حسن حميد - ألف ليلة وليلة.. التراث وَقراءة جَديُدة

-1-

أكادُ أجزم أن كثيراً من المؤلفات العربية ذات الصلة الشديدة بالتراث ما تزال مجهولة لأسباب متعددة ومختلفة، وأن المعروف منها لم يَنل الحظوة والاعتبار الجديرين بها أيضاً. واننا، كمتلقين، نظلُّ- للأسف الشديد- ننتظر واحداً من المستشرفين أياً كان شأنه أو الجهة التي وجهته، أو المكان الذي قدم منه، ولأي الغايات والرؤى يعمل ويجتهد؛ أقول نظلُّ ننتظر هذا المستشرق ليكشف لنا أسرار كتاب من كتب من تراثنا المجهولة، أو ليقوّم كتاباً من كتب تراثنا المعروفة لدينا عنواناً لا محتوى، بعدما أكلها الغبار، وطواها النسيان، فنمضي وراءه مرددين قولاته وأفكاره، ومؤيدين لأحكامه، ومصفقين للميزان الذي زان به كتابنا.

والغريب العجيب أن عمر هذا الانتظار للسادة المستشرفين ما زال مستمراً وقائماً وحاضراً منذ قرون عدة وحتى يومنا الراهن وإلى ما يشاء الله من أيام قابلة دون أن يكوّن لدينا احترام لمواهبنا الجديدة، أو ثقةٌ تؤهلنا وتقودنا إلى معرفة التراث معرفة عميقة بعيدة عن الهوى والمذهبيات المسبقة.

والأكثر غرابة وعجباً أننا، وفي أغلب الأحيان، نستعيد تراثنا على تعدد ألوانه واختلاف أنماطه، وبعده العميق في الأزمان، وقدرَ كتابنا وأعلامنا من عند الغرب تحديداً، ووفقاً لما يقوله مستشرقوهم، لما يروجونه في وسائل الاعلام والاتصال معاً.

والمدهش أن مفهوم العودة إلى تراثنا يظل مفهوماً اشكالياً ومربكاً، وذلك ليس من ناحية أحقية هذه العودة وضرورتها، ولا من ناحية تجاهل هذه العودة والعزوف عنها لان لا طائل من ورائها، وليس أيضاً من باب (انظرْ إلى الوراء بغضب)، كما أنه ليس بسبب محبة التراث والدعوة إلى ملازمته إلى حد التماهي معه تحت عنوان (لا جديد لمن لا قديم له)، وإنما لأن هذه العودة لا تأتي بوعي نابع من ذواتنا، ولا بدوافع من حاجاتنا إليها، وإنما تأتي هذه العودة بإشارة من رجال الغرب وحسب أهوائهم ورغائبهم وتحقيقاً لها؛ والمؤسف أننا نكتفي ونقتنع بما يقوله المستشرفون ولا نضيف إليه جديداً، وكأن ما توصل إليه المستشرفون هو آخر الكشوفات التي لا زيادة عليها لأي مستزيد، وإلا فبماذا نفسر اكتفاءنا بأخبار الحلاج ومؤلفاته وقولاته التي جاء بها ماسينيون منذ أن كشف عن قصته وعصره في أوائل قرننا العشرين الراهن، وبماذا نفسر تصديقنا لأكثر الروايات والأخبار التي ساقها المستشرفون حول مقتل المتنبي مثلاً، أو حول الحاكم بأمر الله، أو حول قراقوش، وقارون، وغيرهم؟!

إن مفهوم العودة إلى التراث مفهوم كوني؛ فما من أمة من أمم الأرض قاطبة إلاّ ولها عودتها إلى تراثها تنظر فيه لتجلو معانيه، وتأخذ منه لتعزيز الجوانب الاعتبارية والمادية للشخصية، ولتوكيد التطور والحضور في الراهن والآتي في وقت واحد. والاشكالي في عودتنا العربية إلى تراثنا نابعة من أننا لا نمتلك كل تراثنا بعدما تفرّق وتوزّع على العديد من المكتبات والمتاحف العالمية في مختلف بلدان العالم، خصوصاً تلك البلدان التي استعمرت أوطاننا لسنوات طويلة، وقد نهبت الكثير من تراثنا واحتجزته عندها في الأدراج والبنوك والمتاحف، والخزائن، ذلك التراث الذين لم يفصح بعد عن مكنوناته، وكمياته، وأهميته. فثمة خرائط قديمة وضعها علماء الجغرافية العرب، وثمة مخطوطات في الأدب، والفلسفة، وعلم الكلام، ومدونات كيماوية طبية موصوفة ومحررة، وقطع أثرية كشّافة لتواريخ وأعلام ورسائل، ومعاملات، وتواصل، وحضارة، وهناك طرائق فلكية وحسابية كان لها شأنها وأسبقيتها في الإبداع والريادة؛ كل ذلك ما زال طيّ الغيب والجهل لبعد اليد العربية عنه، وقد لا نعرف عنه شيئاً ما لم يكشفه المستشرفون لنا. والارتباك في أمر معالجة تراثنا نابع من عدم اهتمامنا به الاهتمام اللائق والمحرض على الغوص والتبحر فيه وقناعتنا تكاد تكون راسخة بأن قراءتنا لتراثنا انتهت إلى حيث انتهى المستشرفون، وهذه- لعمري- فاجعة تضاف إلى فواجعنا الكثيرة الولود!

-2-

والمؤسي، والباعث على الألم، ونحن نرى إلى تراثنا الذي صار ممتلكاً لغيرنا، أننا بتنا نؤمن مطلقاً بالتحييد. كأن نقول بأن هذه المؤلفات أو الكتب لجماعة السنة، وتلك لجماعة الشيعة، وأن هذا الكتاب مذهبي باطني للفرقة الفلانية، وأن الهوى والعدوانية والأحقاد تلّف مؤلفات فلان من الاعلام، أو أن نقول بأن هذا التاريخ أو التأريخ عند فلان هو غرضي أو رسمي حابى ولوّن على هواه، وهكذا إلى آخر التوصيفات وإلى أن نصل إلى التحييد والإبعاد، وعدم القراءة الجديدة، أو الاستكشافية الراهنة البعيدة عن السلط، والعسس، والمؤثرات الواقعية التي كانت سائدة في أزمان تلك المؤلفات.

أقول هذا، وأنا لا أنكر أن التحييد والعزل خاصية علمية لا بد من اللجوء إليها، والأخذ بها كي لا يظلَّ التراث ركاماً أو بيدراً فيه القمح والزؤان، أو منجماً فيها الخسيس والنفيس معاً. لكنني ضد التحييد والعزل والابعاد في القراءة والاستكشاف والمطالعات ذات الهوى، والمذهبيات المسبقة أو التحييد بسبب الاطمئنان إلى الأقوال والآراء السابقة دون الوقوف على فجواها واستبطاناتها وغاياتها بمناهج وأدوات ورؤى جديدة طازجة.

