نقوس المهدي
كاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم عونك، جمع الله شملك، ووصل حبلك، ومعتك بأحبتك، وأعطاك مأمولك. في نفسك وأعزتك، وأعاذك من قطيعة أحبابك، وجنبك تجنب أودائك، ولا جعل للهجر عليك سبيلا، ولا للفراق عليك دليلا، لينعم باللذة جسمك، ويعمر بالسرور قلبك، فتعيش في ضمان الفرح، ويبؤ حاسدك باعباء الترح، إنه حميد مجيد فعال لما يريد.
العشق، أدام الله توفيقك، من شرائف أخلاق الفتيان، وكرائم سجايا الشبان، يطلق لسان العيي، ويفتق حيلة البليد، ويبعث على السخاء بما تسمح به نفس الكريم، وينحر دون بذله اللئيم، ويدعو إلى استعمال الفتوة، واظهار المروءة في تنظيف اللباس، وتحسين الرياش، ويجدد حب المساعدة والائتلاف، وكراهة التباين والاختلاف، إلى غير ذلك من محمود الحال، وممدوح الخصال، وإذا رزقت منه نصيبا جزلا فوفه حقه، واسلك به طرقه، وتأمل ما أهديت إليك فيه فإنه يعينك عليه، ويحسن أسبابه لك، ويكبت لائمك فيه، ويكون جلاء لناظرك، وشحذا لخاطرك، إن شاء الله سبحانه وتعالى.
هذا
كتاب المبالغة في
التشبب وأوصاف الحسان
وما يجري مع ذلك وهو
الباب الرابع من كتاب ديوان المعاني
قالوا: أرق بيت قالته القرب قول امرىء القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
يقول: ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشرا أي مكسرا، يقال برمة اعشار إذا كانت مشعوبة، يريد أن قلبه عليل، وأنت تزيدينه علة بسهميك، يعني عينيها، والمقتل المذلل.
ومثله قول الشاعر:
رمتك ابنة البكري عن فرع ضالة ... وهن بنا خوص يخلن نعائما
ولم نسمع للأعشار بواحد.
وأخبرنا أبو أحمد قال حكى لي عن ابن سلام أنه قال أنسب بيت قالته العرب:
ولما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
وقالوا: أنسب بيت قالته العرب قول الآخر:
إذا قلت إني مشتف بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادنا سقما
وأبلغ من هذا قول أبي نواس:
ما يرجع الطرف عنها حين أبصرها ... حتى يعود إليها القلب مشتاقا
وقد أحسن ابن الرومي ولا أعرف في معناه أبلغ منه:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاهاكي تموت حزازتي ... فيشتد ما ألقى من الهيجان
وما كان مقدار الذي بي من الجوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان
فإن فؤادي ليس يشفي رسيسه ... سوى أن ترى الروحان تمتزجان
ومن البليغ في الاشتياق، وما أنشدنا أبو أحمد، عن الصولي، عن الحسين بن إسماعيل:
هبت شمالا فقال من بلد ... أنت به طاب ذلك البلد
وقبل الريح من صبابته ... ما قبل الريح قبل أحد
وأبلغ ما قيل في شدة الحب: قول بعضهم، وقد قيل له ما بلغ من حبك فلانة؟ قال إني أرى الشمس على حيطانها أحسن منها على حيطان جيرانها.
وقال نصر بن الحجاج لامرأة: أحبك حبا لو كان فوقك لأظلك، أو كان تحتك لأقلك، أخذه بشار فقال:
إني لأكتم في الحشى حبا لها ... لو كان أصبح فوقها لأظلها
ويبيت بين جوانحي وجد بها ... لو بات تحت فراشها لأقلها
وقلت:
أحبك يا شبيه الشمس حبا ... تفرد بالتمام فلا تمام
فلم ألقيته ما بين ماء ... ونار كان بينهما التئام
وقال ابن الرومي في اجتماع الأهواء على محبوبه:
سلالة نور ليس يدركها اللمس ... إذا ما بدا أغضى له البدر والشمس
به أمست الأهواء يجمعها هوى ... كأن نفوس الناس في حبه نفس
وقال بشار:
ولست بناس من يكون كلامه ... بأذني وإن غيبت قرطا معلقا
ومن ظريف التشبب أيضا قول ابن المعتز:
كذبت يا من لحاني من مودته ... ما صورة البدر إلا دون صورته
يا رب أن لم يكن في وصله طمع ... ولم يكن فرج من طول جفوته
فاشف السقام الذي في لحظ مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته
ومن الظريف قول كشاجم:
كأن الشفاه اللعس منها خواتم ... من التبر مختوم بهن على الدر
ولا أعرف في وصف الفم أحسن من هذا.
