خورخي لويس بورخيس - الاعجوبة السرية.. ت: هنري فرريد صعب

" فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم " (القرآن 2. 259)

ليل الرابع عشر من آذار، 1939، في شقة من زلتنرغاس في براغ، حلم جاورومير هلاديك، مؤلف مأساة "الاعداء" غير المنجزة، و"دفاع عن الابدية"، وبحث عن الجذور اليهودية غير المباشرة لجاكوب بوهمه، بمباراة شطرنج طويلة. لم تكن بين شخصين بل بين عائلتين شهيرتين. وكانت بدأت قبلُ منذ أجيال عديدة. ولم يبق أحد يستطيع أن يحدّد الرهان الذي طواه النسيان. لكن الشائع أنه كان ضخماً وربما لامتناهياً؛ أما رقعة الشطرنج وبيادقها فكانت في برج سرّي. وكان جارومير (في حلمه) بكر إحدى العائلتين المتنافستين. وكانت الساعات تعلن بدء الجولة التي لا يمكن تأجيلها. وكان الحالم يضرب في رمال صحراء ماطرة، عاجزاً عن تذكّر البيادق أو قواعد اللعبة. آنذاك استيقظ. وتوقف صخب المطر والساعات الضخمة. وعلا من زلتنرغاس ضجيج موزون وإجماعي، كانت تقطعه بعض أصوات آمرة. كان ذلك عند الفجر، إبان دخول الطلائع المدرعة لجيش الرايخ الثالث الى براغ.
في اليوم التاسع عشر، تلقت السلطات وشاية. وفي اليوم ذاته مساء، أُوقف جارومير هلاديك، واقتيد الى ثكنة معقّمة وبيضاء، على ضفة مولداو المقابلة. لم يستطع هلاديك أن يدحض أياً من تهم الغستابو. فاسمه من ناحية الأم، كان ياروسلافسكي. ودمه كان يهودياً. وبحثه عن بوهمه كان متهوّداً. وتوقيعه كان في ذيل البيان الاحتجاجي الاخير ضد الأنشلوس "Anschlus". وفي 1928، ترجم "سفر يزيداح" لدار هرمن بارسدورف للنشر. وقائمة مطبوعات هذه الدار الطويلة، كانت تبالغ، لأسباب تجارية، في إبراز اسم المترجم. وسبق ليوليوس روث، أحد القادة المسؤولين عن مصير هلاديك، أن قلَّب صفحات هذه القائمة. وكان يكفيه نعتان أو ثلاثة بحروف قوطية، إذ لا يوجد شخص، خارج اختصاصه، غير سريع التصديق، كي يقتنع بعلوّ شأن هلاديك، ويحكم عليه بالموت، تشجيعاً للآخرين. وحُدّد تنفيذ الحكم في التاسع والعشرين من آذار، الساعة التاسعة صباحاً. هذا التأخير (الذي سيقدّر القارئ أهميته لاحقاً) عائد الى رغبة السلطات في العمل بهدوء وبطريقة موضوعية، كالنباتات والكواكب.
كان شعور هلاديك الاول ينمّ عن خوف خالص. لم يكن يخشى المقصلة، ولا الفأس أو المدية، بل كان لا يحتمل أن يموت رمياً بالرصاص. وعبثاً كرّر على نفسه، أن الامر المريع، هو فعل الموت الخاص والعام، وليس الظروف العينية. وكان لا يكلّ عن تخيّل هذه الظروف: لقد حاول، بوجه غير معقول، أن يستنفد كل الاشكال على اختلافها. وتوقّع بشكل غير محدود، سياق عملية الاعدام، منذ أرق الفجر حتى إطلاق الرصاص الغامض. وقبل اليوم الذي حدّده مسبقاً يوليوس روث، مات مئات المرات في أفنية ذات أشكال وزوايا أعيت الهندسة في تصميمها، مرميّاً برصاص جنود مختلفين، وعددهم مختلف، كانوا أحياناً يطلقون عليه من بعيد، وأحياناً من قريب. وكان يواجه هذه الاعدامات المتخيلة برعب حقيقي (وربما بشجاعة حقيقية). وكل تخيّل كان يدوم بضع ثوان. وما إن تُقفل الحلقة، حتى يعود جارومير بلا انتهاء الى أماسي موته المرتعشة. ثم فكّر في أن الواقع قد لا يتطابق مع التوقعات. وبمنطق مضاد، استنتج أن توقّع تفصيل ظرفي، يحول دون حدوثه. وإيماناً منه بهذا السحر الضعيف، اختلق طوارئ مروّعة، منعاً لتحققها. وانتهى به الامر، طبعاً، الى الخوف من أن تكون هذه الطوارئ نبوئية. وطوال لياليه اليائسة، حاول أن يثبّت نفسه بطريقة ما في مادة الزمن الهاربة. كان يعرف أن هذا الزمن يُسرع نحو فجر التاسع والعشرين. وفكّر في صوت عالٍ: "أنا الآن في ليلة الثاني والعشرين: بقدر ما ستدوم هذه الليلة (والليالي الست الآتية)، فأنا منيع، وخالد". وبدت له ليالي رقاده أحواض سباحة عميقة ومظلمة يمكنه أن يغطس فيها. وتمنّى أحياناً بنفاد صبر، لو تحرّره الطلقات النارية الحاسمة من هذا الجهد الباطل لمخيلته. وفي الثامن والعشرين، فيما كان ينعكس الغروب الاخير على قضبان حديد النافذة المرتفعة، صرف تفكيره عن هذه التأملات الكريهة تذكّره مأساته: الاعداء.
