نقوس المهدي
كاتب
(المحبة جنس والعشق نوع:
مسألة: ما الفرق بين المحبة والعشق؟
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
واعلم أن المحبة جنس والعشق نوع فإن الرجل يحب أباه وابنه،
ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه بخلاف العاشق.
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن محمد بن يزيد المبرد قال سمعت الجاحظ يقول كل عشق يسمى حبا وليس كل حب يسمى عشقا لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
(أسباب العشق:
مسألة: ما هو أسباب العشق؟
وبعد أن تبين خطر العشق، وعظيم جنايته، وكثرة الأضرار الناجمة عنه، والمظالم الحاصلة من جرائه، لا بد من الوقوف على الأسباب الحاملة على العشق، والمحركة له؛ ذلك أن العشق ينشأ، ويثور إذا وجدت محركاته ومهيجاته؛ فهناك أسباب تثير العشق، وتبعثه، بل وتسوق إليه سوقاً، وتجر إليه جراً.
(1) التثبت في النظر ومعاودته:
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه وأكثر أسباب المصادفة النظر «ولا يكون ذلك باللمح بل بالتثبت في النظر ومعاودته»، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس ورامت القرب منه ثم تمنت الاستمتاع به فيصير فكرها فيه وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا وشغلها كله به فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى وكلما قويت الشهوة البدنية قوى الفكر في ذلك.
(2) سماع الغزل والغناء:
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
ومن أسباب العشق سماع الغزل والغناء فإن ذلك يصور في النفوس نقوش صور فتتخمر خميرة صورة موصوفة ثم يصادف النظر مستحسنا فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف. أهـ
(3) الإعراض عن الله عز وجل: ذلك أن في الله عوضاً عن كل شيء، وأن من عرف الله عز وجل جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.
(4) الجهل بأضرار العشق: وقد مر شيء من أضراره؛ فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.
(5) الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق.
[*] (قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: وما كان العشق إلا لأرعنَ بطال، وقلَّ أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة؛ فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية؟ ( 1).
[*] (وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: شُغل قلب فارغ ( 2).
وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة ( 3).
وقال أرسطو: العشق جهل عارض، صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة ( 4).
وقال غيره: هو سوء اختيار صادف نفساً فارغة ( 5).
ومن الفراغ أيضاً فراغ القلب من محبة الله عز وجل.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه؛ فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ( 6).
(6) وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة؛ فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلي الهاوية إذا هي انحرفت؛ فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم.
وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح، وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية؛ حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منوالة.
وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية؛ فهي الترجمان الناطق عملياً لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة ( 1).
(7) التقليد الأعمى: فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق.
وربما رأى من حوله يبثون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة؛ فترى هذا الغِرَّ يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمضه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعراً.
وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعز خلاصه، ويصعب استنقاذه.
ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى:
أول العشقِ مزاحٌ وولع ... ثم يزداد فيزداد الطمع
كلُّ مَنْ يهوى وإن عالت به ... رتبة الملك لمن يهوى تبع ( 2)
وقيل:
تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لُجَّةً ظنها موجةً ... فلما تمكَّن منها غرق
ولما رأى أدمعاً تُستهلُّ ... وأبصر أحشاءه تحترق
تمنى الإفاقة من سكره ... فلم يستطعها ولم يستفق ( 3)
(8) الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه؛ حيث يُظن أنْ لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادراً في غيه، لا يكاد يفيق من سكره.
فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقَّةٍ، وظرفٍ، ولطافة، وكرم ونحو ذلك.
ومن لم يعشق ويحب ذلك الحب فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خالٍ من العواطف، متجرد من الفضائل، كما قال قائلهم:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى ... فكن حجرا من جامد الصخر جلمدا ( 1)
وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعَيْر في الفلاة سواء ( 2)
وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فمالك في طيب الحياة نصيب ( 3)
ولا ريب أن المتجرد من عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل.
ولكنَّ حصرَ الحبِّ والعشق في زاوية حب الصور المحرمة جهل وانحراف؛ ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعم، وصوره أشمل.
وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها؛ فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه.
بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله عز وجل فهو أصل المحاب المحمودة، بل وكل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن الله تعالى أو تنقصها؛ فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق.