وأحسن ما قيل في حث الشوق، من قديم الشعر، قول عمرو بن شأس الأسدي:
إذا نحن أدلجنا وأنت امامنا ... كفى لمطايانا بذكرنا حاديا
أليس يزين العيس خفة أذرع ... وإن كن حسرى ان تكون اماميا
وأتم من ذلك شرحا قول الآخر:
إذا علقت خبت وإن هي خليت ... لترتع لم ترتع بأدنى المراتع
كأن لديها سائقا يستحثها ... كفى سائقا بالشوق بين الأضالع
ومن جيد ما قيل في ازدياد الشوق على القرب قول الآخر:
صب يحث مطاياه بذكركم ... وليس ينساكم إن حل أو سارا
يرجو النجاة من البلوى بقربكم ... والقلب يلهب في أحشائه نارا
ومن ظرف الأعرابي قوله أنشده المبرد:
وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا عاد قلبي في معاهدها ذكر
وقلت له ولقاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر إن عادتك الصبر
ونحوه قول الآخر:
قد قطع الاحراج أعناق الابل ... فهي تسير سير مشتاق عجل
وقول الآخر وقد ألغز:
إن لها لسائقا خدلجا ... لم يدلج الليلة فيمن أدلجا
وفي خلاف ذلك يقول العباس بن الأحنف:
أيام يقتل شوقها زيارتي ... كالماء يقتل برده عطش الصدى
فأما أجود ما قيل في التذكر على البعد فقول بعضهم:
أذكر أخانا تولى الله صحبته ... إني وإن كنت لا ألقاه ألقاه
الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه
وقلت:
ذكرتهم والنوى بيني وبينهم ... ذكرى الشباب الذي قد كان عاصاني
بل كيف أذكر عهدا لست ناسيه ... هل يعرض الذكر إلا بعد نسيان
ونحوه يقول السري:
غضبان ينساني وأذكره ... وينام عن ليلى وأسهره
وبجوره ماضار مورقه ... حظى وحظ سواي مثمره
وكفى الهوى لو كان مكتفيا ... ما رحت أضمره وأظهره
لم يقتسم في العاشقين أسى ... إلا وحظي منه أوفره
فأصبح في نفس أصعده ... وأعوم في دمع أحدره
ومن مليح ذلك قول بشار:
ولست بناس من يكون كلامه ... بأذني وإن غيبت قرطا معلقا
أجود ما قيل في إخفاء الحركة، عند زيارة المعشوق، من الشعر القديم قول امرىء القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
وأحسن من هذا وأظرف قول وضاح اليمن:
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لاناه ولا زاجر
وهذا أبلغ أيضا، لأن سقوط الندى أخفى من سمو حباب الماء، لأن لسمو حباب الماء صوتا خفيا، ليس ذلك لسقوط الندى وهو من أبيات ظريفة أولها:
قالت ألا لا تلجن دارنا ... إن أبانا رجل غاثر
أما رأيت الباب من دوننا ... قلت فإني واثب ظافر
قالت فإن القصر من دوننا ... قلت فإني فوقه ظاهر
قالت فإن الليث عاد به ... قلت فسيفي مرهف باتر
قالت فهذا البحر ما بيننا ... قلت فإني سابح ماهر
قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافر
قالت فأما كنت أعييتنا ... فأت إذا ما هجع السامر
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لاناه ولا زاجر
ومن مليح ما جاء في هذا المعنى قول المؤمل:
وطارقات طرقنني رسلا ... والليل كالطيلسان معتكر
فقلن جئنا إليك عن ثقة ... من عند خود كأنها قمر
هل لك في غادة منعمة ... يحار فيها من حسنها النظر
في الجيد منها طول إذا التفت ... وفي خطاها إذا مشت قصر
فقمت أسعى إلى محجبة منها البيوت والحجر:
فقلت لما بدا تخفرها ... جودي ولا يمنعنك الخفر
قالت توقر ودع مقالك ذا ... أنت امرؤ بالقبيح مشتهر
والله لا نلت ما تطالب أو ... ينبت في بطن راحتي شعر
لا أنت لي قيم فتخبرني ... ولا أمير علي مؤتمر
قلت ولكن ضيف أتاك به ... تحت الظلام القضاء والقدر
فاحتسبي الأجر في إنالته ... وباشري قد تطاول العسر
قالت فقد جئت تبتغي عملا ... تكاد منه السماء تنفطر
فقلت لما رأيتها حرجت ... وغشيتها الهموم والفكر
لا عاقب الله في الصبا أبدا ... أنثى ولكن يعاقب الذكر
قالت لقد جئتنا بمتبدع ... وقد أتتنا بغيره النذر
قد بين الله في الكتاب فلا ... وازرة غير وزرها تزر
قلت دعي سورة لهجت بها ... لا تحرمن لذاتنا السور
وجهك وجه تمت محاسنه ... لا وأبي لا يمسه سقر
ومثل هذا أصعب ما يرام من الشعر، ولا يكاد يوجد في هذا المعنى أحسن من هاتين المقطوعتين.
ومن أحسن ما عذر به المعشوق في سوء فعله قول كشاجم:
تستدفع الأعين عن حسنها ... بعوذة من سوء أفعالها
وهي من أبيات قليلة النظير:
هل حاكم يعدي على ظبية ... ظالمة في كل أفعالها
دائمة الإعراض عني فما ... يخطر لي ذكر على بالها
صغيرة عظمها حبها ... عندي وأغراني بإجلالها
تستدفع الأعين عن حسنها ... بعوذة من سوء أفعالها
لم أطع العذال فيها وقد ... أصغت إلى أقوال عذالها
تمضي بليل فإذا أقبلت ... أقبلت الشمس بإقبالها
قلت وقد أبصرت حاسرا ... عن ساقها فاضل سربالها
لو لم يكن من برد ساقها ... لا حترقت من نار خلخالها
وقد أحسن في هذا المعنى ولا أظنه سبق إليه.
وقد احسن ابن الرومي في ذكر الخلخال والساق أيضا وهو قوله:
وإذا لبسن خلاخلا ... كذبن أسماء الخلاخل
يقول: لا تخلخل الخلاخل في سوقهن، أي لا تتحرك فقد كذبته أسماؤها، وذلك أن اشتقاقها من التخلخل وهو التحرك.
