أحمد درويش - حكايتي مع ألف ليلة وليلة.. 40 عاماً من التأمل

في الزمن القديم كان أقصي ما يحلم به راوي (الحكاية) أن يكون هو نفسه جزءا من الحكاية حتي ولو كان هذا الجزء صفحة عابرة في تاريخ طويل أو كان هذا الجزء فصلا رئيسيا من فصولها عند كبار الرواة الذين يصلون إلي درجة من درجات تماهي الحاكي مع المحكي . وقد جسد التاريخ هذا التماهي بالفعل في كثير من درجاته مع رواة السير الشعبية المتناثرين علي الرقع المتجاورة أو المتباعدة الممتدة في الزمان والمكان وهي تحمل نسخا شديدة التمايز من روايات سيرة عنترة أو السيرة الهلالية أو غيرها من السير والتي تكاد تشبه بصمة بعض الرواة فيها بصمة (المايسترو) العبقري وهو يعيد عزف السيمفونية المتوارثة بمذاق جديد مع التسليم بهامش أكبر من الحرية وظهور الشخصية للراوي في مواجهة الحكاية وخاصة قبل فترة تدوينها .
لكن أقصي درجات هذا التماهي وصيرورة شخصية الحاكي فصلا من فصول الحكاية تمثلت مع برزويه الطبيب الفارسي المحب لثقافة أمته والذي آمن مع مثقفي عصره أن الحكاية الفنية يمكن أن تكون أكبر أسلحة أقامة العدل ومقاومة الظلم فضلا عما تقدمه من متعة فنية راقية . وعندما علم أن حكماء الهنود يغلقون خزائنهم علي كتاب الحكايات الخمس أو البانجاتانترا ويضنون بها علي حكماء بقية الأمم وخاصة الفرس لكيلا لا تعلم سر القوة والتقدم ، غامر وتنكر في هيئة حكيم هندي وأندس بين الصفوة التي يسمح لها بالإطلاع علي النسخة الوحيدة الموجودة بمكتبة الملك ليعود بها بعد عشرين عاما مترجمة إلي الفارسية وعندما تحتفي به الأمة الفارسية وعلي رأسها كسري أنو شروان ويطلبون منه أن يحدد المكافأة الكبري التي يريدها علي عمله العظيم في نقل الحكايات الخمس أو البانجاتانترا يقول ببساطة " مكافأتي أن تكون حكايتي أنا في السعي إلي هذه الحكايات والتمتع بها ونقلها إلي أبناء أمتي هي الحكاية السادسة التي تضم إليها ومنذ ذلك الوقت يتغير أسم كتاب الحكايات فلا يصبح الحكايات الخمس وإنما يصير أسمه كليلة ودمنه بعد أن تضاف إليه حكاية رحلة برزويه "
وفي الزمن الحديث تتفاوت درجة العلاقة بين الحكاية وقرائها حتي في إطار شريحة المتاطفين معها فلا يقفون جميعا علي نفس درجة القرب منها أو التفاعل معها وربما لا تعطيهم هي كذلك -- من ذات نفسها -نفس القدر من التغلغل والإمتاع والإثارة وربما يصح أن نقيس ثراء المتعة والفائدة الكامنة في عمل كبير مثل ألف ليلة وليلة من خلال تنوع تأثيره علي نفوس صفوة قرائه الذين عايشوه فترة طويلة وترك في نفوسهم أو علي أسنة أقلامهم آثارا مختلفة . ولعلنا لو رصدنا حصاد محاولة كهذه لأدركنا كثيرا من الجوانب المكتشفة والجوانب الخفية في عمل كبير مثل ألف ليلة وليلة .
