محمود سعيد - ألف ليلة وليلة.. ثانية

الأشعار ترسم ملامح الزمن وبغداد تتكرر 478 مرة

في كانون الثاني الماضي، نشرت جريدة الزمان مقالاً للأستاذ الصديق باسم عبد الحميد حمودي، مقالة عن ألف ليلة وليلة بعنوان “السرد بغدادياً” أشار فيها إلى محاولة جديرة بالاعتبارللاستاذ حمزة الأعرجي في التوصل إلى كاتب معجزتنا الأدبية العظمى أبي حيان التوحيدي. وكنت القيت محاضرة في الندوة العربية في جامعة شيكاغو بتاريخ 21 كانون الثاني 2011 بعنوان:

After one- thousand years the beautiful, enchanting daughter returns virtuously and safely to her creator.

بعد أكثر من ألف سنة تعود الإبنة الحسناءُ الفاتنةُ الضالّةُ (ألفُ ليلةٍ وليلةٍ) إلى مبدعها كريمة مصونة

ونشرت المحاضرة في جريدة الزمان. ولما كنت أثق بحكمة الصديق العزيز باسم عبد الحميد حمودي وحبه للحقيقة وبحثه الدائب عنها، أود أن ألفت نظره إلى الموضوع، وأرجو أن تعيد الزمان نشر المقالة فلعلها تساعدنا جميعاً لكشف اللبس الذي طال الموضوع مدة أكثر من 11 قرناً.

وأحب أن أشير إلى أن الدراسة ليست لي بل هي إلى باحث متفرد علم شامخ في تاريخنا الأدبي المعاصر: هو د. هادي حسن حمودي، ودوري هو تلخيصها لا أكثر:

بعد أكثر من ألف سنة تعود الإبنة الحسناءُ الفاتنةُ الضالّةُ (ألفُ ليلةٍ وليلةٍ) إلى مبدعها كريمة مصونة.

قبل أن أتطرق إلى الدراسة أحبّ أن أقول إنني أقوم لأول مرة في حياتي بتقديم موضوع يتعلق برواية كنت ومازلت مفتوناً بها منذ أكثر من نصف قرن. لم يسبق في التاريخ أن تعرّض كتاب لحملة تزييف وتلفيق وأكاذيب وتشويه ومنع كما تعرض هذا الكتاب العظيم. فقد اتفق معظم من كتب عن هذا الكتاب من المشهورين والمغمورين، على إهانته والحط من قدره، وآخرهم كاتبة متواضعة تكتب بالفرنسة (فاطمة المرنيسى) التي ترجمت مقالتها الأربعاء التاسع عشر من كانون الثاني/ جنوري في جريدة الزمان اللندنية. أجمع جيمع البلداء وأنصاف المثقفين أن حكاياته فارسية هندية عربية، وأنها لم يكن لها مؤلف واحد، ولا يعرفوا جامعها أو واضعها على هذه الصورة، وحسب مقدمة طاهر الطناحي في طبعة دار الهلال المصرية الخامسة عبارة مطاطة مقتبسة من دون شك يقول: يرجع الباحثون النواة الأولى لألف ليلة وليلة إلى كتاب فارسي يدعى “هزار أفسانة” ومعناه ألف خرافة، ويستند على مصدرين: المسعودي، وابن النديم. ويقصد الطناحي أن المستشرقين كـ “ملر”و “نولدكة” تبنوا تلك الفكرة وحاولوا أن يثبتوها بتقسيم الحكايات إلى مستويات أو طبقات، يرجع معظمها إلى أصول غير عربية. ويوكد الطناحي أن النص الأخير أخذ من النص المصري، ويعزي الجهد إلى المستشرق روزتنبرج، ويؤيده الكثيرون وكانت مطبعة بولاق قد طبعت الكتاب في سنة 1835. ولما كانوا لم يتعبوا أنفسهم في التمحيص والدرس فقد أثبتوا (كيف جنت عليه الأيام كثيرا، فقد تداولته الأيدي، ايدي النساخ والقصاص والرواة (والحكواتية) في المقاهي الشعبية والأعياد، بالتبديل والتعديل والاضافة والحذف كثيرا. ثم جاء العصر الحديث، بمطابعه ودور نشره، فزاد مسخ الكتاب كثيرا وصرنا نطالع كل حين طبعة له تختلف عن سابقاتها، وكل فئة تريد ان تنسب الكتاب اليها وتعمد الى تحريفه وتغيير الفاظه وأسماء أماكنه وبقاعه، لتستطيع الزعم بأنه ملك صرف لها. ولعل أفظع طعنة توجه لها الزعم بأن شكلها الحالي يرجح إلى القرن الرابع عشر الميلادي 1500م).