وفي نحو تقدم قول كشاجم:
وكأن الشمس نيط بها ... قمر يمناه والقدح
صدر إذا مازحته غضبا ... ما على الأحباب إذ مزحوا
وهو لا يدري لنخوته ... أننا في النوم نصطلح
ثم لا أنسى مقالته ... أطفيلي ويقترح
ومن أفراد المعاني قول الشاعر:
وإني لأغضي الطرف عنها تسترا ... ولي نظر لولا الحياء شديد
ونبئتها قالت لقد نلت وده ... وما ضرني بخل فكيف أجود
وقالوا أنسب بيت قالته العرب قول الآخر:
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر
ومن أجود ما قيل في حسن الحبيب، في عين المحبوب، قول عمرو بن أبي ربيعة:
خرجت غداة النحر أعترض الدمى ... فلم أر أحلى منك في العين والقلب
فوالله ما أدري أحسنا رزقته ... أم الحب يعمي مثل ما قيل في الحب
وهو من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " حبك الشيء يعمي ويصم " وأنشدني أبو أحمد، عن الصولي عن أحمد بن سعيد الشامي، عن الزبير بن بكار، لعمر بن أبي ربيعة:
زعموها سألت جاراتها ... وتعرت يوم حر تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسدا حملنه من أجلها ... وقديما كان في الناس الحسد
وأنشدنا عنه قال أنشدنا إسحاق لرجل:
حفلت بصحراء الحجون وناقتي ... لها بين قاع الأخشين حنين
غموسا لقد فضلت في الحسن بسطة ... على الناس أو بي من هواك جنون
وأنكر بعض المحدثين، أن يكون استحسانه لحبيبه لإفراط حبه، أو لجنونه له فيه فقال وأحسن:
حسن والله في عي ... ني وفي كل العيون
قينة بيضاء كالفضة ... سوداء القرون
لم يصبها سقم ق ... ط سوى سقم العيون
لم أصفها بجمال ... لهوى أم لجنون
بل لحسن وجمال ... قول حق ويقين
وقد أبدع الآخر في قوله في المعنى الأول:
يا من يلوم عليه ... أنظر بعيني إليه
فلست تبرح حتى ... تصير ملك يديه
وقد جمع القائل جمعا حسنا في قوله:
وفي أربع مني حكت منك أربع
أجود ما قيل في صفة النساء
من الشعر القديم، ما أخبرنا به أبو أحمد قال: قال ابن سلام أحسن ما قيل في صفة النساء:
كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد
وتشبيه النساء ببيض النعم، تشبيه قديم وهو كثير مشتهر.
قالوا أحسن ما قيل في الوجه، من الشعر القديم قول قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت قناعها ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
مأخوذ من قول النمر بن تولب:
فصدت كأن الشمس تحت قناعها ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وهو أحسن ما قيل في إعراض المرأة، ونقله قيس إلى موضع آخر وزاد فيه فقال:
كان المنى بلقائها فلقيتها ... ولهوت من لهو امرىء مكذوب
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها ... في الحسن أو كدنوها لغروب
أراد في وقتين يمكن الناظر النظر إلى الشمس فيها. ونحو ذلك قول زهير:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة القدر
وفضلها كثير على الشمس فقال وأحسن:
بأبي وأمي أنت من معشوقة ... طبن العدو لها فغير حالها
وسعى إلي بعيب عزة نسوة ... جعل الآله خدودهن نعالها
ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موقف لقضى لها
قوله عند موقف غاية ما يكوم من الإحسان.
ومن أحسن ما قيل في حسن الوجه قول عمر بن أبي ربيعة:
فلما تواقفنا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
وقربن أسباب الهوى لمتيم ... يقيس ذراعا كلما قسن أصبعا
فذكر أنهن لم يتقنعن لحسن وجوههن، أخذه من قول الشماخ:
لها شرق من زغفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرداء المحبرا
ثم تصرف المحدثون في تشبيهه، أي الوجه، بالشمس فقال ابن الرومي:
كالشمس غابت في حمرة الشفق
وزاد أبو النواس فقال في الأمين قبل الخلافة:
تتيه الشمس والقمر المنير ... إذا قلنا كأنهما الأمير
فإن يك أشبها منه قليلا ... فقد أخطاهما شبه كثير
لأن الشمس تغرب حين تمسي ... وأن البدر ينقصه المسير
ونور محمد أبدا تمام ... على وضح الطريقة لا يحور
وقد أحسن الآخر وقد جعل في البدر مشابهة من وجه المرأة فقال:
يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه أم محمد ابنة صالح
أراك تمصح في المحاق وحسنها ... باق على الأيام ليس بماصح
وقال العباس بن الأحنف:
الت ظلوم وما جارت وما ظلمت ... إن الذي قاسني بالبدر قد ظلما
ابدر ليس له عين مكحلة ... ولا محاسن لفظ يبعث السقما
وقال النظام:
مشرقا ملأ العيو ... ن وطرفها ما يستقل
وفى على شمس الضحى ... حتى كأن الليل طل
وزاد الآخر على هؤلاء كلهم فقال:
ذا عتبها شبهتها البدر طالعا ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
ومن أبلغ ما قيل في حسن الوجه من طريقة أخرى قول أبي نواس:
زيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
فذكر أن حسنه يزداد على تكرار النظر، والمعهود في كل شيء نقصانه على كثرة التأمل، ولا يكاد الشيء الرائع يروعك إذا اعتدته.
