نقوس المهدي
كاتب
أحبّ القراءة في الفراش. عادة مكتسبة منذ الطفولة، لحظةَ اكتشاف "ألف ليلة وليلة".
كنت أرقد في غرفة جدّتي، على أريكة موضوعة أسفل سريرها. أثناء مرض من أمراضي ـ لا بد أنه كان من الخطورة كي تتأبّد ذكراه عند الأسرة ـ، كنت على الدوام غائصاً في رقادٍ سُباتيّ. وفي اللحظات القليلة التي أستردّ فيها وعيي، أسمع أصوات الزائرات المستخبرات عن حالي. ما إن أدرك أني موضوع همسهنّ حتى أغوص ثانية في النوم.
عندما أخذت في التعافي، رفعن من صوتهنّ وتكلّمن عن هذا وذاك من الأشياء. لم أعد محور أحاديثهنّ. تكدّرتُ لذلك، فأخذت أتحسّر على المرض، لكن لا جدوى من التصنّع، كنت أعرف بالتجربة أن جدّتي لا تنخدع أبداً بأكاذيبي. وفي العمق، ما كنت بحاجة إلى المراوغة، فما زلت واهناً وانتكاسة قد تطرأ في كلّ لحظة.
في هذه الظرف جذب انتباهي كتابٌ موضوع بالقرب منّي، "ألف ليلة وليلة"، في طبعة بيروت، المسمّاة أيضاً بالكاثوليكية. ماذا كان يصنع في بيت لا يهتمّ فيه أحد بالأدب؟ من الذي جعله قريباً من أريكتي، في متناول يدي؟ من الظاهر أن إحدى الزائرات قد نسيته ولم ترجع لاسترداده، لذا ظلّ قرب فراشي طوال نقاهتي. كنت أجهل ذاك الوقت أن الفقرات الجنسية قد استُبعدت منه بعناية، لكن لم ينل ذلك من قوّة الحكايات وظلّ جانبها الفاضح كاملاً. وإلاّ لماذا انتابني شعور مبهم بأنه لا ينبغي لي أن أقرأه؟ إذا ما دخل شخص إلى الغرفة، أخفيه تحت الأغطية، لا سيّما إذا كان والدي. هكذا كنت إذاً أتصدى للقراءة، للأدب، تحت شارة المرض والإثم. ذلك كان الكتاب الأوّل الذي حاولت قراءته، الكتاب العربيّ الأوّل، الكتاب الأوّل بلا زيادة.
كنت أقرأ في الفراش، على ضوء النهار… نقيض شهرزاد التي تروي في الليل وتسكت في الصباح. كنت بقطعي القراءة في المساء، أخالف إشارتها الضمنية وأعكس نظام الأشياء.
والحال أني بقدر ما كنت أقرأ ويمضي الوقت، تتحسّن حالي. وعندما بلغت الصفحة الأخيرة، شُفيت تماماً. وكأن للأدب فضيلة علاجية. فإن لم يكن يشفي أمراض البدن، فهو يسكّن آلام النفس، هذه إحدى ثيمات كتاب "الليالي". أميل إلى الظن أنني استعدت الصحة بفضل شفاعته؛ بفضلها هي أيضاً، الزائرة الغامضة التي نسيته عند رأس فراشي.
هذا كلّه مؤثّر للغاية، لكن شكوكاً تنبثق، مشوّشة صفاء اللوحة. أفعلاً قرأت هذا الكتاب في الطبعة البيروتية المهذّبة؟ يروق لي اعتقاد ذلك، الله يعلم لماذا، لكن ما حقيقة الأمر؟ لنذهب أبعد: أقرأته وأنا طفل؟ ربما أكون قد حاولت، وعندما فطنت لثرائه المبهظ، تخلّيت عن قراءته بعد بضع صفحات، بضعة سطور. الكتاب الأول؟ كم مرّة زعمتُ ذلك، لكن أليس ذلك لأنه بالعربية وأنني أشقى مجتهداً لأربط نفسي بما لست أدري من أصل؟
أما الزعم بأنني كنت مريضاً عندما اكتشفته، فذلك محض استيهام. استحضار ما لست أدري من مرض، استثارة الشفقة على الذات، استعادة رؤيتي طفلاً راقداً على أريكة تحت سرير جدّتي… ألست منهمكاً في تزويق الأشياء موحياً بأن الحكايات قد استرجعت لي صحتي؟ مماثلاً نفسي من دون حقّ، بشهريار، الملك المجنون الذي شفته شهرزاد… ومن ثمّ سيناريو تلك الزائرة الغامضة، القارئة الناسية للكتاب… في الواقع، لا امرأة كانت تقرأ في ذلك الزمان في من حولي، ربّما آيات من القرآن، لا "الليالي" بالتأكيد.
أخيراً، الإيحاء بأني ببلوغ النهاية، قد شفيت تماماً… هذا من جانبي اختلاقٌ مغرض. الواقع أنني لن أكون قد شُفيت، بل سأكون قد متّ. منذ ألفية من السنين، ألم يتردّد القول إنه لا تنبغي قراءة "الليالي"، أو أن لا يُقرأ سوى شطر منها؟ الذين لم يتبعوا هذه النصيحة دفعوا الثمن غالياً. فقد ثبت أنهم جُنّوا، أو وضعوا حدّاً لحياتهم، أو ماتوا من السأم، حرفياً. غاب عنّي هذا في ذلك الزمان، لكن لا بدّ كنت قد استشعرتُ غريزياً الخطر.
بيد أن بفضل هذا الكتاب دُعيت إلى الولايات المتحدة، أو بتدقيق أكبر بفضل مقال (هو في الأصل بحث لنيل شهادة الماستر)، "النوم في ألف ليلة وليلة". كان الأستاذ ك. قد أوصى بنشره، لدهشتي العظيمة، لأنني كنت أعتقد أنه يكرهني. كان ينتقدني كلّ الوقت ويبدي شكّه إزاء مشاريعي، لكن خلافاً لكلّ توقّع ومن دون أن ألتمس منه ذلك، قام بنشر بحثي في Studia Arabica (في أحلامي الأشدّ هوجاً، لم أكن أعتقد استحقاقي شرف ورود اسمي في فهرس هذه المجلّة الرفيعة). زيادة على هذا، زكّى طلبي منحةَ شهرين لدى مؤسسة فلبرايت. بطريقة مفاجئة، فتح لي النوم أبواب أميركا…
في المطار، كان سائق ينتظرني، في يده لافتة كُتب عليها اسمي بحروف عريضة. أثناء المسير إلى النادي حيث سأقيم، لم نتبادل كلمة. كان المطر يهطل، والمنظر الذي يتتالى دميماً، بنايات كئيبة، أشغال في طور الإنجاز، رافعات هائلة… لا إرادياً، أخرجت علبة سجائري، وعندا أدركت هفوتي، بدأت أدسّها عندما أشار لي السائق، الذي أبصر حركتي في عاكس الرؤية، بأنه يأذن لي في التدخين.