إن مستشرفي الغرب، وليومنا الراهن، لم يقولوا بعد كلمتهم في سيرة (ذات الهمة) المؤلفة الصفحات، والهائلة في مادتها، وأخبارها، وحوادثها، وتواريخها، ونوادرها، وأوصافها، وأعلامها، وغرائبها، ومطابقاتها لما سبقها من الحادثات والوقائع، والمفارقة لها، والجديد الذي تختزنه. ولذلك، ولهذا السبب عيناً، لم تأخذ سيرة ذات الهمة حقها، وحظوتها في حواراتنا، وكتاباتنا، وأذهاننا، وأفئدة أولادنا الوردية، وإنني على يقين تام بأن نسبة عالية جداً من مثقفينا أصحاب التحصيل العالي لا علم لهم بسيرة ذات الهمة، ولا بعصرها،ولا بمكانتها، ولا بمواقع أحداثها، ولا بتواريخها، فكيف لهم أن يقعوا على غاياتها. وعندي أن الكارثة أعم وأشمل وأكثر مأساوية في انغلاقها حين يقف مثقفونا ساخرين بأن أغلب حروب العرب، ومعاركهم، وغزواتهم كانت لأسباب تتعلق بالحيوانات، كحرب داحس والغبراء، أو حرب البسوس، أو غزوات البحث عن المراعي الجديدة للدواب.. الخ. إن هذه السخرية المرة الهادفة إلى الطعن بتاريخ العرب، والمؤكدة على تسطيح عقولهم، ومرئياتهم، وعدم علاقتهم بأي معنى من معاني العمق والتحليل إنما هي كارثة قومية.

والسبب في ذلك أننا صدقنا الخبريات الصغيرة التي مرت في تضاعيف بعض الكتب العربية المؤرخة، وبعض قولات المستشرقين دون أن نعمل عقولنا كما يجب، أو كما يقتضيه الواجب، ومحبة الوطن، ودون أن نسعى إلى كتابة تاريخ عربي حقيقي خلو من الأحقاد والضغائن، والمذهبيات المرعبة، والاطمئنان الهش والبارد لكل ما قال به الأجانب في حق تراثنا. والحق إن نفراًً من المستشرقين كانوا على قدر واف من الموضوعية وهم يعالجون ويبحثون في تراثنا، ولكن هؤلاء قلة، والطائفة الكبرى منهم كانت غرضية في أهوائها، حاقدة في تطلعاتها، كريهة في أنفاسها، موتورة في آرائها، وموقنة بأن العرب لا قدرة لهم على إبداع شيء، نعم يستطيعون التعامل مع إبداع الغير ولكنهم ليسوا مبدعين، ومن أسف أن كثيرين منا صدقوا ذلك، واقتنعوا به ضاربين بأعلام العرب وتاريخهم، وابداعاتهم، وصولاتهم، واجتهاداتهم عرض الحائط.

إنها كارثة حقاً!

ولكن في المقابل، ألا نقول بأننا مقصرون جداً في مطالعة تراثنا، وأننا- على الرغم من الدعوات العديدة، والصيحات العالية والكثيرة جداً للعودة إلى التراث- لم نقف بعد على الكثير الهام من تراثنا. وإننا اقتنعنا اقتناعاً مطلقاً بأن عنترة عبد أسود، كانت له قوته الجبارة، ومن هنا جاءت اسطورته. ترى ماذا لو قلنا إنّ عنترة هذا لم يكن عبداً، ولا أسود الجلد، وإنما كان ملكاً من ملوك العرب المشاهير، وأملاكه كانت كذا وكذا، ودياره كانت في المكان الفلاني، وأن لا وجود لمخلوقة اسمها عبلة، ولا لكائن اسمه شيبوب وأن اسطورة عنترة آتية من عدله ومهابته أو أنها آتية من سطوته وجبروته وطغيانه على الحق؟! أسئلة مفزعة لا بدّ منها لنصل إلى الحقائق بأيدينا، وبروح بعيدة عن الأغراض الدنيوية والدونية معاً.

إن هذه العودة إلى تراثنا، وبهذه الروح الخلاّقة المبدعة لا تعني الهدم، أو النبذ، أو تصفية الحسابات، وإنما تعني إظهار الحقيقة وجلوها بعيداً عن الأقوال المحفوظة، والأخبار الباردة، والتواريخ الرسمية التي خضعت للرقابات الشديدة في أزمان مختلفة لتوافق رؤى وغايات أولي الأمر سواء أكانوا صالحين نافعين للناس والمجتمع أم طغاة سفلة، كانت الحياة تعني لهم الثراء، والابهار، واللذة حتى ولو أحاطت بهم بحيرات الدم البشري ليل نهار!.

وكي لا نظل في أبهاء التعميم أقول من منا يعرف أين دارت معارك تغلب وبكر، وأين كانت معسكرات المهلهل الزير سالم، وما قابلها من معسكرات جساس. وهل ذلك اسطورة أو حقيقة؟ وما السبيل إلى معرفة اليقين؟!

ومن منا يعرف أين هي مواقع النعمان، وما صلته الحقيقية بملوك الأعاجم وأمرائهم؟! وما الأسباب الدافعة للتغريبة الهلالية؟! أكانت خلاصاً من شر واقع، أم أنها كانت جولان بحث عن الماء والكلأ، أم أنها كانت بحثاً عن طمأنينة بعيداً عن الأحقاد والحروب الصغيرة والكبيرة؟!

أسئلة ليست من أجل الشك في الترث، أو نقضه، وإنما هي من أجل صياغة التراث صياغة أمينة للأصيل فيه، والدافع لنا لمواصلة العطاء دونما دونية، أو مخاوف، أو انبهار بحضارة الغرب الراهنة، ودونما ترديد أجوف بأن حضارة الغرب هذه قامت على حضارتنا البائدة.