هذا ما يتداوله العربي وغير العربي الآن في إهان الليالي وتشويهها حتى الآن، بالرغم من اعترافهم جميعاً بمدى تأثيرها في الآداب العالمية في معظم بقاع الأرض.

ترجمت الليالي متأخرة إلى الإنكليزية على يد السير وليم هاي والسير تيرنر ماكان، سنة 1839، بينما كانت ترجمها إلى الفرنسية أقدم على يد المستشرق الفرنسي انطوان جالان عام 1704م، وترجمها بتصرف فأصبحت قبلة للمترجمين إلى باقي اللغات، واستعملت حكاياتها في قصص الأطفال، وتعتبر العمل الأدبي الأول والأهم في التاريخ إن قومنا ذلك بتأثيرها في الأجيال فقد كانت مصدرا لإلهام الكثير من الكتاب والروائيين والشعراء الرسامين والموسيقيين، ومن منا لا يتذكر سيمفونية شهرزاد لينيكولاي ريمسكي كورسيكوف، ولو جمعنا اللوحات الفنية الرائعة المستوحاة منها لملأت مجلدات فيما فاقت الطوابع الممتخيلة لشخصياتها المئات في جميع أنحاء العالم، وأصبحت شخصياتها عملاقة خالدة في معظم بلدان العالم كعلاء الدين، وعلي بابا والأربعين حرامي والسندباد البحري، وشهرزاد وشهريار الملك، والشاطر حسن. واقتبس منها الكاتب الإيطالي الشهير “بوكاشيو” “الأيام العشرة” واقتبس منها الكاتب الإنجليزي “شكسبير” موضوع مسرحيته “العبرة بالنهاية”. وسار “شوسر” على نهج “بوكاشيو” فكتب “قصص كانتوبوري” على المنوال نفسه.

الليالي رواية ألهمت مئات الكتاب غير العرب من إنكليز وفرنسيين وإسبان، وغيرهم منذ ترجمت وحتى الآن، فقد أشاد بها ماركيز، وقال صراحة أنه اقتبس منها قصة قصيرة عن ميت يتذكر ساعاته الأخيرة، واستشهد بها بورخيز، وقال ستندال أتمنى أن يساعدني الله على محو ألف ليلة وليلة من ذاكرتي لكي أتمتع بها عند قراءتها ثانية وقال عنها فولتير: لم أكتب الرواية إلا بعد قرائتي ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة، ولا يتسع المقام لذكر من تأثر بها من العظماء، وغنيت قصائد لم ترد إلا في ألف ليلة وليلة على لسان أبدع المغنين والمغنيات العرب كأم كلثوم.

كثيراً ما كنت أتساءل كيف يساء إلى كتاب عظيم كهذا ويشوّهه العارفون وأنصاف العارفين وأرباع الجهلة والأميين طيلة قرون ولا يتصدى لهذا الظلام من بصيص نور يقلعه؟ حتى عثرت على مقال باحث عراقي (هادي حسن حمودي) في دراسة رائدة فريدة لا تضاهيها أيّ دراسة سابقة أو لاحقة في الأدب العربي في جريدة الحياة اللندنية في خمس حلقات Tue 27 Jan 1998، بعنوان:

الف ليلة وليلة تسترد مؤلفها وعمرها وبيئتها .
مؤلف واحد وضع + الليالي بعدما خطط لها وقسمها على الحكايات.

وكانت الجملة الأولى في الدراسة:

قراءة متأنية في +ألف ليلة وليلة تقودنا الى الاقتناع بأن هذا الكتاب الباقي على وجه الأيام له مؤلف واحد، وظهر في بيئة محددة المعالم واضحة القسمات.

منهج التعرض

وكان منهج الباحث الرشيد هو التعرض إلى نقاط التشويه وتزييفها وإظهار حكمها الجائر بأسلوب علمي، فحسب رأي الأميين وأنصاف المتعلمين والدارسين أن نقاط ضعفها تنحصر في نقاط متعددة وهي:

إن الليالي مضطربة لأن نسخها متعددة وكل نسخة تمتاز باحتوائها على موضوع لا يتواجد في النسخ الأخرى، والتشكيك بمحتوى نسخة يسري إلى التشكيك بالنسخ كلها.