كان هلاديك تجاوز الاربعين. باستثناء بعض الصداقات، والعديد من العادات، كانت الممارسة الإشكالية للأدب قوام كل حياته. وكمثل كل كاتب، كان يقيس فضائل الآخرين بما كانوا ينجزونه، وكان يطلب من الآخرين أن يقيسوه بما كان يحدسه أو يصمّمه. كل الكتب التي نشرها خلّفت لديه ندماً معقّداً. فأبحاثه عن بوهمه، عن الحاخام ابراهام بن عزرا، وعن الصوفي الانكليزي روبرت فلود، كانت مجرد تطبيق. وترجمته لـ"سفر يزيداح"، كان يميزها الاهمال، والتعب، والحدس. وكان يرى أن "دفاع عن الابدية" قد يكون أقل ضعفاً: المجلد الاول يعرض تاريخ مختلف الابديات التي تصوّرها البشر، منذ الكائن اللامتغيّر لبارمنيدس حتى الماضي الممكن تغييره لهينتون Hinton؛ المجلد الثاني يدحض (مع فرنسيس برادلي) أن كل حوادث الكون تدخل في سلسلة زمنية؛ ويبرهن أن عدد اختبارات الانسان الممكنة، ليس لانهائياً، وأن "تكراراً" واحداً يكفي ليُثبت أن الزمن خدعة... وأن البراهين التي تثبت هذه الخدعة، ليست اقل خداعاً؛ وكان هلاديك يستعرض ذلك عادةً ببعض التردد المزري. كذلك كتب هلاديك مجموعة قصائد تعبيرية؛ وقد أُدرجت لإرباكه، في أنطولوجيا 1924. ولم تأت بعدها أنطولوجيا، لم تتلق هذه القصائد كإرث. وكم كان يتوق لو يعوّض هذا الماضي الملتبس والمحبط بمأساته الشعرية: الاعداء (كان هلاديك ينصح باستعمال الشعر في المسرح لأنه يمنع المشاهدين من نسيان الوهمي الذي هو شرط الفن).

وكانت هذه المأساة تراعي الوحدات الثلاث (العمل والزمان والمكان)؛ وقد جرت في هرادكاني، في مكتبة البارون رومرستادت، في المساء الاخير من القرن التاسع عشر. في المشهد الاول من الفصل الاول، يقوم غريب بزيارة البارون (كانت الساعة تعلن السابعة، وكانت حدّة شمس المغيب تُلهب زجاج النافذة، والريح تحمل موسيقى مجرية مثيرة ومألوفة). وتتبع هذه الزيارة زيارات أخرى. لكن رومرستادت لا يعرف أولئك الاشخاص الذين يزعجونه. إنما لديه انطباع غير مريح بأنه رآهم سابقا، ربما في الحلم. جميعهم يبالغون في التودّد اليه، لكن الجليّ - أولاً بالنسبة الى مشاهدي المأساة، ثم بالنسبة الى البارون بنفسه - أنهم أعداء سرّيون، يتآمرون على هلاكه. وينجح رومرستادت في الحؤول دون دسائسهم المعقدة او إحباطها؛ وفي سياق الحوار يأتي ذكر خطيبته جوليا دو واديناو، وشخص يُدعى ياروسلاف كوبين، كان أحياناً يضايقها بحبّه. هذا الشخص الآن، مصاب بلوثة، ويتوهم أنه رومرستادت... وهكذا تتضاعف الاخطار؛ ويجد رومرستادت نفسه في آخر الفصل الثاني، مضطراً الى قتل أحد المتآمرين. ويبدأ الفصل الثالث والاخير. وتزداد تدريجياً التنافرات: بعض الممثلين الذين بدوا أنهم أُبعدوا من الحبكة، يظهرون ثانية؛ الشخص الذي قتله رومرستادت يظهر ايضاً لوقت وجيز؛ أحدهم يلفت الانظار الى أن الليل لم يحلّ بعد: الساعة تُعلن السابعة، على زجاج النافذة المرتفعة تنعكس شمس المغيب، والريح تحمل موسيقى مجرية مثيرة. ويظهر المحاور الاول في المسرحية، ويكرّر الكلمات التي تفوّه بها في المشهد الاول من الفصل الاول. يتحدث اليه رومرستادت بدون أي اندهاش؛ ويفهم المشاهد أن رومرستادت هذا، هو التعيس ياروسلاف كوبين؛ وأن المأساة برمّتها لم تحدث قطّ: إنه الهذيان الدائري الذي يعيشه كوبين ويعاود عيشه الى ما لانهاية.