وقريب منه قول كشاجم:
يضاء يحضر طيب العيش ما حضرت ... وإن نأت عنك غاب اللهو والفرح
كل اللباس عليها معرض حسن ... وكل ما تتغنى فهو مقترح
والمعارضة تتخير للجواري على حسب ألوانهم، فالبيضاء تبرز في المعرض الأحمر والأسود والأزرق والسوداء في الأصفر، فذكر أن هذه تحسن في كل معرض فهو غاية وقريب من المعنى الأول قول كشاجم أيضا:
منعمة يقربهما هواها ... وإن نزحت بمنزلها البلاد
يعاد حديثها فيزيد حسنا ... وقد يستقبح الشيء المعاد
وقال الحماني:
إذا كنت لم أفقد الغائبين ... وإن غبت كنت فريدا وحيدا
تباعد نفس إذا ما بعدت ... فليس تعاود حتى تعودا
وهو من قول أبي النواس:
أشبهك الشيء حسنا فما ... أتمم ذلك حتى تزيدا
وقال بعضهم:
وكلما عدت فيه ... يكون في العود أحمد
وأخبرنا أبو أحمد، عن الصولي عن أبي العيناء، عن الأصمعي، قال: أحسن ما قيل في اللون قول ابن أبي ربيعة:
وهو مكنونة تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
بات يعمي يعالج السهرا ... وراح نشوان يقسم النظرا
أغيد ماء الشباب يرغد في ... خديه لولا أديمه قطرا
وقال ابن الأحنف:
وقد ملئت ماء الشباب كأنها ... قضيب من الريحان ريان أخضر
وقال السري:
ومخطف يهتز عن ماء الصبا ... كأنما يهتز عن ماء العنب
وقلت
ووجه تشرب ماء النعيم ... فلو عصر الحسن منه انعصر
يمر فأمنحه ناظري ... فينشر وردا عليه الخفر
تمتعت العين في حسنه ... فما حفلت بطلوع القمر
وقال ابن المعتز:
يحرك الدل في أثوابه غصنا ... ويطلع الحسن من أزراره قمرا
وقال ابن الرومي:
متعات وجهك في بديهتها ... جدد وفي أعقابها أخر
وقوله:
مخففة مثقلة تراها ... كأن لم يغذ نصفيها الغذاء
إذا الإغباب جدد حسن شيء ... من الأشياء جددها اللقاء
ومثله قوله:
لا شيء إلا وفيه أحسنه ... فالعين منه إليه تنتقل
فوائد العين منه طارقة ... كأنما أخرياتها الأول
وقد أطرف أبو النواس في قوله:
إن اسم حسن لوجهها صفة ... ولا أرى ذا لغيرها اجتمعا
فهي إذا سميت فقد وصفت ... قد يجمع اللفظ معنيين معا
وقد بالغ ذو الرمة في قوله:
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
إلا أنه ذكر خلقها أجمع، والجادب: العائب، هو يقول: إن الذي يعيبها لا يجد عيبا فهو يتعلل. وهو في خبر حسن: أخبرنا به أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد حدثنا عمر بن شبة، حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، حدثني أبو صالح الفزاري، قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب فقال عصمة بن مالك شيخ منهم كان قد بلغ مائة وعشرين سنة - : إياي فاسألوا عنه كان من أظرف بني آدم، خفيف العارضين، حسن الضحك، حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وحبس صوته، فإذا راجعك لم تسأم حديثه وكلامه، وكان له أخوة يقولون الشعر: منهم مسعود وحرفاس وهو أوفي، وهشام وكانوا يقولون القصيدة فيزيد فيها الأبيات فيغلب عليها، فجمعني وإياهم مربع فأتاني يوما وقال لي: يا عصمة إن ميا منقرية وبنو منقر أخبث حي وأقوفه لأثر، وأبصره في نظر، فهل عندك من ناقة نزدار عليها ميا فقلت: أي والله إن عندي للجؤذر قال: علي بها، فركبناها جميعا وخرجنا حتى نشرف على بيوت الحي، فاذاهم خلوف، وإذا بيت مية خلو، فعرف النساء ذا الرمة، فقمن إلى بيت مي، وجئن حتى أنحنا وسلمنا وقعدنا نتحدث، وإذا مي جارية أملود، واردة الشعر، صفراء فيها عسر، وإذا عليها سب أصفر، وطاق أخضر، فتحدثن مليا ثم قلن له: أنشدنا يا ذا الرمة فقال: أنشدهن يا عصمة فأنشدهن قوله:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأوشكت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكى وامق جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه
فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فليجل، فنظرت إليها مي، ثم مضيت في القصيدة إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... عن القلب أتته جميعا عوازبه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله، فقالت مي: خف عواقب الله يا غيلان، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أقول بها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أحاربه
فقالت الظريفة للنساء: إن لهذين لشأنا، فقمن بنا، فقمن وقمت معهن، فجلست في بيت أراها منه فسمعتها قالت له: كذبت والله، وما أدري ما قال لها وما أكذبته، فلبث قليلا ثم جاءني ومعه قارورة، فيها دهن وقلائد، فقال: طيب أتحفتنا به مي وهذه قلائد للجؤذر، ولا والله لا أقلدهن بعيرا، وشدهن بذؤابة سيفه، ثم انصرفنا فكان يختلف إليها، حتى تقضى الربيع، ودعا الناس الصيف، فأتاني فقال: يا عصمة قد رحلت مي ولم يبق إلا الآثار والنظر إلى الديار، فاذهب بنا ننظر في ديارها، ونقفو آثارها، فخرجنا حتى أتينا منزلها فوقف ينظر ثم قال:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
قال عصمة: فما ملك عينيه فقلت: مه فانتبه وقال: إني لجلد وإن كان مني ما ترى.
قال: فما رأيت أحدا كان أشد منه صبابة ولا أحسن عزاء وصبرا ثم انصرفنا وتفرقنا وكان آخر العهد به.
الم قلبي ناره وما شعر ... دبت إليه عقرب وقت السحر
دبت إلى ظبي بعينيه حور ... دبيب لوطي توارى وانتشر
فظفرت لا ظفرت أي ظفر ... وهكذا العقرب للقمر
.../...
