نقوس المهدي
كاتب
تحمل مداخلتي عنوان « التخلّص من المقامة «، و لأنّنا في الغالب لا نعثر على العنوان المناسب إلاّ بشكل متأخّر، فإنّ هذه المداخلة ستستظلّ بعنوان جديد : « الدّيك السّاهي le coq égaré «.
المقامة جنس أدبي ازدهر خلال القرن العاشر الميلادي مع الهمذاني و خلال القرن الحادي عشر الميلادي مع الحريري؛ يتعلّق الأمر بمحكي عالم يتألّف من نثر و من شعر. بخصوص الأشعار، و في رواية لجورج سيمنون(1903 ـ 1989 ) « زبائن أفرونوس « و في تيار الحدث الذي يجري في إسطنبول، يحدث خلال عشاء أو جلسة سكر، أن ينشد أحدهم أبياتا من الشّعر بالتركية أو بالفرنسية و أن يردّ عليه آخر بمقاطع شعرية. هذه الأشعار لم يتم نقلها إلى الرواية، إلاّ أنّ إنشاد الشعر يبقى ملفتا بما يكفي كي يُنوّه به و يتمّ تقديمه كتفصيل طريف؛ ظاهرة نابعة من الطابع المحلّي. ليس في الإمكان تخيّل شخصيات أخرى لسيمنون في فرنسا أو في أمريكا منقادة لهذه الممارسة من الإنشاد الجماعي؛ ممارسة، كما تجدر الإشارة، ليست تركية تخصيصا، فلقد مارسها العرب بشكل وافر خلال ولائمهم. باختصار، يتعلّق الأمر بظاهرة شرقية. عند الأتراك كما عند العرب، من الملائم استدعاء الشّعر في مختلف مناسبات الحياة لدواعي متعدّدة : لتحويل المجهول إلى المعلوم، للتعبير عن تضامن أو تكافل، لتحريك المشاعر، أو تحت تأثير حنين غامض. لم يتم إدراج أيّ واحد من أبيات الشّعر في رواية سيمنون. يلزم الاعتقاد بأنّ الروائي و قارئه غير منشغليْن بذلك، هذا أمر ليس بجدير؛ أليست الرواية المعاصرة لا تنقاد للإستشهادات الشّعرية ؟ حتى و إن كان البطل شاعرا، فليس لنا أن نهتم بأشعاره التي لا تُذكر إلاّ عند الاقتضاء و لا يُستشهد بها إلاّ بشكل عابر و بكيفية شحيحة. إنّ رواية الشّاعر يجب أن لا تستضيف أشعاره تحت طائلة السخرية من القارئ. و لذلك، فإنّ القارئ الحديث يميل إلى إنجاز انفصال متعسّف بين شكليْ الخطاب. إضافة إلى ذلك، ألا يحدث لنا في عاداتنا القرائية أن نقفز على المقاطع المنظومة عند قراءة « طوق الحمامة « لابن حزم أو مقامات الهمذاني أو ألف ليلة و ليلة ؟
يمكن القول دون مغالاة إنّ الرواية العربية المعاصرة رأت النّور لمّا طردت و أقصت الشّعر. الانفصال عن الشّعر هو واحد من العناصر التي تفصل السّرد العربي الحديث عن السّرد العربي التقليدي. لا ننسى، بهذا الصّدد، أنّ أبطال مقامات الهمذاني و الحريري هم شعراء. المقامات مبنية على توازن بين النّثر و الشّعر و يمكن الجزم، دون مجازفة بالسّقوط في الخطأ، أنّ قرّاء القرنين العاشر و الحادي عشر الميلاديين لم يكونوا يقفزون، كما غالبيتنا اليوم، على المقاطع الشّعرية، و إلاّ لكان المؤلّفون ما اكترثوا بذلك؛ لماذا كان عليهم أن يدرجوا أبياتا شعرية في نصوصهم إذا كانت ستُهمل أثناء القراءة ؟
لكنّ الكتابة السّردية العربية استغرقت زمنا للتحرّر من الشّعر.هذا الانفصال لم يتحقّق دون ألم. نلاحظ ذلك في « السّاق على السّاق « للشدياق ( 1804 ـ 1887 ). نُشر هذا الكتاب سنة 1855 بباريس وهو كتاب ذو عنفوان عجيب ( حاولوا أن تقرأوه و أن تعيدوا قراءته، فلن تستنفدوا فحواه؛ ستعودون إليه مرّة بعد مرّة ). البطل يُدعى الفارياق؛ اندغام بين إسمي المؤلف: فارس والشدياق. البطل شاعر كما الكاتب ويبدو أنّ كتاب « السّاق على السّاق « عبارة عن سيرة ذاتية بضمير الغائب إلاّ أنّ الأشعار ليست مذكورة فيه إلاّ نادرا. نصادف، بالتأكيد، قصيدة طويلة في البداية هي بمثابة مقدّمة كما نعثر كذلك في الفصل الأخير أي في الطرف الآخر من الكتاب، على مختارات شعرية نظمها البطل الفارياق. الشّعر مقبول أو محتمل، لكنّه مُبعد أو منفيّ في الأطراف ( في الضواحي بمعنى من المعاني ! ) (1).
