقد كانت ألفاظ ذلك الشعر عامرةً على فساد معانيه. ثم جاءَ دور الألفاظ فأفسدها ابن نباتة والقيراطي وابن حُجة والصفدي والحّلي صفي الدين , بصناعتهم
اللفظية؛ فعاد الشعر العربي , من جهة المعاني , مدحاً ورثاء كلهما كذب وإغراق , ومن جهة الألفاظ , كلماتٍ مهملة أو معجمة , يتأمل كيف يضع الشاعر بعضها إلى بعض , أو كيف يقابل بعضها ببعض , ناسياً أن ليس الشعر إلاَّ لحناً جميلاً تؤلفهُ الأرواح الشاعرة , أو أنهُ ليس إلاَّ روحاً تبعثها ألحان الضمائر , وهي منقطعة إلى مناجاة الله والطبيعة. ويمتاز شعرُ مَن نحن بصددهِ , برجوعهِ إلى حقيقة الشعر في الأكثرِ إن من جهة الألفاظ , وإِن من جهة المعاني. أما الألفاظ فإنها السهلة الجزلة , تجمع إلى الرقة المتانة , ونظمها يحوز إلى فخامة التأليف , وجلال التركيب , جمال الأساليب. وأما معانيهِ فإنها في الأغلب وصفٌ وتصوير , وتجسيمٌ للخواطر , ونعت الطبيعة , ولهجة شديد في العشق , وفي الحب والأحباب. وإذا تصفحتَ مجموع شعره رأيتَ سفرَ دموعٍ وعواطف , ووجدت ثمة ديانة الشعراء , وأهازيج الأرواح , وتهليلاً وتسبيحاً يتضاعد من عالم النفس , إلى عالم الحس؛ ويشهد على سلوكه ومذهبه في المحبة الخالصة مثلُ قوله:
والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجتْ عليهِ عروقي
وقوله:
إني اتخذتُ هواهمُ حَسبَاً ... أُعزى إليهِ , وحبَّهم شَرعا
وقوله في موشح:
ليت دين الحبّ لما عرَفا ... لم تقُم بيعتُهُ في عُنُقي
وقوله:
لستُ أنسى عهدكَ الماضي وإنْ ... مرَّ بالعينِ خيالاً لستُ أنسى
طفتُ سَبعاً حولَ مغناك كما ... قمتُ أقضي الصلواتِ الخمس خمسا
فها أنت ترى نوعاً من عبادة السالكين الذين تجردوا عن الاتصال بالمادَّة , وأصبحوا أرواحاً محصنة حائمة حول سراج الحقيقة , حيامَ الفراش على النار. ولماذا تودّ اللحاق بالحقيقة؟؟ لأنها للحقيقة خلقت , ومن الحقيقة بدأت , وإلى الحقيقة تعود. ولست أدري ماذا كان يلمُّ بهذا الشاعر حين ينقطع إلى التأمل في جمال الطبيعة؛ أكانت الطبيعة تنقطع إلى شهوده , فتجدهُ مظهراً من مظاهرها الجميلة , وتكاشفهُ , فتفيض أسرارها الغامضة على لسانه؟ بلى! وأنهُ لسانٌ ناطق للطبيعة , فقد كان مرأى الأزهار يؤثر فيهِ , وخطرانُ
الغصون الميس يعبث بلبّه , فيحملهُ على أن يقول:
يا بانة الجزعِ , لا والنازلين بهِ , ... ما كنتِ عارفةً لولاهمُ الهيفا
ويقول:
مالتْ فقلتُ لها يا بانةُ اعتدلي ... وإن جُبلت على التعطافِ والميَلِ
ويقول:
وذكرت في ذي البان ميسَ قدودِهم=فطفقتُ من شغفٍ أضمّ غصونَهُ
ويظهر من لهجتهِ في شعره , إنهُ كان شديد التمسك بمبدإهِ الحب تمسكاً يمثّل له أن الهلاك والحيرة منجاة وهدًى فيهِ , وإن طغيانه عليهِ عدل وإنصاف تلزم معهما الطاعة. فتراه يقول:
منَح الصبابةَ أضلُعاً وفؤادا ... وعصتُهُ سلوة مُقصرٍ فتمادى
وطغى عليهِ الحبُّ وهو أميرهُ ... فأطاعَ جامح قلبه وانقادا
وربما أصيب , كدأب الحائرين من هذه الطائفة المعذبة , بمن لا عاطفة , بل لا قلب له , فيطعن في سلوكهِ , فيضطران أن يواجه هؤلاء بمثل قوله:
يا عاذِليَّ في الهوى تورَّعوا ... واطَّرِحوا نفسي ومَن تيَّمها