وإذا قلت إن حكايتي مع ألف ليلة وليلة تمتد أربعين عاما، فمعني ذلك أنني سأقتصر علي الإشارة إلي الملامح العامة للتأثر الخاص دون أن أتعرض لمرحلة التأثر العام التي سبقت هذه الفترة واشتركت فيها مع آلاف الصبيان والفتيان من جيلي الذين انبهروا في طفولتهم وشبابهم بهذه الحكايات الساحرة يتلهفون علي سماعها من راديو القاهرة حين كانت السماء صافية أو خالصة له وحين كان طاهر أبو فاشا يبث كل ليلة علي لسان شهرزاد بصوت زوزو نبيل " بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد " إلي أن " يدرك شهرزاد الصباح فتسكت عن الكلام المباح " أو يتلهفون علي قراءتها فيما يتاح لهم من طبعات مختلفة .
وأذكر أن رحلة علاقتي الخاصة بألف ليلة وليلة تبدأ مع أواخر الستينات وبداية السبعينات وقتها كان الِشعر شاغلي الرئيسي قبل أن يجتذبني النقد الأدبي إلي ساحته محدثا خللاً في التوازن كنت أحاول أن أتلافاه وفي هذه الفترة كتبت قصيدة بعنوان " شهريار في الليلة الألف " طبعت في ديواني " نافذة في جدار الصمت " في بداية السبعينات ثم أعيد طبعها في ديواني " أفئدة الطير " الذي صدر عن المصرية اللبنانية 2005 وذاعت هذه القصيدة وقتها في الأوساط الجامعية والمنتديات الأدبية في القاهر ة بما كانت تحمله من فكرة " الاختيار قبل الانهيار " ومن صور خلعها البعض علي الحالة السياسية للعصر يقول مطلعها :
" يا شهرزاد/ ياربة الحكمة يامليكة الجمال والدلال/ ياقطعة باسمة من النهار/ تضئ ليل شهريار/ تغرس في أفاقه حدائق الأزهار / تطوي نهاره الطويل/ لساعة المساء /حين يجر الليل ذيله الرمادي علي مجالس السمار ".
وما زلت أذكر هذا الحوار الذي كان يدور حول انعكاس المناخ السياسي للعصر آنذاك علي المقطع التالي :
" ياشهرزاد / نسيت أنت من تتابع السنين / نسيت أن شهريار ترقد في خياله المعذب المسكين / حكاية العبد اللعين / حين أمتطي فراشه المهيب / ونضحت جبهته السوداء / العرق الآثم في سريره الحبيب / العبد يحتل منافذ الأفق / العبد يمتطي هياكل الفلك / الشفة الغليظة المشققة / داست قداسة الملك / الزوجة الخائنة الممزقة / خيالها الخائن ما هلك .
لقد كانت هذه القصيدة التي مضي علي كتابتها الآن أكثر من أربعين عاما أول وثيقة في دفتر الاتصال الخاص بيني وبين ألف ليلة وليلة وهو دفتر لم تغلق صفحاته منذ ذلك التاريخ . وإذا كان قد بدأ بالاستلهام والإبداع فقد استمر عبر التأمل والدراسة والحوار والترجمة والكتابة عبر أربعة عقود .
في منتصف السبعينات سافرت إلي جامعة السربون للإعداد إلي درجة الدكتوراه في الدراسات النقدية والمقارنة وكانت ألف ليلة وليلة من أبرز من استقبلوني ورافقوني وعادوا معي .