كان المسار يبدو لي لا ينقضي وبدأت أندم على سفري، فيما البارحة فقط كنت متحمّساً لفكرة اكتشاف أميركا. لم يكن السائق راضياً بدوره: تاه، وعندما لم يهتد إلى طريقه توقّف ليفحص خريطة، على ما يبدو من دون نتيجة، لأنه سار حتى محطّة وقود حيث استعلم. أخيراً، بعد دوران طويل، أنزلني في النادي.
رتّبتُ أمتعتي في الخزانة الحائطية الفسيحة بغرفتي، وضعتُ ملفّات، ومدوّنات، وأقلام على المكتب. وعندما لم يكن لديّ سوى كتابين أو ثلاثة، تردّدتُ لحظة في وضعها على الرفوف المعدّة لهذا الغرض، لفرط ما تبدو شاذّة وسط الفراغ. ألحقتُ بها مستلاّت مقالتي عن النوم، ومخطوطة بحث الدكتوراه عن الفضول المحرَّم الذي كنت في آخر مراحل إنجازه، ومعجم أنكليزي، ومعجم ثنائيّ، وطبعة شعبية من "الليالي" في أربعة مجلّدات، وأخيراً L'Île mystérieuse لجول ڤيرن التي لا تفارقني أبداً والتي أقرأ منها دائماً قبل أن أنام. وعندما ظلّت المكتبة فارغة بشكل ميئِّس، آسيت نفسي بأنها حال موقّتة: فقد كانت لي نيّة شراء أكثر ما أستطيع من الكتب.
بعد إقامتي في الغرفة، لم أعد أدري ما أفعل. نزلت إلى بهو الاستقبال لأتلفن إلى الأستاذ مايكل هامْوِست. أخبرني أنه سيأتي لأخذي إلى العشاء.
حين حضر، كلماته الأولى هي قوله إنني لا بد مرهق بعد هذا السفر الطويل، ولذا قرّر أن يعفيني في هذه السهرة من الحديث بالأنكليزية.
- "سنتحدّث بالفرنسية".
لم يفكّر بتاتاً في حديث بالعربية، التي كان مع ذلك يعرفها. استحسنتُ التأجيل الممنوح لي، لكن مع اليقين بأن مضيفي سينفّذ تهديده في الغد فلا يخاطبني إلاّ بلغته. كان يلحظني بنوع من القلق، متسائلاً من دون شكّ كيف سأجد الخلاص أمام طلبته. كانت فرنسيته ضعيفة، لكن بالتأكيد أفضل من أنكليزيتي. عدم التوازن كان جليّاً وهذا كان يمنحه تفوّقاً واضحاً.
عندما وصلنا أمام بيته، لاحظت على لوح الباب ملصقاً لمنع التدخين. ارتبتُ في أنه قد اقتناه اليوم بالذات وثبّته على بابه لأجلي تماماً قبل أن يأتي لأخذي. لا بدّ قد بلغه صيت إدماني التدخين. ما إن يعود بي إلى النادي، حتى يزيل الإعلان المقيت.
استقبلتني زوجته بكثير من اللطف. كانت جدران حجرة الاستقبال مكتسية بالكتب. ولأقول شيئاً لطيفاً، همستُ:
- "إنها مكتبة بورخيسية".
اتسعت عينا السيّدة هاموست دهشةً.
- "تعرفُ بورخيس!".
أكّد لها زوجها أنني قد قرأت كتابات المؤلّف الأرجنتيني عن "الليالي"، وهو قول محيّر إذ يوحي أنني باقتصاري على الأعمال التي تهمّ تخصّصي، لم أعبأ بالباقي. تدارك الأمر بإخباري أنّ زوجته مُتَأسْبِنة وفكّرتْ لحظة في دراسة تأثير "الليالي" على كتّاب أميركا اللاتينية.
- "لا على بورخيس، إذ توجد سلفاً دراسة أو دراستان جيّدتان في هذا الموضوع، وإنّما على كتّاب آخرين، مثلاً مانويل سكورزا ومؤلَّفه "طبول في الليل": السارق الذي يُحسن التحدّث إلى الخيول، ويغريها بأن يهمس لها، ليلاً، أشياء في آذانها. كان يمنّيها ببرارٍ خصيبة وإناث رائعات؛ فتتبعه حينئذٍ راضية".
تعهُّدُ السيّد هاموست بأن لا يحادثني هذا المساء إلاّ بالفرنسية. لا يعني بالطبع زوجته. هكذا كان عليَّ أن أتواصل معها بالأنكليزية بالضبط لمحاولة تحديد اللغة التي كان يستعملها السارق للحديث إلى الخيول. لغته أو لغتها؟ ومن موضوع الى آخر، تناولنا مسألة خطاب البهائم في "الليالي"، وذكرنا صاحب الزرع الذي كان يفهم لغة الحمار، والثور، والكلب، والديك؛ وتوقّفنا قليلاً عند القرد الخطّاط. وبتداعي الأفكار، تحدّثنا عن الحصان الطائر الذي جعل أحد الدراويش القرندلية الثلاثة أعور، وكنّا في التساؤل إن كانت توجد حكاية تروي تواصلاً كلامياً بين رجل وحصان حين دقّ أحدٌ جرس الباب.
دخلت امرأة ذات جمال مذهل. قدّمها اليَّ السيّد هاموست تحت اسم إيدا (أو آدا، عايدة، إيدّا)، كان سيذكر اسمي عندما أشاحت بوجهها وانخرطت مع السيّدة هاموست في نقاش غاب عنّي موضوعه. كانتا تضحكان، وتهتفان، تحت نظرة السيّد هاموست المتهلّلة والمعجَبة، وأمام مظهر هذه السعادة الصاخبة، زاد من إحساسي بالضياع أنني لم أكن أفهم شيئاً ممّا تقولان، ولا كلمة واحدة.
كان العشاء ممتازاً. نسينا الخيول ودار الحديث عن الحبّ. بدا لي أني سمعت السيّد هاموست يقول ذات لحظة:
"لا أفهم لماذا يبذل أبطال الروايات كلّ هذا العناء ليحصلوا على امرأة".
بعد التحلية، عدنا إلى حجرة الاستقبال. كانت إيدا تتلافى منهجياً النظر إليَّ وتقاطعني كلّما حاولتُ أن أفوه بكلمة. والسيّد هاموست في منتهى الرعاية لزوجته ويكثر من علامات الحنان والحبّ التي تتلقّاها بابتسامة عريضة. كنت متعَباً وعيناي تخزانني، أتعجّل العودة إلى النادي، لكن بدل العودة بي، استمرّ السيّد هاموست في تحسّس شعر زوجته، ثمّ متجاسراً، قبّلها طويلاً على فمها. أغمضت عينيها وسحبته نحو الأرض، تماماً قرب الفوتيل حيث كنت أجلس. شرع آنذاك في دسّ يده تحت تنّورتها. نهضت إيدا، ومقتربةً منّي، ربتت كتفي. فتحتُ عينيّ: السيّد هاموست هو الذي كان مكبّاً عليَّ، قائلاً: "أعتقد أنّ عليّ أن أعيدك إلى النادي". كان يبدو منشغلاً. نهضت إيدا، عانقت المضيفين وانصرفت، دون نظرة لي. في الخارج، كان الجو بارداً جدّاً.