لم يتساءل هلاديك إن كانت هذه المأساة الهزلية من الاخطاء، باطلةً أو باهرة، صحيحةً أو عرضية. في البرهان الذي قدّمه كان يرى أن الابتكار الأجدر لإخفاء نقائصه وإبراز فضائله، هو التمكّن (رمزياً) من استدراك الجزء الاساسي من حياته. لقد سبق له أن أنجز الفصل الاول ومشاهد من الثالث؛ وكانت طبيعة الوزن الشعري تسمح له بأن يتفحّص عمله باستمرار، وأن يقوّم السداسي المقاطع بدون العودة الى المخطوطة. وكان حاضراً في ذهنه، أنه لا يزال عليه إنجاز فصلين، وأنه سائر وشيكاً الى حتفه. وخاطب الله قائلاً: "إن أوجد بأيّ حال، وإن لم أكن أحد تكراراتك، أحد تصويباتك، فأنا أوجد كمؤلف مأساة: الاعداء. ولإنهاء هذه المأساة التي يمكن أن تبرّرني وتبرّرك، ألتمس منك سنة أخرى. فامنحني هذه الايام، يا مالك الاجيال والزمان". كان ذلك في الليلة الاخيرة، الليلة الأشد فظاعة، لكنه بعد دقائق عشر غمره النوم كمياه غامضة.

عند الفجر، حلم بأنه كان يختبئ في أحد أجنحة مكتبة كليمونتينوم، فسأله أحد أمناء المكتبة بنظارته السوداء: "عمّ تبحث؟" أجاب هلاديك: "أبحث عن الله". قال له أمين المكتبة: "إن الله في أحد الحروف في إحدى الصفحات في أحد مجلدات كليمونتينوم الاربعمئة ألف. إن آبائي وآباء آبائي قد بحثوا عن هذا الحرف؛ وأنا عميت من كثرة البحث". ونزع نظارته السوداء، فرأى هلاديك عينيه المطفأتين. إذذاك دخل أحد القراء ليرد أطلساً، وقال: "هذا الاطلس لا يُجدي نفعاً". ثم أعطاه الى هلاديك. وفتحه هذا عشوائياً. فإذا أمامه خريطة للهند تثير الدوار. وبثقة مفاجئة، لمس أحد الحروف الصغيرة. وجاءه صوتٌ كلّي الحضور قائلاً له: "لقد مُنحت الوقت لإنجاز عملك". وحينذاك استيقظ هلاديك.
وتذكّر أن أحلام البشر تنتمي الى الله، وأن كلمات حلمٍ ما، هي إلهية عندما تكون متميزة وصريحة ولا تمكن رؤية الناطق بها، على حد قول ماينمونيدس Maïnmonides. وما إن ارتدى ثوبه حتى دخل جنديان الى زنزانته وأمراه بأن يتبعهما.
كان تصوّر هلاديك، من الجهة الأخرى للباب، متاهة من الأروقة، والسلالم، والاجنحة. الواقع كان أقلّ غنىً: لقد نزلوا الى فناء خلفي عبر سلّم حديدي وحيد. كان ثمة جنود عديدون - أحدهم في لباس عسكري مفكوك الأزرار - يتفحصون دراجة نارية ويتناقشون في شأنها. ونظر العريف الى ساعته: كانت في الثامنة والرابعة والاربعين دقيقة. وعليهم الانتظار حتى التاسعة. أما هلاديك، فقد جلس على كومة من حطب، وقد بدا تافهاً أكثر من تعس. ولاحظ أن عيون الجنود كانت تتحاشى النظر اليه. ولتلطيف وطأة الانتظار، قدّم اليه العريف سيجارة. لكنه لم يكن يدخّن. فقبلها مجاملة أو تواضعاً. وشعر، وهو يُشعلها، بأن يديه ترتعشان. كانت السماء مُضبّة؛ وكان الجنود يتهامسون كأنه كان آنذاك ميتاً. وعبثاً حاول أن يتذكّر المرأة التي كانت جوليا دو فاديناو رمزاً لها...