كنت قد ذهبت في البداية متعثر الخطي إلي " أندريه ميكيل " التي كان وقتها عميدا لكلية الدراسات الشرقية والهندية بجامعة السربون الجديدة وكان في الوقت ذاته من أبرز المستشرقين المهتمين بالأدب العربي وصحبني أستاذي الراحل الدكتور محمد فتحي عبد المنعم لكي يقنع ميكيل بأن يضعني تحت رعايته ويقبل الإشراف عليّ رغم كثرة شواغله وقبل الرجل وبدأت أتابع إلي جانب دروس اللغة محاضراته وحلقات بحثه علي قدر ما أستطيع وحدث انتقال نوعي بعد نحو عامين عندما انتخب ميكيل أستاذاً بالكوليج دي فرانس لكرسي الدراسات العربية ونقل محاضراته وحلقات بحثه إلي ذلك المعهد العريق الذي كان يحاضر فيه شامبليون مكتشف رموز لغة الفراعنة وانتقلنا معه لنتابع نظاماً جديداً في المحاضرات وحلقات البحث فالأستاذ يعلن في وسائل الإعلان عن الموضوع الرئيسي لمحاضراته في الموسم القادم والمستمعون الذين يأتون لمتابعة هذه المحاضرات ليسوا طلابا ً بالمعني الحقيقي إنما هم من الأساتذة والباحثين وكبار المثقفين. والكوليج دي فرانس لا تعترف بالتسجيل ولا الرسوم ولا الكتب ولا الشهادات ومع ذلك فإن القاعة تمتلئ قبل موعد المحاضرة "ويدخل الحاجب " ليطرق علي المنضدة وهو يهتف " سيدي الأستاذ " فيغلق الباب الخارجي ويتوجه الأستاذ إلي منصته .
كان ميكيل قد أعلن أن محاضرات الموسم حول ألف ليلة وليلة وشد هذا اهتمام مئات المثقفين من مختلف طوائف العمر شبابا وشيوخا وعجائز فكانوا يفدون قبل الموعد بساعة ليضمنوا مقعدا لهم .
وفي هذه اللقاءات تعرفت علي الرؤية الأوربية لألف ليلة وليلة والحفاوة الكبري التي قوبلت بها الليالي عندما استطاع أنطوان جالون في بداية القرن الثامن عشر وهو عصر التنوير أن ينتهي من جمع أول مخطوطة كاملة لها خلال جولاته في بلاد الشرق وأن يقدم ترجمة أو فرنسة لها بدأت تخرجها المطابع الفرنسية بين عامي 1705 و 1712 أي قبل أن تعرف النسخة العربية من ألف ليلة طريقها إلي المطبعة في العالم العربي بأكثرمن قرن وربع وافتتح بها القرن الثامن عشر الذي سمي عصر التنوير وهو عصر فولتير 1694 -1778 وجان جاك روسو 1712 - 1778 وديد رو 1713 - 1748 ومونتسكيو وغيرهم من رواد التنوير وقد تأثروا جميعا بهذا العمل الذي أهداه أنطوان جالون 1646 - 1715 إلي الأدب الفرنسي والآداب العالمية في ترجمة من اثني عشر مجلدا .
وقد تابعنا الانبهار الكبير التي أحدثته هذه الترجمة عند خاصة القراء وعامتهم حتي إن المطابع الفرنسية وقتها عجزت عن أن توفر نسخا ًلكل الراغبين في الشراء فكانت تلجأ إلي تأجير النسخة الواحدة بحساب الأيام أو الساعات .
وتابعت إعجاب القرن الثامن عشر سواء علي مستوي الحديث عن المتعة الوهلية التي يجدها قارئ الليالي حتي إنه ليعيد قراءتها مرات ومرات ويتمني أحدهم وقد أعادها عشرين مرة أن ينساها لكي يتمتع بقراءتها عشرين مرة أخري أو علي مستوي إدراك الأثر العميق في تغيير النظرة التقليدية إلي عناصر النفس الإنسانية الفاعلة وموقع عنصر الهوي أو الحب منها والذي كان يقلل الكلاسيكيون من شأنه ويقدمون عليه عنصر العقل ويغض بعض الفلاسفة من قيمته فإذا بشخصية شهرزاد تثبت أنه أقوي عناصر النفس وأنه نجح في إيقاف سفك الدماء الذي لم تنجح فيه سيوف الرجال ولا عضلاتهم وأنه استعان بالحكاية والكلمة لكي يجعلها معادلا للحياة ذاتها وأصبحت كل حكاية وهي تشوق إلي بقية حلقاتها تنقذ نفسا إنسانية من حد السيف .