لا شك في أن الغرب ظلمنا، مع جملة من الشعوب الإنسانية الأخرى كأفريقيا وأهلها، وآسيا وأناسها، وأمريكا اللاتينية وحضارتها؛ الظلم دائماً، وفي التاريخ البشري كان واقعاً، وكان المطلوب على الدوام أيضاً رفعه أو التقليل من شراسته. بل إن الغرب ظلم الكثيرين من أهله في فترات عديدة من حياة البشر وتاريخهم، وهل ننسى حروب ألمانيا، وبريطانيا، واسبانيا، وأمريكا، قديماً وراهناً، وربما مستقبلاً. وأياً كان شأن الأمر، فإن الظلم الذي وقع علينا نحن العرب كان كبيراً وفادحاً ومستقبلياً بمعنى أنه سيستمر في آثاره إلى أجيال قادمة وأزمان قابلة، فالغرب لم يسهم في تكريس الأمية تكريساً أزلياً فقط، وهو لم يربط اقتصادنا باقتصاده وحسب، كما أنه لم يسرق تاريخنا وتراثنا بعدما سرق جغرافيتنا سنوات طويلة فقط، وانما زرع جملة من الجراثيم الفكرية، والقولات الحامضية، وأسسَّ سلوكات وقناعات غاياتها ليست لنا، وكل هذا قد يحتاج إلى عشرات السنوات لمحوه من الأذهان أولاً والبناء عليه ثانياً.

لكن السؤال الجوهري والحارق. هل بدأنا فعلاً في مكاشفة تراثنا، هل اقتنعنا حقاً بأن الغرب ما زال لليوم يسرق الحضارة العربية والاسلامية.

ألم يكشف بعد أبناؤنا الذاهبون إلى أستاذ اللسانيات الأمريكي اليهودي (نعوم تشومسكي) بأن نظرياته في توليد اللغة، وعيوب اللغة، وطرائق اكتساب اللغة هي قولات ونظريات عالمنا الكبير الجاحظ؟! ترى أما زالت كتبنا في التربية تصرّ على أن تشومسكي هوسيد اللسانيات في العالم وأستاذها؟!

بلى، وما زال أبناؤها في بعض البلاد العربية يذهبون للتخصص في اللسانيات بأمريكا وعلى يد (تشومسكي) ليأخذوا منه معلومات هي لجدنا الجاحظ، وقد سبق (تشومسكي) وأضرابه بسنوات عديدة. ترى لماذا لا نعيد الأمور إلى نصابها، لماذا لا تقودنا ثقتنا بأنفسنا لنكاشف هؤلاء بالحقائق التاريخية الموجودة في خزائنهم هم بعدما سرقوها أيام الانتدابات العجيبة، أو بعدما أخذوها بالمال حيناً، وبالاحتيال حيناً آخر، وباسم البحث والاطلاع حيناً آخر؟!

لماذا لا يقول نقّادنا الذين يذهبون إلى فرنسا وأمريكا بأن ما يقول به (تودورف)، و(رولان بارت) من أفكار وقولات نقدية كشفية لماهية النص هي قولات وأفكار الجرجاني، وابن جني، والقرطاجني، وجعفر بن قدامة وغيرهم من علماء اللغة والأدب العرب الذين سبقوهم بسنوات كثيرة؟!

ولماذا لا نجاهر بالقول بأن العديد من أجناس الأدب كالرواية والقصة والمسرحية هي أجناس عربية، ولم تكن مستورة من الغرب بعدما شيَّع أعلامنا ذلك، وبعدما نفضوا أيديهم وأقرّوا بالقول بأن العرب لم يعرفوا لا القصة ولا الرواية ولا المسرحية.

وإلا فماذا نسمي ألف ليلة وليلة، وحواريات الشطار، وأخبار الحوادث، وقصص العشاق، وقصص الجن!! ترى ألا تكون القصة قصة إلا بالمقاييس والمعايير الغربية؟! ليعرف من يؤكدون هذه الآراء، أن أدباء الغرب يتعلمون الأساليب، والجدة، والغرائبية من قصصنا، ورواياتنا، وحوارياتنا، وهم أنفسهم لا ينكرون هذا، فهل نعتبر؟!

أجل، إن مراجعة تراثنا واجبة، وضرورية، وبأيدنا وأيدي من ساعدنا أيضاً من العارفين والمجربين بعيداً عن الغايات النفعية والمرَضية؛ وبعيداً عن أهواء الاستشراق وأغراضه، فالقراءة الجديدة، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانِ سامية ورفيعة، لينابيع تراثنا يجب أن تستمر بحثاً، ودراسة، وتقصياً من أجل إزاحة إرث ثقيل من المفاهيم العرجاء والملتوية التي نسبها المستشرفون لتراثنا، ومن أجل وضع مفاهيم وأفكار جديدة غايتها الأولى التثبت من أهمية هذه المفردات التراثية ووضعها بين أيدي أبنائنا لمعرفتها المعرفة الحقة، وليدركوا، بعدئذٍ، لأية أمة عظيمة هم ينتسبون، ولأي مجد تالد ينتمون، ولأي حاضرهم يعيشون، ولأي مستقبل يتوجهون. وهذا ما سنحاول قراءته، وبيانه، ودراسته، واستخلاص قولاته، وروح حاضنته الاجتماعية الاقتصادية، وقيمه التي تحلى بها، من خلال العمل على مفردة هامة من مفردات تراثنا العربي الأصيل: هي: "ألف ليلة وليلة"، بما في ذلك دور المرأة جوهر (الليالي) وسيدتها، مروراً بتأريخ (الليالي)، وقيمتها، واكتشافها، وآثارها، ومصادرها، وتوصيفات المجتمع الذي نقلته طبقاتٍ، ومهناً، ومعيشة، وأساليب وطقوساً، وحضوراً.

لم يحظَ الأدب الشعبي العربي بالقيمة الفنية الاعتبارية اللائقة به، وظلَّ، بعد معرفته الطويلة، مهمشاً ومنبوذاً، وبعيداً عن التناول والدرس، والبحث والتقصي لأسباب عديدة، في طالعها: عدم اهتمام أولي الأمر، الولاة والأمراء، والملوك، وأصحاب الأدب.. به لأنهم جميعاً عدّوه أدباً للعامة، يحتفي بالصعاليك، والشذّاذ، والجواري والقينات، والمعارك الوهمية، وطقوس السحر والشعوذة، وفنون الاحتيال والمداورة، والتشاطر الكاذب (من الشطارة)، وبالحكايات التي لا تؤهلها خرافاتُها أن تدوّن وتسجل في القراطيس، ومن ثم لأن منشئي الأدب الشعبي كانوا يحتفون بالسجع، والترادف، والتوازن، والاطناب، والتطويل، والالتفات، وبصياغات بعيدة عن نهج البلاغة العربية، ومن بعد هذا كله لأن مصنفي الأدب العربي وناسخيه عدّوا الأدب الشعبي بلا قيمة أحياناً لما فيه من سلوكات وأساليب بعيدة عن الأخلاق وتوجهاتها، وأحياناً لأنه يدور في عوالم الخيال والاضافات كالغولة، والعفاريت، والبحور السبعة،.. الخ. وإضافة إلى ما سلف اقتنع مصنفو الأدب العربي أن الكثير من الأدب الشعبي أدبٌ وظيفي- شفهي، حاضنته الأساسية، بل موزعته الأساسية هي الجدات اللواتي ابتدعن الخرافات، والحكايات من أجل السمر في الليالي، وهدهدة الأطفال وتخويفهم حصراً من الليل والعتمة.