في الغد، خرجت مبكراً من النادي حتّى أتمكّن من التدخين. سرعان ما ذرعتُ الشوارع القليلة التي تحاذي الحرم الجامعي.
لم أنم جيداً، بسبب التفاوت الزمني، لكن أيضاً لأنّ ذكرى البارحة تعذّبني. أنْ أنام وأنا مدعوّ، أيّ مضايقة لمضيفيَّ! لا أتذكّر تماماً إن كنت قد أكلت. ثمّ ذلك الحلم السخيف. يعلم الله ماذا كان يكشف عنّي، أفكار مريضة تكتتم فيه. كم وقتاً دامت غفوتي؟ أكنت قد قلتُ شيئاً؟ ليس ذلك بالمستحيل. أمّا عن انصرافي الأهوج… هل حيّيتُ السيّدة هاموست وإيدا؟ لا بد أنهما كانتا قد اكتنهتا مضمون حلمي ورغباتي غير اللائقة.
مهما قلت لنفسي، في انتفاضة تمرّد، لو لم يمنعوني من التدخين، لكنت مع ذلك قد قاومت النوم، فتصرّفي يظلّ شائناً. مقامي يبدأ تحت أنحس الطوالع… هذه العادة لديّ أن أغفو عند الناس! النوم اللذيذ، كان يقول هوميروس… كم مرّة، خلال سهرة، استفقت مذعوراً، رأسي على كتف جار متضايق ومتعاطف، متواطئ أيضاً: قهقهة عامّة ترافق استفاقتي. مع هذا، يستمرّ أصدقائي في دعوتي، على رغم تلك العادة السيّئة، ماذا أقول، بفضلها! إنها فرجة بالنسبة لهم، ينتظرونها أحياناً بنفاد صبر. "ما أكثر ما نطقتَ به من الأشياء، لكن اطمئنّ، لن نردّدها، هذا سيبقى بيننا!".
ليس مصادفة إذاً أن أكون قد كتبتُ دراسة عن النوم! كنت أتحدّث فيها عن نفسي بطريقة غير مباشرة وأنا أعالج مسألة أكاديمية. الموضوع خصب جدّاً في "الليالي": شخصيات تخضع للنوم بتناول مخدّر، وأخرى يُغشى عليها، وأخرى أيضاً تُدفن حيّة. النائم اليقظان لفت انتباهي، لكنّ حكاية عزيز هي التي شغفتني، عزيز أثناء انتظاره لمحبوبته، يرتمي على الطعام بشراهة ويغرق في نوم بهيمي. عندما فتح عينيه في الغد، ألفى نفسه مرمياً وسط الشارع. كنت محظوظاً أكثر: استيقظتُ في فراشي.
عندما أوردتُ في مقالتي الذنب مقروناً بالنوم، لم أغفل أن أقول إن شهرزاد لو أغمضت عينيها ليلة واحدة، لكانت مقطوعة الرأس في الغد. لكن هذا كان مبتذلاً جدّاً. وكما يحدث غالباً، لا تحضر فكرة جيّدة إلاّ بعد أن يكون العمل قد نُشِر أو نوقش. الفكرة الأصيلة حقّاً، على رغم بساطتها المحيِّرة، لم تخطر لي إلاّ في ما بعد. ما أغفلتُ أن أذكره في دراستي، هو حال شخصية لا تنام أبداً، الملك شهريار: في الليل وحتّى الفجر، يستمع الى حكايات شهرزاد؛ ثمّ بعد ذلك ومن دون تمهيد، ينشغل بأمور مملكته. هكذا كلّ يوم. وشهرزاد؟ ماذا تصنع أثناء النهار؟ لا يقول النصّ شيئاً عن ذلك، ويمكن افتراض أنها تنتهز المهلة الممنوحة لها لتنام، لكن هذه الفرضية، لست أدري لماذا، لا تعجبني.
لم يكن وارداً بالنسبة اليَّ التردّد على خزانة الجامعة، كنت عاجزاً جسدياً عن ذلك. أغبط القرّاء الذين يمكنهم العمل فيها من الصباح حتّى المساء. يثيرون فيَّ إحساساً بالخطأ: جادّون، وقورون، يبدو عليهم أنهم يؤدّون مهمّة، يدوّنون ملحوظات، يحكّون أعينهم، يمسحون نظّاراتهم، يتمطّون أحياناً متثائبين بارتياح الذي أنجز واجبه، بينما لا أستطيع أنا التركيز على الوثيقة الموجودة تحت عينيّ. أمّا أن أدوّن ملحوظات… أدوّن ماذا بالضبط؟ لذا لا شيء يبرّر وجودي في هذا الحرَم حيث، ما إن أضع فيه القدم، حتّى أتيه وأدوخ.
بيد أنّ التردّد عليها كان أو ينبغي أن يكون الحافز الأول لمقامي في الولايات المتحدة. أن أقرأ الكتب التي لا أستطيع العثور عليها في بلدي كان هو السبب الرسمي الذي أتعلّل به في كلّ حين، مع علمي أن الأمر ليس كذلك. خزانة الجامعة التي تستضيفني جيّدة التجهيز وكنت متيقّناً أن أعثر فيها على كلّ الأعمال حول "الليالي" التي أرغب في الاطلاع عليها منذ زمن بعيد والتي ظلّت بالنسبة اليَّ متعذّرة المنال: طبعة ماكسمليان هابشت، والترجمتان الألمانيتان لغوستاف ڤايل وإنُّو ليتمان، والأنكليزيتان لإدوارد لين وجون پاين… جميعها هنا بالضبط، أعرف ذلك، وكان هذا مُحْبِطاً. لا مفاجأة في الأفق، لا لقاء غير منتظر، لا صعقة عشق. لماذا إذاً عزمتُ على هذا السفر؟ للا شيء، أو بالأحرى لأنّ آخرين قد قاموا به. رغبةٌ محاكاتية حقيقية…
ما كان عندي كثيرٌ أعمله ومنذ وصولي كنت أحيا في العَرَضي وأسبح في اللاجدوى. وأنا أمشي في الطرق، تعود إليَّ كلمات، قصائد عربية حفظتُها قديماً في المدرسة، آيات قرآنية، ذكريات، قراءات، نكات، أغنيات أمّ كلثوم وفريد، لكن أيضاً أغان بليدة، من مخلّفات مخيّمات العطلة، وأخرى وطنية وحماسية. إذ ذاك وعيتُ وعياً واضحاً بأنني عربيّ. هو هذا، أن تكون عربيّاً، أن تدمدم طوال اليوم بكلمات تقليدية موروثة. كلّ الذي كنت أكبته عندما كنت في بيتي، في موطني، كلّ هذا يعود إليَّ، ويفرض نفسه عليَّ ويلاحقني. لم يكن يلهيني عن حنيني المضحك سوى منظر السناجب المنشغلة على الأرض وعلى الأشجار، متلائمة تماماً مع محيطها.