قالوا الغرام مهلكٌ قلتُ لهم ... ما عيشتي إن لم أكن مغرمَهَا
وقوله:
يا لائميَّ ليومَ في حُبّهِ ... مهلاً فما شانكما شأني
هاموا هيامي فيكَ لو أنهم ... قد عرفوا مَعناكَ عُرفاني
شعره - وقد آن لنا أن نُثبت شيئاً من شعره؛ فهو الذي يقول:
لُح كوكباً , وامشِ غصناً , والتفتْ ربما ... فإِنْ عداكَ اسمُها لمَ تعدكَ السيما
وجهاً أغرَّ وجيداً زانهُ جيَدٌ ... وقلمةً تخُجلُ الخطّيَ تقويما
يا مَن تجلُّ عن التمثيلِ صورتهُ ... لأنتَ مثَّلتَ روحَ الحسنِ تجسيما
لو أبصرتك النصارى في كنائسها ... مُصوَّراً ربَّعتْ فيكَ الأقانيما
نطقتُ بالشعر سحراً فيكَ حين غدا ... هاروتُ طرفكَ ينشي السحرَ تعليما
إذا سفرتَ تولّى المتقي صنماً ... وإن نظرتَ توقّى الضيغمُ الريما
من لي بألمي , نعيمي بالعذاب بهِ ... والحبُّ أن تجد التعذيبَ تنعيما
ألقى الوشاحَ على خصرٍ توهَّمهُ ... وكيف وشّحَ بالمرئيِّ موهوما
أشيمُ برقَ ثناياه فيوهمني ... تألّق البرقِ نجديّاً إذا شيما
يا نازلي الرمل من نجدٍ أُحبكُم ... وغن هجرتم ففيما هجركم فيما
هل توردون ظماَء عذبَ مائكم ... أم تُصدرون الأماني حُوَّماً هيما
لي بَينكم , لا أطالَ اللهُ بينكُم , ... غضيضُ طرفٍ يردُّ الطرف مسجوما
أنا رضيعُ هواهُ منذ نشأتهِ ... ونشأتي لن تروني عنهُ مفطوما
يا جائراً وعلى عمدٍ أحكّمهُ ... أعدلْ وجُرْ بالذي ولاّك تحكيما
حرَّمتَ وصلي كما حلَّلتَ مقتلتي ... صدَّقتُ شرعكَ تحليلاً وتحريما
ولهُ:
دموعي وهيَ حمرٌ مُرسَلاتُ ... وشت بي عند أهلِكَ لا الوشاة
أتنكرُ يا أخا القمرين لثمي ... وفي شفتيكَ من شفتيِ سماتُ
فلو نزعتْ لحاظُك عن قسيٍّ ... لما اختارتْ سواهنَّ الرماة
فسلْ كبدي ففي كبدي سهامٌ ... بأهدابِ الجفون مُرّيشاتُ
وسلْ عطيفكَ كم طعنا فؤادي ... إذا علمتْ بموقعها القناةُ
أتحكي السمرُ قدَّك باعتدال ... وما ثُقّفتَ وهيَ مثقَّفاتُ
وله:
يا غزالَ الحِمى , وقلتُ غزالاً , ... حين أبصرتُ في ضلوعي كناسا
حسبوا غنجَ مقلتيكَ نعاساً ... ومن الغنج ما يكونُ نُعاسا
مَن كسا خدَّك الشقيق كساني ... من بَهارِ الضَّنا عليكَ لباسا
فاسقني , لا عطشتَ , ثغراً وريقاً ... يومَ تسقي النديمَ خمراً وكاسا
وارعَ لي ذمةً لديكَ وعهداً ... يومَ تنسى العهودَ أو تتناسى
هبْ جميع الورى أحبّتك حبي ... غير أني قاسيتُ ما لا يقاسي
وله:
خطرتْ فجدَّ وشاحُها بخفوق ... فكأنها اتشحتْ بقلب مشوقِ
وعلى الدلالِ تماسكتْ فتلاعبتْ ... كفُّ الصِبّي بقوامِها الممشوقِ
شربتْ بوجنتِها دمي واستخدمتْ ... لخضاب أنملها دَمَ الراووقِ
قمنَ الولائدُ إذ تهبُّ من الكرى ... من حولِ واضحةِ كنارِ فريقِ
وضفرنَ جثلاً من أثيتِ عتاكلٍ ... نُضّدنَ فوق المتن نضدَ عذوقِ
الحسنُ حوزتُها ولكن غيرُها ... بالمستعار أتى أوِ المسروقِ
والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجت عليهِ عروقي
يا أسمَ جادكم السحابُ إذا سرى ... متجلّلاً برواعدٍ وبروقِ
جون إذا احتلب المهبّ ضروعَهُ ... هدرتْ رواعدُهُ هدير فنيقِ
إني وثقتُ بحبكم فتكاثرت ... عللٌ تُقلّلهُ فقلَّ وثوقي
وله:
شمس الحميَّا تجلّت في يَدِ الساقي ... فشعَّ ضوءُ سناها بين آفاقِ
