خورخي لويس بورخس - لغز إدورد فتزجرلد.. ت: علي مزهر

ولدَ عمر بن إبراهيم في بلاد فارس في القرن الحادي عشر الميلادي (كان بالنسبة له، هو القرن الخامس الهجري)؛ دَرَسَ القرآنَ وفقهه مع حسن بن الصباح، المؤسس المستقبلي لطائفة الحشاشين أو القتلة، ومع نظام الملك، الذي سيصبح وزيراً عند ألب أرسلان فاتح بلاد القوقاز. فيما يشبه المزاح، أقسم الثلاثة على أنه إذا حالف أحدهم الحظ في يوم ما فإن أوفرهم حظاً لا ينسى صاحبيه. بعد سنوات عديدة، شَغل نظام منصب وزير؛ ولم يطلب عمر من هذا الفرصة السعيدة سوى زاوية في ظل صاحبه، يبتهل فيها من أجل رخائه ويتأملُ في الرياضيات. (أما حسن فلقد سألَ ونالَ منصباً رفيعاً، وفي النهاية، طعنَ الوزيرَ حتى الموت). يستلمُ عمر معاشاً سنوياً من بيت المال في نيسابور مقداره عشرة آلاف دينار يمكّنه من تكريس نفسه للدرس. لم يؤمن بعلم التنجيم السائد، فينغمس في علم الفلك، ويساهم في إصلاح التقويم الذي نادى إليه ودعمه السلطان، ويكتب مقالاً شهيراً في الجبر، يقترح فيه حلولاً للمعادلات الآنية من الدرجة الأولى والثانية، وكذلك حلولاً للمعادلات الهندسية – بواسطة تقاطع المخاريط – من الدرجة الثالثة. لا أسرار الأرقام ولا النجوم استنزفا اهتمامه؛ فيقرأ، في عزلة مكتبته، مؤلفات إفلوطين، الذي يسمّى عند المسلمين بأفلاطون المصري أو بالمعلم الإغريقي، ورسائل إخوان الصفا، وهي ما يزيد على خمسين رسالة هرطوقية وصوفية، تؤكد على أن الكون فيض الواحد وسيعود إلى الواحد... قيل أنه في ذلك الوقت اهتدى إلى الفارابي، الذي قال أن الهيئات الكونية لا توجد بمعزل عن الكائنات، وكذلك إلى ابن سينا، الذي قال بخلود العالم. رواية واحدة تبيّن لنا أنه يؤمن، أو يتظاهر بالإيمان، بانتقال الأرواح من الجسم البشري إلى الحيواني، وأنه تحدّث مرّة مع حمار، كما تحدّث فيثاغورس مع كلب. هو ملحد، ولكن يعرف كيفية تأويل أصعب الآيات القرآنية، باسلوب فقهي، لأن كل مثقف هو لاهوتي والإيمان ليس واجباًً. ما بين الجبر والفلك والدفاع عن العقائد، اشتغل عمر بن ابراهيم الخيّام على الرباعيات التي تكون قوافي البيت الأول والثاني والرابع فيها واحدة؛ أكثرُ المخطوطات شيوعاً تنسب له خمسمائة رباعية، وهو رقم تافه ليس في صالحه، ففي بلاد فارس ( كما في اسبانيا لوب دي فيجا وكالديرون)، يتحتم على الشاعر أن يكون غزيراً. في عام 517 للهجرة، حين كان عمر يقرأ، مقالاً موسوماً: الوحدة والكثرة؛ ساوره فجأة هاجسٌ أو ألّم به كرب؛ فينهض معلّماً على الصفحة التي لن يرها ثانية، يستغفر الله، فلربما موجود هذا الإله الذي ناشد بركته وهو يشتغل على صفحات جبره العصيّة. ثم يموت في نفس اليوم، عند أفول الشمس. في نفس الفترة تقريباً، وعلى جزيرة إلى الشمال والغرب المجْهُوليْن لرسامي الخرائط المسلمين، يُهزمُ ملكٌ سكسونيٌ هزمَ ملكاً نرويجياً من قبل دوق نورماندي.