وتشكلت فصيلة تنفيذ الاعدام، واتخذت وضعية التأهّب. وكان هلاديك واقفاً الى جدار الثكنة، ينتظر الطلقات النارية. أحدهم أبدى تخوفه من أن يتلوث الجدار بالدم. فأمر المحكوم عليه بأن يتقدم بضع خطوات. واستذكر هلاديك، بصورة غير معقولة، حركات المصورين التمهيدية. ومسّت قطرة مطر كبيرة أحد صدغيه، وتدحرجت ببطء على خدّه؛ وأطلق العريف أمره الاخير.
وتوقف الكون الطبيعي.
واتجهت كل البنادق الى هلاديك، لكن الانفار الذين تولّوا قتله، بدوا جامدين في مكانهم. كانت ذراع العريف تُسرمد حركة ناقصة. وعلى بلاطة من الفناء كانت نحلة تلقي ظلاً ثابتاً. وانقطعت الريح كما في لوحة رسام. حاول هلاديك أن يطلق صرخة، أن يتلفظ بحرف، أن يلوي يده، فأدرك أنه مشلول الحركة. لم يكن يتلقى أيّ نأمة من العالم المتجمد. وتوهم: "أنا في الجحيم"، "أنا ميت". توهم: "أنا مجنون". وتوهم: "الزمان توقف". ثم فكّر ملياً: في هذه الحالة يكون تفكيري قد توقف ايضاً. وشاء أن يختبر ذلك: أخذ يتلو (من دون أن يحرّك شفتيه) القصيدة الريفية الرابعة الغامضة لفرجيل. وتخيل أن الجنود البعيدين عنه آنذاك، كانوا يشاطرونه قلقه؛ فرغب في التواصل معهم. ودُهش لعدم إحساسه بأيّ عناء، ولا حتى بدوار جموده الطويل. واستسلم للنوم مدة من الوقت غير محددة. حين أفاق، كان العالم المحيط لا يزال جامداً وأصمّ. وما زالت قطرة الماء على خده؛ وفي الفناء ظل النحلة؛ ولم يتبدّد بعد دخان السيجارة التي رماها. ومضى يوم آخر قبل أن يدرك هلاديك كل شيء.
لقد التمس من الله سنة كاملة لإنجاز عمله: الكلّي القدرة استجابه. وقام الله بأعجوبة سرّية من أجله: في الساعة المحددة سيقتله الرصاص الالماني، ولكن، في عقله، ستمضي سنة بين الامر وتنفيذ هذا الامر. ومن هذا الارتباك، انتقل هلاديك الى الخدَر، ومن الخدر الى الاستسلام، ومن الاستسلام الى الامتنان الفوري.
لم يكن لديه ايّ مستند سوى ذاكرته؛ إن معرفته التامة بكل سطر سداسي المقاطع قد أضافه، فرضت عليه صرامة محببة، لا تخطر في بال أولئك الهواة الذين ينسون مقاطع موقتة ومبهمة. إنه لم يمارس الكتابة من أجل الاجيال القادمة ولا حتى لله الذي كان يعرف القليل عن خياراته الادبية. فبدقة وثبات وسرية، قد حاك متاهته الخفية الكبرى في الزمان. وهكذا أعاد كتابة الفصل الثالث مرتين. وألغى بعض الرموز الواضحة جداً: تكرار دقّات الاجراس، الموسيقى. لم يكن يهمّه أي ظرف. وحذف، وأوجز، ووسّع؛ وفي حالات، وقع اختياره على الصيغة الاولى. وفي الاخير أصبح يحب الفناء والثكنة؛ وقد غيّر أحدٌ الوجوه التي قابلته، تصوّره لشخصية رومرستادت. واكتشف ان التنافرات الصوتية المؤذية للسمع التي كثيراً ما كانت تقلق غوستاف فلوبير، إنما هي مجرد خرافات بصرية: ضعف وعيب في الكلمة المكتوبة، وليس في الكلمة الصوتية... وأنجز أخيراً مأساته: لم يبق ينقصها سوى نعت واحد. وقد وجده؛ وانزلقت قطرة الماء على خدّه ثم صرخ صرخة هائلة، وحنى رأسه، وهوى صريع الطلقات النارية الرباعية.
لقي جارومير هلاديك حتفه في التاسع والعشرين من آذار، في التاسعة وعشر دقائق صباحاً

----------------
* (من مجموعة: 1960، Ficciones, Emecé Edi)
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...