محمد حافظ دياب - الجنس و التــراث.. نموذج ألـف ليلة

التحرز من مقاربة المسألة الجنسية, يمثل جانبا من المعرفة المقموعة في ثقافتنا العربية.إذ يتم تناول هذه المسألة بوجل وحذر يجعل الاقتراب منها أمرا شائكا وملغوما, يحوطه الإقصاء, أو تتلبسه المحاذير والمخاوف,

بسبب من تقاطب حيثياتها علي أكثر من متصل: ما بين قيم وسمات سلوكية اختطها المجتمع التقليدي ونظمها وحولها إلي نماذج معيارية ضابطة للمواقف الواجب اتخاذها حيالها, وسياقات التحديث تعبر عن نفسها بحرية, مع تقدم المعرفة الطبيعة والسيكولوجية والديموجرافية.
وعلي متصل ثان, لا تكائها علي التمييز بين أحكام عامة تستأثر بحق الحكم في كل ما يتعلق بنمط العيش الجماعي, وخاصة ترهنهابرقتها في الحياة المنزلية, وهو تمييز اعتبر واضحا وصارما وملزما للجميع, يسبب اختراقه نبذ الجماعة وعقاب السماء.
وعلي متصل ثالث, قنوس بين ديونيزيه ممنوعة من الظهور والاعلان أو مسكوت عنها, ورواقية طهرانية موجهة ومدعمة بالمقدس, وان ظلت المسألة الجنسية أكثر تقصيرا أو اتساعا وغني من تقاطب هذه المستويات.
يزيد في عسر تناول هذه المسألة راهنا, تواترها في ظروف عطب يتناثر حول الوعي بها, حين وجهت أعمالا أدبية لدينا, وبالذات ألف ليلة وليلة, بالملاحقة والمصادرة ولغة الزجر القانوني, بزعم مجافاتها للدين والأخلاقيات, قصد ضبطها, والحد من مخاطرها والتحكم في حدوثها المحتمل, لدرجة غدا معها خطاب الجنس من أكثر الخطابات المدرجة ضمن اللائحة السوداء.
ولعله في المستطاع مقاربة الأمر بصورة أجلي, من خلال محاولة الاجابة عن تساؤلين أثنين أساسيين بمخارجهما:
التساؤل الأول: كيف تموضعت المسألة الجنسية عبر المدونة العربية واستتباعا, ماذا عن صلتها بالمجال الديني المقدس؟ ومن أي الوجوه يتمايز طرحها بين الفقه الرسمي والخطاب الشعبي؟ وهل يحتوي التعامل معها علي ما يصادم الدين ويناقض مبادئه؟
والتساؤل الثاني: ماذا عن الليالي: تسميتها ومصادرها؟ واستتباعا, ماذا عن علاقة الحكايات فيها بالجنس والسلطة؟ وكيف عن القراءات التي قاربتها؟
* الإسلام والجنس:
فمع ظهور الاسلام, بدت الحاجة أوفي الي تنظيم العلاقات الجنسية, بالنظر إلي وجود ممارسات شاذة كانت متبعة قبلا في الزواج, لعل من أهمها الاستبضاع والرهط.
وكان علي الاسلام أن يواجه هذا الواقع وفق الأهداف المرسومة لمجتمعه الجديد.
ولأنه لايقف ضد الفطرة, فقد تعايش مع الجنس, واعترف به كسنة من ضرورات الدنيا والدين. بواسطة تهذيبه وضبطه وفق معايير تسمو به إلي علاقة شرعية بين الرجل والمرأة, وهو ما يفسر أن الكتابة عنه وردت في تراثنا العربي الاسلامي ضمن الاشتغال الفقهي العام, وداخل منظومة الشريعة الاسلامية. فيما عرف بعلم النكاح أو علم الباه وان جري انفتاحه بعد ذلك علي الأدب واللغة, وطوف في آفاق العجائبي والأسطوري أحيانا. وقارب حقولا بحثية أخري بمفهوم الحاضر للعلوم التجريبية والانسانية.
ويشار هنا إلي أنه وعبر هذه المنظومة التشريعية امتلكت الكتابة عن الجنس دوما حرية الافاضة في تناول موضوعه ومختلف وظائفه, كالاخصاب والانجاب والشهوة والجماع والاثارة والاعجاب, كل ذلك قصد التدليل علي عظمة الخالق وبيان حكمته في الخلق لضمان استمرار الخليقة.
وتبدو أعمال الامام جلال الدين السيوطي من أبرز واغزر هذه الأعمال, التي رأت في الجنس خبزا يوميا مطلق الحضور, والمرأة مجرد سلعة أو أداة متعة, تنتهك وتبحث عن اللذة وتعيش طقوس العربدة وحالاتها لكي ترضي الرجل ونزواته وشبقيته, عبر عديد من الأعمال التي قدمها, منها:
(شقائق الأترنج في رقائق الغنج), نزهة المتأمل ومرشد المتأهل في الخاطب والمتزوج),( رشف الزلال من السحر الحلال),( الوشاح في فوائد النكاح),( الايك),( نزهة الجلساء في أشعار النساء), و(المستظرف في أخبار الجواري), نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسحر),( الرحمة في الطب والحكمة),( غاية الاحسان في خلق الانسان),( لقط المرجان في أحكام الجان),( الكنز المدفون والفلك المشحون),( المزهر في علوم اللغة وأنواعها),( الافصاح في أسماء النكاح),( ضوء الصباح في لغات النكاح),( باسم الملاح ومناسم الصباح في مواسم النكاح)( نواظر الأيك),( نوادر الأيك في معرفة..).