ولعل هذه الصفة صفة الخوف من الليل لا تزال ملازمة لأولاد الريف والمدن العربية على السواء على الرغم من إنارة الشوارع والدروب بالمصابيح ليلاً، وقد نُسجت حولها أمثلةٌ وأقوالٌ كثيرة منها (الصباح رباح)، و(صابح القوم ولا تماسيهم)، و(للنهار عين).. الخ. حتى أن الأدب الشعبي الذي اهتمَّ بسير الأبطال مثل (سيف بن ذي يزن) أو (الزير سالم) كان أدباً ضيق الانتشار قليل الأطياف والتأثير، إذ حُجر عليه في المقاهي، والمجالس، ولم يُدون التدوين المعروف لدينا الآن إلى بعد أوقات طويلة من معرفته وانتشاره، ولأن المقاهي يرتادها العامة فقد ظلَّ الأدب الشعبي تابعاً لهذه الطبقة التي لم تنل الرضا من قبل الطبقات العليا طبقة الحكام، والولاة، والتجار، والقضاة، والعلماء، والمتكلمين. وبسبب عدم التدوين ظلت سِير الأدب الشعبي وأخباره، وحوادثه تستطيل وتمتدّ تبعاً لمواهب الحكواتي وقدرته، وتبعاً لشغف السامعين لما يقصّ عليهم، فإن استمتعوا طالبوه بالمزيد، وعندئذٍ يشتغل ذهن الحكواتي بالتوصيل، والترقيع، ولحم حكاية بأخرى على نحو قد يكون بعيداً تماماً في أسلوبه عن أسلوب قصة الأول، لذلك نجد تعدد الأساليب الكتابية في نصوص الأدب الشعبي قبل أن تُصاغ كلها بروح واحدة من قبل كاتب بعينه، وفي عصر محدد أيضاً. ولذلك نجد مجاورة الواقعي للخيالي ومخالطة المؤنس بالغرائبي، والقريب بالبعيد، والصافي بالمزيج. وفي كل الأحوال كان تقويم الأدب الشعبي تقويماً بعيداً عن الحقيقة الفنية التي يتمتع بها، وذلك من حيث النظر إليه باعتباره خالياً من الوظيفة الاجتماعية، وأنه وجد من أجل السلوى، والدعابة، والتندر ليس إلاّ، وهو في أحسن أحواله حوادث وأخبار في الاطلاع عليها عبرة لمن يريد الاعتبار، للنظر إلى الافتتاح الذي استهلت به "ألف ليلة وليلة" والذي يحدد غايات الليالي كلها، جملةً لا تفصيلاً.. "إن سير الأولين صارت عبرة للآخرين، لكي يرى الإنسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر، ويطالع حديث الأمم السالفة وما جرى لهم فينزجر، فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين" (1).

إذن ليس التأريخ غاية ألف ليلة وليلة، ولا تقديم أنماط المجتمع وطبقاته ولا قص أخبار علومه وتطورها، ولا الحديث عن العمران والفتوحات، ولا عن الاصلاح وشؤونه، ولا بيان الظلم وألوانه، ولا التطلع إلى العدل والعلوم الجديدة، وإنما هي غاية محصورة في العبرة والاعتبار وأخذ العظة والافادة من سلوكٍ أو تصرفٍ لشخصيةِ.

لكن الحقيقة هي غير ذلك، وان كانت كذلك فهذه الغاية متجاوزة إلى غايات أبعد وأعمق وأشمل، لأن الليالي، ومن حيث المضمون كتاب معرفي يقدم حياة المجتمع الذي كان سائداً في البلاد العربية أيام العباسيين في فترتي حكمهم القوية (ممثلة بهارون الرشيد) والضعيفة البادية بانتهاء آخر خلفائهم الأقوياء (المعتصم). وهي إلى ذلك كاشفة لحياة الناس في مصر ومجتمعاتها.

ويرى الباحثون أن نشأة الليالي كانت نشأة تراكمية: زيادة على زيادة، وأحداث على أحداث، وإنشاء على إنشاء. فبعض الدارسين لليالي أعادوا نشأتها الأولى إلى بلاد فارس، وإلى كتاب عرف عندهم بخرافاته عنوانه (هزار أفسانة) ويشتمل على ألف خرافة، هي معنى العنوان بالفارسية. وقد رأى ابن النديم صاحب الفهرست الذي فرغ من تأليفه سنة 337 هجرية بأن الليالي كتاب غث بارد، حاكى (هزار أفسانة) الفارسي:

"والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الاسكندر. وكان له قوم يضحكونه ويخرّفونه لا يريد بذلك اللذة، وانما كان يريد الحفظ والحرس.

واستعمل لذلك بعده الملوك (هزار أفسانة) ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر لأن السمر ربما حُدِّث به في عدة ليالٍ، وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث" (2).

أما المسعودي (المتوفى سنة 346 هجرية 927 ميلادية) فقد قال في خبر متقدم عن ألف ليلة وليلة في كتابه (مروج الذهب) وفي ثنايا حديثه عن مدينة إرم ذات العماد ويسميها مملكة:

"إن هذه الأخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرّب من الملوك بروايتها. وإن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية مثل كتاب (هزار أفسانة) وتفسير ذلك بالفارسية خرافة، ويقال لها أفسانة، والناس يسمون هذا الكتاب (ألف ليلة) وهو خبر الملك والوزير وابنته شهرزاد وجاريتها دنيازاد" (3).

وهناك إشارة أخرى إلى (ألف ليلة وليلة) نقع عليها في كتاب (نفح الطيب) للمقري حيث يقول: "إن ابن سعيد بن موسى الغرناطي (المولود سنة 685 هجرية) يقول في كتابه (المحلى بالأشعار) عن القرطبي في عرض الكلام عن البدويّة، وعن بناء الهودج لها في بستان القاهرة بناء على أوامر الحاكم بأمر الله أن القصص الشعبية التي تدور حول هذه البدوية وحول ميّة من بنات عمومتها أصبحت مثل قصص البطّال وألف ليلة وليلة وما شابههما" (4).

وفي (الامتاع والمؤانسة) عند التوحيدي إشارة واضحة إلى خروج الليالي عن المألوف من المؤلفات، والقيم لأنها لم تكن موجهة إلى طبقة الحكام والولاة والعارفين، وانما كانت موجهة إلى الرعاع، وأهل الطبقة المتوسطة، يقول التوحيدي:

"ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخُلط بالمحال، ووصل بما يُعجِب ويُضحِك، ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق مثل (هزار أفسانة) وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات" (5).