وتابعنا كذلك موجة الترجمات التي اشتعلت في كل لغات العالم بعد ترجمة أنطوان جالون حتي لم تكد تخلو لغة من اللغات الكبري أو الصغري من ترجمة هذا العمل العالمي إليها .
لكن الذي لفت النظر بطريقة أشد هو الاهتمام الداخلي والموضوعي بألف ليلة وليلة والذي أحسست بأننا نفتقده لدينا نحن الدارسين والمثقفين العرب عندما يتم التعبير عن الإعجاب بألف ليلة من خلال عبارات تصفها أو تدافع عنها من خارجها .
لقد طرحت الدراسات التي انطلقت مع سلفستر دي ساسي منذ بدايات القرن التاسع عشر مجموعة كبري من الأسئلة والفروض والأطروحات حول ألف ليلة وليلة وتطور مخطوطاتها وتعدد مراحلها من الليالي الهندية إلي الليالي البغدادية إلي الليالي القاهرية وتتبع فترات تدوينها ومحاولة تحديد التاريخ الدقيق لاستقرار النسخة المكتوبة في القاهرة حوالي سنة 1530 فضلاً عن الوقوف أمام مستويات النص النثري بها ومصادر النص الشعري ودلالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومحاولة القياس الدقيق لنبض العالم الإسلامي خلال المراحل المختلفة التي مرت بها حكايات ألف ليلة وليلة علي امتداد أكثر من ستة قرون عاشها النص المفتوح لها منذ ترجم عن هزار أفسانة في القرن التاسع الميلادي حتي استقر النص في القاهرة في القرن السادس عشر ونقاط اتصاله بالآداب العالمية وتفاعله معها علي مدي التاريخ .
وإذا كان أندريه ميكيل هو الذي نقلنا إلي آفاق هذه الأصداء المبهرة لألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر فإنه هو الذي أدار خلال عدة مواسم ثقافية متتالية في قاعة صغيرة بالكوليج دي فرانس " حلقة بحث " حول حكايات "ألف ليلة وليلة" كانت الحلقة في شكلها مظهراً علمياً جديداً علي، إذ يلتف حول دائرة مستديرة، يتوسطها جهاز تسجيل، مجموعة أساتذة من تخصصات مختلفة يحللون معا حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة من زوايا متعددة. وأذكر أن حكاية أبو صير وأبو قير طرحت علي المائدة وبين المتحاورين إلي جانب ميكيل، كولود بريمو أستاذ الآداب الهندية وجمال بن شيخ أستاذ الأدب العربي وبعض من قدامي تلاميذ ميكيل كان منهم بطرس حلاق الأستاذ الحالي بجامعة السربون وكنت معهم وظللنا نلتقي بشذرات من الحكاية في الأدب التتري القديم ومدونات الأدب الهندي والأدب العبري في القرون الوسطي والأدب الإيطالي علي مشارف عصر النهضة فضلا عن التأملات العميقة في الجوانب الحضارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع العربي الإسلامي. وما ذلت أذكر كيف جري التركيز علي دور مدينة الإسكندرية باعتبارها نموذجا للمدينة العربية الإسلامية المتحضرة في القرون الوسطي ومصدرا لتصدير الحضارة والتصنيع والتمدن من خلال مصبغة أبو قير رمز الرقي في عالم الألوان وحمام أبو صير رمز النظافة والرفاهية عند الإنسان إلي مدن الساحل الجنوبي لأوروبا وجزر البحر المتوسط وقد كان هذا مجرد نموذج لحكايات عالجها ميكيل وحلقة البحث وصدرت في كتاب تحت عنوان " سبع حكايات من ألف ليلة وليلة " وقد ترجم إلي العربية .