تنقضي سبعة قرون باشراقاتها ومحنها وتقلبّاتها، ويولد في انجلترا، فِتزجرلد، الأقل ثقافة من عمر، ولكن الأكثر حساسية وأسى منه. يعلمُ فتزجرلد أن الأدب قدره، فيمارسه بصبر وأناة. يقرأ ويعيد قراءة كتاب دون كيخوتة، الذي بدا له واحداُ من أفضل الكتب جميعاً ( لم يشأ أن يظلم شكسبير و" الشيخ العزيز فرجيل ")، وشمل ولعه القاموس الذي يبحث فيه معنى الكلمات. يُدركُ أن أي كائن يملك قدراً من الموسيقى الروحية بمقدوره كتابة الشعر من عشرة إلى اثنتي عشرة مرة في حياته، إذا واتته النجوم، ولكنه لا يوحي بإساءة استخدام هذا الامتياز المتواضع. كان صديقاً لمشاهير ( مثل تينيسون، كارلايل، دكنز، ثاكري) لم يشعر أنه دخيلٌ بينهم بالرغم من تواضعه ودماثته. نشر حوارية مكتوبة بعناية، سمّاها، يوفرَنر Euphraner، وترجمات عادية لكالديرون ولكتّاب تراجيديين إغريقيين عظام. انتقل من دراسة اللغة الأسبانية إلى اللغة الفارسية، وبدأ بترجمة منطق الطير، وهي ملحمة صوفية حول بحث الطيور عن ملكها، الطائر العظيم السيمرغ ( Simurg ) ، حيث تصل في النهاية إلى قصره وراء البحار السبعة، وتكتشف أنها هي الطائر العظيم، وأن الطائر العظيم هو كل واحد منها. في عام 1854 استعار مخطوطة تحتوي على رباعيات عمر، مرتبة حسب الترتيب الأبجدي للقوافي؛ ينقلُ بضعة أسطر إلى اللاتينية ويلمحُ إمكانية نسجها في كتاب متصل ومتناسق يبدأ بصور الصباح، والوردة، والعندليب، وينتهي بالليل والقبر. يكرّس فتزجرلد في سبيل هذه القضية الصعبة المنال والمدهشة، حياته، التي هي حياة، رجل منعزل وكسول و مهووس. في عام 1859، ينشر النسخة الأولى من الرباعيات، تلتها نسخ أخرى، غنيّة بالتنويعات والتنقيحات. ثم تحدثُ المعجزة: من التقاء سعيد لفلكي فارسي تنازل وكتب شعراً بإنجليزي غريب الأطوار أمضى وقته يتمعن في المؤلفات الشرقية والأسبانية، ربما من دون استيعابها كليةً، ينبثق شاعر استثنائيٌ لا يشبه أي منهما. يكتب سوينبرن:" أفسح فتزجرلد لعمر الخيام مكاناً خالداً بين الشعراء الإنجليز العظام"، أما شسترتن الحساس للعناصر الرومانسية والكلاسيكية لهذا الكتاب الاستثنائي ، فيلمح " ترنيمة متمنعة ومعنى خالداً". اعتقد بعض النقاد، أن [رباعيات] عمر [بترجمة] فتزجرلد، ما هي إلا ّ، قصيدة انجليزية بايحاءات فارسية؛ لقد ولّد فتزجرلد وصقل و ابتكر، ولكن رباعياته، تطلبُ منّا أن نقرأها بوصفها فارسية وقديمة.