والثابت أن كتاب (هزار أفسانة) غير مترجم للغة أخرى غير العربية، وأن ترجمته العربية مفقودة، ويبدو أنها ترجمة تمت في الفترة القريبة من ترجمة كتاب (كليلة ودمنة) في القرن الثالث للهجرة. وقد تقبل الواقع العربي آنذاك، في عهد الرشيد، الكتاب وما حواه من أسمار، وحوادث، ,وأخبار، وقصص، بل راق للحكام والولاة، فحاكاه الحفّاظ، والحكواتية، والنسّاخ، فأضافوا إليه الكثير من القصص والأخبار، والغرائب بحيث صار (هزار أفسانة) نواة فقط لكتاب كبير فيّاض اسمه (ألف ليلة وليلة).

والمدهش أن الليالي صارت جزءاً مهماً وعظيماً من التقليد الشفهي الذي كان مقتصراً على القرآن الكريم والشعر عند العرب، فقد حفظ الحفّاظ، والرواة، والحكواتية الليالي وقصّوها شفهياً، وتناقلوها من مكان إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، وبسبب من هذا التنقل، والحفظ الشفهي، خضعت الليالي للكثير من الزيادات، والأضافات تبعاً لقدرة الحكواتي وميوله وأهوائه، ومن ثم تبعاً لرغبات المستمعين وأهوائهم أيضاً. لكن المهم هو توكيدنا بأن الليالي صارت في الرُتبة الثالثة في القص الشفهي وتقاليده، وباتت حظوتها كبيرة في المجالس لما حوته من أخبار وحوادث ومفارقات وعجائب، ولذلك في وقت مبكر من تاريخ الأدب الشعبي العربي. وفي قناعتي أن قص الليالي كان باللغة المحكية والدارجة تبعاً للبيئة التي تعايشها أو تعيش فيها، وأن اللهجة المحكية كانت سبباً جوهرياً من أسباب عدم الالتفات إلى الليالي، لأن الاهتمام العام للدارسين والدارسات كان منصباً على المكتوب أولاً وباللغة العربية الفصيحة. لكن الليالي وبعدما دوّنت بلغة عربية مختلفة المستويات، لغة متفاصحة إلى حد ما، صارت مادتها وأسلوبها دليلاً على تطور اللغة من طور إلى آخر، وربما كان هذا ما يهم الدراسات البنيوية أو اللسانية على وجه التحديد والتخصيص في راهن أيامنا الحاضرة.

ولئن ظلَّ الاهتمام العربي بالليالي ضعيفاً أو قليلاً لأسباب ذكرنا أهمها في مطلع فصلنا هذا فإن هذا الاهتمام ما لبث أن عاد بكل زخمه وحضوره حين رأينا اهتمام الغرب بها، وبانها صارت موضع دراسات عديدة ومختلفة في الاتجاهات والغايات، وانها صارت مبعثاً على الابداع والالهام. والعجيب عندي أن هذا العمل الفذ الليالي وبعد كل التقريظات العالمية التي نالتها ما زالت بعيدة عن متناول أيدينا دارسين، وقراء، وباحثين مختصين لأسباب، من المؤسف، أن تكون أخلاقية صرفاً..، فمكتباتنا الخاصة تكاد تكون خلواً منها، ومن مؤلفات تتحدث عنها علماً بأنها ألهمت أدباء الغرب، وفنانيهم وموسيقييهم عشرات الأعمال والابداعات العظيمة. فإذ كانت قيمة التخدير أو موضوعية التخدير التي استشفَّها الدارسون والباحثون في أزمان ظهور الليالي وانتشارها هي العلة الأساس لرفضها لأنها بالتخدير تلهى الناس عن القضايا المصيرية والإنسانية المهمة، فإن هذه العلة لم يبقَ لهاماً يبررها في عصرنا الراهن. وصار من حقنا جميعاً أن ندخل الليالي ونعرف ما فيها من خسيس ونفيس، وما فيها من قيم السلب والايجاب، وما فيها من انشاءات أسلوبية ولغوية، وما فيها من اختلاف في التواريخ عن التواريخ الرسمية، وهكذا إلى أن نفرغ تماماً من محتوى الليالي وغاياتها.

فالغرب احتفى بالليالي وطبعها ونشرها قبل أن تطبع في البلاد العربية بحوالي قرن كامل فقد قام الفرنسي انطوان غالان بترجمة الليالي في حوالي اثني عشر مجلداً سنة 1704 ميلادية بتكليف من صديق وزير له في بلاط الملك لويس الرابع عشر واسمه (كولبير) وقد ترجم الليالي عن مخطوطة عربية منسوخة بخط اليد أرسلها إليه أحدهم من مدينة حلب السورية كانت قد وصلت إليه من الديار المصرية بلا تاريخ. وقد صارت هذه الترجمة منطلقاً للعديد من الطبعات والترجمات التي عرفتها الليالي، فقد ترجمت الليالي إلى الانكلزية سنة 1707 ترجمة مختصرة في ستة مجلدات، وبعدئذ ترجمت ترجمة أوسع وأدق على يد المترجم بورتن الانكليزي. ثم ترجمت الليالي الألمانية ستة 1823، وإلى الايطالية والروسية، وباقي اللغات العالمية. وكان أن أعيدت ترجمة الليالي إلى الفرنسية وبأسلوب جديد، وبتصرف بعض الشيء سنة 1899 على يد المترجم ماردروس، وهي طبعة أكثر شمولية ودقة من طبعة انطوان غلان صاحب الفضل الأول في تعريف أوربا كلها بالليالي وأنماطها وغرائبها، ومناخاتها الاجتماعية، وسحرها الشرقي المرغوب، بالإشارة فقط أقول لقد كان غالان متخصصاً في العلوم الشرقية، وله ترجمة للقرآن الكريم، وقد اشتغل في سفارة فرنسا بتركيا، وجمع الكثير من المخطوطات الشرقية العربية وغير العربية.

والمفارقة تكمن أن الليالي لم تظهر باللغة العربية مطبوعة في البلاد العربية، وإنما ظهرت طبعتها الأولى بالعربية في الهند، بمدينة كلكوتا سنة 1818 بإشراف الشيرواني اليمني، ولم تحتو إلا على مائتي ليلة، أي بعد قرن كامل من ظهروها مطبوعة بالفرنسية في باريس.

وجاءت الطبعة الأولى الثانية أيضاً بعيداً من البلاد العربية، فقد قام الدكتور هابيخت الألماني بطباعة الليالي في ثمانية مجلدات سنة 1824 في مدينة (برسلو) بألمانيا. وقد أتمَّ هذه الطبعة من بعد الدكتور هابيخت المستشرق المعروف (فلايشير) في مجلدات أربعة سنة 1842.