إن الليالي تأليف مجموعة من المؤلفين لا مولف واحد.

إن الليالي متعددة الأوطان والأقوام، فهي هندية، فارسية، عربية، وعراقية سورية مصرية إيرانية رومية وربما مريخية. إن الكثير من قصص الليالي أساطير وخزعبلات فارسية وهندية الخ، وهذا يعني أن زمن كتابتها يمتد عبر قرون عديدة. لذلك لجأ الباحث إلى إثبات نقاط متعددة تدور حول مبدأين بشكل علمي مقنع:

1- أن مؤلف الليالي واحد. وهو محمد بن سكّرة الهاشمي، البغدادي، وهذا يعني أنها ليست متعددة المولفين وليست متعددة الأوطان والأقوام.

2- لم يكتفِ بتعيين المؤلف حسب بل لجأ إلى إثبات أن الليالي بغض النظر عن المؤلف اكتسبت شخصيّتها البغدادية المستقلّة. وهذا يعني تأكيداً للنقطة الأولى.

منهج الدراسة.

في البدء لجأ المؤلف إلى تعداد النسخ المشهورة لها وأين توجد، وهي نحو 11 نسخة، منها قطعة المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو، ويعود تاريخها الى القرن الرابع، وهو القرن الذي شهد وفاة محمد بن سكرة الهاشمي، أو بعد وفاته بقليل. لكنه لم يعتمدها لأنها غير كاملة، ولم يعتمد النسخ الأخرى لأسباب عدّة، لكنه توقف عند نسخة مكتبة حيدر أباد، اذ يعود تاريخ نسخها الى سنة 442 للهجرة، أي بعد 57 من وفاة مؤلفها. بحسب ما جاء في آخرها: (هذا ما وقع الي من نسخة الف ليلة وليلة، انتسختها في ظاهر مدينة الكوفة في الثامن من شهر ربيع الأول، واتممت املاءها على طلاب القصص والاذكار في الخامس من رجب المرجب سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة للهجرة، على صاحبها وآله وصحبه السلام، وكتبه الفقير الى رحمة ربه محمد كريم الدين بن أحمد اللنكري). واعتمدها أساساً للدراسة.

الملاحظات:

الدليل الأول تعبيرات الرواية الخاصة بالمؤلف وبها: عنوان الكتاب وتنظيمه مبني على الليالي، وعددها مذكور في عنوانه، فلا بد، اذن، ان يكون ثمة كاتب واحد، خطّط لحكاياته وقسّمها على عدد معين من الليالي، وكتبها من البداية إلى النهاية. ولو كان للكتاب أكثر من مؤلف لاختفت الفكرة الرئيسية من الكتاب، وأصبح كل كاتب جديد يضيف ما شاء من الحكايات، ولن يكون هناك حد معين لليالي، ولا للفكرة الرئيسية فيه، ولا للخاتمة التي وصل اليها الكتاب.

2- أسلوب التعبير في جميع الحكايات متماثل، في نسخة حيدر آباد، أما النسخ الأخرى فتتعدد أساليبها وتتغير باسم التنقيح والذوق والمحافظة على الحياء العام، ما أدى الى وقوع اختلافات جمة في الأساليب. ومع ذلك حافظت النسخ المزيفة على شيء قليل من أصل الكتاب فاقتبست جميعها التعبير الآتي: وكل واحد منهما (شهريار وأخاه) حاكم عادل في رعيته مدة عشرين سنة وهي جملة التي وردت في أولى الحكايات. وترددت نفسها: في أكثر من حكاية، منها حكاية عمر النعمان وحكاية أنيس الجليس.