سترتُها بفمي كي لا تنمَّ بنا ... فأجَّجت شعلةً ما بين آماقي
خُذْها كواكب أكوابٍ ويشفعُها ... ما يحتسي الطرفُ من أقداحِ أحداقِ
وبتُّ أُسقي وباتتْ وهيَ ساقيتي ... نحسو الكؤوسَ ونسقي الأرض بالباقي
ضممتُها فتثّنت وهي قائلةٌ ... بالغنج مهلاً لقد كسَّرتَ أطواقي
مسودَّةُ الشعر لولا ضوءُ غُرّتها ... لما هدتني إليها غيرُ أشواقي
يهدي غليكَ بمرآها ومسمعِها ... جمال يوسف في ألحانِ إسحاق
وقال:
للهِ يومَ وداعِهم من عُصبةٍ ... وقفتْ وقد سَرتِ الجمالُ وخادا
وَقفتْ بهم أقدامُهم إن يركضوا ... أثرَ النياقِ فاركضوا الأكبادَا
فوق الركائبِ أنجمٌ لا تجتلي ... ورياض حسنٍ تمنعُ الرُّوادا
عَربٌ , معاطفُ غيدِهم ورماحهم ... سيَّانِ , كلٌّ ينثني ميَّادا
بعثوا الخيالَ , وما رقدتُ , وليتَهم ... بعثوا إليَّ مع الخيالِ رُقادا
أُحيي الدُّجى أرَقاً كأنَّ نواظري ... خُلقتْ محاجرها قذى وسُهادا
بذمامِ ذيَّاكَ الغزالِ حشاشةٌ ... أُسرتْ ولم يَقبل فدىً فتُفادى
يا غارساً بالجزع روضة حسنهِ ... ومخيفَ رائدها قناً وصعادا
كَنّيتُ عنكَ بمن سواك مُوريّاً ... بهوى سعادَ وما هويتُ سُعادا
أعرضتَ عني وادَّعيتَ مودّتي ... أرأيتَ إعراضاً يكون ُ ودادا
إني لأسترُ عِفتي بخلاعةٍ ... وأرومُ فيما أنتحيهِ مُرادا
والضدُّ قد يبدو بمظهرِ ضدِّهِ ... أوَ ما ترى نورَ العيونِ سوادا
يا رَبعَ لذَّاتي ومربعَ جيرتي ... حيَّا معاهدَك الغمامُ وجادا
لا أبتغي للوصلِ فيكَ نهايةَ ... أبداً ولا للعيشِ فيك نَفادا
لا والذي سَمَكَ السمواتِ الغلي ... وأقامهنَّ وما أقامَ عمادا
لا أرتضي غيرَ الأكارم معشراً ... يوماً ويوماً ولا غير العراقِ بلادا
وقال:
ومودّعٍ للركب ودَّ بأنهُ ... لو قد أسألَ عن الفؤادِ شؤونَهُ
لم تقطع الإظعان ميلاً في السُرى ... إلاّ وكحّل بالسُهادِ جفونَهُ
قطعتْ بهم سهلَ الغميم وَحزَنهُ ... فسقى الغميمُ سهولَهُ وحزونَهُ
فترى الدموعَ تخالُها بحراً طمي ... وترى الحمولَ تخالهنَّ سفينهُ
يا قلبُ حسبكَ بالغرامِ رهينةً ... شطَّ الغريمُ ومما قضاكَ ديونهُ
فلأُنهكنَّ القلبَ من حسراتهِ ... يوم الترحّل أو يُجنَّ جنونهُ
قالوا أشابَ البينُ مفرقَ رأسهِ ... كلاّ ولكن قد أشابَ عيونهُ
وذكرتُ في ذي ألبان ميسَ قدودِهم ... فطفقتُ من شغفٍ أضمُّ غصونهُ
وقال:
يا ساكني الزوراءِ حسبُكُم النَّوى ... فلقد وهي جلدي بكم وتجلّدي
أمُرَ ضْتموني بالبعادِ وإنما ... أقصى شقائي أن أراكم عُوَّدي
كثرتْ عليَّ النائحاتُ صوارخاً ... إن لم أكثّرْ في هَواكم حُسَّدي
موَّهتُ عنكِ بلَعلعٍ وبحاجر ... ولأنتِ من تلك العبارة مقصدي
فليحلُ بالزوَراء عيشُكِ سائغاً ... إني أغصُّ بكلّ عيشٍ أرَغدِ
وليهنِ أعينَكِ الرُّقادُ فإنَّ لي ... عيناً إذا رَقد الملا لم ترقدِ
إِن أسلمتكِ يدُ الغرام فإِنني ... مُلقىً بقبضتهِ أروحُ وأغتدي
وله من قصيدة:
أجدّك علّمني لوصلك حيلةً ... فأنتَ الذي علَّمتني الهيَمانا
وهبْ أنَّ سمعي قانغٌ بحديثكم ... أللعينِ مَعنىً أو تراكَ عيانا
إلى النزوانِ العيسُ تلوي أعنَّةً ... وهيهاتِ ليست تملكُ النَّزوانا
وليست تشيم البرقَ من أبرق الحمى ... بلى! قد تشمُّ الشيح والعَلَجانا
