خورخي لويس بورخيس - السرداب.. ت: محمد عيد ابراهيم

أريد أن أدع سجلا مكتوبا [وربما تكون هذه أول محاولة]، عن أحد الحادثات الأغرب في تاريخ الأرجنتين. أن أتطفل قليلا قدر الممكن في الحكي، أن أتمنع على تصور التفـاصيل أو ماهية الحدس الشخصي، يبدو لي أن تلك هي الطريقة الوحيدة لأدائي هذا.

رجل، وامرأة، وظل غالب لديكتاتور هي شخصياتي الثلاث. الرجل باسم "بـدرو سلفادورز"، وقد رآه جدي أكفيدو أياما وأسابيع بعد سقوط الديكتاتور في معركة كاسيروس. ربما لم يختلف بدرو سلفادورز عن أي شخص آخر، لكن السنوات والمصير قد أمهلاه. كان مهذبا كآخرين كثيرين في أيامه. وقـد تملك [دعنا نفترض ذلك] مزرعة كبيرة بالريف، تصدى للطغيان، وكان في صف الوحدويين. وكانت عائلة زوجته باسم "بلانس"، وقد عاشا معا في شارع سوباتشا بجانب ركن المعبدالذي يقع الآن في القلب من بيونس أيرس. أما المنزل الذي شهد الحادثة فكان متشابها مع غيره، باب على الشارع، معبر للدخول طويل على شكل قنطرة، بوابة داخلية للشواء، حجراته صف من باحتين أو ثلاث باحات. وطبعا، كان الديكتاتور هو "روساس".

في إحدى الليالي، حوالي عام 1842، تسمع سلفادورز وزوجته صوت حوافر أحصنة مكبوتة تتنامى في الخارج، بالشارع غير المعبدكان الراكبون سكارى يصرخون بحناجرهم "ليعش روساس" وهذه المرة لم يكن تابعـو روساس راكبين. بعدها أتت الصرخات طرقا مكرورا على الباب، وبدأ الرجال ينزعونه عنوة، أما سلفادورز فاستطاع أن يجذب مائدة الطعام إلى جانب، ويسحب السجاد، مخفيا نفسه بأسفل السرداب. وأعادت زوجته المائدة إلى مكانها في الخلف. انفجر صخب موسيقى المازوركا بالمنزل، لقد جاءوا للقبض على سلفادورز. قالت المرأة إن زوجها هرب إلى مونتفيديو. لم يصدقها الرجال، وجلدوها، هشموا كل الأواني الصينية الزرقاء [الأزرق لون الوحدويين]، وفتشوا جميع أركان المنزل لكن لم يفكروا في رفع السجاد. في منتصف الليل ركبوا راحلين، وأقسموا أنهم لا بد عائدون في القريب.

كانت هذه هي البداية الحقيقية لحكاية بدرو سلفادورز.

لقد عاش سنين تسعا في السرداب. ولأننا جميعا نخبر ذواتنا أن السنين تشتمل على أيام والأيام على ساعات فإن تلكم السنوات التسع ما هي إلا تعبير مجرد وكم محال، والحكاية شنيعة رغم ذلك. وإني أفترض بأنه في الحلكة، قد تعلمت عيناه إلى حد ما أن تتكشف الفراغ فما كانت له أي أفكار خاصة، ولا حتى كرهه أو الخطر الذي يعيش فيه. ببساطة كان هناك- في السرداب- بأصداء العالم التي تقطعت عنه وأحيانا ما كانت تصله فوق سقف رأسه: وقع أقدام زوجته، شخللة الدلو في شفة البئر، مطر غزير على الباحة. كل يوم في مسجنه، وكلما تعرف به، لربما كان الأخير.

سرّحت زوجته كل الخدم، والمحتمل بإمكانهم التبليغ عنه، وأكدت لعائلتها أن سلفادورز يقيم بأرجواي. في هذه الفترة، كان يتكسب قوته لكليهما بحياكة ملابس موحدة للجيش. وفي هذه الأثناء، أنجبت طفلين، فتنكرت لها عائلتها، بظن أن لها عشيقا. وفيما بعد سقوط الطاغية، ركعوا لها راجين العفو.

ما الذي كانه بدرو سلفادورز؟ ومن هو؟ هل كان في ذات خوفه، وعشقه، الحضور غير المرئي لبيونس أيرس؟ أو- في مخبئه الطويل- كان العادة التي أمسكته سجينا؟ وكي تحتفظ به معها، فإن زوجته اختلقت أخبارا لتبلغه عن هسيس تآمر وإشاعة نصر. ولربما كان جبانا وبولائها هي أخفت ذلك عنه حين عرفت به. أتصوره في سردابه ربما دون شمعة، دون كتاب. ويحتمل أن الحلكة قد أغرقته في النوم. أحلامه، في مستهلها، ربما دارت عن ليلة المباغتة، وعندما غاص النصل في حلقه، وعن الشوارع التي عرفها جيدا، وعن السهول الطليقة وبينما يمر في السنين لم يستطع الهرب حتى خلال نومه، ومهما كان يحلم بما سوف يدور في السرداب. في البدء، كان الرجل مطاردا، وحياته في خطر وفيما بعد [لن نعرف أبدا على وجه التأكيد]، حيوان في سلامة ملجئه أو نوع من إله غامض.

ولقد انتهى كل ذلك في يوم من صيف عام 1852 عندما رحل روساس عن البلاد. عندها فقط أمكن لذلك الرجل السري أن يخرج في ضوء النهار، وقد تحدث جدي معه. رخواً كان سلفادورز، زائد الوزن، وفي لون الشمع، ولا يمكنه الحديث إلا بصوت واهن. لم يعد أبدا إلى أرضه المصادرة وأظنه مات فقيراً.

وبينما يصدمنا مصير بدرو سلفادورز، فإنه رمـز لشيء ما كنا على وشك أن نتفهمه، لكن يبدو أننا لن نفعل أبدا.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...