كلّ يوم، كنت أمرّ وأكرّر المرور أمام اثنتين أو ثلاث من قاعات السينما قد لاحظتها. لم تكن تعرض سوى أفلام تافهة (حتى الملصقات كانت كابية). لم أتغيّر في هذه النقطة، جولاتي تقوم منذ الطفولة على اتباع المسارات نفسها، قاعات السينما، مكتبات. كنت أتردّد في الخصوص على Bookstore الجامعة لأرى غلف الكتب الجديدة المعروضة فيه. كانت منحتي تتيح لي شراء كتاب واحد كلّ يوم، شرط أن لا أذهب كثيراً إلى المطعم. متعة يومية: فتح المجلّد الجديد، العناية بعدم إتلافه، تصفّحه، قراءة صفحة هنا وهناك، فهرس المحتويات، إلقاء نظرة على فهرست الأعلام، التأكّد، وهو فضول عبثي - لم أكن قد أنتجت تقريباً أيّ شيء - إن كان اسمي وارداً فيه. بالطبع، كنت أعد نفسي بأن أقرأ جدّياً كلّ شيء ما إن أعود إلى بلدي.
غير أنّي لم أكن أقتني إلاّ كتباً موضوعها العالم العربي؛ لا أكترث تماماً بالكتب الأخرى، بل لم أكن أراها. ألم أكن في الولايات المتحدة للاشتغال على الأدب العربيّ؟ فكرة بليدة بقدر ما هي شاذّة! لو كنت على الأقلّ قد انتهزت ذلك لدراسة الأدب الأميركيّ وتعميق معرفتي بثقافة هذا البلد وتاريخه (لم أكن أتوصّل إلى فكّ عناوين النيويورك تايمس، رموز، ألغاز، أحجيات). عوض ذلك، هبطتُ ببضاعتي الشرقية، سندباد من دون جدارة، لأنّ السندباد البحريّ، عندما يطأ بلاداً غريبة بعد غرق مركبه، يكون عارياً ومعوزاً تماماً. رجل القطيعة، فلا بدّ له من أن يبدأ من الصفر، يعيد خلق نفسه وخلق العالم، وإذْ يعود إلى بيته، فهو محمَّلٌ ثروات جديدة اكتسبها بجهده. كنت بالأحرى السندباد البرّي، حمّال بائس ينوء تحت ثقل تراث منفصم انفصاماً واضحاً عن العالم الحديث.
لم تكن ذكرى إيدا تفارقني. هل سأتعرّف عليها لو تلاقت طريقانا؟ لم أكن أتذكّر بوضوح قسماتها. أحياناً يبدو لي أنني ألمحها في الشارع أو على نافذة. أهي حقّاً؟ إيدا في النافذة…
أثناء زيارة المتحف رأيتها ثانية، صحبة السيّد هاموست. أبصرني هذا من بعيد، فلوّح لي. قصدتُ نحوهما، سعيداً بهذا اللقاء: أخيراً سأمحو الذكرى السيّئة لسهرة ذلك اليوم، أبدّد سوء التفاهم. لكن ما إن اقتربتُ، حتى أشاحت إيدا وطفقت تنظر إلى لوحات. خاطبني هاموست كأنّ شيئاً لم يحدث، فسألني إن كنت راضياً عن مسكني ودوّن رقم هاتفي. شكرته على دعوتي الى العشاء واعتذرت عن كوني قد نمت. مسح تفسيراتي بحركة منه، مضيفاً في سخائه، أنّ ذلك قد حصل له أكثر من مرّة. كانت بعد ذلك لحظة من الصمت المُحرَج. كان ينبغي لي الانصراف، وبدقّة أكبر الانسحاب. صافحت هاموست. كانت إيدا توليني دائماً ظهرها، مستغرقة على ما يبدو في تأمّلها.
لو كنتُ على الأقلّ أعلم لماذا تمقتني. أو بالأحرى الأمر واضح: لم تغفر لي نومي. لم ألعب دوراً بطوليا عندما نمت، أفسدت أوّل لقاء، تماماً مثل التعيس عزيز الذي لم يعرف كيف ينتظر عشيقته. غير أن هذه قد منحته فرصة ثانية. لن أحظى من دون شكّ بهذه النعمة، لكن لو منحتها إيدا إيّاي، فلن أنام، لن آكل، سأتناول كثيراً من القهوة، وأتلافى البقاء جالساً، سأنهض بين وقت وآخر لأمشي بضع خطوات وأحافظ على يقظتي، سأقاوم ببسالة ضدّ النوم وأظفر في هذا الاختبار الجديد.
عند إمعان التفكير، من المرجّح أنّ لا دخل لنومي في احتقارها لي. في الواقع قد أبدت لي عن لامبالاتها قبل ذلك بكثير، ما إن أبصرتني. كانت تحاول من دون شكّ إخضاعي لنمط آخر من الاختبار: أن أقبل بإذلالي، وأستزيد منه، ولا أتمرّد وأتقبّل كلّ ما يصدر عنها، من دون أن أطرح على نفسي أسئلة، ومن دون أن أطرحها عليها ولا على أيّ أحد. سأعاين أموراً غريبة ولن أحاول فهمها. محظور عليَّ استيضاح سلوكها وعليَّ انتظار أن تشاء هي الكشف عن نفسها! كنت مسوقاً إلى تجربة صوفية حقيقية…
أحاول أن أتذكّر ما كانت قد قالت أو فعلت أثناء العشاء، موقناً أن مستقبلي معها مرتبط بطريقتي في تأويل العلامات. قد تكون بعثت لي منها ما لم أُحسن تأويله ولذلك كانت غاضبة!
على كل حال، كنت عازماً على أن لا أتحدّث عنها مع السيّد هاموست، إمّا كبرياءً، وإمّا لأنّي كنت أخشى، في العمق، أن أعرف الحقيقة. وفي ما عدا الأسباب التي عرضتُها لتفسير احتقار المرأة، لا بد من وجود سبب لم يخطر ببالي، أو لم أرغب حقّاً في معرفته، لسبب غامض.
شيء مع ذلك أكيد: تعرفّتُ اليها حقّاً في المتحف وصار وجهها مألوفاً لديَّ. لا يمكنني، في المستقبل، أن أمرّ بقربها من دون الانتباه لها. لكن كيف أتصدّى لها؟ وماذا أقول لها لنفي التهمة عن نفسي؟ أتكلّم عن سفري الطويل في الطائرة وتعبي؟ الاعتراف لها بالحقيقة، أي إنني يأخذني النوم عند الناس الذين يدعونني؟ أُستحضر المنع من التدخين؟ لا، لن أقول شيئاً من هذا كلّه، ينبغي نسيان الحادث، من الأفضل السكوت عنه. أحادثها مع ذلك في شيء آخر، لكن ماذا؟ أدعوها إلى محاضراتي؟ لا، ليس هذا من اللباقة. أهدي اليها نسخة من دراستي عن النوم؟ لن تكون فكرة سيّئة: سيلطّف هذا من الجوّ؛ ما إن تنظر إلى العنوان، حتّى تدرك التلميح وسيطوى الحادث. لكن كنت أعلم أنها قادرة على رفض هديتي ¶
* مقطع من راوية "أنبئوني بالرؤية" لعبد الفتاح كيليطو، صادرة بالفرنسية عن Actes Sud، تصدر قريباً بالعربية عن "دار الآداب"، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي.