وترددت جملة فحمل عنده غم زائد واصفر لونه وضعف جسمه في حكاية أنيس الجليس. ثم في حكاية +شاه زمان وحكاية شركان وأخيه ضوء المكان وحكاية أيوب وقوت القلوب. وفي نسخة حيدر آباد بدا لدى المؤلف ذخيرة من التعابير والجمل التي تشكل أساسا للكتابة، بحيث يعيدها كلما سنحت له الفرصة، بدءا من أولى الحكايات والى آخر ليلة من الليالي. ويمكن الإشارة إلى جانب منها، هنا:

أولاً: بعض الأساليب وردت في النسخة المعتمدة بين 200 و250 مرة موزعة على الكتاب كله، وقد يتكرر بعضها في ليلة واحدة، وخصوصا اذا كانت الليلة طويلة بعض الشيء، ويستحيل استحالة باتة أن يشترك غير كاتب بجملة واحدة يرددونها في كتاباتهم، وبعض الجمل هي:

أ- طار عقله من رأسه: واذا بالجواري وسيدتهم دخلوا مع العبيد وفعلوا كما قال أخوه واستمروا كذلك الى العصر. فلما رأى الملك شهريار ذلك الأمر طار عقله من رأسه. وهذا التعبير مازلنا نستعمله في العراق.
ب – وأعلن بالبكاء والنحيب، أو وأعلن الثلاثة الشيوخ بالبكاء والعويل والنحيب.
ج- وأنا سكران من غير مدام من كثرة الفرح والسرور، أو سكران من فرط الغرام.

ثانياً: بعض الأساليب وردت بين 150 الى 200 مرة:

أ- فإن روحي وصلت الى قدمي. فان روحي نزلت الى ساقي. فان قلبي نزل الى قدمي. والتعبير الأخير (قلبي نزل الى قدمي) مازلنا نستعمله في العراق حتى الآن.
ب- ان كنت نائما فاستيقظ (وتعاد هذه الجملة في جميع المواضع التي فيها تحذير أو تنبيه من غفلة، أو تهديد أمن، أو التخويف).
ج- ( كلمة الماجور- ويعني بها القدر. وكلمة حطّ ويعني بها وضع) وربما كانت الأولى تستعمل آنذاك، لكنها اختفت. لكننا مازلنا نستعمل كلة حطّ بمعنى وضع.

ثم أخذ السمك ودخل به منزله وأتى بماجور ثم ملأه ماءً وحط فيه السمك. ثم أخذ اللحم الضاني ودخل به منزله وقال لامرأته هاتي الماجور وحطي فيه اللحم الضاني واملئيه ماء وضعيه على النار.

ثالثاً: بعض الأساليب التي وردت تستعمل ما بين 100 و150 مرة:

أ- أسحر أهلها سمكا في وسطه. أي مسخهم بسحره.
نظر عبدالرحمن الى البحيرة فوجد سمكها ألوانا وهم مسحورون.
ب- بنت الملك (أخذت بيدها سكينا مكتوبا عليها أسماء عبرانية/ خطت دائرة في الوسط وكتبت أسماء وطلاسم).
ج- كلمة عَدَمْتُ بمعنى فقدت، أتلفتُ: عدمت ابنتي التي كانت تساوي مئة رجل،/ وعدمت اضراسي ومات خادمي.؟ فعدمته العافية. وما زلنا في العراق نستعملها بهذا المعنى حتى الآن.
د- تعبير: ابشروا بهلاكنا/ أبشر بهلاك ابنك وهتك حرمة ابنتك./ابشر بزوال ملكك.
هـ- كلمة المغناطيس والالتصاق. /لأن الله وضع في حجر المغناطيس سرا.

و- عبارة: كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر/ لصار عبرة لمن اعتبر.

ز- كلمة طلع: ثم ان الخليفة طلع الى قصره. ثم ان الوزير طلع الى مرتبته. ثم ان حسن بدرالدين طلع الى الديوان،. ومعظم هذه التعابير نستعملها حتى الآن في العراق. فنقول طلعت إلى الدكان، وطلعت إلى العمل الخ.

رابعا: بعض الأساليب وردت في ما بين 50 – 100 مرة:

أ- تعبير قام و وهو لم يستعمل قط في غير ألف ليلة وليلة. قمت وهيأت حالي. فقمت وأخذت جواري معي. قام من التراب وتعلق في السحاب.
ب- كلمة: الدهليز. الناموسية. فوجدنا دهليزا مفروشا /فمشينا في الدهليز الى ان دخلنا قاعة مفروشة وفي صدرها سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر، وعليه ناموسية من الأطلسي/ واذا بصبية خرجت من الناموسية. ومازلنا حتى الآن نستعمل قام و، كلمة الناموسية وكلمة الأطلسي (ونقصد بها الحرير، والدهليز والقنال الداخلية).

