نقوس المهدي
كاتب
الأبياتُ التي صدَّر بها بورخيس، بنصِّها الإنكليزي، قصتَه الفانتاسية هذه مأخوذةٌ من قصيدة "1919" التي وضعها الشاعر وليم بطلر ييتس (1865-1939)، الذي كان يعتبره بورخيس الشاعر الأول في عصره، إبان الاضطرابات الأيرلندية، وقد ضمَّها إلى كتابه البرج؛ وهي تناسب تمامًا هذه القصة، وتضعنا مباشرةً في جوِّها الذي يدور حول النظرية الدورية للزمن، كما سنلاحظ. فالتاريخ، بدلاً من الانتقال البسيط المستمر من القديم إلى الجديد، كما يفترض ييتس، يندفع بالقديم؛ وهو في ذلك، لا يتخذ خطًّا مستقيمًا، بل دائري أو حلزوني.
جريًا على دأبه، يتناول بورخيس في هذه القصة أفكار فلاسفة التاريخ، كالذين يذكرهم: كوندورسيه، هيغل، شپنغلر، ڤيكو، ويلعب بهم لعبة قصصية؛ ويكون منطلقُه، بحسب اعترافه، بتأثير من كاتب الألغاز البوليسية تشسترتون، أحد الأثيرين عنده، إضافة إلى ستيڤنسون وكافكا وشوپنهاور، وأيضًا من نظرية "الانسجام الأزلي" القائم من قبل، التي تعتمد على جوهر روحي Monad فائق: المطلق–الله، والتي بسطها الفيلسوف والسياسي والرياضي والجيولوجي والمؤرخ لايبنتس؛ وهي نظرية كان هذا الفيلسوف فخورًا بها، حتى إنه كان يوقِّع مؤلَّفاته بعبارة "مؤلِّف الانسجام الأزلي"، وقد عرضها في كتابه الفلسفة الإلهية (1710). هذه النظرية تتلاقى مع فكرة العود الأبدي التي هي محور أساسي في المخيلة البورخيسية، وتتردَّد في أقاصيص بورخيس في صور شتى؛ وهي هنا تظهر في صورة واضحة: فبورخيس، الذي يخبرنا بأنه ابتدع هذه القصة في "الأصائل العقيمة"، يتساءل فيما إذا لم يكن يقف خلفه بورخيس آخر ابتدع الأول والأصائل العقيمة وكلَّ شيء، وفيما إذا لم يكن هذا البورخيس يقف خلف آخر فآخر في عود أبدي...
وننتهي أخيرًا، نحن القراء، إلى الاستيهام بأننا شخوص في مخطَّط كبير وضعه أحدهم، ونتساءل: هل العالم منظَّم فعلاً طبقًا لـ"الانسجام الأزلي" سابق الوجود أم ليس كذلك؟ وهل أبطالنا "حقيقيون" أم "مزيفون" و"خونة"؟ ومع أن هذه الشكوك والتساؤلات كلها تُرِكَتْ مفتوحةً، فإن بورخيس يوجِّهنا إلى فكرته التي بنى عليها هذه القصة التي، على قِصَرِها، تتألف من عدد من الحبكات المنفصلة.
في نصوص متنوعة تناول فيها بورخيس الرواية البوليسية والساغا saga (حكايات تاريخية أو ميثولوجية من الأدب الإسكنديناڤي) ورموز القرون الوسطى، أوضح أن تقدم الأدب السردي الذي ينحرف عن الواقعية الوصفية يستلزم إيجاد مواضيع طريفة ويوحي بمزايا الشخوص من طريق سلوكهم ومسار القص؛ كما يجدر به أن يبتكر عالمًا من الرموز. هذه المبادئ التي اكتشفها بورخيس أو أشار إليها، حوالى العام 1953، كناقد للأدب المعاصر أو أدب القرون الوسطى، طبَّقها في سلسلة مدهشة من الأقاصيص.