* عن ملحق النهار الثقافي
كنت أرقد في غرفة جدّتي، على أريكة موضوعة أسفل سريرها. أثناء مرض من أمراضي ـ لا بد أنه كان من الخطورة كي تتأبّد ذكراه عند الأسرة ـ، كنت على الدوام غائصاً في رقادٍ سُباتيّ. وفي اللحظات القليلة التي أستردّ فيها وعيي، أسمع أصوات الزائرات المستخبرات عن حالي. ما إن أدرك أني موضوع همسهنّ حتى أغوص ثانية في النوم.
عندما أخذت في التعافي، رفعن من صوتهنّ وتكلّمن عن هذا وذاك من الأشياء. لم أعد محور أحاديثهنّ. تكدّرتُ لذلك، فأخذت أتحسّر على المرض، لكن لا جدوى من التصنّع، كنت أعرف بالتجربة أن جدّتي لا تنخدع أبداً بأكاذيبي. وفي العمق، ما كنت بحاجة إلى المراوغة، فما زلت واهناً وانتكاسة قد تطرأ في كلّ لحظة.
في هذه الظرف جذب انتباهي كتابٌ موضوع بالقرب منّي، "ألف ليلة وليلة"، في طبعة بيروت، المسمّاة أيضاً بالكاثوليكية. ماذا كان يصنع في بيت لا يهتمّ فيه أحد بالأدب؟ من الذي جعله قريباً من أريكتي، في متناول يدي؟ من الظاهر أن إحدى الزائرات قد نسيته ولم ترجع لاسترداده، لذا ظلّ قرب فراشي طوال نقاهتي. كنت أجهل ذاك الوقت أن الفقرات الجنسية قد استُبعدت منه بعناية، لكن لم ينل ذلك من قوّة الحكايات وظلّ جانبها الفاضح كاملاً. وإلاّ لماذا انتابني شعور مبهم بأنه لا ينبغي لي أن أقرأه؟ إذا ما دخل شخص إلى الغرفة، أخفيه تحت الأغطية، لا سيّما إذا كان والدي. هكذا كنت إذاً أتصدى للقراءة، للأدب، تحت شارة المرض والإثم. ذلك كان الكتاب الأوّل الذي حاولت قراءته، الكتاب العربيّ الأوّل، الكتاب الأوّل بلا زيادة.
كنت أقرأ في الفراش، على ضوء النهار… نقيض شهرزاد التي تروي في الليل وتسكت في الصباح. كنت بقطعي القراءة في المساء، أخالف إشارتها الضمنية وأعكس نظام الأشياء.
والحال أني بقدر ما كنت أقرأ ويمضي الوقت، تتحسّن حالي. وعندما بلغت الصفحة الأخيرة، شُفيت تماماً. وكأن للأدب فضيلة علاجية. فإن لم يكن يشفي أمراض البدن، فهو يسكّن آلام النفس، هذه إحدى ثيمات كتاب "الليالي". أميل إلى الظن أنني استعدت الصحة بفضل شفاعته؛ بفضلها هي أيضاً، الزائرة الغامضة التي نسيته عند رأس فراشي.
هذا كلّه مؤثّر للغاية، لكن شكوكاً تنبثق، مشوّشة صفاء اللوحة. أفعلاً قرأت هذا الكتاب في الطبعة البيروتية المهذّبة؟ يروق لي اعتقاد ذلك، الله يعلم لماذا، لكن ما حقيقة الأمر؟ لنذهب أبعد: أقرأته وأنا طفل؟ ربما أكون قد حاولت، وعندما فطنت لثرائه المبهظ، تخلّيت عن قراءته بعد بضع صفحات، بضعة سطور. الكتاب الأول؟ كم مرّة زعمتُ ذلك، لكن أليس ذلك لأنه بالعربية وأنني أشقى مجتهداً لأربط نفسي بما لست أدري من أصل؟
أما الزعم بأنني كنت مريضاً عندما اكتشفته، فذلك محض استيهام. استحضار ما لست أدري من مرض، استثارة الشفقة على الذات، استعادة رؤيتي طفلاً راقداً على أريكة تحت سرير جدّتي… ألست منهمكاً في تزويق الأشياء موحياً بأن الحكايات قد استرجعت لي صحتي؟ مماثلاً نفسي من دون حقّ، بشهريار، الملك المجنون الذي شفته شهرزاد… ومن ثمّ سيناريو تلك الزائرة الغامضة، القارئة الناسية للكتاب… في الواقع، لا امرأة كانت تقرأ في ذلك الزمان في من حولي، ربّما آيات من القرآن، لا "الليالي" بالتأكيد.
أخيراً، الإيحاء بأني ببلوغ النهاية، قد شفيت تماماً… هذا من جانبي اختلاقٌ مغرض. الواقع أنني لن أكون قد شُفيت، بل سأكون قد متّ. منذ ألفية من السنين، ألم يتردّد القول إنه لا تنبغي قراءة "الليالي"، أو أن لا يُقرأ سوى شطر منها؟ الذين لم يتبعوا هذه النصيحة دفعوا الثمن غالياً. فقد ثبت أنهم جُنّوا، أو وضعوا حدّاً لحياتهم، أو ماتوا من السأم، حرفياً. غاب عنّي هذا في ذلك الزمان، لكن لا بدّ كنت قد استشعرتُ غريزياً الخطر.
بيد أن بفضل هذا الكتاب دُعيت إلى الولايات المتحدة، أو بتدقيق أكبر بفضل مقال (هو في الأصل بحث لنيل شهادة الماستر)، "النوم في ألف ليلة وليلة". كان الأستاذ ك. قد أوصى بنشره، لدهشتي العظيمة، لأنني كنت أعتقد أنه يكرهني. كان ينتقدني كلّ الوقت ويبدي شكّه إزاء مشاريعي، لكن خلافاً لكلّ توقّع ومن دون أن ألتمس منه ذلك، قام بنشر بحثي في Studia Arabica (في أحلامي الأشدّ هوجاً، لم أكن أعتقد استحقاقي شرف ورود اسمي في فهرس هذه المجلّة الرفيعة). زيادة على هذا، زكّى طلبي منحةَ شهرين لدى مؤسسة فلبرايت. بطريقة مفاجئة، فتح لي النوم أبواب أميركا…
في المطار، كان سائق ينتظرني، في يده لافتة كُتب عليها اسمي بحروف عريضة. أثناء المسير إلى النادي حيث سأقيم، لم نتبادل كلمة. كان المطر يهطل، والمنظر الذي يتتالى دميماً، بنايات كئيبة، أشغال في طور الإنجاز، رافعات هائلة… لا إرادياً، أخرجت علبة سجائري، وعندا أدركت هفوتي، بدأت أدسّها عندما أشار لي السائق، الذي أبصر حركتي في عاكس الرؤية، بأنه يأذن لي في التدخين.
كان المسار يبدو لي لا ينقضي وبدأت أندم على سفري، فيما البارحة فقط كنت متحمّساً لفكرة اكتشاف أميركا. لم يكن السائق راضياً بدوره: تاه، وعندما لم يهتد إلى طريقه توقّف ليفحص خريطة، على ما يبدو من دون نتيجة، لأنه سار حتى محطّة وقود حيث استعلم. أخيراً، بعد دوران طويل، أنزلني في النادي.