فمحبة الله عز وجل أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
و المحبة مع الله أصل الشرك، والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها ( 4).
(وقال في موضع آخر متحدثاً عن فضل محبة الله عز وجل: ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه؛ فيوحِّد محبوبه، ويوحِّد حبه.
فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ حتى يبذلها له؛ فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله؛ فلا يحب إلا لله ( 1).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبةُ رسوله هي من محبته، ومحبةُ المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله، مُضعفة لها، وتَصْدُقُ هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.
ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر_كان الله أحبَّ إليه من نفسه.
وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً.
وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان ( 2).
(وقال: والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً مثاباً عليه، وذلك أنواع:
أحدها: محبة القرآن؛ بحيث يَغْنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومرادِ المتكلم سبحانه منه.
وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه؛ فمن أحب محبوباً أحب كلامه ( 1).
(وقال: وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته؛ فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه؛ فيحتاج إلى من يذكِّره.
وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه؛ فعشق ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق.
وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق.
ولو صور العلم صورة لكان أجمل من صورة الشمس والقمر.
ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية، كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السماوية الزكية، لا الأرواح الأرضية الدنية.
فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده، واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيء من الآفات المذكورة ( 2).
وصدق من قال:
ونفاسة الأشياء في غاياتها ... فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا ( 3)
(9) الاغترار ببعض الأقوال التي تبيح العشق: فبعض الناس قد يستهين بشأن العشق، بحجة إباحته، وترخُّص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق وذكر قصصهم وأخبارهم، أو بحجة أن بعض أهل الفضل قد وقع في أشراك العشق، أو بحجة أن للعشق بعض الفضائل حيث ذكر بعضهم أنه يزيد في رقة الطبع، وترويح النفس، وخفتها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من نحو الشجاعة، والكرم، والمروءة، ورقة الحاشية، وغير ذلك مما ذكر ( 4).
ومن ثم يقع في العشق من يقع، ثم يلاقي ويلاته ومراراته.
والجواب على ما مضى أن تلك الإيرادات والأقوال لا تقوم بها حجة؛ فالقول بإباحته، ونقل ذلك عن السلف قول غير مقبول؛ لأن الناقلين ذلك عنهم اتكأوا على نقولٍ لا تصح، أو نقولٍ لا تدل على ما ذهبوا إليه.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شأن تلك النقول: وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام، أحدها: نقول صحيحة لا حجة لكم فيها.
والثاني: نُقولٌ كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق الفجار كما سنبينه.
الثالث: نُقولٌ مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه ( 5).
ثم شرع رحمه الله في تفصيل ذلك.
وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني مسألة عن العشق، وحكم مواصلة العاشق للمعشوق، وكان السؤال شعراً مكتوباً في رقعة، فأجابه أبو الخطاب قائلاً:
يا أيها الشيخ الأديب الذي ... قد فاق أهل العصر في شعره
ثم قال:
من قارف الفتنة ثم ادعى الـ ... ـعصمة قد نافق في أمره
ولايجيز الشرعُ أسباب ما ... يورِّط المسلمَ في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى ... عساك أن تسلم من شره
هذا جواب الكلوذانيِّ قد ... جاءك يرجو الله في أجره ( 1)
وسئل ابن الجوزي بأبيات عن جواز العشق مطلعها:
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد
فأجابه ابن الجوزي قائلاً:
يا ذا الذي ذاب من الوجد ... وظلَّ في ضر وفي جهد
اسمع فدتك النفسُ من ناصحٍ ... بنصحه يهدي إلى الرشد
إلى أن قال:
وكل ما تذكر مستفتياً ... حرَّمه الله على العبد
إلا لما حلَّله ربنا ... في الشرع بالإبرام والعقد
فَعَدِّ من طُرْق الهوى معرضاً ... وقف بباب الواحد الفرد
وسَلْهُ يشفيك ولا يبتلي ... قلبك بالتعذيب والصد
وعف في العشق ولا تبده ... واصبر وكاتم غاية الجهد
فإن تمت محتسباً صابراً ... تَفُزْ غداً في جنة الخلد ( 2)
وأما من احتج على جواز العشق بترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم فيقال له: إنما كان ذلك منهم من باب الاستشهاد، وتصوير الحال، ثم بعد ذلك يوقفون القارىء على الحكم في هذه المسألة، كما في صنيع ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (ذم الهوى) وابن القيم رحمه الله تعالى في (الجواب الكافي)، و (روضة المحبين) وغيرها من كتبه.