في محاضرة ألقاها بورخيس في العام 1949 في مونتڤيديو، حدَّد أربعة شروط تسمح للكاتب الفانتاسي بأن لا يهدم الواقعية المزعومة للقصة وحسب، بل بأن يُشرِّب الواقعية ذاتها بخمر الفانتاسيا. وهذه الشروط هي:
- أولاً: تضمين العمل الفني ذاته عملاً آخر في السياق ذاته: وهذا، كما يلاحظ بورخيس، نجده في دون كيخوته، حيث شخوص الجزء الثاني قرأوا الجزء الأول، كما نجده في هاملت، حيث يقوم الممثلون أمام كلاوديوس وحاشيته بتقديم مأساة شبيهة بـهاملت في نقاط عدة، وكذلك في الإنيادة (القسم الأول) والإلياذة (النشيد الثالث).
- ثانيًا، تشريب الواقعية بالحلم: وهذا نجده في فولكلور معظم الشعوب.
- ثالثًا: السفر في الزمن، كما لدى هـ.ج. ويلز في آلة الزمن، حيث البطل يسافر في الزمن ويعود بزهرة ذابلة.
- رابعًا: الازدواجية: كما لدى هنري جيمس في رواية معنى الماضي، حيث البطل يُعجَبُ بپورتريه من القرن الثامن عشر يمثِّل القرن العشرين، فيقرِّر أن ينتقل إلى ذلك القرن الأسبق، ويطلب من الفنان الذي رسمه أن يُنجز له پورتريه مماثلاً: العلَّة هنا تالية للمعلول، والدافع إلى السفر إحدى نتائج السفر. مثل هذه الازدواجية وردت في أقاصيص عدَّة لبورخيس، ومنها قضية الخائن والبطل: فالبطل هنا يؤدي دور الخائن والبطل معًا، في محاكمة صورية، تساعد على تغطية الجريمة الحقيقية.
هـ.ف.ص.
* * *
قضـيَّة الخـائن والبطـل
وهكذا بدلاً من أن تعصف
السنة الأفلاطونية
بالصواب والخطأ الجديدين،
تندفع بالقديم منهما؛
البشر كلهم راقصون، وخطاهم
تنتظم وفق قرقعة صنجٍ همجية...
– و.ب. ييتس، البرج
بتأثير واضح من تشسترتون (مبتكر الألغاز الرائعة ومزخرفها)، ومن المستشار البلاطي لايبنتس (مبتكر الانسجام المسبق)، تخيَّلتُ هذه المحاكمة التي سأعالجها، ربما، والتي تبرِّرني الآن نوعًا ما في الأصائل العقيمة. قد تنقضي التفاصيل والتصحيحات والتعديلات، كما أن ثمة زوايا من التاريخ لم تُكشَف لي بعد؛ واليوم، في الثالث من كانون الثاني 1944، أراها على الشكل الآتي:
يقع الحدث في بلد مقموع وقاسٍ: في پولونيا أو أيرلندا أو جمهورية البندقية أو إحدى دول أمريكا الجنوبية أو البلقان... والأَوْلى أن نقول وقع في الماضي، لأن الراوي، وإنْ يكُ معاصرًا، فالقصة التي يحكيها جرت في أواسط القرن التاسع عشر أو مطلعه، ولنقل (تيسيرًا للقص) في أيرلندا، ولنقل في العام 1824. الراوي يُدعى رايَن، وهو ابن حفيد الشاب والبطل والبهي فيرغوس كيلپاتريك الذي اغتيل وانتُهِكَتْ حرمةُ ضريحه في صورة غامضة والذي تزدان باسمه أشعار براوننغ وهوغو وتتصدر نصبَه هضبةٌ شهباء في وسط المستنقعات الحمراء.
