يوسف هريمة - طقس القضيب وتمظهراته الثقافية

تعيش شعوب العالم بمختلف تلويناتها العرقية والجنسية مظاهر مختلفة من الطقوس والشعائر، والاحتفالات المعبرة عن ما تسميه بهويتها وحضارتها، وتختلف هذه المظاهر من إنسان إلى آخر ومن بلد إلى آخر حسب التأطير العام للجماعات البشرية ودرجة وعيها الثقافي والديني والفكري، وعرفت هذه المسيرة الإنسانية تاريخا كبيرا من التأثير والتأثر بتداخل الثقافات فيما بينها، والتواصل الحضاري الممتد والمتجاوز لحدود الذات في الكثير من الأحيان، فكانت الطقوس تنتقل من شعب إلى آخر عبر جدلية معينة تحكم هذا الانتقال، مع قليل من التحوير ومع درجة الوعي والفكر المستحكم في كل بنية ثقافية.
يعد طقس القضيب " الجهاز التناسلي الذكري culte de phallus " من أهم ما عرفته البشرية من الطقوس الثقافية، بالرغم من أن هذا المعطى الثقافي عرف ولا زال يعرف تكتيما مضروبا حول كل إفرازاته وملابساته، بسبب عقلية الطابو المستحكمة في العقل الشرقي عموما، وبالرغم من الحضور الفعلي لهذا الطقس في العديد من المواسم والأعياد والاحتفالات وغير ذلك من الأمور.
*- شذرات من تاريخ الظهور:
وبالرجوع إلى السياق التاريخي لظهور هذا الطقس نجد بداياته كانت في عصور ما قبل التاريخ وظهور بعض المظاهر الدينية وفقا لآلية داخلية ربطت عقائد و أديان ما قبل التاريخ بعضها ببعض، ولعل جوهر التحول يكمن في ظهور فكرة الخصوبة، وهي التي ميزت هذا العصر بأكمله على المستويات المادية و الروحية. شعر الإنسان في العصر النيوليتي لأول مرة في تاريخه، بأن فكرة الخصوبة هي جوهر حياته المادية والروحية، فالزراعة تعتمد على الخصوبة، و الشيء نفسه ينسحب على تكاثر الحيوانات و ولادة الإنسان.
لقد ربط الإنسان الخصوبة بالمرأة التي كانت ترعى الأرض وتسقي البذور، ثم بالحيوان وتكاثره، فتحولت قوة المقدس إلى قوة خصب تمثلها المرأة والإلهة، ولم يكن الرجل آنذاك يعرف دوره في عملية الإخصاب، ولذلك كان يرى أن المرأة هي المسؤولة عن التكاثر والخصوبة وانعكس ذلك على الأرض ، ورحل الإنسان من مواطن الزراعة الكثيرة المطر، إلى مواطن يندر فيها بشكل كبير، فبدأ يدرك أن الأرض ليست العامل الوحيد في عملية الإنبات، بل إن المطر لا يقل أهمية عن الدور الذي تضطلع به، فأسس هذا الوعي الطبيعي لدى الإنسان إدراكا خطيرا لعملية الإخصاب، فعقدت العلاقة بين المطر ومني الرجل، وكان هذا التحول فاتحة لانقلاب ذكوري كبير.
وعند المصريين القدامي والحضارة اليونانية اهتمت هذه الثقافات بشكل كبير بهذا الطقس حيث يظهر الإله Osiris بقضيب كبير، كما اهتم اليونانيون بهذا الجانب من خلال مختلف جوانب الحياة اليومية والفنية كرسمه عبر منحوتات معينة وتجسيده في رسومات في حالة انتصاب تام دلالة على القوة والخصوبة التامة ورمزا لكل قيم العطاء، لينتقل بنفس المظاهر إلى الحضارة الرومانية. استمر هذا الطقس ولم ينقطع عبر مختلف الحقب التاريخية وعند مختلف شعوب العالم التي ما زالت في الكثير من الأحيان ترى فيه وجهة للخصوبة والقوة والفحولة، عبر مسِّه من طرف النساء اللواتي ترغبن في الإنجاب والإخصاب وهي مظاهر منتشرة في البيرو ومدغشقر والهند وحتى المغرب إلى حدود الساعة.
*- طقس القضيب وفن المعمار:
لا يقف بعض الباحثين عند هذا الحد من التساؤلات المثيرة للغاية، بل يزيد البحث تنقيبا وتحليلا ليصل إلى أن فن المعمار العربي الإسلامي مثلا كان متأثرا إلى حد كبير بطقس القضيب، وما على الناظر إلى التأمل في شكل المعمار العربي الأصيل، ليدرك حجم تأثير هذا المعطى في الذهنية الثقافية العربية المتأثرة بما سبق حسب رؤيتهم لذلك. يقول Bourdieu وهو يصف دُور منطقة القبائل الجزائرية:" وسط حائط الفصل، بين دار البشر و دار البهائم، تنتصب الركيزة الرئيسية التي تدعم الجائز الأساسي (اسلاس، الماس، بالأمازيغية، وهي كلمة مذكرة)، بل تدعم هيكل الدار كله. ويُماثل الجائز برب البيت بشكل صريح بينما تماثل الركيزة الرئيسية، وهي جذع شجرة مزدوج الفروع (تيغجديث، كلمة مؤنثة)، بالزوجة (…) أما تداخلهما فيصور التناكح"، بل يزيد بعض الباحثين تأكيدا بأن كل المدن الإسلامية والعربية كانت تبنى والذهنية الجنسية المشبعة بطقس القضيب حاضرة في المخيال الجمعي، عبر الأسوار المنتصبة والشوارع القائمة وغير ذلك من مظاهر العمران.
وحتى المعابد الدينية استهوت الكثير من الباحثين لدراسة أشكالها وربط مختلف عناصرها بالبعد الحضاري والثقافي المرتبط بتقديس القضيب، وما شكل صومعة المسجد إلا تجسيدا لانتصاب القضيب وارتفاعه وانتشار ثقافة الذكورية في التأسيس المعماري.
*- عيد الأضحى ورمزية القضيب:
يبدو أن الإطار العقائدي لا يسمح في الكثير من الأحيان بمقاربات بحثية في مختلف المظاهر المنتشرة هنا أو هناك، وعيد الأضحى من بين المناسبات الكبيرة التي تؤسس لمختلف الطقوس والتمظهرات الثقافية المختلفة، ولعل أهم معطى يمكن أن يجلي حجم ما نحن بصدده الآن، ذلك الطقس المرتبط بهذه المناسبة الدينية والمسمى بطقس بوجلود أو بو البطاين، والرامز لإله الخصب والإنجاب عند مختلف السكان والقبائل المحتفية بهذا الطقس في الثقافة المغربية، فمجرد لمسة من النساء لعصا بوجلود المحتجب بلباس الماعز أو ضربة منها ترمز لهذه القيمة الثقافية المتجلية في الخصوبة عبر العصا الرامزة لهذا العضو المقدس، حيث يظهر الشخص المختبئ تحت جلد الماعز ولا تعرفه نساء القبيلة في شكل مخيف مرعب، مرتديا قبعة من القش ووجهه مطلي بالسواد، ممسكا بغصنين من الزيتون ويلوح بهما في الهواء ويبدأ في التمايل مع الإيقاعات الموسيقية.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...