* الكتاب : ديوان المعاني
المؤلف : أبو هلال العسكري
اللهم عونك، جمع الله شملك، ووصل حبلك، ومعتك بأحبتك، وأعطاك مأمولك. في نفسك وأعزتك، وأعاذك من قطيعة أحبابك، وجنبك تجنب أودائك، ولا جعل للهجر عليك سبيلا، ولا للفراق عليك دليلا، لينعم باللذة جسمك، ويعمر بالسرور قلبك، فتعيش في ضمان الفرح، ويبؤ حاسدك باعباء الترح، إنه حميد مجيد فعال لما يريد.
العشق، أدام الله توفيقك، من شرائف أخلاق الفتيان، وكرائم سجايا الشبان، يطلق لسان العيي، ويفتق حيلة البليد، ويبعث على السخاء بما تسمح به نفس الكريم، وينحر دون بذله اللئيم، ويدعو إلى استعمال الفتوة، واظهار المروءة في تنظيف اللباس، وتحسين الرياش، ويجدد حب المساعدة والائتلاف، وكراهة التباين والاختلاف، إلى غير ذلك من محمود الحال، وممدوح الخصال، وإذا رزقت منه نصيبا جزلا فوفه حقه، واسلك به طرقه، وتأمل ما أهديت إليك فيه فإنه يعينك عليه، ويحسن أسبابه لك، ويكبت لائمك فيه، ويكون جلاء لناظرك، وشحذا لخاطرك، إن شاء الله سبحانه وتعالى.
هذا
كتاب المبالغة في
التشبب وأوصاف الحسان
وما يجري مع ذلك وهو
الباب الرابع من كتاب ديوان المعاني
قالوا: أرق بيت قالته القرب قول امرىء القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
يقول: ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشرا أي مكسرا، يقال برمة اعشار إذا كانت مشعوبة، يريد أن قلبه عليل، وأنت تزيدينه علة بسهميك، يعني عينيها، والمقتل المذلل.
ومثله قول الشاعر:
رمتك ابنة البكري عن فرع ضالة ... وهن بنا خوص يخلن نعائما
ولم نسمع للأعشار بواحد.
وأخبرنا أبو أحمد قال حكى لي عن ابن سلام أنه قال أنسب بيت قالته العرب:
ولما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
وقالوا: أنسب بيت قالته العرب قول الآخر:
إذا قلت إني مشتف بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادنا سقما
وأبلغ من هذا قول أبي نواس:
ما يرجع الطرف عنها حين أبصرها ... حتى يعود إليها القلب مشتاقا
وقد أحسن ابن الرومي ولا أعرف في معناه أبلغ منه:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاهاكي تموت حزازتي ... فيشتد ما ألقى من الهيجان
وما كان مقدار الذي بي من الجوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان
فإن فؤادي ليس يشفي رسيسه ... سوى أن ترى الروحان تمتزجان
ومن البليغ في الاشتياق، وما أنشدنا أبو أحمد، عن الصولي، عن الحسين بن إسماعيل:
هبت شمالا فقال من بلد ... أنت به طاب ذلك البلد
وقبل الريح من صبابته ... ما قبل الريح قبل أحد
وأبلغ ما قيل في شدة الحب: قول بعضهم، وقد قيل له ما بلغ من حبك فلانة؟ قال إني أرى الشمس على حيطانها أحسن منها على حيطان جيرانها.
وقال نصر بن الحجاج لامرأة: أحبك حبا لو كان فوقك لأظلك، أو كان تحتك لأقلك، أخذه بشار فقال:
إني لأكتم في الحشى حبا لها ... لو كان أصبح فوقها لأظلها
ويبيت بين جوانحي وجد بها ... لو بات تحت فراشها لأقلها
وقلت:
أحبك يا شبيه الشمس حبا ... تفرد بالتمام فلا تمام
فلم ألقيته ما بين ماء ... ونار كان بينهما التئام
وقال ابن الرومي في اجتماع الأهواء على محبوبه:
سلالة نور ليس يدركها اللمس ... إذا ما بدا أغضى له البدر والشمس
به أمست الأهواء يجمعها هوى ... كأن نفوس الناس في حبه نفس
وقال بشار:
ولست بناس من يكون كلامه ... بأذني وإن غيبت قرطا معلقا
ومن ظريف التشبب أيضا قول ابن المعتز:
كذبت يا من لحاني من مودته ... ما صورة البدر إلا دون صورته
يا رب أن لم يكن في وصله طمع ... ولم يكن فرج من طول جفوته
فاشف السقام الذي في لحظ مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته
ومن الظريف قول كشاجم:
كأن الشفاه اللعس منها خواتم ... من التبر مختوم بهن على الدر
ولا أعرف في وصف الفم أحسن من هذا.