كان كيلپاتريك متآمرًا، بل كان رئيس المتآمرين السري المجيد. وهو، كمثل موسى الذي أبصر من أرض مؤاب أرض الميعاد ولم يستطع أن يطأها، قد لقي حتفه ليلة الثورة المظفَّرة التي خطَّط لها وحلم بها. اليوبيل الأول على حتفه يقترب، وظروف الجريمة التي أودت به يكتنفها الغموض؛ إلاَّ أن رايَن الذي يعمل على كتابة سيرة البطل يكتشف أن اللغز يتجاوز النطاق البوليسي الصرف. لقد قُتِلَ كيلپاتريك في المسرح، والبوليس البريطاني لم يعثر على القاتل؛ وقد ارتأى المؤرخون أن هذا الإخفاق لا يطعن في صيته الحسن، لأن هذا البوليس بالذات قد يكون متورطًا في مقتله. ثمة جوانب أخرى للُّغز تشغل بال رايَن. وهي ذات خاصية دائرية، حيث يبدو أنها تكرِّر أحداث أقاليم بعيدة أو تخلط فيما بينها في عصور بعيدة. وعليه، فلا أحد يجهل أن عناصر البوليس التي تفحصت جثة البطل وجدت رسالةً مختومةً تحذِّره من الخطر الذي يتهدده إنْ قصد المسرح تلك الليلة. كذلك يوليوس قيصر، عند توجُّهه إلى المكان الذي كانت تنتظره فيه خناجرُ أصدقائه، تلقَّى إشعارًا لم يقرأه يُظهِرُ له خيوط الخيانة وأسماء القتلة. وأيضًا كالپورنيا، زوج القيصر، رأت في الحلم صرحًا مهدَّمًا كان مجلس الشيوخ خصَّها به. وليلة مقتل كيلپاتريك سَرَتْ شائعات كاذبة مجهولة المصدر في أنحاء البلاد كلِّها عن احتراق برج كيلغارڤن الدائري؛ وهو حدث قد يكون نذيرًا، لأن كيلپاتريك وُلد في كيلغارڤن. فهذه التوازيات (وسواها) بين قصة القيصر وقصة متآمر أيرلندي حملتْ رايَن على افتراض شكل سريٍّ للزمن، رسم تتكرَّر خطوطُه. فهو يستحضر في ذهنه التاريخ العشري الذي تصوَّره كوندورسيه، والمورفولوجيات التي اقترحها هيغل وشپنغلر وڤيغو، وشخوص هسيود الذين تحوَّلوا من الذهب إلى الحديد؛ ويستحضر أيضًا التقمص، وهو مذهب يُرعب الآداب الكلتية، وقد عزاه القيصر إلى الكهنة الدرويد الغاليين. كما يتصور أن البطل فيرغوس كيلپاتريك، قبل أن يكون فيرغوس كيلپاتريك، كان يوليوس قيصر. وأنقذه من هذه المتاهات الدائرية استنتاجٌ طريف، استنتاجٌ غوَّصه من بعدُ في متاهات أخرى أكثر تعقيدًا وتنافرًا: بعض كلمات نطق بها متسوِّل كان يتحدث إلى فيرغوس كيلپاتريك يوم مصرعه، سبق لشكسپير أن قالها في مأساته ماكبث. المفترَض أن يكون التاريخ ناسخًا للتاريخ، وهذا أمر مدهش بما فيه الكفاية؛ أما أن يكون التاريخ ناسخًا للأدب، فهذا ما لا يُعقَل... وهكذا يكتشف رايَن في العام 1844 أن جيمس ألكسندر نولان، أقدم أصدقاء البطل، قد نقل إلى اللغة الغالية أهم مآسي شكسپير، ومن بينها مأساة يوليوس قيصر.
ويكتشف أيضًا في دار المحفوظات مقالاً مخطوطًا بقلم نولان عن المهرجان السويسري، هو كناية عن عروض مسرحية ضخمة ومتنقِّلة تتطلب الآلاف من الممثلين وتستعيد الوقائع التاريخية التي عرفتْها المدن وحتى القرى الجبلية. كذلك تُظهِرُ له وثيقةٌ أخرى غير منشورة أن كيلپاتريك، قبل بضعة أيام من لقاء حتفه، وفي أثناء ترؤُّسه آخر اجتماع سري، وقَّع حكمًا بإعدام خائن كان اسمه مشطوبًا. إلاَّ أن هذا الحكم لم يكن من طبيعة كيلپاتريك المتَّسمة بالرحمة. ويسعى رايَن إلى إضاءة هذه النقطة (وهذا المسعى يشكِّل إحدى فجوات هذه القضية)، فينجح في حلِّ هذا اللغز.