وكانت الطبعة العربية الأولى في البلاد العربية سنة 1835 حين طبعت الليالي في مطبعة بولاق بمصر وبإشراف الحكومة المصرية، وقد جاءت في مجلدين كبيرين، وهي من أجود الطبعات وأحسنها، وقد صارت هذه الطبعة من بعد، المصدر الأساسي لكل الطبعات التي عرفت في البلاد العربية خصوصاً مصر والشام. ومخطوط هذه الطبعة كان مخطوطاً لرواة مصريين أنجزوا نسخه في الثلث الأول من القرن الثامن عشر تقريباً، وهو يعد الصيغة الأخيرة التي عرفت عليها الليالي، وبعدها لم نسمع أو نقرأ زيادات أو إضافات إلى الليالي.

وبعدئذٍ صدرت طبعة رابعة بالعربية لليالي في مدينة (كلكوتا) بالهند سنة 1842 أشرف عليها الباحث (ماك ناتن) في أربعة مجلدات اعتمدت اعتماداً أساسياً على الطبعتين الثالثة بالعربية طبعة بولاق، والثالثة في مدينة (برسلو) التي أشرف عليها الدكتور (هابيخت)، والحق إن بداية طبعات الليالي للمرة الرابعة في (كلكوتا) كانت في عام 1832، أي قبل ظهور الطبعة الثالثة، طبعة بولاق بالقاهرة.

أما الطبعة الخامسة بالعربية، فكانت في بيروت- لبنان، وهي طبعة مهذبة قام بها أحد الآدباء اليسوعيين هو الأب انطوان الصالحاني، في أربعة مجلدات أنيقة الطباعة، إذ حذف بعض المشاهد الجنسية، وعدّل في بعض الجمل والأساليب، وكانت طبعاته متعددة، آخرها الطبعة الرابعة سنة 1956.

وقام الأستاذ رشدي صالح بإعادة طباعة الليالي في القاهرة (في دار الشعب) سنة 1969 بمجلدين كبيرين، وقد هذّبها أيضاً بإبعاد المفردات والمشهديات الجنسية، والصور التوضيحية التي نشرتها الطبعات الأجنبية.

وتشترك طبعتا الأب انطوان الصالحاني والأستاذ رشدي صالح بنزعتهما الأخلاقية، وهما في قناعتي غير أمينتين لمخطوط الليالي الذي طبعته مطبعة بولاق في مصر سنة 1835، لأنهما عاملا الليالي على أنها مؤلف أدبي لا مؤلف شعبي.

وفي هذه الأيام يشرف الباحث العراقي مهدي محسن على طباعة الليالي في هولاندا. وقد صدر الجزء الأول منها بتصدير يؤكد أن هذه الليالي هي الليالي العربية الصرف البعيدة عن اختلاطات الترجمة الهندية أو الفارسية وآثارهما، وأن البيئة في هذه الليالي هي البيئة العربية، كما أن شخصياتها وأسماءها هي عربية، وأن واقعها يدور في الديار المصرية، القاهرة تحديداً، وفي الديار العراقية، بغداد تحديداً وتخصيصاً.

وكان أن صدرت طبعة جديدة لليالي في القاهرة سنة 1985؛ طبعة أنيقة وحديثة هي طبعة مأخوذة عن طبعة بولاق تحديداً، لكن الرقيب المصري والسلطة القضائية حكما بإتلاف الكتاب والتخلص منه لأنه على حد زعم المحكمة يخدش الحياء ويسيء للآداب العامة، غير أن بعض رجال القضاء المصري المتنورين عادوا وحكموا استئنافاً بإعادة الاعتبار لليالي وتبرئة ناشرها من التهم الموجهة والمنسوبة إليه (6).

وعلى الرغم من تعدد طبعات ألف ليلة وليلة، وتفاوت مستويات لغتها وأسلوبها، وتباين طرائق روايتها، بل وتعدد رواتها، فإن ذلك كله لا يساعد الباحث والمتقصي على معرفة تاريخ نشأتها الأولى بالدقة والضبط، ويظل تاريخ معرفة النشأة الأولى أو الظهور الأول تقريباً في أحسن الأحوال؛ يظل تاريخاً يعود إلى الربع الأول من القرن السادس عشر أي حوالي 1520 ميلادية أو نحو ذلك. وإذا كانت الكينونة الأولى لليالي ليست عربية، كينونة أو نواة مأخوذة عن الفارسية من مخطوط كان معروفاً تحت اسم (هزار أفسانة)، أو عن الهندية نسبة إلى الأساليب وطرائق تداخل الحكايات، وهذا الأمر لم يكن معروفاً بكثرة في الأساليب العربية لأن العرب كانوا أميل إلى تأطير الحكاية الواحدة في إطار كامل له استهلال وخاتمة مثل قصة لقمان الحكيم على سبيل المثال؛ أقول إذا كانت هذه الكينونة ليست عربية فإن الليالي بروحها الراهنة والمعروفة صارت عربية بشخصياتها، وهويتها، وبيئتها، ومناخها العام.

لكن هذه الهوية لا تمنع المرء من القول إن ثمة شبيهات في روح القص ومادته، وغايته موجودة في التراث الشعبي الهندي، مثل قصة المرأة الجميلة والببغاء المعروفة بقصة (سوكا سابتاتي) وفيها أن الببغاء لاحظ أن زوجة صاحبه راحت تميل إلى الخروج في غيابه (وقد سافر في رحلة بعيدة طويلة) لملاقاة خليلها، فأخذ يشغلها عندما يأتي وقت خروجها بقصة شائعة، ولا ينهي القص إلا عند ذروة درامية ذات شحنة عالية من الانفعال، تفعل فعلها في نفس الزوجة التي ترجوه أن يكمل القصة. غير أن الببغاء لا يكمل القصة، ويعدها باكمالها في اليوم التالي إن هي لم تخرج من البيت في هذا اليوم. وهكذا يظل يشغلها بقصصه الشائعة ذات الخيال الواسع، والحوادث الغريبة يوماً في إثر يوم حتى يعود زوجها من سفره. وهو بذلك يحول دون لقائها خليلها طوال أيام غيبة زوجها. والغاية، كما نلاحظ، هي الغاية ذاتها لليالي من حيث الأخلاقية والتعليمية، والوعظية أيضاً.