وعدت من فرنسا مشبعا بهذه الروح حول ألف ليلة وليلة وكتبت في صدر كتابي عن الأدب المقارن الذي صدرت طبعته الأولي سنة 1983 .
قائلا : " أيا كان المقياس الذي يمكن أن يتخذه القارئ أو الدارس معيارا لعظمة عمل أدبي ما فإن ألف ليلة وليلة ستظل في الصدارة بين تلك الأعمال العالمية الكبيرة ويتسع المجال الذي يضم قارئيها ليشمل الفيلسوف المتعمق والمؤرخ المدقق وعالم الاجتماع والباحث في تطور اللغة أو في انتقال الأساطير أو في اختلاط تعاليم الديانات بعادات الشعوب إلي جانب جمهور عريض لا يحد من طلاب التسلية أو المتعة وعشاق الرحلة في عالم الجن والخيال والانتقال الميسور في المكان والزمان علي أجنحة رخ السندباد أو أشعة مصباح علاء الدين أو الانغماس في صفوف الذين يتبعون علي بابا لاقتحام الكنز الدفين "
وأجد نفسي في هذه الفترة أقترب بطريقة أو بأخري من ألف ليلة وليلة وأنا أحاور كثيرا من الأعمال العالمية في مجال المقارنات علي نحو خاص فإذا ما ناقشت تقنيات جمع أطراف الأعمال القصصية الشعبية في قصة واحدة جامعة في العصور الوسطي الأوروبية وجدت أمامي تقنية ما يعرف بقصة الإطار عند كل من الشاعر الإيطالي بوكاشيو في حكاياته الشهيرة دي كاميرون وكذلك تقنية الشاعر الإنجليزي تشوسر في حكايته " قصص كانتربري " مستلهمة
من تقنيات ألف ليلة وليلة في حوارية شهريار وشهرزاد .
وإذا ما شاركت في منتصف التسعينات بذكري مرور ثلاثمائة عام علي ميلاد فولتير تلمست آثار ألف ليلة وليلة علي كثير من حكاياته سواء في مادته الخام أو في تقنيته الفنية ورصدت ملاحظة طه حسين النافذة في مقدمة ترجمته لقصة بطلها اسمه زاديج ( وهي تحريف لكلمة صديق العربية ) :
" لقد مر بفولتير طور من طور حياته الأولي قرأ ترجمة ألف ليلة وليلة فشاقته وراقته ووجهته إلي دراسة أمور الشرق فغرق في هذه الدراسة إلي أذنيه وأخرج إلي الناس قصصا شرقية بارعة كثيرة ".
وخلال هذه الرحلة الطويلة دخلت إلي أفق جديدة لم أتوقع في بادئ الأمر أن يضيف لي شيئا في مجال الاهتمام بألف ليلة وليلة بعد الذي أضافته لي حوارات جامعة السربون والكوليج دي فرانس وكان هذا الأفق هو سلطنة عمان الذي دعيت إليها في منتصف الثمانينات للعمل في جامعتها الجديدة " جامعة السلطان قابوس " ولكني وجدت وجها جديدا هناك من وجوه ألف ليلة وليلة يمتزج فيه اهتمام الشرق والغرب والطرافة والعلم فقد لفت نظري في الأسابيع الأولي لوصولي إلي مسقط وجود هيكل ضخم لسفينة كبري في ميدان علي شاطئ خليج عمان بالقرب من فندق البستان الجميل ويحمل الهيكل اسم ( السفينة صحار سفينة السندباد ) وتتبعت الحكاية فإذا بها تمثل وجها من وجوه اهتمامات الغربيين المتنوعة بحكايات ألف ليلة وليلة والاستجابة لطموحاتهم وأطروحاتهم من جانب بعض المستنيرين من العرب ويكمن أصل الحكاية في فكرة للباحث الأيرلندي " تيم سيفرن " تساءل خلالها إن يمكن أن تكون حكايات السندباد البحري ورحلاته السبع كلها من نسج الخيال أو أنها يمكن أن يكون ورائها لون من