فيا أخويَّ المدَلجينِ كليهما ... إذا جزتما الجرعاء فانتظرنا
ويا صاحبي لا تلوِ عنها مُعرِّجاً ... هلمَّ لنَلقى من نحبُّ كِلانا
وقمْ نجتلي النارَ التي قال خابطٌ ... من الناس حسبي أن رأيتُ دخانا
وإن لمعتْ فاقصد لمشرقِ ضوئها ... وأمَّ شروقَ الضوءِ لا اللمَعانا
وله:
وإن أقضي بحبكِ مستهاماً ... فكم قبلي قضى صبٌ معَّنى
قضى القيسَانِ قبليّ: قَيسُ ليلى ... من الهجِ الطويلِ وقيسُ لبنى
هذا وقد أثبتُّ كل ما مرّ إشارة بذكر أديب دقَّ خطرُه , وتطلَّس أثرُه , لنبوغه بين قومٍ لا يحتفون بنابغة , ولا يحتفلون بنبيل , فحَمله استخفافهم بالشعر وذويه على الإشاحة عنهُ بوجهه , ودعاهُ اهتضامهم للأدب وأهله , إلى الإضراب عن معاناته , فانصرف منذ عهدٍ بعيد عن قرض الشعر , لولا ذلك لعُدَّ اليوم في صفّ المتفوّقين من غواة هذا الفنّ الجميل , وقليلٌ ما هم
النجف
محمد رضا الشبيبي
الزهور رأى القراء في شعر الشيخ الحبوبي وفي ما نشرته هذه المجلة سابقاً عن أدباء العراق أن تلك الأصقاع شعراء مجيدين يذكروننا بأسلافهم فحول شعراء العرب. فنشكر لكاتب هذه المقالة أنه عرّف على أدبائنا اليوم واحداً من هؤلاء الشعراء النابغين.
الزهور
المرء روح خفيٌّ لست تنظره ... إلاَّ بمرآتهِ من هذه الصوّرِ
غن المرء ظاهره عنوان باطنه ... فهاكُم عن فؤادي أصدقَ الخبرِ
* الكتاب: مجلة «الزهور» المصرية
أسسها: أَنْطُون الْجُمَيِّل والشيخ أمين تقي الدين
الناشر: دار صادر (تصويرا عن: مطبعة المعارف بشارع الفجالة - مصر)
عام النشر: صدرت من 1910 - 1913 م
السيد محمد سعيد حبّوبي العراقي
ولد في النجف , وبها نشأ وحصل. وقضى شطراً من شبيبته في بلاد نجد حيث تشتغل أسرته بالتجارة. ثم هو في النجف يعد في صدور العلماء المجتهدين , وعمره ستون سنة ونيف.
تأثير الإقليم - للإقليم ولنوع المعيشة أثر كبير في تكوين أخلاق الإنسان وملكاتهِ النفسية. وإذا التفتنا إلى من تترجم اليوم رأينا الشاهد على ذلك. الوسط الذي وُجد فيهِ الرجل , أول ما وُجد , كان مباءَة علمٍ وأدبٍ وشعور , والسماءُ التي رمقها , أول ما رمق , وضَّاءَة جميلة , الحرارة شديدة الوقع , ولون النور ناصع بياضه. فأهّلهُ ذلك , فوق ما في فطرتهِ من الاستعداد , لأن يكون ملك الشعر والشعور , وربَّ الفصاحة والبلاغة , الساحر بيانه , الفاتن عيانهُ. ولم يكن ذلك كلَّ ما جعل الرجل كذلك؛ بل إنه وُجد في مهد البساطة , وتمكنت من نفسه آداب الفطرة الصحيحة , فصفا ذهنه , واتَقد خاطرهُ , وقد انتشق نسيم بلاد العرب الجافّ المعتدلة حرارته , وشاهد الأودية والجبال والشعاب النضرة , فانعكست في لوح باطنهِ صوَر تلك المشاهدات الغريبة , وطالع رياض الجزيرة وأرباضها , فأجال طرفه هناك في بساتين الطبيعة العامرة؛ هناك في موطن الحب والعواطف , موطن الدموع , وفي مهبط الشعر والعشق والحياة الخفيفة الهنية , وفي محطّ رحال الكلَف والهيام , والضلال والحيرة. في النجف وُلد , وفي نجدٍ والحجاز وُجد؛ فجاءَ آيةً في الشعراء الحقيقيين الذين لم يوجدوا إلاَّ ليكونوا أمثلة للروح الإِلهية المقدسة , وأشباحاً للنفس الملكوتية الطاهرة. أولئك هم أنوار العالم , وهم متمّمو نقصان الوجود.