لنتأمل هذه الحالة ميتافيزيائياً. أقرّ عمر (كما نعلم) بمذهب فيثاغورس وأفلاطون بانتقال الأرواح إلى أجساد متعددة؛ بعد قرون، انبعثت روحه في انجلترا، لتنجز، بلغة جرمانية مطعمة باللاتينية، القدر الأدبي الذي قمعته الرياضيات في نيسابور. قال اسحاق لوريا [الملقب] بالأسد أن روح انسان ميت يمكن أن تنتقل إلى روح تعيسة لترشدها وتغنيها؛ ربما، بحلول عام 1857، حلّت روح عمر في فتزجرلد. في الرباعيات نقرأ أن التاريخ الكوني هو مشهد يتصوره الله، ويخرجه ثم يتأمله؛ هذه التخمين ( الذي يسمّى اصطلاحاً وحدة الوجود) يسمح لنا بالاعتقاد أن الإنجليزيّ قد بعثَ الفارسيّ لأن، كل منهما، جوهرياً، إلهاً، أو تجليّات آنية للإله. افتراض المصادفة الخيّرة هو أكثر معقولية ولكنه يقل عجائبية عن التكهّنات ذات الطبيعة الخارقة. فالغيوم تشكّل أحياناً هيئات تشبه الجبال أوالأسود؛ بطريقة مماثلة، تعاسة إدورد فتزجرلد ومخطوطة صفراء ذات حروف بنفسجية، منسية على رف في مكتبة بودليان في أكسفورد، تشكّل، لصالحنا، القصيدة.

كل تواطؤ ملغز. ويزداد إلغازاً في حالي الإنجليزي والفارسي، لاختلافهما كلياً عن بعضهما، ولربما لن يكونا صديقين لو عاشا معاً؛ الموت والتقلبات والزمن قادت أحدهما ليعرف الآخر ثم صنعت منهما شاعراً واحداً.

1951

خورخي لويس بورخيس (بالإسبانية: Jorge Luis Borges، عاش بين 24 أغسطس 1899 - 14 يونيو1986 م) كاتب أرجنتيني يعتبر من أبرز كتاب القرن العشرين. بالإضافة إلى الكتابة فقد كان بورخيس شاعرا وناقدا وله عدة رسائل.

ولد بورخيس في بيونس آيرس. كان والده خورخي غويلرمو بورخيس محاميا وأستاذا لعلم النفس، عائلة والده كانت ذات أصول إسبانية وبرتغالية وبريطانية وعائلة والدته كانت إسبانية وربما لها أصول برتغالية. كان عائلته في المنزل تتحدث الإسبانية والإنجليزية ولذا فقد نشأ بورخيس قادرا على أن يتحدث لغتين. كانت نشأته في ضاحية بالرمو في بيت كبير به مكتبة ضخمة.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أمضت عائلة بورخيس ثلاث سنوات في لوغانو، برشلونة، مايوركا، إشبلية، ومدريد. وهنالك في إسبانيا أصبح بورخيس عضوا في حركة حراسة المقدمة الأدبية المتطرفة. جاءت أول قصيدة لبورخيس «ترنيمة للبحر» مكتوبة على أسلوب والت وايتمن، ونشرت تلك القصيدة في مجلة غريسيا (بالإسبانية: Greece).
عملة إرجيتينية بمقدار 2 بيزو تحمل صورة بورخيس
عملة إرجيتينية بمقدار 2 بيزو تحمل صورة بورخيس

عام 1999 تم إصدار عملة بمقدار 2 بيزو تحمل صورته بمناسبة 100 عام على مولده.

بدأت شهرة بورخيس الدولية في مطلع عقد 1960. ففي عام 1961 م حصل على جائزة فورمنتر مشاركة مع صاموئيل بكيت. ولما كان هذا الأخير معروفا وذا اسم عند متكلمي الإنجليزية في حين كان بورخيس غير معروف عندهم وأعماله غير مترجمة، أخذ الفضول يدور حول هذا الكاتب المغمور الذي شارك الجائزة مع بكيت. قامت الحكومة الإيطالية بمنحه لقب قائد (Commendatore) تكريما له، كما عينته جامعة تكساس في أوستن لسنة واحدة. قاد هذا الأمر إلى قيام بورخيس بجولة لإعطاء المحاضرات في الولايات المتحدة، ثم ظهر أول ترجمة لأعماله بالإنجليزية في 1962 م، وتبع ذلك جولات في أوروبا ومنطقة الأنديز في أمريكا الجنوبية في سنوات لاحقة. منحته إليزابيت الثانية ملكة المملكة المتحدة وسام الإمبراطورية البريطانية في عام 1965 م. وقد حصل بورخيس بعد ذلك على عشرات الأوسمة والتكريمات في ما تلى من سنوات، ومثال ذلك حصوله على وسام جوقة الشرف الفرنسية (Légion d'honneur) وجائزة كيرفانتس
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...