المعرفة الواسعة من أسرار بحار العالم من قبل الإمبراطورية الإسلامية ولون من الاهتمام الذي نسميه الآن بالأمن القومي الواسع المدي تحرص من خلاله عاصمة الإمبراطورية في بغداد علي تعرف أقصي ما يدور في جزر الواق واق وغيرها من جزائر البحار النائية ولكي يضع تيم سيفرن هذا الفرض موضع الاختبار فكر في أن يصنع سفينة عربية بنفس مواصفات سفينة السندباد القديمة بل ومن نفس مادة الأخشاب التي كانت تصنع منها السفن آن ذاك وأن يجعلها خالية من المسامير والحديد وأن تتداخل أجزاؤها علي الطريقة القديمة من خلال التعشيق ودهن الأسماك وأن تخلومن أي أجهزة ملاحية حديثة وأن يصنع خريطة لرحلة معاصرة تقوم بها هذه السفينة تقتبس من رحلات السندباد البحرية السبع وتنطلق من ميناء صحار في سلطنة عمان وهو الذي كان ينطلق منه السندباد بهدف الوصول إلي ميناء كانتون في الصين مع المرور بنفس الأماكن التي أشار إليها السندباد البحري في رحلاته السبع وكان أن تقدم بالفكرة إلي سلطان عمان فوافق علي مساندتها وتمويلها وانطلقت الرحلة من سحار إلي كانتون ورصدت كل جوانبها في كتاب كبير صدر بالعربية والإنجليزية والفرنسية وأضاف بعداً جديداً إلي حكايات ألف ليلة وليلة يدعو إلي التأمل الجاد في جوانبها الحضارية من جديد . وقد أعجبتني الفكرة العلمية التي أضافها الباحث الأيرلندي لتضاف إلي الأفكار الأخري التي طرحها باحثون آخرون معظمهم من الأجانب حول قصص ألف ليلة وليلة وقارنت بينها وبين الجهود السلبية والحوارات الشكلية واللفظية التي يستقبل بها بعض مثقفينا وأنصاف مثقفينا حكايات ألف ليلة وليلة سلبا أوحتي إيجابا ً.
لم أتوقف عن التأمل في طيات ثراء المبني أو المعني في ألف ليلة وليلة بين الحين والحين وقد ركزت جانبا من الاهتمام علي الليالي المصرية لأنها تشكل من ناحية الترتيب التاريخي، المرحلة الأخيرة الأكثر نضجا والتي تمتد خيوطها بالضرورة في المراحل السابقة ولا تنفصل عنها وتساءلت مع كثيرين غيري حول أسرار العبقرية الفنية للراوي المصري المجهول الذي صاغ حكايات مثل أبو صير وأبو قير ودليلة المحتالة وزينب النصابة ومعروف الإسكافي والصعيدي وزوجته الإفرنجية ومريم الزنارية وعلاء الدين أبو الشامات والملك النعمان وأبنه الأمير شركان وغيرها من الحكايات التي يتم نسج الخيوط فيها علي يد حكاء ماهر محترف مجهول استطاع أن ينقل الحكايات الغفل الذي وصفها ابن النديم عندما رآها في الترجمة العربية في كتاب هزار أفسانه بأنها حكايات " غثة باردة " إلي روايات متداخلة متشعبة محكمة تستطيع أن تأخذ بالألباب وأن تغري السمار في حلقة الراوي بالعودة إليها في الليلة التالية .
ومع الثراء الجمالي للشكل والمزج بين بساطة الواقعية السحرية وحيل الإبهار الخارقة حسب طبيعة الموقف ، فإن المضامين تشف عند التأمل عن خصائص هامة في بنية مجتمعات مازلنا نعيش امتداداتها وظواهر ربما لو خضعت لتأملات المتخصصين في شتي فروع المعرفة لوجدنا في بعضها أشارات إلي كثير من مشاكلنا المعاصرة .