رتّبتُ أمتعتي في الخزانة الحائطية الفسيحة بغرفتي، وضعتُ ملفّات، ومدوّنات، وأقلام على المكتب. وعندما لم يكن لديّ سوى كتابين أو ثلاثة، تردّدتُ لحظة في وضعها على الرفوف المعدّة لهذا الغرض، لفرط ما تبدو شاذّة وسط الفراغ. ألحقتُ بها مستلاّت مقالتي عن النوم، ومخطوطة بحث الدكتوراه عن الفضول المحرَّم الذي كنت في آخر مراحل إنجازه، ومعجم أنكليزي، ومعجم ثنائيّ، وطبعة شعبية من "الليالي" في أربعة مجلّدات، وأخيراً L'Île mystérieuse لجول ڤيرن التي لا تفارقني أبداً والتي أقرأ منها دائماً قبل أن أنام. وعندما ظلّت المكتبة فارغة بشكل ميئِّس، آسيت نفسي بأنها حال موقّتة: فقد كانت لي نيّة شراء أكثر ما أستطيع من الكتب.
بعد إقامتي في الغرفة، لم أعد أدري ما أفعل. نزلت إلى بهو الاستقبال لأتلفن إلى الأستاذ مايكل هامْوِست. أخبرني أنه سيأتي لأخذي إلى العشاء.
حين حضر، كلماته الأولى هي قوله إنني لا بد مرهق بعد هذا السفر الطويل، ولذا قرّر أن يعفيني في هذه السهرة من الحديث بالأنكليزية.
- "سنتحدّث بالفرنسية".
لم يفكّر بتاتاً في حديث بالعربية، التي كان مع ذلك يعرفها. استحسنتُ التأجيل الممنوح لي، لكن مع اليقين بأن مضيفي سينفّذ تهديده في الغد فلا يخاطبني إلاّ بلغته. كان يلحظني بنوع من القلق، متسائلاً من دون شكّ كيف سأجد الخلاص أمام طلبته. كانت فرنسيته ضعيفة، لكن بالتأكيد أفضل من أنكليزيتي. عدم التوازن كان جليّاً وهذا كان يمنحه تفوّقاً واضحاً.
عندما وصلنا أمام بيته، لاحظت على لوح الباب ملصقاً لمنع التدخين. ارتبتُ في أنه قد اقتناه اليوم بالذات وثبّته على بابه لأجلي تماماً قبل أن يأتي لأخذي. لا بدّ قد بلغه صيت إدماني التدخين. ما إن يعود بي إلى النادي، حتى يزيل الإعلان المقيت.
استقبلتني زوجته بكثير من اللطف. كانت جدران حجرة الاستقبال مكتسية بالكتب. ولأقول شيئاً لطيفاً، همستُ:
- "إنها مكتبة بورخيسية".
اتسعت عينا السيّدة هاموست دهشةً.
- "تعرفُ بورخيس!".
أكّد لها زوجها أنني قد قرأت كتابات المؤلّف الأرجنتيني عن "الليالي"، وهو قول محيّر إذ يوحي أنني باقتصاري على الأعمال التي تهمّ تخصّصي، لم أعبأ بالباقي. تدارك الأمر بإخباري أنّ زوجته مُتَأسْبِنة وفكّرتْ لحظة في دراسة تأثير "الليالي" على كتّاب أميركا اللاتينية.
- "لا على بورخيس، إذ توجد سلفاً دراسة أو دراستان جيّدتان في هذا الموضوع، وإنّما على كتّاب آخرين، مثلاً مانويل سكورزا ومؤلَّفه "طبول في الليل": السارق الذي يُحسن التحدّث إلى الخيول، ويغريها بأن يهمس لها، ليلاً، أشياء في آذانها. كان يمنّيها ببرارٍ خصيبة وإناث رائعات؛ فتتبعه حينئذٍ راضية".
تعهُّدُ السيّد هاموست بأن لا يحادثني هذا المساء إلاّ بالفرنسية. لا يعني بالطبع زوجته. هكذا كان عليَّ أن أتواصل معها بالأنكليزية بالضبط لمحاولة تحديد اللغة التي كان يستعملها السارق للحديث إلى الخيول. لغته أو لغتها؟ ومن موضوع الى آخر، تناولنا مسألة خطاب البهائم في "الليالي"، وذكرنا صاحب الزرع الذي كان يفهم لغة الحمار، والثور، والكلب، والديك؛ وتوقّفنا قليلاً عند القرد الخطّاط. وبتداعي الأفكار، تحدّثنا عن الحصان الطائر الذي جعل أحد الدراويش القرندلية الثلاثة أعور، وكنّا في التساؤل إن كانت توجد حكاية تروي تواصلاً كلامياً بين رجل وحصان حين دقّ أحدٌ جرس الباب.
دخلت امرأة ذات جمال مذهل. قدّمها اليَّ السيّد هاموست تحت اسم إيدا (أو آدا، عايدة، إيدّا)، كان سيذكر اسمي عندما أشاحت بوجهها وانخرطت مع السيّدة هاموست في نقاش غاب عنّي موضوعه. كانتا تضحكان، وتهتفان، تحت نظرة السيّد هاموست المتهلّلة والمعجَبة، وأمام مظهر هذه السعادة الصاخبة، زاد من إحساسي بالضياع أنني لم أكن أفهم شيئاً ممّا تقولان، ولا كلمة واحدة.
كان العشاء ممتازاً. نسينا الخيول ودار الحديث عن الحبّ. بدا لي أني سمعت السيّد هاموست يقول ذات لحظة:
"لا أفهم لماذا يبذل أبطال الروايات كلّ هذا العناء ليحصلوا على امرأة".
بعد التحلية، عدنا إلى حجرة الاستقبال. كانت إيدا تتلافى منهجياً النظر إليَّ وتقاطعني كلّما حاولتُ أن أفوه بكلمة. والسيّد هاموست في منتهى الرعاية لزوجته ويكثر من علامات الحنان والحبّ التي تتلقّاها بابتسامة عريضة. كنت متعَباً وعيناي تخزانني، أتعجّل العودة إلى النادي، لكن بدل العودة بي، استمرّ السيّد هاموست في تحسّس شعر زوجته، ثمّ متجاسراً، قبّلها طويلاً على فمها. أغمضت عينيها وسحبته نحو الأرض، تماماً قرب الفوتيل حيث كنت أجلس. شرع آنذاك في دسّ يده تحت تنّورتها. نهضت إيدا، ومقتربةً منّي، ربتت كتفي. فتحتُ عينيّ: السيّد هاموست هو الذي كان مكبّاً عليَّ، قائلاً: "أعتقد أنّ عليّ أن أعيدك إلى النادي". كان يبدو منشغلاً. نهضت إيدا، عانقت المضيفين وانصرفت، دون نظرة لي. في الخارج، كان الجو بارداً جدّاً.