لقد اغتيل كيلپاتريك في مسرح، ولكن المدينة بكاملها كانت تُستعمَل مسرحًا، والممثلون كانوا كُثرًا، وقد استغرقت المأساة التي تكلَّلت بموته أيامًا عديدة بلياليها. وها هي ذي أحداثها:
في الثاني من آب من العام 1824، اجتمع المتآمرون. وكان البلد مستعدًّا للثورة، ولكن تبقى دائمًا ثغرة ما: أن يندسَّ خائن في الاجتماع السري. وكلَّف فيرغوس كيلپاتريك جيمس نولان إماطةَ اللثام عن هذا الخائن. وقام نولان بهذه المهمة: أعلن وسط الاجتماع أن الخائن لم يكن سوى كيلپاتريك بالذات، وأثبت ببراهين لا تُدحَض صواب اتهامه؛ فقضى المتآمرون بإعدام رئيسهم. ووقَّع هذا الأخير عقوبته بيده، لكنه تمنَّى أن لا تتسبَّب هذه العقوبة في أيِّ أذى لبلاده.
ورسم نولان يومذاك خطةً غريبة. وألَّهت أيرلندا كيلپاتريك، حيث إن أقل شُبهة في عاره قد تعرِّض الثورة للخطر. وكان الحل الذي اقترحه نولان أن يكون إعدام الخائن وسيلةً لتحرير البلاد. فارتأى أن يُصرَع بيد قاتل مجهول، في ظروف مأسوية، متعمَّدة، تنحفر في مخيلة الشعب وتُعجِّل في قيام الثورة. وأقسم كيلپاتريك على التعاون في تنفيذ هذه الخطة التي أتاحت له الفرصة لتبرئة سمعته، ومهَرَها موتُه بإمضائه.
لكن نولان، لضيق الوقت، لم يتمكن من اختلاق ظروف تنفيذ الحكم المتعدِّد الأدوار كلها، فاضطر إلى انتحال مسرحيٍّ آخر هو العدو الإنكليزي وليم شكسپير، فكرَّر مشاهد بعينها من ماكبث ويوليوس قيصر. وقد استمر عرض المسرحية العلني والسري أيامًا عدة. ودخل المحكوم عليه إلى دبلن، وناقش، وانهمك في العمل، وصلَّى، ونُبِذَ، وتفوَّه بكلمات مؤثرة؛ وكل من هذه الأفعال التي كانت تعكس المجد، قد حدَّده نولان مسبقًا. وتعاون مئات الممثلين مع البطل، وكان دور بعضهم معقدًا، ودور بعضهم الآخر قصيرًا. وبقي ما قالوه وفعلوه مسجَّلاً في كتب التاريخ، في ذاكرة أيرلندا المشبوبة. وكيلپاتريك، الذي كان يقوده مصيرٌ دقيقٌ أنقذ سمعته وأهلكه في الوقت عينه، أغنى غير مرة نصَّ قاضيه بأفعاله وكلماته المرتجَلة. وهكذا جرى عرض هذه المأساة المتعددة الشخوص في الزمن المحدد، حتى يوم السادس من آب من العام 1824، في مقصورة ذات ستائر جنائزية تمثِّل مسبقًا ستائر لينكولن. دخلت الرصاصة المبتغاة في صدر الخائن والبطل الذي تمكَّن في صعوبة من أن يتلفَّظ ببضع كلمات، بين دفعتين مفاجئتين من نفور الدم.