الأمر الأكثر أهمية أنّ « السّاق على السّاق « لم يُقدّم نفسه كمجموعة من المقامات؛ من بين الفصول الثمانين التي تؤلّفه أربعة منها فحسب تُعيّن كمقامات؛ تقدير محدود للتقليد السّردي، للسّجع. إنّ طرح السّجع من قبل الشدياق ترافق مع طرح المحسّنات البديعية و مع إظهار لأوجه الأسلوب. لماذا هذا الطّرح؟ لأنّ الشدياق يرصد كتابه لمجموع القراء « لأيّ قارئ كان «، و ليس فقط لنخبة متأدّبة. هذا، بشكل مسبق، عنصر انفصال عن المقامة؛ إذا ما أحد، يقول مضيفا، يؤمن بالأسلوب التقليدي، فليرجعْ إلى مقامات الحريري « ومن أحبّ أن يسمع الكلام كلّه مسجّعا مقفّى... فعليه بمقامات الحريري «. وهكذا يرسم مسافة بينه وبين هذا الكاتب الذي تكرّس كنموذج لعدّة قرون وإلى غاية القرن التاسع عشر. يطمح الشدياق إلى إقامة علاقة مباشرة مع القارئ دون وساطة، دون تدخّل من شارح أو مفسّر ما. لم يكن الأمر على هذا النّحو في الحقبة الكلاسيكية. من يمكنه أن يقرأ الحريري في القرن الحادي عشر دون إيضاحات من الشرّاح مثل الشريشي أو سلفستردي ساسي حديثا ؟
في الوقت الذي نشر فيه الشدياق كتابه، كان معاصره الآخر ناصيف اليازجي ( 1800 ـ 1871 ) يهيء مؤلّفه « مجمع البحرين « الذي سينشره عاما بعد ذلك سنة 1856. الكتاب يتألّف من ستين مقامة، تزيد عشر مقامات على مقامات الحريري؛ مزايدة! هذا الكتاب هو تقدير رفيع للكتابة القديمة، لا نعثر فيه على تصاوير ناقدة ، على أيّة مسافة تجاه الهمذاني أو الحريري. يجوز القول إذن إنّه إذا كان الشدياق رجل القطيعة، فإنّ ناصيف اليازجي رجل الوفاء للقدماء، و لهذا السّبب فإنّ كتابه لا يعبّر عن مرحلة في الخلق الأدبي ولا يُعتبر، بكل المقاييس، تجديدا للكتابة. لم يكن ناصيف اليازجي يطمح إلى ذلك على الإطلاق؛ كان يبتغي أن يكون واحدا من القدماء، رجل التقليد، خاضعا لثقل هذا الأخير، للعبء الثقيل للأدب بمعناه القديم. باختصار، إنّه السندباد البرّي بينما الشدياق هو السندباد البحري.
المقارنة ليست قسرية أو مُتعسّفة؛ فاليازجي لم يغادر قطّ موطنه ولا لغته، بينما الشدياق لم يكف عن التنقّل بين مصر وتركيا وتونس وأيضا، كما تجدر الإشارة، بين إيطاليا وفرنسا وإنجلترا؛ أراض قاطعها المسافرون العرب، كما نعلم، خلال الحقبة الكلاسيكية. من الآن فصاعدا، تنفتح وجهة أخرى أمام المسافرين، أفق جديد. هذا ما تغيّر جوهريا.أبطال المقامات كانوا يتحرّكون ضمن عالم الإسلام وفقط ضمن هذا العالم. جغرافيون كابن حوقل والمقدّسي معاصريْ الهمذاني لم يصفا أساسا سوى أقاليم مملكة الإسلام؛ امبراطورية الإسلام. لم يشذ الهمذاني عن هذه القاعدة. تدور مقاماته ضمن نفس الفضاء الذي وصفه الجغرافيون المعاصرون له. لكن، في القرن التاسع عشر فرض السّفر إلى أوربا نفسه ( إذا كان ابن بطوطة عاش في القرن التاسع عشر، لم يكن ليتوجّه إلى الهند أو إلى الصين، بل كان سيتوجّه إلى فرنسا! ). ظهرت مندئذ موضوعة جديدة في الآداب العربية: وصف أوربا. عرف محكي السّفر إلى أوربا روايتين: إمّا أنه محكي اضطلع به و كتبه المسافر مباشرة باسمه الشخصي، وإمّا أنه محكي منسوب إلى مسافر متخيّل و قد اقترض شكلا روائيا. هل من الإفراط القول إنّ الرواية العربية المعاصرة رأت النّور كي تصف أوربا؟ الأمثلة لا تحصى؛ فضلا عن الشدياق، هناك توفيق الحكيم « عصفور من الشرق»، ويحيى حقي « قنديل أمّ هاشم « وسهيل إدريس « الحي اللاتيني « و الطيب الصالح « موسم الهجرة إلى الشمال «... إلخ. وما زال هذا الوريد حيّا و مفيدا إلى الآن.
ستقولون لي: إنّ الرواية العربية ليست وصفا لأوربا إلاّ عرضا وبصورة متقطّعة. صحيح، ففي أيّامنا يتمّ وصف القاهرة و فاس وبيروت والجزائر... فيما قرأته لنجيب محفوظ، لا نعثر على هذا البعد الأوروبي الذي أتيت على ذكره. لكن، لنكنْ مُتيقّظين. أهناك ضرورة للذهاب إلى أوربا لملاقاة أوربا و التحدّث عنها؟ أوربا خارج فضائها الجغرافي انبجست من قلب العواصم العربية و هذا منذ نهاية القرن التاسع عشر.
هذا ما نتبيّنه في كتاب المويلحي ( 1858 ـ 1930 ) « حديث عيسى بن هشام « وهو كتاب صدر سنة 1907. ما يرويه لنا عيسى بن هشام له مكانة متفرّدة في الأدب العربي، فهو قد تمّ اعتباره كأوّل رواية عربية وكآخر مقامة؛ أن تكون الأوّل وأن تكون الأخير وضعية مشتهاة، وأحيانا يتمّ الاعتراض عليها من قبل الذين يعتبرون الشدياق كمدشّن ورائد للرواية، ولو أنّ « السّاق على السّاق « يظهر أنّه، قبل كلّ شيء، سيرة ذاتية. لكن حتى لا نضيع في مثل هذه المسائل المتعلّقة بحق التصدّر، نعود إلى سياق الكلام. ترد الإحالة إلى المقامة بدءا من العنوان « حديث عيسى بن هشام « لأنّ شخصية عيسى بن هشام واحدة من الشخصيتين الأساسيتين في مقامات الهمذاني؛ إخلاص إذن للنّوع الذي أنشأه الهمذاني من خلال شخصيته السّاردة؛ عيسى بن هشام التي انبعثت ـ إذا صحّ القول ـ في حديث المويلحي. من الجدير أن نشير في هذا الصّدد أنّ الانبعاث من الموضوعات ذات الشأن ليس فقط عند المويلحي، بل عند العديد من كتّاب النهضة؛ النهضة هي ولادة ثانية، هي انبعاث. تحمل رواية لتوفيق الحكيم عنوان « عودة الروح « وله أيضا مسرحية لها كإسم « أهل الكهف «.