في الغد، خرجت مبكراً من النادي حتّى أتمكّن من التدخين. سرعان ما ذرعتُ الشوارع القليلة التي تحاذي الحرم الجامعي.
لم أنم جيداً، بسبب التفاوت الزمني، لكن أيضاً لأنّ ذكرى البارحة تعذّبني. أنْ أنام وأنا مدعوّ، أيّ مضايقة لمضيفيَّ! لا أتذكّر تماماً إن كنت قد أكلت. ثمّ ذلك الحلم السخيف. يعلم الله ماذا كان يكشف عنّي، أفكار مريضة تكتتم فيه. كم وقتاً دامت غفوتي؟ أكنت قد قلتُ شيئاً؟ ليس ذلك بالمستحيل. أمّا عن انصرافي الأهوج… هل حيّيتُ السيّدة هاموست وإيدا؟ لا بد أنهما كانتا قد اكتنهتا مضمون حلمي ورغباتي غير اللائقة.
مهما قلت لنفسي، في انتفاضة تمرّد، لو لم يمنعوني من التدخين، لكنت مع ذلك قد قاومت النوم، فتصرّفي يظلّ شائناً. مقامي يبدأ تحت أنحس الطوالع… هذه العادة لديّ أن أغفو عند الناس! النوم اللذيذ، كان يقول هوميروس… كم مرّة، خلال سهرة، استفقت مذعوراً، رأسي على كتف جار متضايق ومتعاطف، متواطئ أيضاً: قهقهة عامّة ترافق استفاقتي. مع هذا، يستمرّ أصدقائي في دعوتي، على رغم تلك العادة السيّئة، ماذا أقول، بفضلها! إنها فرجة بالنسبة لهم، ينتظرونها أحياناً بنفاد صبر. "ما أكثر ما نطقتَ به من الأشياء، لكن اطمئنّ، لن نردّدها، هذا سيبقى بيننا!".
ليس مصادفة إذاً أن أكون قد كتبتُ دراسة عن النوم! كنت أتحدّث فيها عن نفسي بطريقة غير مباشرة وأنا أعالج مسألة أكاديمية. الموضوع خصب جدّاً في "الليالي": شخصيات تخضع للنوم بتناول مخدّر، وأخرى يُغشى عليها، وأخرى أيضاً تُدفن حيّة. النائم اليقظان لفت انتباهي، لكنّ حكاية عزيز هي التي شغفتني، عزيز أثناء انتظاره لمحبوبته، يرتمي على الطعام بشراهة ويغرق في نوم بهيمي. عندما فتح عينيه في الغد، ألفى نفسه مرمياً وسط الشارع. كنت محظوظاً أكثر: استيقظتُ في فراشي.
عندما أوردتُ في مقالتي الذنب مقروناً بالنوم، لم أغفل أن أقول إن شهرزاد لو أغمضت عينيها ليلة واحدة، لكانت مقطوعة الرأس في الغد. لكن هذا كان مبتذلاً جدّاً. وكما يحدث غالباً، لا تحضر فكرة جيّدة إلاّ بعد أن يكون العمل قد نُشِر أو نوقش. الفكرة الأصيلة حقّاً، على رغم بساطتها المحيِّرة، لم تخطر لي إلاّ في ما بعد. ما أغفلتُ أن أذكره في دراستي، هو حال شخصية لا تنام أبداً، الملك شهريار: في الليل وحتّى الفجر، يستمع الى حكايات شهرزاد؛ ثمّ بعد ذلك ومن دون تمهيد، ينشغل بأمور مملكته. هكذا كلّ يوم. وشهرزاد؟ ماذا تصنع أثناء النهار؟ لا يقول النصّ شيئاً عن ذلك، ويمكن افتراض أنها تنتهز المهلة الممنوحة لها لتنام، لكن هذه الفرضية، لست أدري لماذا، لا تعجبني.
لم يكن وارداً بالنسبة اليَّ التردّد على خزانة الجامعة، كنت عاجزاً جسدياً عن ذلك. أغبط القرّاء الذين يمكنهم العمل فيها من الصباح حتّى المساء. يثيرون فيَّ إحساساً بالخطأ: جادّون، وقورون، يبدو عليهم أنهم يؤدّون مهمّة، يدوّنون ملحوظات، يحكّون أعينهم، يمسحون نظّاراتهم، يتمطّون أحياناً متثائبين بارتياح الذي أنجز واجبه، بينما لا أستطيع أنا التركيز على الوثيقة الموجودة تحت عينيّ. أمّا أن أدوّن ملحوظات… أدوّن ماذا بالضبط؟ لذا لا شيء يبرّر وجودي في هذا الحرَم حيث، ما إن أضع فيه القدم، حتّى أتيه وأدوخ.
بيد أنّ التردّد عليها كان أو ينبغي أن يكون الحافز الأول لمقامي في الولايات المتحدة. أن أقرأ الكتب التي لا أستطيع العثور عليها في بلدي كان هو السبب الرسمي الذي أتعلّل به في كلّ حين، مع علمي أن الأمر ليس كذلك. خزانة الجامعة التي تستضيفني جيّدة التجهيز وكنت متيقّناً أن أعثر فيها على كلّ الأعمال حول "الليالي" التي أرغب في الاطلاع عليها منذ زمن بعيد والتي ظلّت بالنسبة اليَّ متعذّرة المنال: طبعة ماكسمليان هابشت، والترجمتان الألمانيتان لغوستاف ڤايل وإنُّو ليتمان، والأنكليزيتان لإدوارد لين وجون پاين… جميعها هنا بالضبط، أعرف ذلك، وكان هذا مُحْبِطاً. لا مفاجأة في الأفق، لا لقاء غير منتظر، لا صعقة عشق. لماذا إذاً عزمتُ على هذا السفر؟ للا شيء، أو بالأحرى لأنّ آخرين قد قاموا به. رغبةٌ محاكاتية حقيقية…
ما كان عندي كثيرٌ أعمله ومنذ وصولي كنت أحيا في العَرَضي وأسبح في اللاجدوى. وأنا أمشي في الطرق، تعود إليَّ كلمات، قصائد عربية حفظتُها قديماً في المدرسة، آيات قرآنية، ذكريات، قراءات، نكات، أغنيات أمّ كلثوم وفريد، لكن أيضاً أغان بليدة، من مخلّفات مخيّمات العطلة، وأخرى وطنية وحماسية. إذ ذاك وعيتُ وعياً واضحاً بأنني عربيّ. هو هذا، أن تكون عربيّاً، أن تدمدم طوال اليوم بكلمات تقليدية موروثة. كلّ الذي كنت أكبته عندما كنت في بيتي، في موطني، كلّ هذا يعود إليَّ، ويفرض نفسه عليَّ ويلاحقني. لم يكن يلهيني عن حنيني المضحك سوى منظر السناجب المنشغلة على الأرض وعلى الأشجار، متلائمة تماماً مع محيطها.