بل إن ابن حزم رحمه الله تعالى لما ألف كتابه (طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف) وذكر فيه طرائق أهل العشق قال في آخره: وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان، ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه استغفارَ مَنْ يعلم أن كلامه من عمله.
ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو ( 3).
وقال رحمه الله تعالى على سبيل الوعظ:
رأيت الهوى سهل المبادي لذيذَها ... وعقباه مر الطعم ضنك المسالك
ومن عرف الرحمن لم يعصِ أمرَه ... ولو أنه يعطي جميع الممالك ( 4)
وأما من ابتلي بالعشق من أهل الفضل فغاية أمره أن يكون ذلك من سعيه المعفو المغفور، لا من سعيه المبرور المشكور.
وإن كان لم يكتم في عشقه كان ذلك منقصة في حقه؛ إذ أعان بذلك على أن يتسلط الناس على عرضه، ويشمتون به ( 5).
وليس في ذلك حجة لمن أراد أن يقتدي به، وإن كان لأحد رغبة في الاقتداء بذلك الفاضل فليكن في أي جانب من جوانب فضله، لا في الجانب الذي يعد زراية به.
وأما القول بأن للعشق فضائل كما ذكر قبل قليل فيقال: بأن هذه الفضائل تحصل في العشق بمفهومه الشامل كما ذكر في فقرة سابقة.
ولو فرض أن هذه المنافع تحصل بالعشق المعهود لما أَرْبَتْ على مفاسده ومضاره، وما كان ضرره أكثر من نفعه فالمتعين تحريمه، وتركه، وتجنب السبل المفضية إليه.
وقد يستدل بعضهم على جواز العشق وإباحته بحديث: من عشق، فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً.
وهذا الحديث باطل موضوع كما بين ذلك العلماء ( 1).
* الكتاب: فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب
المؤلف: محمد نصر الدين محمد عويضة
مسألة: ما الفرق بين المحبة والعشق؟
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
واعلم أن المحبة جنس والعشق نوع فإن الرجل يحب أباه وابنه،
ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه بخلاف العاشق.
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن محمد بن يزيد المبرد قال سمعت الجاحظ يقول كل عشق يسمى حبا وليس كل حب يسمى عشقا لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
(أسباب العشق:
مسألة: ما هو أسباب العشق؟
وبعد أن تبين خطر العشق، وعظيم جنايته، وكثرة الأضرار الناجمة عنه، والمظالم الحاصلة من جرائه، لا بد من الوقوف على الأسباب الحاملة على العشق، والمحركة له؛ ذلك أن العشق ينشأ، ويثور إذا وجدت محركاته ومهيجاته؛ فهناك أسباب تثير العشق، وتبعثه، بل وتسوق إليه سوقاً، وتجر إليه جراً.
(1) التثبت في النظر ومعاودته:
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه وأكثر أسباب المصادفة النظر «ولا يكون ذلك باللمح بل بالتثبت في النظر ومعاودته»، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس ورامت القرب منه ثم تمنت الاستمتاع به فيصير فكرها فيه وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا وشغلها كله به فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى وكلما قويت الشهوة البدنية قوى الفكر في ذلك.
(2) سماع الغزل والغناء:
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
ومن أسباب العشق سماع الغزل والغناء فإن ذلك يصور في النفوس نقوش صور فتتخمر خميرة صورة موصوفة ثم يصادف النظر مستحسنا فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف. أهـ
(3) الإعراض عن الله عز وجل: ذلك أن في الله عوضاً عن كل شيء، وأن من عرف الله عز وجل جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.
(4) الجهل بأضرار العشق: وقد مر شيء من أضراره؛ فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.
(5) الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق.
[*] (قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: وما كان العشق إلا لأرعنَ بطال، وقلَّ أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة؛ فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية؟ ( 1).
[*] (وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: شُغل قلب فارغ ( 2).
وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة ( 3).
وقال أرسطو: العشق جهل عارض، صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة ( 4).