تتذكّرون المشهد الافتتاحي لرواية المويلحي؛ مشهد ليلي و يجري في مقبرة. عيسى بن هشام يسير بين القبور و فجأة ينفتح واحد منها ويخرج منه باشا من زمن محمد علي؛ عائدا من الموت، شبح ( أيمكن الحديث عن قرابة ما بشبح أو طيف الأب في هاملت؟ ). لا ننسى أنّ المتجوّل اللّيلي يدعى عيسى بن هشام، وعيسى هو المسيح ! ( افعلوا بهذه الملاحظة ما تشاؤون ! ). غير أنّ المويلحي يملك مرجعيات أخرى أقلّ إضمارا و أكثر جدّية. ليس صدفة إذا ما كانت روايته تنفتح على انبعاث يستحضر منذ السطور الأولى أبيات المعرّي التي توحي بأنْ يسير المرء بتمهّل فوق الأرض، لأنّ هذه الأرض عبارة عن أجساد الموتى. المويلحي لا يشير إلى» رسالة الغفران « للمعرّي، لكن كيف لا نفكّر في هذا العمل الذي يصف انبعاث الموتى فضلا عن الجنة و النّار ؟ إنّ المويلحي، بالفعل، يصوّر فردوسا و جحيما، لكنّهما موجودان ها هنا على الأرض. تعيش شخصياته مغامرات مختلفة في القاهرة، هذا في القسم الأوّل، وفيما بعد في باريس وهو القسم الثاني. تبدو باريس، بوجه ما، كأنّها جنّة وقد شُبّهت بإرم ذات العماد. هذا المُندهش أو المُتعجّب إزاء باريس ليس شيئا جديدا، فالمسافرون المغاربة مثلا في القرن التاسع عشر و قد كانوا واعين بالتأخر التاريخي لبلدهم، كان ثمّة سؤال يفرض نفسه عليهم؛ سؤال لم يُطرح بشكل واضح أبدا، وإن كان، مع ذلك، مضمرا: لماذا هم وليس نحن؟ الجواب: لهم الحياة الدنيا ولنا الآخرة، لهم السّعادة الآنية العابرة و لنا السّعادة الأخروية الأبدية. لكن، ليس بهذه الكيفية يرى المويلحي الأمور، أن تقول: لهم هذا العالم و لنا عالمنا الآخر، معناه أن تتموضع ضمن منظور وعظي، أن تقيم علاقة أفقية من الإنسان إلى الله. يحتلّ الوعظ حيّزا واسعا في المقامات، لكنّ، ليس له هذا الحيّز في الرواية لأنّ العلاقة ضمنها محض عمودية: ما عادت العلاقة بين الإنسان والله وإنّما بين الإنسان و المجتمع والتي من متغيّراتها تنازع الثقافات. تشكّل القاهرة وباريس عند المويلحي قطبا العلاقة العمودية. باريس جنّة، غير أنّ الأمر يتعلّق بزاوية النظر أو بمختلف زوايا النظر التي غالبا ما تكون متناقضة كما ترتسم في كتاب المويلحي. لكن ما تكون النّار؟ النّار هي القاهرة . بالنسبة للباشا، رجل الكهف، الآتي من الماوراء، من الماضي والمنبثق في العالم الحديث، النّار هي القاهرة. لكن النّار أيضا هي البيروقراطية و البيروقراطية هي وجه العصرنة بالنسبة للباشا: لنقدّمْ هذا المثال: بمجرّد أن خرج من القبر، يريد العودة إلى بيته. يريد السّارد أن يقوده، أن يصطحبه. لكن لأيّ عنوان؟ ما اسم الشارع أو الزقاق؟ وما رقم المنزل؟ الباشا لا يعرف شيئا لأنّ البيوت على عهده لم تكن معروفة إلاّ من خلال أسماء أصحابها؛ وها هو قد أصبح ضائعا، عاجزا عن التّوجّه إلى وجهة ما؛ أوّل تماس مع البيروقراطية. في الطريق يتشاجر مع صاحب حمار، و ها هو قد سقط بين أحابيل النظام البوليسي والقضائي؛ نظام متعذر اقتلاعه، العصيّ على الفهم، الفظّ، هذا الجبروت اللاّ حدود له، المتعذّر النّفاذ إليه، ليس الله و إنّما البيروقراطية.