خامساً: بعض الأساليب وردت بين 25 الى 50 مرة:

أ- وقدموا لنا السماط فأكلنا حتى اكتفينا.
ب- وعملهم حجابا عنده ويقصد عيّنهم.
ج- سلامتك من هذه الوقعة
د- والله ما بقيت أخرج من بيتي ثلاثة أيام.
هـ- يا سيد الأمراء وكهف الفقراء.

وكل هذه التعبيرات مازلنا نستعملها وبكثرة مثل السماط، وعمل بمعنى عين، وما بقيت إلى حدّ الآن في العامية العراقية باستثناء التعبير الاخير.

سادساً: بعض الأساليب وردت في ما بين 10 الى 25 مرة:
أ- وقرأت القرآن على سبع روايات (وتارة بسبع روايات أو سبع قراءات)،
ب- وقرأت الكتب على أربابها ثم سرت منها حتى وصلت الى مدينة عامرة بالخبر.
ج- قد ولى عنها الشتاء ببرده، وأقبل عليها الربيع بورده. ونستعملها حتى الآن.
د- فلما توفي الوزير اخرجه خرجة عظيمة. أي شيعه تشيعاً عظيما. ومازلنا نستعمله في العراق.

(هذه نماذج دالة عما وراءها من شواهد أسلوبية عدة تؤكد ان مؤلف الليالي كاتب واحد لأن من المستحيل ان يستعمل أكثر من كاتب الذخيرة اللغوية الواحدة. فلكل كاتب قديما وحديثا معجمه اللغوي، وأسلوبه الذي يمتاز به عن غيره. كما ان من المستحيل ان تكون هذه الحكايات أساطير وخرافات شعبية لملمها ذلك الكاتب. بل العكس هو الصحيح، حيث ان كاتبا ما ألف تلك الحكايات بقضها وقضيضها، وكتبها، وأذاعها بين الناس فانتشرت وأصبحت بمثابة الذاكرة الشعبية).

الدليل الثاني: (طرق التجارة ومسارات القوافل طريقة أخرى لإثبات ان ألف ليلة وليلة من ابداع كاتب واحد وزمن واحد وبيئة واحدة. فلو تعدد الكاتبون، سواء كانوا من مدينة واحدة أم من مدن متعددة، وسواء كانوا في زمن واحد أو أزمان متعددة، على ما يريدنا كثير من الضاربين بعصا الجهل ان نقتنع، لوجدنا اختلافا في وصف طرق التجارة بين بغداد والشام ومصر، مثلا، إذ ان كل كاتب سيصف طرقا غير هذه المذكورة في ألف ليلة وليلة بحسب الطريق الذي يسلكه أبناء عصره ومدينته في تجارتهم ومواصلاتهم.) فالطرق البرية الآن تختلف عن طرق الماضي، ومع ذلك فكل كاتب الآن يعبر بعبارات تختلف عن عبارات كاتب آخر إذا سافر مثلا بين بغداد وعمان، أو دمشق والقاهرة، أو البصرة ومكة. واليالي حافلة بوصف الطرق بين مدينتين موجودتين تارة وبين مدينة موجودة ومكان آخر متخيل كجبل قاف وما وراء بحر الظلمات والجزائر الخالدات التي تفصلها عن مدينة بغداد مسافة سبعين عاما للطائر المجد في طيرانه، كما نقرأ في حكاية الطيور السبعة ومثلها قول شهرزاد في حكاية الأحدب: وبلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان في بلاد الصين. وفي حكاية غانم بن أيوب: وكان في الجزائر الداخلة في بلاد الصين وهي بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور. وأماكن غامضة مخيفة، مليئة بالجن والعفاريت، ورحلات السندباد البحري التي تدخل تارة بحر الظلمات، وتارة البحور التي لا اسماء لها. وفي كل هذه الاماكن الحقيقية والمتخيلة، يجري ذكر المواد والبضائع التجارية المنتقلة من هذه المدينة إلى تلك، ومن ذلك البلد إلى هذا، وهي البضائع ذاتها تقريبا في جميع الحكايات، فلا فرق بين ما حملته قافلة قمر الزمان، وما احتوت عليه قافلة علاء الدين ابي الشامات. وما كان السندباد البحري يتاجر به. فالكاتب واحد ودرايته بالتجارة لا تؤهله لأكثر من ذلك، ولو كان ثمة كتاب آخرون شاركوا في تأليف الكتاب لظهرت بضائع أخرى، واسماء سلع ووصف تعاملات أكثر من الموجود حاليا في الكتاب. وهناك وصف للتجارة مع الروم بمثل قوله: وهم ناس غرباء قد حضروا بتجارة من أرض الروم ومع الهند: فسمع بي ملك الهند فأرسل في طلبي من أبي، وارسل إليه هدايا وتحفا تصلح للملوك، فخرجت في قافلة من التجارة متجهة إلى بلاد الهند. ومع جزائر الابنوس الداخلة، وهي أماكن حقيقية وفي عصر المؤلف كان نهر دجلة يمثل شريانا من شرايين النقل والتجارة، حيث نقرأ في حكاية الحمال والثلاث بنات: +فأردت ان أجهز لي مركبا إلى البصرة، فجهزت مركبا كبيرا وحملت فيها البضائع والمتاجر وما احتاج اليه? ولم نزل مسافرين فتاه بنا المركب، ودخل بحرا غير البحر الذي نريده ولم نعلم بذلك مدة، وطاب لنا الريح عشرة أيام، فلاحت لنا مدينة على بعد. وكانت هذه مدينة للمجوس، وبذلك نستطيع تحديد زمن كتابة هذه الحكاية في حوالى أواخر القرن الثالث للهجرة، او ما قبله لأن القرن الثالث شهد افتتاح نهر عظيم يربط بما بين شط العرب من جنوب أهوار العراق، ونهر قارون .