وقال غيره: هو سوء اختيار صادف نفساً فارغة ( 5).
ومن الفراغ أيضاً فراغ القلب من محبة الله عز وجل.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه؛ فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ( 6).
(6) وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة؛ فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلي الهاوية إذا هي انحرفت؛ فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم.
وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح، وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية؛ حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منوالة.
وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية؛ فهي الترجمان الناطق عملياً لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة ( 1).
(7) التقليد الأعمى: فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق.
وربما رأى من حوله يبثون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة؛ فترى هذا الغِرَّ يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمضه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعراً.
وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعز خلاصه، ويصعب استنقاذه.
ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى:
أول العشقِ مزاحٌ وولع ... ثم يزداد فيزداد الطمع
كلُّ مَنْ يهوى وإن عالت به ... رتبة الملك لمن يهوى تبع ( 2)
وقيل:
تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لُجَّةً ظنها موجةً ... فلما تمكَّن منها غرق
ولما رأى أدمعاً تُستهلُّ ... وأبصر أحشاءه تحترق
تمنى الإفاقة من سكره ... فلم يستطعها ولم يستفق ( 3)
(8) الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه؛ حيث يُظن أنْ لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادراً في غيه، لا يكاد يفيق من سكره.
فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقَّةٍ، وظرفٍ، ولطافة، وكرم ونحو ذلك.
ومن لم يعشق ويحب ذلك الحب فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خالٍ من العواطف، متجرد من الفضائل، كما قال قائلهم:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى ... فكن حجرا من جامد الصخر جلمدا ( 1)
وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعَيْر في الفلاة سواء ( 2)
وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فمالك في طيب الحياة نصيب ( 3)
ولا ريب أن المتجرد من عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل.
ولكنَّ حصرَ الحبِّ والعشق في زاوية حب الصور المحرمة جهل وانحراف؛ ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعم، وصوره أشمل.
وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها؛ فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه.
بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله عز وجل فهو أصل المحاب المحمودة، بل وكل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن الله تعالى أو تنقصها؛ فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق.
فمحبة الله عز وجل أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
و المحبة مع الله أصل الشرك، والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها ( 4).
(وقال في موضع آخر متحدثاً عن فضل محبة الله عز وجل: ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه؛ فيوحِّد محبوبه، ويوحِّد حبه.
فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ حتى يبذلها له؛ فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله؛ فلا يحب إلا لله ( 1).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبةُ رسوله هي من محبته، ومحبةُ المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله، مُضعفة لها، وتَصْدُقُ هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.
ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر_كان الله أحبَّ إليه من نفسه.
وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً.
وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان ( 2).
(وقال: والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً مثاباً عليه، وذلك أنواع:
أحدها: محبة القرآن؛ بحيث يَغْنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومرادِ المتكلم سبحانه منه.
وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه؛ فمن أحب محبوباً أحب كلامه ( 1).
(وقال: وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته؛ فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه؛ فيحتاج إلى من يذكِّره.
وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه؛ فعشق ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق.
وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق.
ولو صور العلم صورة لكان أجمل من صورة الشمس والقمر.
ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية، كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السماوية الزكية، لا الأرواح الأرضية الدنية.
فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده، واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيء من الآفات المذكورة ( 2).
وصدق من قال:
ونفاسة الأشياء في غاياتها ... فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا ( 3)
(9) الاغترار ببعض الأقوال التي تبيح العشق: فبعض الناس قد يستهين بشأن العشق، بحجة إباحته، وترخُّص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق وذكر قصصهم وأخبارهم، أو بحجة أن بعض أهل الفضل قد وقع في أشراك العشق، أو بحجة أن للعشق بعض الفضائل حيث ذكر بعضهم أنه يزيد في رقة الطبع، وترويح النفس، وخفتها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من نحو الشجاعة، والكرم، والمروءة، ورقة الحاشية، وغير ذلك مما ذكر ( 4).
ومن ثم يقع في العشق من يقع، ثم يلاقي ويلاته ومراراته.