كلمة في شعره - فسدت معاني الشعر العربيّ , قبل فساد ألفاظه , بزمنٍ طويلٍ عهدهُ , فخرج بالشعر كثير من ذوي القرائح عن غايتهِ , وانقلبوا خرَّاصين قوَّالين ما لا يفعلون , غالينَ في المدح , وتأليهِ العظماء , وإكبار الجبَّارين. وقد أكتسبهم بالمال عشّاق الشهرة والمجد الباطَلين , فأفسدوا فطرتهم. على أنه لم تخلُ تلك الفَتَرات من نبيٍّ للشعراء يرسل كأبي العلاء ابن المعرّة. وقد كانت ألفاظ ذلك الشعر عامرةً على فساد معانيه. ثم جاءَ دور الألفاظ فأفسدها ابن نباتة والقيراطي وابن حُجة والصفدي والحّلي صفي الدين , بصناعتهم
اللفظية؛ فعاد الشعر العربي , من جهة المعاني , مدحاً ورثاء كلهما كذب وإغراق , ومن جهة الألفاظ , كلماتٍ مهملة أو معجمة , يتأمل كيف يضع الشاعر بعضها إلى بعض , أو كيف يقابل بعضها ببعض , ناسياً أن ليس الشعر إلاَّ لحناً جميلاً تؤلفهُ الأرواح الشاعرة , أو أنهُ ليس إلاَّ روحاً تبعثها ألحان الضمائر , وهي منقطعة إلى مناجاة الله والطبيعة. ويمتاز شعرُ مَن نحن بصددهِ , برجوعهِ إلى حقيقة الشعر في الأكثرِ إن من جهة الألفاظ , وإِن من جهة المعاني. أما الألفاظ فإنها السهلة الجزلة , تجمع إلى الرقة المتانة , ونظمها يحوز إلى فخامة التأليف , وجلال التركيب , جمال الأساليب. وأما معانيهِ فإنها في الأغلب وصفٌ وتصوير , وتجسيمٌ للخواطر , ونعت الطبيعة , ولهجة شديد في العشق , وفي الحب والأحباب. وإذا تصفحتَ مجموع شعره رأيتَ سفرَ دموعٍ وعواطف , ووجدت ثمة ديانة الشعراء , وأهازيج الأرواح , وتهليلاً وتسبيحاً يتضاعد من عالم النفس , إلى عالم الحس؛ ويشهد على سلوكه ومذهبه في المحبة الخالصة مثلُ قوله:
والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجتْ عليهِ عروقي
وقوله:
إني اتخذتُ هواهمُ حَسبَاً ... أُعزى إليهِ , وحبَّهم شَرعا
وقوله في موشح:
ليت دين الحبّ لما عرَفا ... لم تقُم بيعتُهُ في عُنُقي
وقوله:
لستُ أنسى عهدكَ الماضي وإنْ ... مرَّ بالعينِ خيالاً لستُ أنسى
طفتُ سَبعاً حولَ مغناك كما ... قمتُ أقضي الصلواتِ الخمس خمسا
فها أنت ترى نوعاً من عبادة السالكين الذين تجردوا عن الاتصال بالمادَّة , وأصبحوا أرواحاً محصنة حائمة حول سراج الحقيقة , حيامَ الفراش على النار. ولماذا تودّ اللحاق بالحقيقة؟؟ لأنها للحقيقة خلقت , ومن الحقيقة بدأت , وإلى الحقيقة تعود. ولست أدري ماذا كان يلمُّ بهذا الشاعر حين ينقطع إلى التأمل في جمال الطبيعة؛ أكانت الطبيعة تنقطع إلى شهوده , فتجدهُ مظهراً من مظاهرها الجميلة , وتكاشفهُ , فتفيض أسرارها الغامضة على لسانه؟ بلى! وأنهُ لسانٌ ناطق للطبيعة , فقد كان مرأى الأزهار يؤثر فيهِ , وخطرانُ
الغصون الميس يعبث بلبّه , فيحملهُ على أن يقول:
يا بانة الجزعِ , لا والنازلين بهِ , ... ما كنتِ عارفةً لولاهمُ الهيفا
ويقول:
مالتْ فقلتُ لها يا بانةُ اعتدلي ... وإن جُبلت على التعطافِ والميَلِ
ويقول:
وذكرت في ذي البان ميسَ قدودِهم=فطفقتُ من شغفٍ أضمّ غصونَهُ
ويظهر من لهجتهِ في شعره , إنهُ كان شديد التمسك بمبدإهِ الحب تمسكاً يمثّل له أن الهلاك والحيرة منجاة وهدًى فيهِ , وإن طغيانه عليهِ عدل وإنصاف تلزم معهما الطاعة. فتراه يقول:
منَح الصبابةَ أضلُعاً وفؤادا ... وعصتُهُ سلوة مُقصرٍ فتمادى
وطغى عليهِ الحبُّ وهو أميرهُ ... فأطاعَ جامح قلبه وانقادا
وربما أصيب , كدأب الحائرين من هذه الطائفة المعذبة , بمن لا عاطفة , بل لا قلب له , فيطعن في سلوكهِ , فيضطران أن يواجه هؤلاء بمثل قوله:
يا عاذِليَّ في الهوى تورَّعوا ... واطَّرِحوا نفسي ومَن تيَّمها
قالوا الغرام مهلكٌ قلتُ لهم ... ما عيشتي إن لم أكن مغرمَهَا
وقوله:
يا لائميَّ ليومَ في حُبّهِ ... مهلاً فما شانكما شأني
هاموا هيامي فيكَ لو أنهم ... قد عرفوا مَعناكَ عُرفاني
شعره - وقد آن لنا أن نُثبت شيئاً من شعره؛ فهو الذي يقول:
لُح كوكباً , وامشِ غصناً , والتفتْ ربما ... فإِنْ عداكَ اسمُها لمَ تعدكَ السيما
وجهاً أغرَّ وجيداً زانهُ جيَدٌ ... وقلمةً تخُجلُ الخطّيَ تقويما
يا مَن تجلُّ عن التمثيلِ صورتهُ ... لأنتَ مثَّلتَ روحَ الحسنِ تجسيما
لو أبصرتك النصارى في كنائسها ... مُصوَّراً ربَّعتْ فيكَ الأقانيما
نطقتُ بالشعر سحراً فيكَ حين غدا ... هاروتُ طرفكَ ينشي السحرَ تعليما
إذا سفرتَ تولّى المتقي صنماً ... وإن نظرتَ توقّى الضيغمُ الريما
من لي بألمي , نعيمي بالعذاب بهِ ... والحبُّ أن تجد التعذيبَ تنعيما
ألقى الوشاحَ على خصرٍ توهَّمهُ ... وكيف وشّحَ بالمرئيِّ موهوما
أشيمُ برقَ ثناياه فيوهمني ... تألّق البرقِ نجديّاً إذا شيما
يا نازلي الرمل من نجدٍ أُحبكُم ... وغن هجرتم ففيما هجركم فيما
هل توردون ظماَء عذبَ مائكم ... أم تُصدرون الأماني حُوَّماً هيما
لي بَينكم , لا أطالَ اللهُ بينكُم , ... غضيضُ طرفٍ يردُّ الطرف مسجوما
أنا رضيعُ هواهُ منذ نشأتهِ ... ونشأتي لن تروني عنهُ مفطوما
يا جائراً وعلى عمدٍ أحكّمهُ ... أعدلْ وجُرْ بالذي ولاّك تحكيما
حرَّمتَ وصلي كما حلَّلتَ مقتلتي ... صدَّقتُ شرعكَ تحليلاً وتحريما
ولهُ:
دموعي وهيَ حمرٌ مُرسَلاتُ ... وشت بي عند أهلِكَ لا الوشاة
أتنكرُ يا أخا القمرين لثمي ... وفي شفتيكَ من شفتيِ سماتُ
فلو نزعتْ لحاظُك عن قسيٍّ ... لما اختارتْ سواهنَّ الرماة
فسلْ كبدي ففي كبدي سهامٌ ... بأهدابِ الجفون مُرّيشاتُ
وسلْ عطيفكَ كم طعنا فؤادي ... إذا علمتْ بموقعها القناةُ
أتحكي السمرُ قدَّك باعتدال ... وما ثُقّفتَ وهيَ مثقَّفاتُ
وله:
يا غزالَ الحِمى , وقلتُ غزالاً , ... حين أبصرتُ في ضلوعي كناسا
حسبوا غنجَ مقلتيكَ نعاساً ... ومن الغنج ما يكونُ نُعاسا
مَن كسا خدَّك الشقيق كساني ... من بَهارِ الضَّنا عليكَ لباسا