اهتمام الحكايات

وتهتم الحكايات بذكر الروابط التجارية بين بغداد والبصرة، وتذكر الطرق الرابطة بينهما ومملكة الملك اقناموس التي لا نعلم عنها إلا وكانت على البحر، والبحر متسع، وحولنا جزائر معدة للقتال، فأردت ان اتفرج على الجزائر. ويدخل العفاريت في التجارة بين المدن، ولكنها جميعا، تقريبا، أسماء مدن لا وجود لها على وجه الأرض . حكاية محمود البلخي هناك وصف اكثر تفصيلا ودقة، مع المرور بالقدس وحلب ايضا، والموصل ثم الى بغداد، ووصف لرحلات إلى دمشق، والقاهرة، الدليل الثالث: ولعل عدد ورود المدن في الرواية دليــــــــــــل إيجابي على كون الكــــــاتب واحد أولاً، وبغدادي ثانياً. فعلى سبيل المثال ورد اسم بغداد في الرواية ووصف حاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها 478 مرة، دمشق والشام ووصف بعض معالمها 68 مرة، القاهرة (أو مصر في بعض المواضع) 22 مرة، البصرة 18 مرة (ثم مدينة القدس 12 مرة، ومكة والمدينة المنورة معاً 10 مرات، ثم المدن الأخرى التي يأتي ذكرها عرضا مثل سمرقند وخراسان والهند والصين وغيرها. مع ملاحظة التوسع في وصف أحياء المدن العراقية بغداد والبصرة والموصل وذكر أخبارها بشمولية واستيعاب أكثر من المدن الأخرى كدمشق وحلب والقاهرة والاسكندرية ومدن إيران والهند)، (وفي هذا دلالة على موطن الكاتب وبيئته، فمن الطبيعي أن ابن المدينة أقدر من غيره على وصفها واضفاء مزيد من الدقة على أوصافه، وأهل مكة أدرى بشعابها .

الدليل الرابع:

الأشعار والأمثال: (ان تاريخ تلك الاشعار والامثال، تساعدنا، كثيرا، في تحديد زمن التأليف. فلو كان ثمة مجموعة من المؤلفين تعاقبت على تأليف هذه الحكايات، لظهرت في كل حكاية اشعار وامثال تختلف عما وقع في حكايات اخرى. ولو امتدت حكايات الكتاب الى القرن العاشر للهجرة على ما يريد بعض الكتاب تصويره، لظهرت اشعار من ذلك القرن او ما سبقه. اما توقف الحكايات عند اشعار القرن الرابع وما سبقه، فيدل دلالة ساطعة على زمن التأليف، بل ومكانه ايضا. منذ الحكاية الاولى تظهر الاشعار، وهي ما بين عشق وعتاب ومديح ووصف وشجاعة وفروسية، يستشهد بها ابطال الحكايات على ما هم فيه، او بما ينسجم وحالهم ومتطلبات لحظتها.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...