الخطّ الموجّه لجزء كبير من رواية المويلحي يُختصر في محنة الباشا مع البيروقراطية و مع مختلف تمظهراتها ( حوالي نفس السنة، كتب كافكا المحاكمة ). يتعلّق الأمر، بعد الآن، بمعرفة العالم من حولنا. أصبح العالم مُعتما، مُلغزا. لم يكن الأمر على هذا النّحو في المقامات، كانت هناك لا ريب اختلالات، أشخاص ليسوا كما يدّعون، نصوص مخادعة، شكل التورية، لكن سرعان ما يحلّ النظام ويسقط القناع سواء عن الشخصية أو عن الخطاب. العالم قد نجا لأنّه يتمّ التعرّف على الشخصية و التعرّف على شكل الخطاب.المقامة هي مقام التعرّف. ليس عند المويلحي شيء من كلّ هذا. الشخصيات قُذف بها في عالم لا تتعرّف عليه، التعرّف لا يعمل، الباشا وقد خرج من قبره لا يُميّز أيّ شيء من حوله. في باريس، يتنقّلان، هو وعيسى بن هشام، من مفاجأة إلى أخرى. في قصر المرايا، كما يدعوانه، يريان وجهيهما يتكاثران و كلّ خطوة من خطواتهما لا تزيدهما إلاّ تيها. في القصر الكبير، أوشكا على الضياع. لقد كانا شاهديْن في باريس، فضلا عن ما سبق، على انقلاب كوني و هذا هو الأهمّ. ما هو هذا الانقلاب الكوني؟ اللّيل أصبح نهارا من كثرة الأضواء في الشوارع. تبرز حينئذ صورة الدّيك السّاهي الذي حسب أنّ النّهار قد طلع فأطلق صياحه بينما كان اللّيل ما زال جاثما. العالم ليس واضحا، أو إنّ وضوحه بالأحرى خادع. ( في باريس إذن، ليس هناك ليل أو نهار، ليس ثمّة إلاّ نهار سرمدي!). و مع ذلك تلزم المجاهدة لفهمه والإلمام به. يتعلّق الأمر في الرواية بأن نعرف وفي المقامة بأن نتعرّف؛ يلزم أن نعرف هذا العالم لأنّنا لا نتعرّف عليه. نحتاج عندئذ إلى شخص يفسّره و يؤوّله
ومن هنا تبرز صور الذي يعرف؛ المرشد، الحكيم، المترجم. ونـأتي إلى الترجمة. في المقامات، ليس ثمّة من يترجم بتاتا. لم يلتجئ أبو الفتح أو أبو زيد في أية لحظة ـ إذا كانت ذاكرتي جيّدة ـ إلى لغة أخرى. يتغيّر الأمر في « السّاق على السّاق «، البطل مترجم، يعيش من ترجماته، كما الشدياق في حياته؛ الشدياق ترجم الإنجيل من بين ترجمات أخرى، لم تشكّل ترجمته لهذا الأخير مرجعا مستديما لدواعي مختلفة أهمّها ـ ربّما ـ اعتناقه الإسلام بعد فترة وجيزة من ذلك ( يترجم الإنجيل ثمّ يعتنق الإسلام. هذا قد خلق بعض الإنزعاج !). ترجمة، رواية جديدة، استبدال عقيدة؛ يتنقل الشدياق من الكاثوليكية إلى البروتستانتية ومن البروتستانتية إلى الإسلام. وعند نهاية حياته، ينتقل من الإسلام إلى الكاثوليكية: تعدّد في الدّيانات، تعدّد في الفضاءات، تعدّد في اللّغات؛ كان الشدياق يعرف اللغة الفرنسية واللغة الإيطالية واللغة التركية واللغة الفارسية ولغات أخرى أيضا.
في رواية المويلحي، يقوم عيسى بن هشام بوظيفة المترجم للباشا الفاقد للاتجاه؛ يتحدّث معه تارة بالعربية، تارة بالتركية، يشرح له أيضا ما يُقال باللغة الفرنسية. هذا كذلك عنصر جديد بالمقارنة مع المقامة التي لا تنطوي إلاّ على لغة وحيدة وفضاء وحيد؛ إمبراطورية الإسلام بينما ينبثق عند المويلحي فضاء آخر؛ الغرب المجسّد في فرنسا. الفضاءان غير منفصليْن لأنّ أوربا ـ كما قلتُ ـ موجودة في قلب القاهرة.
إنّ التوجّه إلى لغة أجنبية يعني التوجّه إلى أدب آخر، إلى سنن أخرى في الكتابة و في القراءة. الذّهاب نحو الأوروبيين هو ذهاب نحو إنتاجهم الأدبي. يذكر الشدياق لامارتين، شاتوبريان، رابليه و المويلحي يهتم ّ بالحياة الثقافية في باريس. ومن ثمّ قدّما رؤية جديدة عن آدابهما الخاصة. لقد تمّ اعتبار و تقييم الأدب العربي انطلاقا من أدب آخر. عهد المقارنة بدأ في العالم العربي. منذ هذه اللحظة لا يوجد كاتب عربي واحد ليس مُترجما، ليس مزدوج اللغة بهذه الكيفية أو تلك. كلّ كاتب عربي هو، بشكل أو بآخر، مترجم و مقارن. كتاب المويلحي توديع للمقامة، للكتابة الكلاسيكية و هو أيضا وعد بالجديد.
القطيعة مع المقامة هي كذلك قطيعة مع الأدب أي مع ثقافة معيّنة، مع أشكال و أنواع من الخطاب؛ تمّ هجران الأمثال القديمة و كذلك الأوجه البلاغية النموذجية. لا أحد اليوم سيذكر سحبان أو سنمّار. من يكون سحبان ؟ من يكون سنمّار ؟ إنّهما كنايتان منبوذتان. نقول المتنبّي بدل أن نقول أبا الطيب، نقول أبا تمّام بدل حبيب ( إذا قلتُ «حبيب» لقارئ معاصر لن يعرفه، يجب أن أقول له أبا تمّام. بينما القدماء كانوا يقولون الاسمين على السّواء )، لن أقول أبا عبادة، لا أحد اليوم سيعرف أبا عبادة، سأقول البحتري.
بكلّ أثمان هذه القطائع، اندمج الأدب العربي في الأدب الأوروبي و في الأدب العالمي. لكن، هل قطعت اللغة العربية سواء التي نكتبها أو التي نقرأها مع التقليد الأدبي ؟ هل نسيت هذه اللغة المقامة ؟ ألا تظل حاملة لذكريات قديمة، لإحالات لا تُمحى ؟ أ ثمّة لغة عُرضة للنسيان
؟ شكرا على حسن إصغائكم.
1 ـ تلزم الإشارة إلى حالة الكاتب الفلسطيني خليل بيدس ( 1875 ـ 1925 ) الذي قام بترجمة العديد من الأعمال الكلاسيكية الأوروبية و لاسيّما الروايات و القصص الروسية، لكنّه أضاف إليها أو طعّمها بأبيات من الشعر الجاهلي أو الأموي أو العباسي ! ( المترجم ).
* نص المداخلة التي ساهم بها الكاتب عبد الفتاح كيليطو ضمن ندوة « من التقليد إلى الإبداع «التي انعقدت أيام 9 ـ 10 ـ 11 دجنبر 2010 بمؤسسة Singer _ Polignac. ( هذه المداخلة « Se dégager de la Maqama «عبارة عن مادة موضوعة على اليوتوب قمنا بتفريغها تعميما للفائدة ).