وأحسن ما قيل في حث الشوق، من قديم الشعر، قول عمرو بن شأس الأسدي:
إذا نحن أدلجنا وأنت امامنا ... كفى لمطايانا بذكرنا حاديا
أليس يزين العيس خفة أذرع ... وإن كن حسرى ان تكون اماميا
وأتم من ذلك شرحا قول الآخر:
إذا علقت خبت وإن هي خليت ... لترتع لم ترتع بأدنى المراتع
كأن لديها سائقا يستحثها ... كفى سائقا بالشوق بين الأضالع
ومن جيد ما قيل في ازدياد الشوق على القرب قول الآخر:
صب يحث مطاياه بذكركم ... وليس ينساكم إن حل أو سارا
يرجو النجاة من البلوى بقربكم ... والقلب يلهب في أحشائه نارا
ومن ظرف الأعرابي قوله أنشده المبرد:
وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا عاد قلبي في معاهدها ذكر
وقلت له ولقاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر إن عادتك الصبر
ونحوه قول الآخر:
قد قطع الاحراج أعناق الابل ... فهي تسير سير مشتاق عجل
وقول الآخر وقد ألغز:
إن لها لسائقا خدلجا ... لم يدلج الليلة فيمن أدلجا
وفي خلاف ذلك يقول العباس بن الأحنف:
أيام يقتل شوقها زيارتي ... كالماء يقتل برده عطش الصدى
فأما أجود ما قيل في التذكر على البعد فقول بعضهم:
أذكر أخانا تولى الله صحبته ... إني وإن كنت لا ألقاه ألقاه
الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه
وقلت:
ذكرتهم والنوى بيني وبينهم ... ذكرى الشباب الذي قد كان عاصاني
بل كيف أذكر عهدا لست ناسيه ... هل يعرض الذكر إلا بعد نسيان
ونحوه يقول السري:
غضبان ينساني وأذكره ... وينام عن ليلى وأسهره
وبجوره ماضار مورقه ... حظى وحظ سواي مثمره
وكفى الهوى لو كان مكتفيا ... ما رحت أضمره وأظهره
لم يقتسم في العاشقين أسى ... إلا وحظي منه أوفره
فأصبح في نفس أصعده ... وأعوم في دمع أحدره
ومن مليح ذلك قول بشار:
ولست بناس من يكون كلامه ... بأذني وإن غيبت قرطا معلقا
أجود ما قيل في إخفاء الحركة، عند زيارة المعشوق، من الشعر القديم قول امرىء القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
وأحسن من هذا وأظرف قول وضاح اليمن:
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لاناه ولا زاجر
وهذا أبلغ أيضا، لأن سقوط الندى أخفى من سمو حباب الماء، لأن لسمو حباب الماء صوتا خفيا، ليس ذلك لسقوط الندى وهو من أبيات ظريفة أولها:
قالت ألا لا تلجن دارنا ... إن أبانا رجل غاثر
أما رأيت الباب من دوننا ... قلت فإني واثب ظافر
قالت فإن القصر من دوننا ... قلت فإني فوقه ظاهر
قالت فإن الليث عاد به ... قلت فسيفي مرهف باتر
قالت فهذا البحر ما بيننا ... قلت فإني سابح ماهر
قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافر
قالت فأما كنت أعييتنا ... فأت إذا ما هجع السامر
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لاناه ولا زاجر
ومن مليح ما جاء في هذا المعنى قول المؤمل:
وطارقات طرقنني رسلا ... والليل كالطيلسان معتكر
فقلن جئنا إليك عن ثقة ... من عند خود كأنها قمر
هل لك في غادة منعمة ... يحار فيها من حسنها النظر
في الجيد منها طول إذا التفت ... وفي خطاها إذا مشت قصر
فقمت أسعى إلى محجبة منها البيوت والحجر:
فقلت لما بدا تخفرها ... جودي ولا يمنعنك الخفر
قالت توقر ودع مقالك ذا ... أنت امرؤ بالقبيح مشتهر
والله لا نلت ما تطالب أو ... ينبت في بطن راحتي شعر
لا أنت لي قيم فتخبرني ... ولا أمير علي مؤتمر
قلت ولكن ضيف أتاك به ... تحت الظلام القضاء والقدر
فاحتسبي الأجر في إنالته ... وباشري قد تطاول العسر
قالت فقد جئت تبتغي عملا ... تكاد منه السماء تنفطر
فقلت لما رأيتها حرجت ... وغشيتها الهموم والفكر
لا عاقب الله في الصبا أبدا ... أنثى ولكن يعاقب الذكر
قالت لقد جئتنا بمتبدع ... وقد أتتنا بغيره النذر
قد بين الله في الكتاب فلا ... وازرة غير وزرها تزر
قلت دعي سورة لهجت بها ... لا تحرمن لذاتنا السور
وجهك وجه تمت محاسنه ... لا وأبي لا يمسه سقر
ومثل هذا أصعب ما يرام من الشعر، ولا يكاد يوجد في هذا المعنى أحسن من هاتين المقطوعتين.
ومن أحسن ما عذر به المعشوق في سوء فعله قول كشاجم:
تستدفع الأعين عن حسنها ... بعوذة من سوء أفعالها
وهي من أبيات قليلة النظير:
هل حاكم يعدي على ظبية ... ظالمة في كل أفعالها
دائمة الإعراض عني فما ... يخطر لي ذكر على بالها
صغيرة عظمها حبها ... عندي وأغراني بإجلالها
تستدفع الأعين عن حسنها ... بعوذة من سوء أفعالها
لم أطع العذال فيها وقد ... أصغت إلى أقوال عذالها
تمضي بليل فإذا أقبلت ... أقبلت الشمس بإقبالها
قلت وقد أبصرت حاسرا ... عن ساقها فاضل سربالها
لو لم يكن من برد ساقها ... لا حترقت من نار خلخالها
وقد أحسن في هذا المعنى ولا أظنه سبق إليه.
وقد احسن ابن الرومي في ذكر الخلخال والساق أيضا وهو قوله:
وإذا لبسن خلاخلا ... كذبن أسماء الخلاخل
يقول: لا تخلخل الخلاخل في سوقهن، أي لا تتحرك فقد كذبته أسماؤها، وذلك أن اشتقاقها من التخلخل وهو التحرك.