فاسقني , لا عطشتَ , ثغراً وريقاً ... يومَ تسقي النديمَ خمراً وكاسا
وارعَ لي ذمةً لديكَ وعهداً ... يومَ تنسى العهودَ أو تتناسى
هبْ جميع الورى أحبّتك حبي ... غير أني قاسيتُ ما لا يقاسي
وله:
خطرتْ فجدَّ وشاحُها بخفوق ... فكأنها اتشحتْ بقلب مشوقِ
وعلى الدلالِ تماسكتْ فتلاعبتْ ... كفُّ الصِبّي بقوامِها الممشوقِ
شربتْ بوجنتِها دمي واستخدمتْ ... لخضاب أنملها دَمَ الراووقِ
قمنَ الولائدُ إذ تهبُّ من الكرى ... من حولِ واضحةِ كنارِ فريقِ
وضفرنَ جثلاً من أثيتِ عتاكلٍ ... نُضّدنَ فوق المتن نضدَ عذوقِ
الحسنُ حوزتُها ولكن غيرُها ... بالمستعار أتى أوِ المسروقِ
والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجت عليهِ عروقي
يا أسمَ جادكم السحابُ إذا سرى ... متجلّلاً برواعدٍ وبروقِ
جون إذا احتلب المهبّ ضروعَهُ ... هدرتْ رواعدُهُ هدير فنيقِ
إني وثقتُ بحبكم فتكاثرت ... عللٌ تُقلّلهُ فقلَّ وثوقي
وله:
شمس الحميَّا تجلّت في يَدِ الساقي ... فشعَّ ضوءُ سناها بين آفاقِ
سترتُها بفمي كي لا تنمَّ بنا ... فأجَّجت شعلةً ما بين آماقي
خُذْها كواكب أكوابٍ ويشفعُها ... ما يحتسي الطرفُ من أقداحِ أحداقِ
وبتُّ أُسقي وباتتْ وهيَ ساقيتي ... نحسو الكؤوسَ ونسقي الأرض بالباقي
ضممتُها فتثّنت وهي قائلةٌ ... بالغنج مهلاً لقد كسَّرتَ أطواقي
مسودَّةُ الشعر لولا ضوءُ غُرّتها ... لما هدتني إليها غيرُ أشواقي
يهدي غليكَ بمرآها ومسمعِها ... جمال يوسف في ألحانِ إسحاق
وقال:
للهِ يومَ وداعِهم من عُصبةٍ ... وقفتْ وقد سَرتِ الجمالُ وخادا
وَقفتْ بهم أقدامُهم إن يركضوا ... أثرَ النياقِ فاركضوا الأكبادَا
فوق الركائبِ أنجمٌ لا تجتلي ... ورياض حسنٍ تمنعُ الرُّوادا
عَربٌ , معاطفُ غيدِهم ورماحهم ... سيَّانِ , كلٌّ ينثني ميَّادا
بعثوا الخيالَ , وما رقدتُ , وليتَهم ... بعثوا إليَّ مع الخيالِ رُقادا
أُحيي الدُّجى أرَقاً كأنَّ نواظري ... خُلقتْ محاجرها قذى وسُهادا
بذمامِ ذيَّاكَ الغزالِ حشاشةٌ ... أُسرتْ ولم يَقبل فدىً فتُفادى
يا غارساً بالجزع روضة حسنهِ ... ومخيفَ رائدها قناً وصعادا
كَنّيتُ عنكَ بمن سواك مُوريّاً ... بهوى سعادَ وما هويتُ سُعادا
أعرضتَ عني وادَّعيتَ مودّتي ... أرأيتَ إعراضاً يكون ُ ودادا
إني لأسترُ عِفتي بخلاعةٍ ... وأرومُ فيما أنتحيهِ مُرادا
والضدُّ قد يبدو بمظهرِ ضدِّهِ ... أوَ ما ترى نورَ العيونِ سوادا
يا رَبعَ لذَّاتي ومربعَ جيرتي ... حيَّا معاهدَك الغمامُ وجادا
لا أبتغي للوصلِ فيكَ نهايةَ ... أبداً ولا للعيشِ فيك نَفادا
لا والذي سَمَكَ السمواتِ الغلي ... وأقامهنَّ وما أقامَ عمادا
لا أرتضي غيرَ الأكارم معشراً ... يوماً ويوماً ولا غير العراقِ بلادا
وقال:
ومودّعٍ للركب ودَّ بأنهُ ... لو قد أسألَ عن الفؤادِ شؤونَهُ
لم تقطع الإظعان ميلاً في السُرى ... إلاّ وكحّل بالسُهادِ جفونَهُ