العلم الثقافي
6/12/2012
المقامة جنس أدبي ازدهر خلال القرن العاشر الميلادي مع الهمذاني و خلال القرن الحادي عشر الميلادي مع الحريري؛ يتعلّق الأمر بمحكي عالم يتألّف من نثر و من شعر. بخصوص الأشعار، و في رواية لجورج سيمنون(1903 ـ 1989 ) « زبائن أفرونوس « و في تيار الحدث الذي يجري في إسطنبول، يحدث خلال عشاء أو جلسة سكر، أن ينشد أحدهم أبياتا من الشّعر بالتركية أو بالفرنسية و أن يردّ عليه آخر بمقاطع شعرية. هذه الأشعار لم يتم نقلها إلى الرواية، إلاّ أنّ إنشاد الشعر يبقى ملفتا بما يكفي كي يُنوّه به و يتمّ تقديمه كتفصيل طريف؛ ظاهرة نابعة من الطابع المحلّي. ليس في الإمكان تخيّل شخصيات أخرى لسيمنون في فرنسا أو في أمريكا منقادة لهذه الممارسة من الإنشاد الجماعي؛ ممارسة، كما تجدر الإشارة، ليست تركية تخصيصا، فلقد مارسها العرب بشكل وافر خلال ولائمهم. باختصار، يتعلّق الأمر بظاهرة شرقية. عند الأتراك كما عند العرب، من الملائم استدعاء الشّعر في مختلف مناسبات الحياة لدواعي متعدّدة : لتحويل المجهول إلى المعلوم، للتعبير عن تضامن أو تكافل، لتحريك المشاعر، أو تحت تأثير حنين غامض. لم يتم إدراج أيّ واحد من أبيات الشّعر في رواية سيمنون. يلزم الاعتقاد بأنّ الروائي و قارئه غير منشغليْن بذلك، هذا أمر ليس بجدير؛ أليست الرواية المعاصرة لا تنقاد للإستشهادات الشّعرية ؟ حتى و إن كان البطل شاعرا، فليس لنا أن نهتم بأشعاره التي لا تُذكر إلاّ عند الاقتضاء و لا يُستشهد بها إلاّ بشكل عابر و بكيفية شحيحة. إنّ رواية الشّاعر يجب أن لا تستضيف أشعاره تحت طائلة السخرية من القارئ. و لذلك، فإنّ القارئ الحديث يميل إلى إنجاز انفصال متعسّف بين شكليْ الخطاب. إضافة إلى ذلك، ألا يحدث لنا في عاداتنا القرائية أن نقفز على المقاطع المنظومة عند قراءة « طوق الحمامة « لابن حزم أو مقامات الهمذاني أو ألف ليلة و ليلة ؟
يمكن القول دون مغالاة إنّ الرواية العربية المعاصرة رأت النّور لمّا طردت و أقصت الشّعر. الانفصال عن الشّعر هو واحد من العناصر التي تفصل السّرد العربي الحديث عن السّرد العربي التقليدي. لا ننسى، بهذا الصّدد، أنّ أبطال مقامات الهمذاني و الحريري هم شعراء. المقامات مبنية على توازن بين النّثر و الشّعر و يمكن الجزم، دون مجازفة بالسّقوط في الخطأ، أنّ قرّاء القرنين العاشر و الحادي عشر الميلاديين لم يكونوا يقفزون، كما غالبيتنا اليوم، على المقاطع الشّعرية، و إلاّ لكان المؤلّفون ما اكترثوا بذلك؛ لماذا كان عليهم أن يدرجوا أبياتا شعرية في نصوصهم إذا كانت ستُهمل أثناء القراءة ؟
لكنّ الكتابة السّردية العربية استغرقت زمنا للتحرّر من الشّعر.هذا الانفصال لم يتحقّق دون ألم. نلاحظ ذلك في « السّاق على السّاق « للشدياق ( 1804 ـ 1887 ). نُشر هذا الكتاب سنة 1855 بباريس وهو كتاب ذو عنفوان عجيب ( حاولوا أن تقرأوه و أن تعيدوا قراءته، فلن تستنفدوا فحواه؛ ستعودون إليه مرّة بعد مرّة ). البطل يُدعى الفارياق؛ اندغام بين إسمي المؤلف: فارس والشدياق. البطل شاعر كما الكاتب ويبدو أنّ كتاب « السّاق على السّاق « عبارة عن سيرة ذاتية بضمير الغائب إلاّ أنّ الأشعار ليست مذكورة فيه إلاّ نادرا. نصادف، بالتأكيد، قصيدة طويلة في البداية هي بمثابة مقدّمة كما نعثر كذلك في الفصل الأخير أي في الطرف الآخر من الكتاب، على مختارات شعرية نظمها البطل الفارياق. الشّعر مقبول أو محتمل، لكنّه مُبعد أو منفيّ في الأطراف ( في الضواحي بمعنى من المعاني ! ) (1).