وفي نحو تقدم قول كشاجم:
وكأن الشمس نيط بها ... قمر يمناه والقدح
صدر إذا مازحته غضبا ... ما على الأحباب إذ مزحوا
وهو لا يدري لنخوته ... أننا في النوم نصطلح
ثم لا أنسى مقالته ... أطفيلي ويقترح
ومن أفراد المعاني قول الشاعر:
وإني لأغضي الطرف عنها تسترا ... ولي نظر لولا الحياء شديد
ونبئتها قالت لقد نلت وده ... وما ضرني بخل فكيف أجود
وقالوا أنسب بيت قالته العرب قول الآخر:
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر
ومن أجود ما قيل في حسن الحبيب، في عين المحبوب، قول عمرو بن أبي ربيعة:
خرجت غداة النحر أعترض الدمى ... فلم أر أحلى منك في العين والقلب
فوالله ما أدري أحسنا رزقته ... أم الحب يعمي مثل ما قيل في الحب
وهو من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " حبك الشيء يعمي ويصم " وأنشدني أبو أحمد، عن الصولي عن أحمد بن سعيد الشامي، عن الزبير بن بكار، لعمر بن أبي ربيعة:
زعموها سألت جاراتها ... وتعرت يوم حر تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسدا حملنه من أجلها ... وقديما كان في الناس الحسد
وأنشدنا عنه قال أنشدنا إسحاق لرجل:
حفلت بصحراء الحجون وناقتي ... لها بين قاع الأخشين حنين
غموسا لقد فضلت في الحسن بسطة ... على الناس أو بي من هواك جنون
وأنكر بعض المحدثين، أن يكون استحسانه لحبيبه لإفراط حبه، أو لجنونه له فيه فقال وأحسن:
حسن والله في عي ... ني وفي كل العيون
قينة بيضاء كالفضة ... سوداء القرون
لم يصبها سقم ق ... ط سوى سقم العيون
لم أصفها بجمال ... لهوى أم لجنون
بل لحسن وجمال ... قول حق ويقين
وقد أبدع الآخر في قوله في المعنى الأول:
يا من يلوم عليه ... أنظر بعيني إليه
فلست تبرح حتى ... تصير ملك يديه
وقد جمع القائل جمعا حسنا في قوله:
وفي أربع مني حكت منك أربع
أجود ما قيل في صفة النساء
من الشعر القديم، ما أخبرنا به أبو أحمد قال: قال ابن سلام أحسن ما قيل في صفة النساء:
كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد
وتشبيه النساء ببيض النعم، تشبيه قديم وهو كثير مشتهر.
قالوا أحسن ما قيل في الوجه، من الشعر القديم قول قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت قناعها ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
مأخوذ من قول النمر بن تولب:
فصدت كأن الشمس تحت قناعها ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وهو أحسن ما قيل في إعراض المرأة، ونقله قيس إلى موضع آخر وزاد فيه فقال:
كان المنى بلقائها فلقيتها ... ولهوت من لهو امرىء مكذوب
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها ... في الحسن أو كدنوها لغروب
أراد في وقتين يمكن الناظر النظر إلى الشمس فيها. ونحو ذلك قول زهير:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة القدر
وفضلها كثير على الشمس فقال وأحسن:
بأبي وأمي أنت من معشوقة ... طبن العدو لها فغير حالها
وسعى إلي بعيب عزة نسوة ... جعل الآله خدودهن نعالها
ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موقف لقضى لها
قوله عند موقف غاية ما يكوم من الإحسان.
ومن أحسن ما قيل في حسن الوجه قول عمر بن أبي ربيعة:
فلما تواقفنا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
وقربن أسباب الهوى لمتيم ... يقيس ذراعا كلما قسن أصبعا
فذكر أنهن لم يتقنعن لحسن وجوههن، أخذه من قول الشماخ:
لها شرق من زغفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرداء المحبرا
ثم تصرف المحدثون في تشبيهه، أي الوجه، بالشمس فقال ابن الرومي:
كالشمس غابت في حمرة الشفق
وزاد أبو النواس فقال في الأمين قبل الخلافة:
تتيه الشمس والقمر المنير ... إذا قلنا كأنهما الأمير
فإن يك أشبها منه قليلا ... فقد أخطاهما شبه كثير
لأن الشمس تغرب حين تمسي ... وأن البدر ينقصه المسير
ونور محمد أبدا تمام ... على وضح الطريقة لا يحور
وقد أحسن الآخر وقد جعل في البدر مشابهة من وجه المرأة فقال:
يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه أم محمد ابنة صالح
أراك تمصح في المحاق وحسنها ... باق على الأيام ليس بماصح
وقال العباس بن الأحنف:
الت ظلوم وما جارت وما ظلمت ... إن الذي قاسني بالبدر قد ظلما
ابدر ليس له عين مكحلة ... ولا محاسن لفظ يبعث السقما
وقال النظام:
مشرقا ملأ العيو ... ن وطرفها ما يستقل
وفى على شمس الضحى ... حتى كأن الليل طل
وزاد الآخر على هؤلاء كلهم فقال:
ذا عتبها شبهتها البدر طالعا ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
ومن أبلغ ما قيل في حسن الوجه من طريقة أخرى قول أبي نواس:
زيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
فذكر أن حسنه يزداد على تكرار النظر، والمعهود في كل شيء نقصانه على كثرة التأمل، ولا يكاد الشيء الرائع يروعك إذا اعتدته.