وهل يمكن لحكاية دليلة المحتالة إلا أن تكون تجسيدا لصراع السلطات علي حساب العامة، وتعدد أنواع ذلك الصراع بين سلطة الحاضر وبقايا سلطة الماضي والقوة الناعمة الخفية والقوة الخشنة الظاهرة وحسم الصراع لصالح من يملك الحيلة أو العنف أو كليهما وليس من يملك الحق. ومساندة السلطات العليا لذلك الموقف بل وتعاونها معه والإفادة من بعض نتائجه. وهل يمكن ونحن نتأمل صورة الفرنجة في أدب عصر الحروب الصليبية من خلال ألف ليلة وليلة عبر حكاية الملك النعمان مثلا أن نغفل صور الأمراء والقادة وهم يرتمون في أحضان الشهوات ويغلبون مصالحهم علي المصالح العامة وما يترتب علي ذلك من آثار مدمرة؟ وأن نري في المقابل عنصر المرأة الإفرنجية في صورتها الإيجابية مقاتلة شجاعة أو مخططة أو جاسوسة ناجحة في خدمة أهداف أمتها وهي تلعب دورا هاما في إحداث النصر لفريقها في مقابل الاختفاء الكامل لدور المرأة العربية في حلبة الصراع بالمعني الإيجابي؟ والتصوير الكاريكاتيري لبعض الشباب العشاق عندنا والذين لا يرون في المرأة الإفرنجية إلا صيدا جسديا سهلا فيفاجئون بأنها أصلب منهم حتي في ميدان الفروسية والقتال؟
إن الجوانب الثرية في ألف ليلة وليلة لا حدود لها وهي تتضاعف عندما نتأملها منطلقين من داخل العمل إلي خارجه ومن متنه إلي إشعاعاته وهو ما يحدث غالبا في كثير من الدراسات الأجنبية التي تدور حول الليالي. لكن هذا الثراء قد يتواري بدرجة أو بأخري إذا اتبعنا المنهج العكسي فنظرنا إلي العمل من خارجه وتحاورنا حوله وليس من خلاله وهو ما يحدث لدينا كثيرا عندما تثور معارك حول ألف ليلة وليلة مطالبة بالحظر أو الإباحة أو التحريم أو التجريم أو الدخول في دائرة الحريات ومقتضياتها وقد يكون كثير من المتحاورين لم يجد الوقت الكافي للعكوف علي العمل ذاته وأخشي أن أقول إن هذه هي الطريقة التي تفضلها بعض أعمدة الصحف عندنا سواء فيما تكتب أو فيما تثيره من أسئلة وحوارات تكاد تطرح عليك سؤالا محددا : مع أي فريق أنت ؟ هل توافق أو تخالف ؟ وكأنها تستلهم العبارة التي ستشيع في العامية المعاصرة " هات من الآخر "
والواقع أننا في أمس الحاجة أن نطرح الحوار حول العمق دون أن نتوقف عند مجرد مظاهر الشكل، وأن نسأل أنفسنا عن الواجبات التي علينا أن نؤديها لهذا العمل كي ننعشه دون أن نتوقف عند مجرد الحريات التي نتوهم أنها عندما تنعشنا مؤقتا نكون قد وصلنا إلي نهاية المطاف .