الأمر الأكثر أهمية أنّ « السّاق على السّاق « لم يُقدّم نفسه كمجموعة من المقامات؛ من بين الفصول الثمانين التي تؤلّفه أربعة منها فحسب تُعيّن كمقامات؛ تقدير محدود للتقليد السّردي، للسّجع. إنّ طرح السّجع من قبل الشدياق ترافق مع طرح المحسّنات البديعية و مع إظهار لأوجه الأسلوب. لماذا هذا الطّرح؟ لأنّ الشدياق يرصد كتابه لمجموع القراء « لأيّ قارئ كان «، و ليس فقط لنخبة متأدّبة. هذا، بشكل مسبق، عنصر انفصال عن المقامة؛ إذا ما أحد، يقول مضيفا، يؤمن بالأسلوب التقليدي، فليرجعْ إلى مقامات الحريري « ومن أحبّ أن يسمع الكلام كلّه مسجّعا مقفّى... فعليه بمقامات الحريري «. وهكذا يرسم مسافة بينه وبين هذا الكاتب الذي تكرّس كنموذج لعدّة قرون وإلى غاية القرن التاسع عشر. يطمح الشدياق إلى إقامة علاقة مباشرة مع القارئ دون وساطة، دون تدخّل من شارح أو مفسّر ما. لم يكن الأمر على هذا النّحو في الحقبة الكلاسيكية. من يمكنه أن يقرأ الحريري في القرن الحادي عشر دون إيضاحات من الشرّاح مثل الشريشي أو سلفستردي ساسي حديثا ؟
في الوقت الذي نشر فيه الشدياق كتابه، كان معاصره الآخر ناصيف اليازجي ( 1800 ـ 1871 ) يهيء مؤلّفه « مجمع البحرين « الذي سينشره عاما بعد ذلك سنة 1856. الكتاب يتألّف من ستين مقامة، تزيد عشر مقامات على مقامات الحريري؛ مزايدة! هذا الكتاب هو تقدير رفيع للكتابة القديمة، لا نعثر فيه على تصاوير ناقدة ، على أيّة مسافة تجاه الهمذاني أو الحريري. يجوز القول إذن إنّه إذا كان الشدياق رجل القطيعة، فإنّ ناصيف اليازجي رجل الوفاء للقدماء، و لهذا السّبب فإنّ كتابه لا يعبّر عن مرحلة في الخلق الأدبي ولا يُعتبر، بكل المقاييس، تجديدا للكتابة. لم يكن ناصيف اليازجي يطمح إلى ذلك على الإطلاق؛ كان يبتغي أن يكون واحدا من القدماء، رجل التقليد، خاضعا لثقل هذا الأخير، للعبء الثقيل للأدب بمعناه القديم. باختصار، إنّه السندباد البرّي بينما الشدياق هو السندباد البحري.
المقارنة ليست قسرية أو مُتعسّفة؛ فاليازجي لم يغادر قطّ موطنه ولا لغته، بينما الشدياق لم يكف عن التنقّل بين مصر وتركيا وتونس وأيضا، كما تجدر الإشارة، بين إيطاليا وفرنسا وإنجلترا؛ أراض قاطعها المسافرون العرب، كما نعلم، خلال الحقبة الكلاسيكية. من الآن فصاعدا، تنفتح وجهة أخرى أمام المسافرين، أفق جديد. هذا ما تغيّر جوهريا.أبطال المقامات كانوا يتحرّكون ضمن عالم الإسلام وفقط ضمن هذا العالم. جغرافيون كابن حوقل والمقدّسي معاصريْ الهمذاني لم يصفا أساسا سوى أقاليم مملكة الإسلام؛ امبراطورية الإسلام. لم يشذ الهمذاني عن هذه القاعدة. تدور مقاماته ضمن نفس الفضاء الذي وصفه الجغرافيون المعاصرون له. لكن، في القرن التاسع عشر فرض السّفر إلى أوربا نفسه ( إذا كان ابن بطوطة عاش في القرن التاسع عشر، لم يكن ليتوجّه إلى الهند أو إلى الصين، بل كان سيتوجّه إلى فرنسا! ). ظهرت مندئذ موضوعة جديدة في الآداب العربية: وصف أوربا. عرف محكي السّفر إلى أوربا روايتين: إمّا أنه محكي اضطلع به و كتبه المسافر مباشرة باسمه الشخصي، وإمّا أنه محكي منسوب إلى مسافر متخيّل و قد اقترض شكلا روائيا. هل من الإفراط القول إنّ الرواية العربية المعاصرة رأت النّور كي تصف أوربا؟ الأمثلة لا تحصى؛ فضلا عن الشدياق، هناك توفيق الحكيم « عصفور من الشرق»، ويحيى حقي « قنديل أمّ هاشم « وسهيل إدريس « الحي اللاتيني « و الطيب الصالح « موسم الهجرة إلى الشمال «... إلخ. وما زال هذا الوريد حيّا و مفيدا إلى الآن.
ستقولون لي: إنّ الرواية العربية ليست وصفا لأوربا إلاّ عرضا وبصورة متقطّعة. صحيح، ففي أيّامنا يتمّ وصف القاهرة و فاس وبيروت والجزائر... فيما قرأته لنجيب محفوظ، لا نعثر على هذا البعد الأوروبي الذي أتيت على ذكره. لكن، لنكنْ مُتيقّظين. أهناك ضرورة للذهاب إلى أوربا لملاقاة أوربا و التحدّث عنها؟ أوربا خارج فضائها الجغرافي انبجست من قلب العواصم العربية و هذا منذ نهاية القرن التاسع عشر.
هذا ما نتبيّنه في كتاب المويلحي ( 1858 ـ 1930 ) « حديث عيسى بن هشام « وهو كتاب صدر سنة 1907. ما يرويه لنا عيسى بن هشام له مكانة متفرّدة في الأدب العربي، فهو قد تمّ اعتباره كأوّل رواية عربية وكآخر مقامة؛ أن تكون الأوّل وأن تكون الأخير وضعية مشتهاة، وأحيانا يتمّ الاعتراض عليها من قبل الذين يعتبرون الشدياق كمدشّن ورائد للرواية، ولو أنّ « السّاق على السّاق « يظهر أنّه، قبل كلّ شيء، سيرة ذاتية. لكن حتى لا نضيع في مثل هذه المسائل المتعلّقة بحق التصدّر، نعود إلى سياق الكلام. ترد الإحالة إلى المقامة بدءا من العنوان « حديث عيسى بن هشام « لأنّ شخصية عيسى بن هشام واحدة من الشخصيتين الأساسيتين في مقامات الهمذاني؛ إخلاص إذن للنّوع الذي أنشأه الهمذاني من خلال شخصيته السّاردة؛ عيسى بن هشام التي انبعثت ـ إذا صحّ القول ـ في حديث المويلحي. من الجدير أن نشير في هذا الصّدد أنّ الانبعاث من الموضوعات ذات الشأن ليس فقط عند المويلحي، بل عند العديد من كتّاب النهضة؛ النهضة هي ولادة ثانية، هي انبعاث. تحمل رواية لتوفيق الحكيم عنوان « عودة الروح « وله أيضا مسرحية لها كإسم « أهل الكهف «.
