خورخي لويس بورخيس - أمثولة القصر.. ت: رشيد وحتي

في ذاك اليوم، أجال الإمبراطور الأصفر الشّاعر في قصره. كان يتركان خلفهما، في استعراضٍ طويلٍ، الشّرف الغربيّة الأولى، الّتي كانت تتحدّر كدرجات مدرّجٍ تكاد يصعب على العين الإحاطة به، نحو فردوسٍ أو حديقةٍ تمثّل مراياها المعدنيّة وحواجزها المشبّكة من العرعر المتاهة بشكلٍ قبليٍّ. تاها فيها بمرحٍ، وفي المبدأ كما لو خلا بالهما للعبةٍ، فانتابهما بعض القلق، لأنّ المماشي المستقيمة للمتاهة كانت تفسد بتعرّجاتٍ بالغة النّعومة ولو أنّها تتواصل وتتّخذ سراًّ هيأة دوائر. نحو منتصف اللّيل، سمحت لهما ملاحظة الكواكب والتّضحية السّانحة بسلحفاةٍ أن يتحرّرا من أسر تلك النّاحية الّتي كانت تبدو ساحرةً، لكن ليس تحت تأثير شعورهما بأنّهما تائهان، ذاك الشّعور الّذي رافقهما حتّى النّهاية. فيما بعد، عبرا غرف الانتظار، الباحات، المكتبات وبهواً سداسيّ الأركان به ساعةٌ مائيّةٌ؛ وذات صباحٍ لمحا من برجٍ رجلًا من حجرٍ، فقداه بعدئذٍ للأبد. عبرا الكثير من الأنهار المؤتلقة بزوارق صندلٍ، أو نهراً واحداً مرّاتٍ عديدةً. مرّت الحاشية الإمبراطوريّة فخرّ النّاس ساجدين، لكنّهما ذات يومٍ بلغا جزيرةً لم يفعل فيها أحدٌ من أهاليها ذلك، لأنّ لا أحد منهم رأى ابن السّماء، فما كان على الجلّاد إلّا أن يحزّ رقابهم. رأت عيونهم بلامبالاةٍ جديلاتٍ سوداء، رقصاتٍ زنجيّةً وأقنعةً ذهباً معقّدةً؛ التبس الواقعيّ بالحلميّ أو – بعبارةٍ أبلغ – كان الواقع أحد تمثّلات الحلم. بدا مستحيلًا أن تكون الأرض شيئاً آخر إلّا حدائق، مياه، هندساتٍ وأشكال للبهاء. مع كلّ مئة خطوةٍ، كان ثمّة برجٌ يشقّ الهواء؛ كان اللّون بالنّسبة للأعين هو نفسه، لكنّ أوّل الأبراج كان أصفر فيما كان الأخير قرمزياًّ، فقد كان التّدرّج اللّونيّ بالغ السّلاسة كما كان توالي الأبراج بالغ الامتداد.
عند قدم البرج ما قبل الأخير، أنشد الشّاعر [الّذي كان يبدو كما لو أنّه مستغربٌ للمشاهد الّتي كانت عجاباً للجميع] منظومته الموجزة الّتي ننسبها له اليوم بشكلٍ وثيقٍ، والّتي مكّنته، على عهدة أكثر المؤرّخين أناقةً، من الخلود والموت. صار النّصّ مفقوداً؛ فثمّة من يزعم أنّه بيتٌ شعريٌّ؛ آخرون، يزعمون أنّه كلمةٌ واحدةٌ. لكنّ الأكيد، اللّايصدّق، هو أنّ القصيدة كانت تحوي القصر العظيم بكمالٍ ودقّةٍ، بكلّ آنيةٍ شهيرةٍ من الخزف الصّينيّ، بكلّ رسمٍ في كلّ آنيةٍ من الخزف الصّينيّ، بكلّ الظّلال الخفيفة والأضواء الغسقيّة، بكلّ لحظةٍ حزينةٍ أو سعيدةٍ لدى الأسر الملكيّة المجيدة للفانين، للآلهة والتّنانين الّتي أقامت فيه منذ الماضي السّرمديّ. صمت الجميع، لكنّ الإمبراطور صاح تعجّباً: "لقد سلبني القصر!" فقطف سيف الجلّاد الحديد حياة الشّاعر.
ثمّة آخرون يستندون لروايةٍ مختلفةٍ للقصّة. فلا إمكان لوجود شيئين متماثلين في العالم؛ إذ يكفي [حسب ما قالوه لنا] أن ينطق الشّاعر بالقصيدة كي يختفي القصر، كما لو أنّ المقطع الأخير أفناه وصعقه. يتّضح من ذلك أنّ أساطير كهذه لا تعدو عن كونها تخييلاتٍ أدبيّةً. كان الشّاعر عبداً للإمبراطور وكذلك مات؛ وسقطت منظومته طيّ النّسيان لأنّه يستحقّ نسيانه، أمّا خلفه فما زالوا يبحثون – ولم يعثروا بعد– عن كلمة الكون.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...