كلّ يوم، كنت أمرّ وأكرّر المرور أمام اثنتين أو ثلاث من قاعات السينما قد لاحظتها. لم تكن تعرض سوى أفلام تافهة (حتى الملصقات كانت كابية). لم أتغيّر في هذه النقطة، جولاتي تقوم منذ الطفولة على اتباع المسارات نفسها، قاعات السينما، مكتبات. كنت أتردّد في الخصوص على Bookstore الجامعة لأرى غلف الكتب الجديدة المعروضة فيه. كانت منحتي تتيح لي شراء كتاب واحد كلّ يوم، شرط أن لا أذهب كثيراً إلى المطعم. متعة يومية: فتح المجلّد الجديد، العناية بعدم إتلافه، تصفّحه، قراءة صفحة هنا وهناك، فهرس المحتويات، إلقاء نظرة على فهرست الأعلام، التأكّد، وهو فضول عبثي - لم أكن قد أنتجت تقريباً أيّ شيء - إن كان اسمي وارداً فيه. بالطبع، كنت أعد نفسي بأن أقرأ جدّياً كلّ شيء ما إن أعود إلى بلدي.
غير أنّي لم أكن أقتني إلاّ كتباً موضوعها العالم العربي؛ لا أكترث تماماً بالكتب الأخرى، بل لم أكن أراها. ألم أكن في الولايات المتحدة للاشتغال على الأدب العربيّ؟ فكرة بليدة بقدر ما هي شاذّة! لو كنت على الأقلّ قد انتهزت ذلك لدراسة الأدب الأميركيّ وتعميق معرفتي بثقافة هذا البلد وتاريخه (لم أكن أتوصّل إلى فكّ عناوين النيويورك تايمس، رموز، ألغاز، أحجيات). عوض ذلك، هبطتُ ببضاعتي الشرقية، سندباد من دون جدارة، لأنّ السندباد البحريّ، عندما يطأ بلاداً غريبة بعد غرق مركبه، يكون عارياً ومعوزاً تماماً. رجل القطيعة، فلا بدّ له من أن يبدأ من الصفر، يعيد خلق نفسه وخلق العالم، وإذْ يعود إلى بيته، فهو محمَّلٌ ثروات جديدة اكتسبها بجهده. كنت بالأحرى السندباد البرّي، حمّال بائس ينوء تحت ثقل تراث منفصم انفصاماً واضحاً عن العالم الحديث.
لم تكن ذكرى إيدا تفارقني. هل سأتعرّف عليها لو تلاقت طريقانا؟ لم أكن أتذكّر بوضوح قسماتها. أحياناً يبدو لي أنني ألمحها في الشارع أو على نافذة. أهي حقّاً؟ إيدا في النافذة…
أثناء زيارة المتحف رأيتها ثانية، صحبة السيّد هاموست. أبصرني هذا من بعيد، فلوّح لي. قصدتُ نحوهما، سعيداً بهذا اللقاء: أخيراً سأمحو الذكرى السيّئة لسهرة ذلك اليوم، أبدّد سوء التفاهم. لكن ما إن اقتربتُ، حتى أشاحت إيدا وطفقت تنظر إلى لوحات. خاطبني هاموست كأنّ شيئاً لم يحدث، فسألني إن كنت راضياً عن مسكني ودوّن رقم هاتفي. شكرته على دعوتي الى العشاء واعتذرت عن كوني قد نمت. مسح تفسيراتي بحركة منه، مضيفاً في سخائه، أنّ ذلك قد حصل له أكثر من مرّة. كانت بعد ذلك لحظة من الصمت المُحرَج. كان ينبغي لي الانصراف، وبدقّة أكبر الانسحاب. صافحت هاموست. كانت إيدا توليني دائماً ظهرها، مستغرقة على ما يبدو في تأمّلها.
لو كنتُ على الأقلّ أعلم لماذا تمقتني. أو بالأحرى الأمر واضح: لم تغفر لي نومي. لم ألعب دوراً بطوليا عندما نمت، أفسدت أوّل لقاء، تماماً مثل التعيس عزيز الذي لم يعرف كيف ينتظر عشيقته. غير أن هذه قد منحته فرصة ثانية. لن أحظى من دون شكّ بهذه النعمة، لكن لو منحتها إيدا إيّاي، فلن أنام، لن آكل، سأتناول كثيراً من القهوة، وأتلافى البقاء جالساً، سأنهض بين وقت وآخر لأمشي بضع خطوات وأحافظ على يقظتي، سأقاوم ببسالة ضدّ النوم وأظفر في هذا الاختبار الجديد.
عند إمعان التفكير، من المرجّح أنّ لا دخل لنومي في احتقارها لي. في الواقع قد أبدت لي عن لامبالاتها قبل ذلك بكثير، ما إن أبصرتني. كانت تحاول من دون شكّ إخضاعي لنمط آخر من الاختبار: أن أقبل بإذلالي، وأستزيد منه، ولا أتمرّد وأتقبّل كلّ ما يصدر عنها، من دون أن أطرح على نفسي أسئلة، ومن دون أن أطرحها عليها ولا على أيّ أحد. سأعاين أموراً غريبة ولن أحاول فهمها. محظور عليَّ استيضاح سلوكها وعليَّ انتظار أن تشاء هي الكشف عن نفسها! كنت مسوقاً إلى تجربة صوفية حقيقية…
أحاول أن أتذكّر ما كانت قد قالت أو فعلت أثناء العشاء، موقناً أن مستقبلي معها مرتبط بطريقتي في تأويل العلامات. قد تكون بعثت لي منها ما لم أُحسن تأويله ولذلك كانت غاضبة!
على كل حال، كنت عازماً على أن لا أتحدّث عنها مع السيّد هاموست، إمّا كبرياءً، وإمّا لأنّي كنت أخشى، في العمق، أن أعرف الحقيقة. وفي ما عدا الأسباب التي عرضتُها لتفسير احتقار المرأة، لا بد من وجود سبب لم يخطر ببالي، أو لم أرغب حقّاً في معرفته، لسبب غامض.
شيء مع ذلك أكيد: تعرفّتُ اليها حقّاً في المتحف وصار وجهها مألوفاً لديَّ. لا يمكنني، في المستقبل، أن أمرّ بقربها من دون الانتباه لها. لكن كيف أتصدّى لها؟ وماذا أقول لها لنفي التهمة عن نفسي؟ أتكلّم عن سفري الطويل في الطائرة وتعبي؟ الاعتراف لها بالحقيقة، أي إنني يأخذني النوم عند الناس الذين يدعونني؟ أُستحضر المنع من التدخين؟ لا، لن أقول شيئاً من هذا كلّه، ينبغي نسيان الحادث، من الأفضل السكوت عنه. أحادثها مع ذلك في شيء آخر، لكن ماذا؟ أدعوها إلى محاضراتي؟ لا، ليس هذا من اللباقة. أهدي اليها نسخة من دراستي عن النوم؟ لن تكون فكرة سيّئة: سيلطّف هذا من الجوّ؛ ما إن تنظر إلى العنوان، حتّى تدرك التلميح وسيطوى الحادث. لكن كنت أعلم أنها قادرة على رفض هديتي ¶
* مقطع من راوية "أنبئوني بالرؤية" لعبد الفتاح كيليطو، صادرة بالفرنسية عن Actes Sud، تصدر قريباً بالعربية عن "دار الآداب"، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي.
* عن ملحق النهار الثقافي