تتذكّرون المشهد الافتتاحي لرواية المويلحي؛ مشهد ليلي و يجري في مقبرة. عيسى بن هشام يسير بين القبور و فجأة ينفتح واحد منها ويخرج منه باشا من زمن محمد علي؛ عائدا من الموت، شبح ( أيمكن الحديث عن قرابة ما بشبح أو طيف الأب في هاملت؟ ). لا ننسى أنّ المتجوّل اللّيلي يدعى عيسى بن هشام، وعيسى هو المسيح ! ( افعلوا بهذه الملاحظة ما تشاؤون ! ). غير أنّ المويلحي يملك مرجعيات أخرى أقلّ إضمارا و أكثر جدّية. ليس صدفة إذا ما كانت روايته تنفتح على انبعاث يستحضر منذ السطور الأولى أبيات المعرّي التي توحي بأنْ يسير المرء بتمهّل فوق الأرض، لأنّ هذه الأرض عبارة عن أجساد الموتى. المويلحي لا يشير إلى» رسالة الغفران « للمعرّي، لكن كيف لا نفكّر في هذا العمل الذي يصف انبعاث الموتى فضلا عن الجنة و النّار ؟ إنّ المويلحي، بالفعل، يصوّر فردوسا و جحيما، لكنّهما موجودان ها هنا على الأرض. تعيش شخصياته مغامرات مختلفة في القاهرة، هذا في القسم الأوّل، وفيما بعد في باريس وهو القسم الثاني. تبدو باريس، بوجه ما، كأنّها جنّة وقد شُبّهت بإرم ذات العماد. هذا المُندهش أو المُتعجّب إزاء باريس ليس شيئا جديدا، فالمسافرون المغاربة مثلا في القرن التاسع عشر و قد كانوا واعين بالتأخر التاريخي لبلدهم، كان ثمّة سؤال يفرض نفسه عليهم؛ سؤال لم يُطرح بشكل واضح أبدا، وإن كان، مع ذلك، مضمرا: لماذا هم وليس نحن؟ الجواب: لهم الحياة الدنيا ولنا الآخرة، لهم السّعادة الآنية العابرة و لنا السّعادة الأخروية الأبدية. لكن، ليس بهذه الكيفية يرى المويلحي الأمور، أن تقول: لهم هذا العالم و لنا عالمنا الآخر، معناه أن تتموضع ضمن منظور وعظي، أن تقيم علاقة أفقية من الإنسان إلى الله. يحتلّ الوعظ حيّزا واسعا في المقامات، لكنّ، ليس له هذا الحيّز في الرواية لأنّ العلاقة ضمنها محض عمودية: ما عادت العلاقة بين الإنسان والله وإنّما بين الإنسان و المجتمع والتي من متغيّراتها تنازع الثقافات. تشكّل القاهرة وباريس عند المويلحي قطبا العلاقة العمودية. باريس جنّة، غير أنّ الأمر يتعلّق بزاوية النظر أو بمختلف زوايا النظر التي غالبا ما تكون متناقضة كما ترتسم في كتاب المويلحي. لكن ما تكون النّار؟ النّار هي القاهرة . بالنسبة للباشا، رجل الكهف، الآتي من الماوراء، من الماضي والمنبثق في العالم الحديث، النّار هي القاهرة. لكن النّار أيضا هي البيروقراطية و البيروقراطية هي وجه العصرنة بالنسبة للباشا: لنقدّمْ هذا المثال: بمجرّد أن خرج من القبر، يريد العودة إلى بيته. يريد السّارد أن يقوده، أن يصطحبه. لكن لأيّ عنوان؟ ما اسم الشارع أو الزقاق؟ وما رقم المنزل؟ الباشا لا يعرف شيئا لأنّ البيوت على عهده لم تكن معروفة إلاّ من خلال أسماء أصحابها؛ وها هو قد أصبح ضائعا، عاجزا عن التّوجّه إلى وجهة ما؛ أوّل تماس مع البيروقراطية. في الطريق يتشاجر مع صاحب حمار، و ها هو قد سقط بين أحابيل النظام البوليسي والقضائي؛ نظام متعذر اقتلاعه، العصيّ على الفهم، الفظّ، هذا الجبروت اللاّ حدود له، المتعذّر النّفاذ إليه، ليس الله و إنّما البيروقراطية.