قطعتْ بهم سهلَ الغميم وَحزَنهُ ... فسقى الغميمُ سهولَهُ وحزونَهُ
فترى الدموعَ تخالُها بحراً طمي ... وترى الحمولَ تخالهنَّ سفينهُ
يا قلبُ حسبكَ بالغرامِ رهينةً ... شطَّ الغريمُ ومما قضاكَ ديونهُ
فلأُنهكنَّ القلبَ من حسراتهِ ... يوم الترحّل أو يُجنَّ جنونهُ
قالوا أشابَ البينُ مفرقَ رأسهِ ... كلاّ ولكن قد أشابَ عيونهُ
وذكرتُ في ذي ألبان ميسَ قدودِهم ... فطفقتُ من شغفٍ أضمُّ غصونهُ
وقال:
يا ساكني الزوراءِ حسبُكُم النَّوى ... فلقد وهي جلدي بكم وتجلّدي
أمُرَ ضْتموني بالبعادِ وإنما ... أقصى شقائي أن أراكم عُوَّدي
كثرتْ عليَّ النائحاتُ صوارخاً ... إن لم أكثّرْ في هَواكم حُسَّدي
موَّهتُ عنكِ بلَعلعٍ وبحاجر ... ولأنتِ من تلك العبارة مقصدي
فليحلُ بالزوَراء عيشُكِ سائغاً ... إني أغصُّ بكلّ عيشٍ أرَغدِ
وليهنِ أعينَكِ الرُّقادُ فإنَّ لي ... عيناً إذا رَقد الملا لم ترقدِ
إِن أسلمتكِ يدُ الغرام فإِنني ... مُلقىً بقبضتهِ أروحُ وأغتدي
وله من قصيدة:
أجدّك علّمني لوصلك حيلةً ... فأنتَ الذي علَّمتني الهيَمانا
وهبْ أنَّ سمعي قانغٌ بحديثكم ... أللعينِ مَعنىً أو تراكَ عيانا
إلى النزوانِ العيسُ تلوي أعنَّةً ... وهيهاتِ ليست تملكُ النَّزوانا
وليست تشيم البرقَ من أبرق الحمى ... بلى! قد تشمُّ الشيح والعَلَجانا
فيا أخويَّ المدَلجينِ كليهما ... إذا جزتما الجرعاء فانتظرنا
ويا صاحبي لا تلوِ عنها مُعرِّجاً ... هلمَّ لنَلقى من نحبُّ كِلانا
وقمْ نجتلي النارَ التي قال خابطٌ ... من الناس حسبي أن رأيتُ دخانا
وإن لمعتْ فاقصد لمشرقِ ضوئها ... وأمَّ شروقَ الضوءِ لا اللمَعانا
وله:
وإن أقضي بحبكِ مستهاماً ... فكم قبلي قضى صبٌ معَّنى
قضى القيسَانِ قبليّ: قَيسُ ليلى ... من الهجِ الطويلِ وقيسُ لبنى
هذا وقد أثبتُّ كل ما مرّ إشارة بذكر أديب دقَّ خطرُه , وتطلَّس أثرُه , لنبوغه بين قومٍ لا يحتفون بنابغة , ولا يحتفلون بنبيل , فحَمله استخفافهم بالشعر وذويه على الإشاحة عنهُ بوجهه , ودعاهُ اهتضامهم للأدب وأهله , إلى الإضراب عن معاناته , فانصرف منذ عهدٍ بعيد عن قرض الشعر , لولا ذلك لعُدَّ اليوم في صفّ المتفوّقين من غواة هذا الفنّ الجميل , وقليلٌ ما هم
النجف
محمد رضا الشبيبي
الزهور رأى القراء في شعر الشيخ الحبوبي وفي ما نشرته هذه المجلة سابقاً عن أدباء العراق أن تلك الأصقاع شعراء مجيدين يذكروننا بأسلافهم فحول شعراء العرب. فنشكر لكاتب هذه المقالة أنه عرّف على أدبائنا اليوم واحداً من هؤلاء الشعراء النابغين.
الزهور
المرء روح خفيٌّ لست تنظره ... إلاَّ بمرآتهِ من هذه الصوّرِ
غن المرء ظاهره عنوان باطنه ... فهاكُم عن فؤادي أصدقَ الخبرِ
* الكتاب: مجلة «الزهور» المصرية
أسسها: أَنْطُون الْجُمَيِّل والشيخ أمين تقي الدين
الناشر: دار صادر (تصويرا عن: مطبعة المعارف بشارع الفجالة - مصر)
عام النشر: صدرت من 1910 - 1913 م