في عمل نولان، جاءت المقاطع التي يقلِّد فيها شكسپير على مستوى مسرحي أقل؛ وفي ظنِّ رايَن أن المؤلِّف أضافها، عسى أن يعثر أحدهم في المستقبل على الحقيقة. وهو يدرك أنه يشكِّل أيضًا جزءًا من حبكة نولان... وبعد تأمل عميق، يقرِّر أن يصرف النظر عن هذا الاكتشاف، وينشر كتابًا خاصًّا يبسط فيه أمجاد البطل. ولعل هذا أيضًا كان مخطَّطًا له مسبقًا.
*** *** ***
تقديم وترجمة: هنري فريد صعب
جريًا على دأبه، يتناول بورخيس في هذه القصة أفكار فلاسفة التاريخ، كالذين يذكرهم: كوندورسيه، هيغل، شپنغلر، ڤيكو، ويلعب بهم لعبة قصصية؛ ويكون منطلقُه، بحسب اعترافه، بتأثير من كاتب الألغاز البوليسية تشسترتون، أحد الأثيرين عنده، إضافة إلى ستيڤنسون وكافكا وشوپنهاور، وأيضًا من نظرية "الانسجام الأزلي" القائم من قبل، التي تعتمد على جوهر روحي Monad فائق: المطلق–الله، والتي بسطها الفيلسوف والسياسي والرياضي والجيولوجي والمؤرخ لايبنتس؛ وهي نظرية كان هذا الفيلسوف فخورًا بها، حتى إنه كان يوقِّع مؤلَّفاته بعبارة "مؤلِّف الانسجام الأزلي"، وقد عرضها في كتابه الفلسفة الإلهية (1710). هذه النظرية تتلاقى مع فكرة العود الأبدي التي هي محور أساسي في المخيلة البورخيسية، وتتردَّد في أقاصيص بورخيس في صور شتى؛ وهي هنا تظهر في صورة واضحة: فبورخيس، الذي يخبرنا بأنه ابتدع هذه القصة في "الأصائل العقيمة"، يتساءل فيما إذا لم يكن يقف خلفه بورخيس آخر ابتدع الأول والأصائل العقيمة وكلَّ شيء، وفيما إذا لم يكن هذا البورخيس يقف خلف آخر فآخر في عود أبدي...
وننتهي أخيرًا، نحن القراء، إلى الاستيهام بأننا شخوص في مخطَّط كبير وضعه أحدهم، ونتساءل: هل العالم منظَّم فعلاً طبقًا لـ"الانسجام الأزلي" سابق الوجود أم ليس كذلك؟ وهل أبطالنا "حقيقيون" أم "مزيفون" و"خونة"؟ ومع أن هذه الشكوك والتساؤلات كلها تُرِكَتْ مفتوحةً، فإن بورخيس يوجِّهنا إلى فكرته التي بنى عليها هذه القصة التي، على قِصَرِها، تتألف من عدد من الحبكات المنفصلة.
في نصوص متنوعة تناول فيها بورخيس الرواية البوليسية والساغا saga (حكايات تاريخية أو ميثولوجية من الأدب الإسكنديناڤي) ورموز القرون الوسطى، أوضح أن تقدم الأدب السردي الذي ينحرف عن الواقعية الوصفية يستلزم إيجاد مواضيع طريفة ويوحي بمزايا الشخوص من طريق سلوكهم ومسار القص؛ كما يجدر به أن يبتكر عالمًا من الرموز. هذه المبادئ التي اكتشفها بورخيس أو أشار إليها، حوالى العام 1953، كناقد للأدب المعاصر أو أدب القرون الوسطى، طبَّقها في سلسلة مدهشة من الأقاصيص.
في محاضرة ألقاها بورخيس في العام 1949 في مونتڤيديو، حدَّد أربعة شروط تسمح للكاتب الفانتاسي بأن لا يهدم الواقعية المزعومة للقصة وحسب، بل بأن يُشرِّب الواقعية ذاتها بخمر الفانتاسيا. وهذه الشروط هي:
- أولاً: تضمين العمل الفني ذاته عملاً آخر في السياق ذاته: وهذا، كما يلاحظ بورخيس، نجده في دون كيخوته، حيث شخوص الجزء الثاني قرأوا الجزء الأول، كما نجده في هاملت، حيث يقوم الممثلون أمام كلاوديوس وحاشيته بتقديم مأساة شبيهة بـهاملت في نقاط عدة، وكذلك في الإنيادة (القسم الأول) والإلياذة (النشيد الثالث).