والجواب على ما مضى أن تلك الإيرادات والأقوال لا تقوم بها حجة؛ فالقول بإباحته، ونقل ذلك عن السلف قول غير مقبول؛ لأن الناقلين ذلك عنهم اتكأوا على نقولٍ لا تصح، أو نقولٍ لا تدل على ما ذهبوا إليه.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شأن تلك النقول: وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام، أحدها: نقول صحيحة لا حجة لكم فيها.
والثاني: نُقولٌ كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق الفجار كما سنبينه.
الثالث: نُقولٌ مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه ( 5).
ثم شرع رحمه الله في تفصيل ذلك.
وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني مسألة عن العشق، وحكم مواصلة العاشق للمعشوق، وكان السؤال شعراً مكتوباً في رقعة، فأجابه أبو الخطاب قائلاً:
يا أيها الشيخ الأديب الذي ... قد فاق أهل العصر في شعره
ثم قال:
من قارف الفتنة ثم ادعى الـ ... ـعصمة قد نافق في أمره
ولايجيز الشرعُ أسباب ما ... يورِّط المسلمَ في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى ... عساك أن تسلم من شره
هذا جواب الكلوذانيِّ قد ... جاءك يرجو الله في أجره ( 1)
وسئل ابن الجوزي بأبيات عن جواز العشق مطلعها:
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد
فأجابه ابن الجوزي قائلاً:
يا ذا الذي ذاب من الوجد ... وظلَّ في ضر وفي جهد
اسمع فدتك النفسُ من ناصحٍ ... بنصحه يهدي إلى الرشد
إلى أن قال:
وكل ما تذكر مستفتياً ... حرَّمه الله على العبد
إلا لما حلَّله ربنا ... في الشرع بالإبرام والعقد
فَعَدِّ من طُرْق الهوى معرضاً ... وقف بباب الواحد الفرد
وسَلْهُ يشفيك ولا يبتلي ... قلبك بالتعذيب والصد
وعف في العشق ولا تبده ... واصبر وكاتم غاية الجهد
فإن تمت محتسباً صابراً ... تَفُزْ غداً في جنة الخلد ( 2)
وأما من احتج على جواز العشق بترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم فيقال له: إنما كان ذلك منهم من باب الاستشهاد، وتصوير الحال، ثم بعد ذلك يوقفون القارىء على الحكم في هذه المسألة، كما في صنيع ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (ذم الهوى) وابن القيم رحمه الله تعالى في (الجواب الكافي)، و (روضة المحبين) وغيرها من كتبه.
بل إن ابن حزم رحمه الله تعالى لما ألف كتابه (طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف) وذكر فيه طرائق أهل العشق قال في آخره: وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان، ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه استغفارَ مَنْ يعلم أن كلامه من عمله.
ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو ( 3).
وقال رحمه الله تعالى على سبيل الوعظ:
رأيت الهوى سهل المبادي لذيذَها ... وعقباه مر الطعم ضنك المسالك
ومن عرف الرحمن لم يعصِ أمرَه ... ولو أنه يعطي جميع الممالك ( 4)
وأما من ابتلي بالعشق من أهل الفضل فغاية أمره أن يكون ذلك من سعيه المعفو المغفور، لا من سعيه المبرور المشكور.
وإن كان لم يكتم في عشقه كان ذلك منقصة في حقه؛ إذ أعان بذلك على أن يتسلط الناس على عرضه، ويشمتون به ( 5).
وليس في ذلك حجة لمن أراد أن يقتدي به، وإن كان لأحد رغبة في الاقتداء بذلك الفاضل فليكن في أي جانب من جوانب فضله، لا في الجانب الذي يعد زراية به.
وأما القول بأن للعشق فضائل كما ذكر قبل قليل فيقال: بأن هذه الفضائل تحصل في العشق بمفهومه الشامل كما ذكر في فقرة سابقة.
ولو فرض أن هذه المنافع تحصل بالعشق المعهود لما أَرْبَتْ على مفاسده ومضاره، وما كان ضرره أكثر من نفعه فالمتعين تحريمه، وتركه، وتجنب السبل المفضية إليه.
وقد يستدل بعضهم على جواز العشق وإباحته بحديث: من عشق، فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً.
وهذا الحديث باطل موضوع كما بين ذلك العلماء ( 1).
* الكتاب: فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب
المؤلف: محمد نصر الدين محمد عويضة