الخطّ الموجّه لجزء كبير من رواية المويلحي يُختصر في محنة الباشا مع البيروقراطية و مع مختلف تمظهراتها ( حوالي نفس السنة، كتب كافكا المحاكمة ). يتعلّق الأمر، بعد الآن، بمعرفة العالم من حولنا. أصبح العالم مُعتما، مُلغزا. لم يكن الأمر على هذا النّحو في المقامات، كانت هناك لا ريب اختلالات، أشخاص ليسوا كما يدّعون، نصوص مخادعة، شكل التورية، لكن سرعان ما يحلّ النظام ويسقط القناع سواء عن الشخصية أو عن الخطاب. العالم قد نجا لأنّه يتمّ التعرّف على الشخصية و التعرّف على شكل الخطاب.المقامة هي مقام التعرّف. ليس عند المويلحي شيء من كلّ هذا. الشخصيات قُذف بها في عالم لا تتعرّف عليه، التعرّف لا يعمل، الباشا وقد خرج من قبره لا يُميّز أيّ شيء من حوله. في باريس، يتنقّلان، هو وعيسى بن هشام، من مفاجأة إلى أخرى. في قصر المرايا، كما يدعوانه، يريان وجهيهما يتكاثران و كلّ خطوة من خطواتهما لا تزيدهما إلاّ تيها. في القصر الكبير، أوشكا على الضياع. لقد كانا شاهديْن في باريس، فضلا عن ما سبق، على انقلاب كوني و هذا هو الأهمّ. ما هو هذا الانقلاب الكوني؟ اللّيل أصبح نهارا من كثرة الأضواء في الشوارع. تبرز حينئذ صورة الدّيك السّاهي الذي حسب أنّ النّهار قد طلع فأطلق صياحه بينما كان اللّيل ما زال جاثما. العالم ليس واضحا، أو إنّ وضوحه بالأحرى خادع. ( في باريس إذن، ليس هناك ليل أو نهار، ليس ثمّة إلاّ نهار سرمدي!). و مع ذلك تلزم المجاهدة لفهمه والإلمام به. يتعلّق الأمر في الرواية بأن نعرف وفي المقامة بأن نتعرّف؛ يلزم أن نعرف هذا العالم لأنّنا لا نتعرّف عليه. نحتاج عندئذ إلى شخص يفسّره و يؤوّله
ومن هنا تبرز صور الذي يعرف؛ المرشد، الحكيم، المترجم. ونـأتي إلى الترجمة. في المقامات، ليس ثمّة من يترجم بتاتا. لم يلتجئ أبو الفتح أو أبو زيد في أية لحظة ـ إذا كانت ذاكرتي جيّدة ـ إلى لغة أخرى. يتغيّر الأمر في « السّاق على السّاق «، البطل مترجم، يعيش من ترجماته، كما الشدياق في حياته؛ الشدياق ترجم الإنجيل من بين ترجمات أخرى، لم تشكّل ترجمته لهذا الأخير مرجعا مستديما لدواعي مختلفة أهمّها ـ ربّما ـ اعتناقه الإسلام بعد فترة وجيزة من ذلك ( يترجم الإنجيل ثمّ يعتنق الإسلام. هذا قد خلق بعض الإنزعاج !). ترجمة، رواية جديدة، استبدال عقيدة؛ يتنقل الشدياق من الكاثوليكية إلى البروتستانتية ومن البروتستانتية إلى الإسلام. وعند نهاية حياته، ينتقل من الإسلام إلى الكاثوليكية: تعدّد في الدّيانات، تعدّد في الفضاءات، تعدّد في اللّغات؛ كان الشدياق يعرف اللغة الفرنسية واللغة الإيطالية واللغة التركية واللغة الفارسية ولغات أخرى أيضا.
في رواية المويلحي، يقوم عيسى بن هشام بوظيفة المترجم للباشا الفاقد للاتجاه؛ يتحدّث معه تارة بالعربية، تارة بالتركية، يشرح له أيضا ما يُقال باللغة الفرنسية. هذا كذلك عنصر جديد بالمقارنة مع المقامة التي لا تنطوي إلاّ على لغة وحيدة وفضاء وحيد؛ إمبراطورية الإسلام بينما ينبثق عند المويلحي فضاء آخر؛ الغرب المجسّد في فرنسا. الفضاءان غير منفصليْن لأنّ أوربا ـ كما قلتُ ـ موجودة في قلب القاهرة.
إنّ التوجّه إلى لغة أجنبية يعني التوجّه إلى أدب آخر، إلى سنن أخرى في الكتابة و في القراءة. الذّهاب نحو الأوروبيين هو ذهاب نحو إنتاجهم الأدبي. يذكر الشدياق لامارتين، شاتوبريان، رابليه و المويلحي يهتم ّ بالحياة الثقافية في باريس. ومن ثمّ قدّما رؤية جديدة عن آدابهما الخاصة. لقد تمّ اعتبار و تقييم الأدب العربي انطلاقا من أدب آخر. عهد المقارنة بدأ في العالم العربي. منذ هذه اللحظة لا يوجد كاتب عربي واحد ليس مُترجما، ليس مزدوج اللغة بهذه الكيفية أو تلك. كلّ كاتب عربي هو، بشكل أو بآخر، مترجم و مقارن. كتاب المويلحي توديع للمقامة، للكتابة الكلاسيكية و هو أيضا وعد بالجديد.
القطيعة مع المقامة هي كذلك قطيعة مع الأدب أي مع ثقافة معيّنة، مع أشكال و أنواع من الخطاب؛ تمّ هجران الأمثال القديمة و كذلك الأوجه البلاغية النموذجية. لا أحد اليوم سيذكر سحبان أو سنمّار. من يكون سحبان ؟ من يكون سنمّار ؟ إنّهما كنايتان منبوذتان. نقول المتنبّي بدل أن نقول أبا الطيب، نقول أبا تمّام بدل حبيب ( إذا قلتُ «حبيب» لقارئ معاصر لن يعرفه، يجب أن أقول له أبا تمّام. بينما القدماء كانوا يقولون الاسمين على السّواء )، لن أقول أبا عبادة، لا أحد اليوم سيعرف أبا عبادة، سأقول البحتري.
بكلّ أثمان هذه القطائع، اندمج الأدب العربي في الأدب الأوروبي و في الأدب العالمي. لكن، هل قطعت اللغة العربية سواء التي نكتبها أو التي نقرأها مع التقليد الأدبي ؟ هل نسيت هذه اللغة المقامة ؟ ألا تظل حاملة لذكريات قديمة، لإحالات لا تُمحى ؟ أ ثمّة لغة عُرضة للنسيان
؟ شكرا على حسن إصغائكم.
1 ـ تلزم الإشارة إلى حالة الكاتب الفلسطيني خليل بيدس ( 1875 ـ 1925 ) الذي قام بترجمة العديد من الأعمال الكلاسيكية الأوروبية و لاسيّما الروايات و القصص الروسية، لكنّه أضاف إليها أو طعّمها بأبيات من الشعر الجاهلي أو الأموي أو العباسي ! ( المترجم ).
* نص المداخلة التي ساهم بها الكاتب عبد الفتاح كيليطو ضمن ندوة « من التقليد إلى الإبداع «التي انعقدت أيام 9 ـ 10 ـ 11 دجنبر 2010 بمؤسسة Singer _ Polignac. ( هذه المداخلة « Se dégager de la Maqama «عبارة عن مادة موضوعة على اليوتوب قمنا بتفريغها تعميما للفائدة ).
العلم الثقافي
6/12/2012