- ثانيًا، تشريب الواقعية بالحلم: وهذا نجده في فولكلور معظم الشعوب.
- ثالثًا: السفر في الزمن، كما لدى هـ.ج. ويلز في آلة الزمن، حيث البطل يسافر في الزمن ويعود بزهرة ذابلة.
- رابعًا: الازدواجية: كما لدى هنري جيمس في رواية معنى الماضي، حيث البطل يُعجَبُ بپورتريه من القرن الثامن عشر يمثِّل القرن العشرين، فيقرِّر أن ينتقل إلى ذلك القرن الأسبق، ويطلب من الفنان الذي رسمه أن يُنجز له پورتريه مماثلاً: العلَّة هنا تالية للمعلول، والدافع إلى السفر إحدى نتائج السفر. مثل هذه الازدواجية وردت في أقاصيص عدَّة لبورخيس، ومنها قضية الخائن والبطل: فالبطل هنا يؤدي دور الخائن والبطل معًا، في محاكمة صورية، تساعد على تغطية الجريمة الحقيقية.
هـ.ف.ص.
* * *
قضـيَّة الخـائن والبطـل
وهكذا بدلاً من أن تعصف
السنة الأفلاطونية
بالصواب والخطأ الجديدين،
تندفع بالقديم منهما؛
البشر كلهم راقصون، وخطاهم
تنتظم وفق قرقعة صنجٍ همجية...
– و.ب. ييتس، البرج
بتأثير واضح من تشسترتون (مبتكر الألغاز الرائعة ومزخرفها)، ومن المستشار البلاطي لايبنتس (مبتكر الانسجام المسبق)، تخيَّلتُ هذه المحاكمة التي سأعالجها، ربما، والتي تبرِّرني الآن نوعًا ما في الأصائل العقيمة. قد تنقضي التفاصيل والتصحيحات والتعديلات، كما أن ثمة زوايا من التاريخ لم تُكشَف لي بعد؛ واليوم، في الثالث من كانون الثاني 1944، أراها على الشكل الآتي:
يقع الحدث في بلد مقموع وقاسٍ: في پولونيا أو أيرلندا أو جمهورية البندقية أو إحدى دول أمريكا الجنوبية أو البلقان... والأَوْلى أن نقول وقع في الماضي، لأن الراوي، وإنْ يكُ معاصرًا، فالقصة التي يحكيها جرت في أواسط القرن التاسع عشر أو مطلعه، ولنقل (تيسيرًا للقص) في أيرلندا، ولنقل في العام 1824. الراوي يُدعى رايَن، وهو ابن حفيد الشاب والبطل والبهي فيرغوس كيلپاتريك الذي اغتيل وانتُهِكَتْ حرمةُ ضريحه في صورة غامضة والذي تزدان باسمه أشعار براوننغ وهوغو وتتصدر نصبَه هضبةٌ شهباء في وسط المستنقعات الحمراء.
