عدي الحربش - لا أظن أنّ بإمكاني التخلص اليوم من سحر ألف ليلة و ليلة.

أذكر أن أول نسخة قرأتها من ألف ليلة و ليلة كانت نسخة مهذبة لقدري قلعجي، اشترينا الأجزاء الأربعة الأولى منها، ثمّ انقطعت. كانت تلك النسخة هي بوابتي الأولى لعالم من السحر و الخيال اللامحدود. كنتُ أتساءل دائماً: و مالذي حصل بعد ذلك؟ أين أجد الطبعة الكاملة لألف ليلة و ليلة؟ بعد فترة من الزمن، عثرتُ على نسخة حلبية من ألف ليلة و ليلة، كانت بدورها منقحة أيضا، ما يميزها أنها كانت مليئة بالرسومات التراثية القديمة. ظللت غير مقتنعٍ بما أملك، إذ أنني لم أرَ القصص تملأ الليالي الألف كما ينبغي.

أثناء تواجدي في كندا، عثرتُ في مكتبة لبيع الكتب القديمة على هذه المجلدات الستة من قطع الفوليو Folio بتجليد سميك و فاخر، و لكن الأهم من هذا أنها كانت مكتملة. كل القصص موزعة بطريقة متوازية على الليالي الألف. كنتُ قد قرأت مقال بورخيس عن ترجمات ألف ليلة و ليلة، و اللتي لم يمدح فيها سوى نسختي الكابتن ريتشارد بورتون، و الدكتور الفرنسي ماردروس Mardrus . كانت هذه المجلدات الستة بترجمة ماثرز Mathers ، الذي نقل إلى الانجليزية هذه النسخة الفرنسية من ألف ليلة و ليلة للدكتور مارددروس. تساءلتُ ما بين و بين نفسي: "لماذا أقرأ -أنا العربي- كتاب ألف ليلة و ليلة بعد أن انتقل عبر حاجزين مختلفين من اللغات (الفرنسية و الإنجليزية)؟"

رغمَ ذلك قررتُ أن أشتري المجلدات الستة، و خرجت من المكتبة و أنا أضم الصندوق الذي يحتويها إلى صدري، و كم كانت فرحتي غامرة بعد أن شرعت بقراءة محتواها!

مرور نصٍ ماعبر لغة أو لغتين قبل أن يصل إليك- لا يعني أنه يهبط به إلى الأسفل في كل مرة.. قد تهبه هذه اللغات جمالاً فوقَ جماله، و هذا ما سأبينه هنا في قصة (وزير الملك يونان و الحكيم ريّان)..

هذه القصة من أكثر القصص التصاقا ببالي منذ طفولتي، ربما لأنها تتناول ثيمة الإنتقام التي أحبها كثيراً. تحدثتُ عن الإنتقام سابقا، و قلتُ أن أجمل قصصه هي سيرة الزير سالم، و رواية الكونت دي مونت كريستو، و ها أنا أضيف حكاية الملك يونان و الحكيم ريّان.

الملك مصابٌ بالجذام، و لا ينفع معه دواء. إلى أن يجيء حكيم يُدعى يونان، فيزعم أن بإمكانه أن يُبرأ الملك دون أن يعطيه ترياقا. يعتزل الحكيم ريّان في بيته، و يصنع صولجانا و كرة يحتويان على دواء العلة، ثم يأمر الملك باللعب بهما، حتى إذا امتلأ بالعرق تسرب الدواء عبر مسامه. يصحو الملك يونان من نومه فإذا هو صحيح غير عليل، فيغدق على الحكيم ريّان بالمنح، مما يوغر صدر الوزير. يسعى الوزير للإيقاع بين الملك و حكيمه، فيقول له أن من أشفاه بالصولجان قادر على تسميمه في أي لحظة. تلقى هذه الوشاية آذان صاغية لدى الملك، فيحضر الحكيم عنده، و يشعره أنه عازم على قتله، و عندما لا يفلح مع الملك استعطاف أو تذكير، يطلب الحكيم ريّان أن يعطيه الملك مهلة كي يودع أهله و يعهد بكتبه إلى أصحابه، ثم يخبره عن كتاب لديه يحوي أسرار التطبيب و الشفاء، و أنه لو قطع رأسه و وضعه في إناء مملوء بالكحل و فتح أربع صفحات من الكتاب، فإن رأس الحكيم ريّان سوف يرجع إلى الحياة و يحدثه من وراء الموت. يُسر الملك لهذا الخبر، و يعطيه المهلة، فيقوم الحكيم ريّان بتشريب صفحات الكتاب بالسم، و يهبه الملك. يقطع الملك رأس حكيمه، و يضعه أمامه في إناء الكحل، و يقوم بفتح صفحات الكتاب فيجدها فارغة، حتى إذا أحسّ بالسم يسري في أطرافه إذا بالحياة تنبعث في رأس الحكيم يونان، ليقوم بإنشاد هذه الأبيات الإنتقامية:

تحكموا فاستطالوا في حكومتهم = و عن قليلٍ كأنّ الحكمَ لم يكنِ
لو أنصَفوا أُنصِفوا لكن بَغوا فبغى = عليهمُ الدهرُ بالآفاتِ و المِحنِ
و أصبحوا و لسانُ الحالِ ينشدهم = هذا بذاكَ و لا عتْبٌ على الزمنِ

هذه هي الأبيات في نسختها العربية، لا بأس بها، إلا أن هذه الأبيات لا تعطي للنهاية هذا الزخم اللازم للحظة الإنتقام.

و لكن في النسخة الإنجليزية من ترجمة الدكتور ماردروس قرأت شيئاً آخراً هزّ قلبي و كياني. في لحظة الانتقام، عندما أحسّ الملك بالسم يسري في أعضائه، فتح الحكيم يونان عينيه و ردد هذه الأبيات الرهيبة:

When the unjust judge
Without justice judges
Horribe, horrible things are done
But more horrible things are done
When justice judges
The unjust judge

من الصعب ترجمة هذه الأبيات إلى العربية، و لكني سأفعل جهدي و أتصرف بها قليلاً كي أنقل الشعور الذي شعرت به:
عندما القاضي الظالم
يقضي بغير العدل
أشياء رهيبة تحدث.
و لكن الأكثر إرعاباً يحصلُ
عندما العدالةُ نفسها
تحاكمُ القاضي الظالم.

هذه الأبيات الإنجليزية تستوحي بعض مفردات النسخة العربية، و لكنها تختلف معها اختلافا جذريا في المعنى. لقد خانت الأبيات الإنجليزية النصّ، و لكنها نقلت إليّ روحه بطريقة أكثر درامية و أكثر زخماً.

في النسخة العربية أحسست بالبهجة لأن الظالم أتى يومه و حلّ عليه الإنتقام و رجعت الأمور إلى مجاريها.

و لكن في النسخة الإنجليزية أحسست بالرعب، لأنّ العدالة بشخصها حضرت الآن على شكل الرأس المقطوع في إناء الكحل، و هي تتوعدُ كل من يظلم بيومٍ شبيه بيوم الملك يونان. لم أعد متفرجا محايداً، لقد أصبحت أيضاً متورطاً، أخشى أن أكون من ضمن هؤلاء الظلمة الذين سيأتي يومهم عندما تأتي العدالة الرهيبة.

منذُ ذلك اليوم لا أستطيع أن أتذكر القصة دون أن تقرع في أذني هذه الأبيات الرهيبة.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...