في مثل هذا المناخ ثارت في الأسابيع الأخيرة واحدة من هذه الموجات التي لم تكن الأولي وأخشي أن لا تكون الأخيرة، وكانت بمناسبة صدور طبعة جديدة لألف ليلة وليلة بين آلاف الكتب التي تطبعها أو تعيد طبعها وزارة الثقافة ووجدها محترفو رفع دعاوي الحسبة والمطالبة بالحظر فرصة مواتية فطالبوا بمنعها ورفعوا أمام القضاء. دعاوي رددوا فيها أسبابا غريبة منها تهمة ازدراء الأديان وتهمة خدش الحياء العام ولم يكن أحد يناقش التهمة الأولي التي تكاد أن تكونه مضحكة لمن يتأمل عملا مثل ألف ليلة وليلة فيجده يصدر عن احترام فطري بسيط لكل ما تدعو إليه الأديان بل أنه يعمم فلا يجعل هذا واجب الإنسان وحده بل يتعداه إلي جميع المخلوقات من أنس وجان وطير وحيوان ويرتفع به إلي آفاق السماء ويهبط به إلي قاع البحر وهناك عشرات الأمثلة للخيرين من الجن والصالحين من الأسماك وحتي داخل الديانات في عالم الإنسان هناك احترام لعقائد كل الأديان مما يجعل العمل أبعد ما يكون عن تهمة الازدراء.
أما مسألة خدش الحياء فهي تدخل في مستوي آخر من الحوار والذين يثيرونها يتحدثون عادة عن الجانب اللغوي فيها وهو جانب يناقش في الأعمال الكبري في لغات العالم وفي لغتنا من زوايا متعددة وتبذلها في توسيع دوائر الاستفادة منه في اللغات الأجنبية جهود لا نبذله نحن في لغتنا العربية من باب التقصير في خدمة تراثنا فالأعمال الأدبية الكبري في العالم لا يقرؤها كل المنتمين إلي لغاتها أو المتعلمين لها بطريقة واحدة وقد لا يقرأ أغلبهم نصها الأصلي، يحدث هذا مع الإلياذة والأوديسة والإلياذة وأنشودة رولاند وكتابات راسين وكورني وشكسبير وسرفانتس والخيام وسعدي وطاغور وتولستوي وتشيكوف ودانتي وجوته وديدرو وغيرهم وتعرف هذه الأعمال جهودا مخلصة من محبيها تسير في اتجاهات متعددة بعضها يحافظ علي الأصل ويوثقه ويتأمل مخطوطاته ويناقش شروحه وهوامشه ويجري علي المتن أكبر قدر من التمحيص والتحقيق يحميه من تقلبات الزمن .
وبعضها الآخر يجري الدراسات حول ما يثيره المتن من قضايا في اللغة والشكل وهي شديدة الثراء في ألف ليلة وليلة وقد كدنا نهملها في معظمها ونتركها للخواجات يهتمون بها وبعضهم يهتم بالدروس المستخلصة في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع وإعلان المؤشرات التي قد لا ترضينا جميعا أو لا ترضي نزعة الغرور عند بعضنا ولا تقع موقع الرضا من بعض مسؤلينا .
وجانب يهتم بالتبسيط وإتاحة المستوي اللغوي المناسب من هذه الأعمال للطفل الصغير وللفتاة وهي تدرج إلي مرحلة الشباب ولمجلس العائلة عندما يقص الجد حكاية مسلية علي الأبناء والأحفاد والتبسيط اللغوي في مثل هذه الحالة ليس فيه اعتداء علي الحرية بل هو في الواقع توسيع لمداها وهو ليس وقفا علي الأعمال القصصية فنحن محتاجون إليه ونحن نقرأ أبا العلاء وأبا حيان والجاحظ وابن خلدون ورفاعة ولطفي السيد وغيرهم ممن أغلقنا الباب عليهم لصفوة المتخصصين دون سواهم فحرمنا المثقف العام من التمتع بتراثه الفكري والثقافي ومن الإحساس بالفائدة التي يحسها الآخرون من أبناء اللغات الأخري في مواجهة ثقافتهم وذلك جانب من الحوار الداخلي الذي ينبغي أن نفتحه بيننا دون حساسية أو كسل أو تعميم أو اتهام ونحن ننناقش أعمالنا الكبري ومن بينها ألف ليلة وليلة .
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...