كان كيلپاتريك متآمرًا، بل كان رئيس المتآمرين السري المجيد. وهو، كمثل موسى الذي أبصر من أرض مؤاب أرض الميعاد ولم يستطع أن يطأها، قد لقي حتفه ليلة الثورة المظفَّرة التي خطَّط لها وحلم بها. اليوبيل الأول على حتفه يقترب، وظروف الجريمة التي أودت به يكتنفها الغموض؛ إلاَّ أن رايَن الذي يعمل على كتابة سيرة البطل يكتشف أن اللغز يتجاوز النطاق البوليسي الصرف. لقد قُتِلَ كيلپاتريك في المسرح، والبوليس البريطاني لم يعثر على القاتل؛ وقد ارتأى المؤرخون أن هذا الإخفاق لا يطعن في صيته الحسن، لأن هذا البوليس بالذات قد يكون متورطًا في مقتله. ثمة جوانب أخرى للُّغز تشغل بال رايَن. وهي ذات خاصية دائرية، حيث يبدو أنها تكرِّر أحداث أقاليم بعيدة أو تخلط فيما بينها في عصور بعيدة. وعليه، فلا أحد يجهل أن عناصر البوليس التي تفحصت جثة البطل وجدت رسالةً مختومةً تحذِّره من الخطر الذي يتهدده إنْ قصد المسرح تلك الليلة. كذلك يوليوس قيصر، عند توجُّهه إلى المكان الذي كانت تنتظره فيه خناجرُ أصدقائه، تلقَّى إشعارًا لم يقرأه يُظهِرُ له خيوط الخيانة وأسماء القتلة. وأيضًا كالپورنيا، زوج القيصر، رأت في الحلم صرحًا مهدَّمًا كان مجلس الشيوخ خصَّها به. وليلة مقتل كيلپاتريك سَرَتْ شائعات كاذبة مجهولة المصدر في أنحاء البلاد كلِّها عن احتراق برج كيلغارڤن الدائري؛ وهو حدث قد يكون نذيرًا، لأن كيلپاتريك وُلد في كيلغارڤن. فهذه التوازيات (وسواها) بين قصة القيصر وقصة متآمر أيرلندي حملتْ رايَن على افتراض شكل سريٍّ للزمن، رسم تتكرَّر خطوطُه. فهو يستحضر في ذهنه التاريخ العشري الذي تصوَّره كوندورسيه، والمورفولوجيات التي اقترحها هيغل وشپنغلر وڤيغو، وشخوص هسيود الذين تحوَّلوا من الذهب إلى الحديد؛ ويستحضر أيضًا التقمص، وهو مذهب يُرعب الآداب الكلتية، وقد عزاه القيصر إلى الكهنة الدرويد الغاليين. كما يتصور أن البطل فيرغوس كيلپاتريك، قبل أن يكون فيرغوس كيلپاتريك، كان يوليوس قيصر. وأنقذه من هذه المتاهات الدائرية استنتاجٌ طريف، استنتاجٌ غوَّصه من بعدُ في متاهات أخرى أكثر تعقيدًا وتنافرًا: بعض كلمات نطق بها متسوِّل كان يتحدث إلى فيرغوس كيلپاتريك يوم مصرعه، سبق لشكسپير أن قالها في مأساته ماكبث. المفترَض أن يكون التاريخ ناسخًا للتاريخ، وهذا أمر مدهش بما فيه الكفاية؛ أما أن يكون التاريخ ناسخًا للأدب، فهذا ما لا يُعقَل... وهكذا يكتشف رايَن في العام 1844 أن جيمس ألكسندر نولان، أقدم أصدقاء البطل، قد نقل إلى اللغة الغالية أهم مآسي شكسپير، ومن بينها مأساة يوليوس قيصر.
ويكتشف أيضًا في دار المحفوظات مقالاً مخطوطًا بقلم نولان عن المهرجان السويسري، هو كناية عن عروض مسرحية ضخمة ومتنقِّلة تتطلب الآلاف من الممثلين وتستعيد الوقائع التاريخية التي عرفتْها المدن وحتى القرى الجبلية. كذلك تُظهِرُ له وثيقةٌ أخرى غير منشورة أن كيلپاتريك، قبل بضعة أيام من لقاء حتفه، وفي أثناء ترؤُّسه آخر اجتماع سري، وقَّع حكمًا بإعدام خائن كان اسمه مشطوبًا. إلاَّ أن هذا الحكم لم يكن من طبيعة كيلپاتريك المتَّسمة بالرحمة. ويسعى رايَن إلى إضاءة هذه النقطة (وهذا المسعى يشكِّل إحدى فجوات هذه القضية)، فينجح في حلِّ هذا اللغز.