وقريب منه قول كشاجم:
يضاء يحضر طيب العيش ما حضرت ... وإن نأت عنك غاب اللهو والفرح
كل اللباس عليها معرض حسن ... وكل ما تتغنى فهو مقترح
والمعارضة تتخير للجواري على حسب ألوانهم، فالبيضاء تبرز في المعرض الأحمر والأسود والأزرق والسوداء في الأصفر، فذكر أن هذه تحسن في كل معرض فهو غاية وقريب من المعنى الأول قول كشاجم أيضا:
منعمة يقربهما هواها ... وإن نزحت بمنزلها البلاد
يعاد حديثها فيزيد حسنا ... وقد يستقبح الشيء المعاد
وقال الحماني:
إذا كنت لم أفقد الغائبين ... وإن غبت كنت فريدا وحيدا
تباعد نفس إذا ما بعدت ... فليس تعاود حتى تعودا
وهو من قول أبي النواس:
أشبهك الشيء حسنا فما ... أتمم ذلك حتى تزيدا
وقال بعضهم:
وكلما عدت فيه ... يكون في العود أحمد
وأخبرنا أبو أحمد، عن الصولي عن أبي العيناء، عن الأصمعي، قال: أحسن ما قيل في اللون قول ابن أبي ربيعة:
وهو مكنونة تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
بات يعمي يعالج السهرا ... وراح نشوان يقسم النظرا
أغيد ماء الشباب يرغد في ... خديه لولا أديمه قطرا
وقال ابن الأحنف:
وقد ملئت ماء الشباب كأنها ... قضيب من الريحان ريان أخضر
وقال السري:
ومخطف يهتز عن ماء الصبا ... كأنما يهتز عن ماء العنب
وقلت
ووجه تشرب ماء النعيم ... فلو عصر الحسن منه انعصر
يمر فأمنحه ناظري ... فينشر وردا عليه الخفر
تمتعت العين في حسنه ... فما حفلت بطلوع القمر
وقال ابن المعتز:
يحرك الدل في أثوابه غصنا ... ويطلع الحسن من أزراره قمرا
وقال ابن الرومي:
متعات وجهك في بديهتها ... جدد وفي أعقابها أخر
وقوله:
مخففة مثقلة تراها ... كأن لم يغذ نصفيها الغذاء
إذا الإغباب جدد حسن شيء ... من الأشياء جددها اللقاء
ومثله قوله:
لا شيء إلا وفيه أحسنه ... فالعين منه إليه تنتقل
فوائد العين منه طارقة ... كأنما أخرياتها الأول
وقد أطرف أبو النواس في قوله:
إن اسم حسن لوجهها صفة ... ولا أرى ذا لغيرها اجتمعا
فهي إذا سميت فقد وصفت ... قد يجمع اللفظ معنيين معا
وقد بالغ ذو الرمة في قوله:
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
إلا أنه ذكر خلقها أجمع، والجادب: العائب، هو يقول: إن الذي يعيبها لا يجد عيبا فهو يتعلل. وهو في خبر حسن: أخبرنا به أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد حدثنا عمر بن شبة، حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، حدثني أبو صالح الفزاري، قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب فقال عصمة بن مالك شيخ منهم كان قد بلغ مائة وعشرين سنة - : إياي فاسألوا عنه كان من أظرف بني آدم، خفيف العارضين، حسن الضحك، حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وحبس صوته، فإذا راجعك لم تسأم حديثه وكلامه، وكان له أخوة يقولون الشعر: منهم مسعود وحرفاس وهو أوفي، وهشام وكانوا يقولون القصيدة فيزيد فيها الأبيات فيغلب عليها، فجمعني وإياهم مربع فأتاني يوما وقال لي: يا عصمة إن ميا منقرية وبنو منقر أخبث حي وأقوفه لأثر، وأبصره في نظر، فهل عندك من ناقة نزدار عليها ميا فقلت: أي والله إن عندي للجؤذر قال: علي بها، فركبناها جميعا وخرجنا حتى نشرف على بيوت الحي، فاذاهم خلوف، وإذا بيت مية خلو، فعرف النساء ذا الرمة، فقمن إلى بيت مي، وجئن حتى أنحنا وسلمنا وقعدنا نتحدث، وإذا مي جارية أملود، واردة الشعر، صفراء فيها عسر، وإذا عليها سب أصفر، وطاق أخضر، فتحدثن مليا ثم قلن له: أنشدنا يا ذا الرمة فقال: أنشدهن يا عصمة فأنشدهن قوله:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأوشكت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكى وامق جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه
فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فليجل، فنظرت إليها مي، ثم مضيت في القصيدة إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... عن القلب أتته جميعا عوازبه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله، فقالت مي: خف عواقب الله يا غيلان، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أقول بها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أحاربه
فقالت الظريفة للنساء: إن لهذين لشأنا، فقمن بنا، فقمن وقمت معهن، فجلست في بيت أراها منه فسمعتها قالت له: كذبت والله، وما أدري ما قال لها وما أكذبته، فلبث قليلا ثم جاءني ومعه قارورة، فيها دهن وقلائد، فقال: طيب أتحفتنا به مي وهذه قلائد للجؤذر، ولا والله لا أقلدهن بعيرا، وشدهن بذؤابة سيفه، ثم انصرفنا فكان يختلف إليها، حتى تقضى الربيع، ودعا الناس الصيف، فأتاني فقال: يا عصمة قد رحلت مي ولم يبق إلا الآثار والنظر إلى الديار، فاذهب بنا ننظر في ديارها، ونقفو آثارها، فخرجنا حتى أتينا منزلها فوقف ينظر ثم قال:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
قال عصمة: فما ملك عينيه فقلت: مه فانتبه وقال: إني لجلد وإن كان مني ما ترى.
قال: فما رأيت أحدا كان أشد منه صبابة ولا أحسن عزاء وصبرا ثم انصرفنا وتفرقنا وكان آخر العهد به.
الم قلبي ناره وما شعر ... دبت إليه عقرب وقت السحر
دبت إلى ظبي بعينيه حور ... دبيب لوطي توارى وانتشر
فظفرت لا ظفرت أي ظفر ... وهكذا العقرب للقمر
.../...
* الكتاب : ديوان المعاني
المؤلف : أبو هلال العسكري