إذن، من الجائز جداً أن يكون الرواة، أو الحكواتية في العصر المملوكي العربي قد نسجوا الليالي وقصصها محاكاة لبعض القصص الهندي والفارسي من جهة الأسلوب وتقنياته. وما حال التغريب بالأمكنة، وبعدها، ونسبها لبلاد السند والهند حيناً، وبلاد فارس وخراسان حيناً آخر، أو لبلاد الواق الواق حيناً ثالثاً إلا نهجاً ابتدعه الرواة من أجل الادهاش حيناً، ومن أجل الابتعاد بأحداث القص والحكاية إن كانت غير كريمة الشمائل، أو رذيلة السلوك والتصرفات حيناً آخر، أو لاكتساب الصدق والمصداقية من قبل الآخرين السامعين حيناً ثالثاً أيضاً. وذلك لإيمان الرواة بأن الحوادث تصبح أكثر تصديقاً، وأبعد عن الكذب والتشكيك، حين تنسب إلى ما هو أبعد من مدركات السامع ومرئياته ومعارفه.

أما مؤلف الليالي الحقيقي فهو غير معروف، وربما كان مؤلفاً واحداً ، أو عدة مؤلفين عاشوا في عصر واحد أو عدة عصور. والسبب عندي في عدم نسبة الليالي إلى مؤلف بعينه يعود إلى جملة الأسباب التي أدّت إلى تجاهل الليالي والصدود عنها لأنها موجهة للعامة والرعاع، لا للخاصة الملوك والتجار، والأمراء، والولاة، ولخرافاتها الكثيرة، وخيالها الممتد إلى عوالم الجن والعفاريت ولاتسامها بالسطحية والعفوية، وعدم احتفالها بالقيم الأخلاقية والحشمة، وتسابقها إلى تسقط الزلات والعثرات خصوصاً خيانات المرأة المتوالية بسبب عدم ضبطها لانفعالاتها؛ والعاطفة انفعال. إن هذه الأسباب مجتمعة أو متفرقة هي التي حدت بمؤلف ليلة وليلة أو بمؤلفي ألف ليلة وليلة إلى التمنع عن ذكر الاسم أو الأسماء وجعلها هكذا غفلاً. ولكن يضاف إلى هذه الأسباب كلهِّا سببٌ جوهري جعل الليالي كذا بلا اسم لمؤلفها فحواه هو أن مؤلف الليالي كان مؤلفاً لها وكاتباً لتكون لنفسه أولاً وأخيراً لا للعامة أو الخاصة. فقد كان ينسخها بخط يده، ويستعين بها للقراءة إن نسي منها شيئاً أو غفل عن شيء، وما كان يتوقع، أن تقع نسخته المكتوبة بخط يده بين أيدي الآخرين ليطبعوها أو ينسخوها، وإن كان قد توقع ذلك، فقد كان أسلوبه، وبعض الزيادات في حكاياته ولياليه تشفع له وتؤكد بأن هذه النسخة من الليالي تعود إليه وحده في النسبة. لكن كرَّ الأيام تترى، وتعدد النسخ، والزيادات الكثيرة التي شهدتها الليالي، والتطورات الأسلوبية التي لحقت بها، كلها جعلت الليالي أخيراً بلا مؤلف أو مؤلفين، وصارت البيئة، والعصر، والعادات، والطقوس، مؤلفين لليالي، وهذا ما جعلها تنسب للمجتمع مثلها في ذلك مثل السير الشعبية المعروفة لدينا كـ (سيف بن ذي يزن) و(سيرة الأميرة ذات الهمة) و(فيروز شاه).. الخ.

بل إن المجاهرة بتأليف كتاب من نمط الليالي في ذلك العصر كانت مغامرة غير محمودة العواقب خصوصاً في زمن تأليف كتب البلاغة، والاجتهادات الدينية، وعلوم الكلام والفلسفة، وهذه كلها أين منها الليالي من حيث معيارية ذلك العصر وتصنيفاته. وهناك ملاحظة جديرة بالإشارة وهي أن كل المؤلفات، والحكايات، والأخبار، والحوادث ذات الصلة بالموضوع الأنثوي، والجنس تحديداً، وأمور الشهوة ودلالاتها، واندفاعها وضمورها وخمودها، وأسبابها، كلها ظلت طي الكتمان من حيث أسماء المؤلفين، وأن وضعت أسماء لها فقد كانت أسماء وهمية. ترى كم هي القصائد الشبيهة بقصيدة اليتيمة للمنيجي والتي لا نعرفها، أو التي عرفناها بالحفظ الشفوي عن طريق الرواة، والتي نسبت لشاعر قديم أو ما شابه ذلك. وكم هي كثيرة الأخبار في فهرست ابن النديم، وفي بعض كتب الجاحظ، والتي تشير صراحة إلى بعض ما أصاب أصحاب تلك المؤلفات من ظلم وعسف، وقسوة في الحكم، ونعوت، ومظان. ترى أين هي تلك الكتابات التي تقول عنها كتب التاريخ بأنها كثيرة، والتي تحدثت عن كيد النساء، والغنج وعلاماته، وعن زفاف العروس ومعاملتها، وطرائق الاقتراب منها، أو تعليمها للعادات التي ينبغي أن تتطبع بها، وتصير منهجاً وسلوكاً لها في حياتها القادمة؟! ومن منا يؤكد صحة نسب كتاب مثل (رجوع الشيخ إلى صباه) إلى مؤلف بعينه؟! ومن يؤكد وجود هذا المؤلف، بعدما وصل إلينا المؤلَّف؟!

والحق، ان ألف ليلة وليلة، ككتاب، وقع في مربع الحيرة والدوران والبحث عن مؤلف أو مؤلفين، تماماً كما حدث لالياذة اليونان التي شغل اسم مؤلفها وواضعها باحثي أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل ان باحثي أوربا اشتغلوا طويلاً في البحث عن جذور وأصول الالياذة. وعندي أن السبب في عدم معرفة اسم مؤلف الليالي، واسم مؤلف الالياذة يعود إلى ما أسلفنا في توصيفه وهو أنهما أدب شعبي؛ خضع على مرِّ الأيام إلى التحوير والاضافات كما خضع للاسقاط والحذف والجب تبعاً لقدرة الصواغ وغاياتهم، وظروف الزمن وأبعاد الحريات فيه.

ولئن توصل الباحثون في أوربا وأجمعوا على أن الاليادة اليونانية هي لهوميروس فذلك عائد إلى أنها ذات وحدة عضوية، ونفسية، وذات موضوع واحد. بينما الليالي ذات بيئات مختلفة، ومواضيع متعددة، وأصول شتى، والفروق فيها جلية وواضحة جداً خصوصاً حين نرى عوالم الخيال والغرائبية ومجاورتها لعوالم الواقع المشخص من جهة، واختلاف الأساليب وتعددها من جهة ثانية.