لقد اغتيل كيلپاتريك في مسرح، ولكن المدينة بكاملها كانت تُستعمَل مسرحًا، والممثلون كانوا كُثرًا، وقد استغرقت المأساة التي تكلَّلت بموته أيامًا عديدة بلياليها. وها هي ذي أحداثها:
في الثاني من آب من العام 1824، اجتمع المتآمرون. وكان البلد مستعدًّا للثورة، ولكن تبقى دائمًا ثغرة ما: أن يندسَّ خائن في الاجتماع السري. وكلَّف فيرغوس كيلپاتريك جيمس نولان إماطةَ اللثام عن هذا الخائن. وقام نولان بهذه المهمة: أعلن وسط الاجتماع أن الخائن لم يكن سوى كيلپاتريك بالذات، وأثبت ببراهين لا تُدحَض صواب اتهامه؛ فقضى المتآمرون بإعدام رئيسهم. ووقَّع هذا الأخير عقوبته بيده، لكنه تمنَّى أن لا تتسبَّب هذه العقوبة في أيِّ أذى لبلاده.
ورسم نولان يومذاك خطةً غريبة. وألَّهت أيرلندا كيلپاتريك، حيث إن أقل شُبهة في عاره قد تعرِّض الثورة للخطر. وكان الحل الذي اقترحه نولان أن يكون إعدام الخائن وسيلةً لتحرير البلاد. فارتأى أن يُصرَع بيد قاتل مجهول، في ظروف مأسوية، متعمَّدة، تنحفر في مخيلة الشعب وتُعجِّل في قيام الثورة. وأقسم كيلپاتريك على التعاون في تنفيذ هذه الخطة التي أتاحت له الفرصة لتبرئة سمعته، ومهَرَها موتُه بإمضائه.
لكن نولان، لضيق الوقت، لم يتمكن من اختلاق ظروف تنفيذ الحكم المتعدِّد الأدوار كلها، فاضطر إلى انتحال مسرحيٍّ آخر هو العدو الإنكليزي وليم شكسپير، فكرَّر مشاهد بعينها من ماكبث ويوليوس قيصر. وقد استمر عرض المسرحية العلني والسري أيامًا عدة. ودخل المحكوم عليه إلى دبلن، وناقش، وانهمك في العمل، وصلَّى، ونُبِذَ، وتفوَّه بكلمات مؤثرة؛ وكل من هذه الأفعال التي كانت تعكس المجد، قد حدَّده نولان مسبقًا. وتعاون مئات الممثلين مع البطل، وكان دور بعضهم معقدًا، ودور بعضهم الآخر قصيرًا. وبقي ما قالوه وفعلوه مسجَّلاً في كتب التاريخ، في ذاكرة أيرلندا المشبوبة. وكيلپاتريك، الذي كان يقوده مصيرٌ دقيقٌ أنقذ سمعته وأهلكه في الوقت عينه، أغنى غير مرة نصَّ قاضيه بأفعاله وكلماته المرتجَلة. وهكذا جرى عرض هذه المأساة المتعددة الشخوص في الزمن المحدد، حتى يوم السادس من آب من العام 1824، في مقصورة ذات ستائر جنائزية تمثِّل مسبقًا ستائر لينكولن. دخلت الرصاصة المبتغاة في صدر الخائن والبطل الذي تمكَّن في صعوبة من أن يتلفَّظ ببضع كلمات، بين دفعتين مفاجئتين من نفور الدم.
في عمل نولان، جاءت المقاطع التي يقلِّد فيها شكسپير على مستوى مسرحي أقل؛ وفي ظنِّ رايَن أن المؤلِّف أضافها، عسى أن يعثر أحدهم في المستقبل على الحقيقة. وهو يدرك أنه يشكِّل أيضًا جزءًا من حبكة نولان... وبعد تأمل عميق، يقرِّر أن يصرف النظر عن هذا الاكتشاف، وينشر كتابًا خاصًّا يبسط فيه أمجاد البطل. ولعل هذا أيضًا كان مخطَّطًا له مسبقًا.
*** *** ***
تقديم وترجمة: هنري فريد صعب