عبد الفتاح كيليطو - شهريار والجني والأقفال السبعة

اسودت الدنيا في عين شهريار بعد المصاب الذي حلّ به، فقال لأخيه شاه زمان: «قم بنا نسافر إلى حال سبيلنا، وليس لنا حاجة بالملك حتى ننظر هل جرى لأحد مثلنا أو لا». خرج الأخوان خفية من باب سري في القصر، وأثناء سفرهما شاهدا جنياً رهيباً يخرج من البحر وعلى رأسه صندوق من زجاج، فخافا وطلعا إلى أعلى شجرة (شهريار فوق الشجرة!). وإذا بالجني يفتح الصندوق ويخرج منه علبة، يفتحها هي أيضاً فتبرز منها «صبية غراء بهية»... أن تفتح صندوقاً معناه أن تفاجأ، قد تجد داخله كنزاً، وقد تجد امرأة، وقد تنبعث منه شرور البشرية. أليس كتاب ألف ليلة وليلة صندوق باندورا؟...

يحمل الجني معه صندوقه أينما حل وارتحل، ظناً منه أنه يضمن بهذه الوسيلة وفاء المرأة له، فهو سجين أوهامه، حبيس صندوقه محكم الإقفال. لكن النوم يقهره ويذهله عن الاحتراس، النوم نقطة ضعفه، تستغلها صاحبته لإرغام شهريار وأخيه على النزول من الشجرة وعلى مضاجعتها، «ولما فرغا [...] أخرجت لهما من جيبها كيساً وأخرجت لهما منه خمسمئة وسبعين خاتماً. فقالت لهما: أتدرون ما هذه؟ فقالا لها: لا ندري. فقالت لهما: أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت، فأعطياني خاتميكما أنتما الاثنان الآخران». ثم روت لهما قصتها مع العفريت الذي اختطفها ليلة عرسها، مبررة بذلك على ما يظهر سلوكها، ومؤكدة فوق ذلك «أن المرأة إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء».

ما مدلول هذه القصة الطريفة وما هي وظيفتها؟ من الواضح أن هناك مماثلة بين شهريار والجني، بين الصندوق الزجاجي والقصر، وأن القصة بكاملها مرآة يشاهد فيها الأخوان قصتهما الخاصة. إلا أن ما لا ينبغي إغفاله أنها أول قصة تروى في الكتاب – طبعاً بعد حكاية ما جرى لشهريار وأخيه من مصاب. إنها خارج الألف ليلة وليلة، وتجدر الإشارة إلى أن الصبية البهية الغراء أول راوية في الليالي، قبل شهرزاد التي لن يأتي ذكرها إلا فيما بعد. الصبية - هكذا ينعتها النص وستظل بدون اسم - سبقت شهرزاد وشرعت أبواب السرد. وهنا تظهر المهارة الفائقة لمؤلف الليالي المجهول، أو بالأحرى المؤلفين، فلقد نسجوا هذه الحكاية وهم يفكرون في بنية الكتاب وأسلوب نظمه وصنوف تشعباته ومنعرجاته. ذلك أن الصبية تمهد لظهور شهرزاد، وتعلن بصفة مستترة مضمون الكتاب وشكله: خواتم في علبة!

عدد الخواتم التي غنمتها الصبية صارت في نهاية الأمر خمسمئة واثنين وسبعين، لم تصل بعد إلى الألف، ولكنها في طريقها إليه. وفي صيغة أخرى للقصة يبلغ عدد الخواتم ثمانية وتسعين، يضاف إليها خاتم شهريار وخاتم شاه زمان ليصل المجموع إلى مئة. وسواء أأخذنا بهذا العدد أم بذاك، فالمقصود هو العدد الهائل من الخواتم التي بحوزتها، ما لا يحصى من الخواتم. وعلى المنوال نفسه، فالألف الذي يشير اليه كتاب الليالي يحيل على عدد لا يحد ولا يحصى، كما يقول بورخيس. بهذا المعنى فان الحديث عن ألف ليلة وليلة هو بمثابة إضافة وحدة إلى اللانهائي. وبالمثل فإن الصبية قامت بالإضافة نفسها عندما زادت خاتمي شهريار وشاه زمان... في افتتاحية الكتاب تعلن الخواتم مسبقاً عن العدد الهائل من الليالي التي ستحييها شهرزاد. من جهة الصبية، ومن جهة شهرزاد، واحدة تجمع الخواتم، والأخرى الحكايات. تملك شهرزاد كما نعلم ألف كتاب، والصبية تملك ألف خاتم. للصبية عقد من الخواتم والعشاق، ولشهرزاد عقد من الحكايات والشخوص. للصبية كيس يضم عقد خواتم، ولشهرزاد ديوان يشتمل على سلسلة حكايات.

وبهذا الصدد، تشد الانتباه في القصة موضوعة الاختفاء وأيضاً الانغلاق. فشهريار وأخوه يختبئان بين أغصان الشجرة وأوراقها، والصندوق الزجاجي له أقفال ومفاتيح يصل عددها حسب النسخ إلى أربعة أو سبعة. أما الصبية فهي في علبة، والعلبة في صندوق، والصندوق في البحر... ألا يحيل هذا إلى كتاب الليالي وإلى حكاياته التي توجد بداخلها حكايات، تتضمن بدورها حكايات، وهكذا؟

تروي الصبية قصتها، إلا أنها لا تروي ما جرى لها بالتفصيل مع عشاقها الاثنين بعد الألف. ولمن قد ترويها يا ترى؟ أللأخوين الخائفين الوجلين؟ ليس لديها وليس لديهما متسع من الوقت لذلك. أللجني الشرس الرهيب؟ مستحيل. إن ما يمكن أن ترويه كتاب لم يصنف بعد، ولن يؤلف على الإطلاق، وإن كان مضمراً في حكايتها مستتراً فيها. وقد يكون هو الكتاب نفسه الذي يضم ما سردته شهرزاد...

* مجلة الدوحة
العدد 64 - فبراير 2013
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...