وقد حاول بعض المستشرفين أن يعيدوا الليالي إلى أصولها من حيث المنبع، والبيئة، والموضوعات، والأزمان، والطقوس، والأساليب، فرأوا باجماع أن المناخ العام لليالي هو مناخ اسلامي، وأن الليالي مرت بأطوار أولها الكينونة الأساسية الموجودة في روح (هزار أفسانه) وثانيها المحاكاة العربية لهذه الحكايات الفارسية بمضامين عربية وأسماء وشخصيات عربية، وثالثها القصص العربية الخالصة وهي قسمان الأول مصري وشامي لأنّ البلدين كانا تحت حكم المماليك، والثاني بغدادي تماماً.

وعندي أن الليالي كلها عربية، لأن قيمة القص موجودة عند العرب منذ أيام الجاهلية، كما هي معروفة أيام الرسول العربي الكريم محمد (()، وإلا فماذا كان النضر بن الحارثة يفعل في المجالس، وقد حفظ عشرات القصص، بل مئات القصص عن أبيه الذي خبر فارس وخراسان، وبلاد الهند والسند، وأفريقيا وعرفها، وعاد منها جميعاً بأحاديث غريبة عجيبة تستولي على الأذهان والألباب.

وفي قناعتي أن أسباب ورود الأسماء الفارسية للذكور والإناث واقعة تحت علة فحواها أن العرب تكثر من الحديث عن ملوك الفرس وأمرائهم وعن حالات الرغد والرفاه التي عاشوها، ولعل مثال معرفة كسرى وحضوره عند العرب في الأدب، والحكايات، والذاكرة الشعبية يؤيد رأينا هذا، أما الإناث الفارسيات فلجمالهن معانٍ ودلالات وقيم عند العرب مازال بعضها شائعاً حتى يومنا الراهن، كان تسمع أحدنا يقول انثى ذات شعر فارسي، أو ذات عينين فارسيتين.

فالجمال الأنثوي الفارسي موصوف، وذو اهتمام واسع في حاضرة خراسان، ولعل أسواق الجواري الجميلات منذ أيام نبوخذ نصر وحتى عصور معرفة الإسلام كان شائعة فقد كانت تؤخذ الجواري الجميلات جداً إلى قصور الملوك والأمراء، وإلا فماذا كانت (استير) التي غيَّرت مجرى اهتمامات امبراطورية الفرس واستراتيجية ملوكها؟! بالطبع لم تكن سوى جارية جميلة، لها حضورها، ومعرفتها الواسعة، وذكاؤها البيّن. تُرى وهل كانت (تودد) الرشيد غير ذلك؟!

إذن، نرى بأن الليالي عربية خالصة، سُبكت بأساليب تأليفية معروفة عند الفرس والهنود، خصوصاً ما يتعلق منها بالتداخل الحكائي، أو التوليد الحكائي من جهة، وابتعادها عن الاستهلالات العربية المعروفة من جهة ثانية.

أما التغريب في الأمكنة وبعدها فقد كان المراد منه أن يكتسب الحكواتي، أو الراوي، صفة المقدرة الخارقة على التأليف والربط والإبداع وكأنه يتمتع بطبيعة مدارك لا يمتلكها غيره من العامة والخاصة على حد سواء، وهذا ما كان يعلي من شأنه وقيمته بين الناس، وبين مماثليه من الحكواتية، والرواة إلى الحد الذي جعل الراوي البغدادي يتصف بحكايات معينة،والراوي الشامي بحكايات أخرى، والراوي المصري بحكايات مغايرة أيضاً. بل إن الرواة اشتغلوا على هذا التمايز وغذّوه طويلاً بالمدهش حيناً، وبالغرائبي البعيد حيناً آخر.

لكن أيّاً كان الأمر، وعلى الرغم من محاولات بعض المستشرفين ذوي الأنفاس القصرية (والكريهة غالباً) انكار حق العرب بالإبداع، ونسبهم الليالي إلى الفارسية والهندية دونما دليل حق، أو اسناد تاريخي، فإن الليالي تظل عربية في الوجهة والرؤيا، والواقع، والغايات. لا لأن العرب صبغوها بأنفسهم وإنما لأنهم أبدعوها. وإن كانت ثمة نويات لبعض الليالي معروفة عند الفرس والهنود، فإنها صارت سطراً في كتاب أبدعه العرب حقيقة، فالعرب لا يتعايشون والإبداع، كما زعم بعض المستشرفين، وانما هم مبدعون، وأصحاب ابداعات، ومنها ابداعهم لكتابهم الفذ والخالد "ألف ليلة وليلة".

الحواشي:

1- قراءتنا لليالي ستكون من طبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر لألف ليلة وليلة، وهي طبعة مصححة مقارنة مع النسخة الأميرية المطبوعة سنة 1960، وأجزاء هذه الطبعة أربعة.
2- ابن النديم- المقالة الثامنة- ص 304.
3- المسعودي- مروج الذهب- ص ( ).
4- سهير القلماوي- ألف ليلة وليلة- ص 31- طبعة القاهرة- دار المعارف- سنة 1966.
5- أبو حيان التوحيدي- الامتاع والمؤانسة- الجزء الثالث- ص 23.
6- جاء في حيثيات قرار الاتهام الموجه لناشر ألف ليلة وليلة سنة 1985 أنه: صنع وحاز بقصد الاتجار والتوزيع والعرض مطبوعات منافية للآداب العامة. وأنه تبين بعد فحص محتوى الليالي أنها تشمل على قصص وألفاظ وصور مرسومة مخلة بالآداب العامة، وخادشة للحياء ومنافية لأخلاق المجتمع المصري.

وجاء في قرار التبرئة والاستئناف: إن عرض صورة عارية لا جريمة فيه، إذا كان الجو الذي يحيط بالعرض جواً علمياً أو فنياً يقتضيه أو يبرره، ولكنه يعتبر انتهاكاً للآداب وحسن الأخلاق إذا كان القصد منه إهاجة تطلع أو الاثارة الشهوانية. ومن حيث إن كتاب ألف ليلة وليلة قد خلب عقول الأجيال في الشرق والغرب قروناً طوالاً، ونظر إليه الشرق والغرب على أنه متعة ولهو وتسلية، وهو بعد ذلك خليق بأن يكون موضوعاً صالحاً للبحث المنتج والدرس الخصب.. ومن حيث إنه يشفع لهذا المطبوع أنه كان مصدراً للعديد من الأعمال الفنية الراقية، ومنه استقى كبار أدباء العالم كله، والعربي خاصة روائعهم الأدبية؛ الأمر الذي ينفي عنه مظنّة إهاجة تطلع ممقوت أو الإثارة الشهوانية لدى قرائنه، إلا من كان منهم مريضاً تافهاً وهو مما لا يحسب له حساب عند تقييم قيمة هذا المطبوع الأدبي

* مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 66 - السنة 17 - كانون الثاني "يناير" 1997 - شعبان 1417
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...