وتكتنز هذه الأعمال بأحاديث عن وصفات حول أثر غنج المرأة وما يضيفه من متعة, وكيفية مباشرة الرجل لزوجته, وما يجب فعله مع الحليلة ليلة الزفاف, ونوادر وأخبار حول معجم الباه, منتخبات شعرية نسائية عربية عند تقاطيع جسد المرأة, وأمور مستحبة في الجماع, وكلها وغيرها وصفات ترجح في كثرتها وانكشافها ما نجده في.. ألف ليلة وليلة.
وبخلاف الامام السيوطي, وردت كتابات عربية عديدة قاربت صوغ ثقافة جنسية, منها( نزهة الألباب) للتيا مطلع القرن الثالث عشر الميلادي, و(تحفة العروس) للتماني نهاية نفس القرن,( الروض العاطر) في النصف الاول من القرن الرابع عشر, و(رجوع الشيخ إلي صباه فيما هو في تقوية الباه وزيادة الالفاظ) لأحمد بن سليمان, و(بلاغة النساء) لابن أبي طاهر مطلع القرن السادس عشر.
وأصحاب هذه الأعمال لم يكونوا من المهمشين المتمردين أو منحرفي الأخلاق, بل من المشتغلين المرموقين بالفقه والقضاء. اذا تسلم التيفاشي منصب القضاء لسنوات طويلة بتوحش ومصر, وكان التجاني واحدا من كبار ائمة المالكية في شمال افريقيا, والنتراوي قاضيا في مدينة تونس, وأحمد بن سليمان فقيها, وهم جميعا يرون أعمالهم ذات توجه ناضج للدنيا والدين, وقد جمعت هذه الأعمال بين القرآن والحديث والنوازل الفقهية, جنبا مع النوادر والملح والطرئف والحكايات والنصوص الشعرية والحكم.
وجنب هذه الأعمال, خصص العشرات من المؤلفين العرب في القرون الوسطي رسائل وكتبا كاملة لموضوع الحب والعشق, فعالجوه من وجهات نظر مختلفة( الجاحظ, السراج, ابن قيم الجوزية, الغزالي, ابن حزم, ابن داود, الرازي, العامري النيسابوري,( ابن سينا, ابن عربي..).
إضاءة:
والأمر في الليالي يتعلق بأثر شعبي, احتل مكانة مرموقة في المكتبة العالمية, واعتني به الدارسون في مختلف الأنحاء, وترجم إلي أهم اللغات, وألهم الأدباء في الغرب والشرق, وانفتحت له أبواب الفلكلور والأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع ورحبت به الدراسات المقارنة في الجامعات, ومازالت حكاياته تغري المشتغلين بالمسرح والسينما والموسيقي والاذاعة والتليفزيون.
وقد تعرضت, شأنها كأي نص شعبي, للتحوير والحذف والاضافة عبر أساليب ستة ينوه عنها كالتالي:
(1) اعادة الصياغة: من مدونات سابقة كي تلائم ذوق العصر, بمثل ما قدمها رشدي صالح أو محاولة هشام عبدالعزيز وعادل عبدالحميد اللذين اعادا صياغتها بالعامية, مع اضافة عنوان مثير( ليالي الحب والعشق) عام1997.
(2) التقليد: حيث قاد تأثير الليالي في القرن الثامن عشر بأوروبا إلي ظهور اعمال مقلدة لها مثل( ألف يوم ويوم) لبيتي دولاكروا عام1712.
(3) التوطين: وهو ما يبدو بالأوضح في ترجمة انطوان جالان لها إلي الفرنسية, لأول مرة في تاريخ اوروبا الأدبي ما بين عامي1704 و1717 في اثني عشر مجلدا, وجاءت ترجمته بتصرف, فلم يقل كثيرا عن الصنعة المتكلفة التي عرفها النص الأصلي, وعني فيها بإضافة ملاحظات وشروح وجيزة في الحواشي, لتفسير بعض العادات والتقاليد الشرقية, في محاولة منه لتقريبها إلي الذوق الفرنسي.
(4) الاستلهام: وهو ما نجده لدي المفكر الفرنسي فولتير, الذي يعترف بأنه قرأ ترجمة جالاة اربع عشرة مرة قراءات متأنية وواعية, وهو ماجعلها تحضر بشدة في جميع اعماله المسرحية والقصصية, ومصنفاته التاريخية والعلمية والفلسفية ويبدو تأثيرها بالأوضح في قصته( البريء)Candide التي نشرها عام1759, حيث ابطالها علي نمط الليالي, يتنقلون من مكان لآخر, ويبالغون في الشوق والتحرق والاغماء, والمرأة ضعيفة مستغلة, اضافة إلي نسجه هذه القصة علي منوال التضفير الذي يميز الليالي.
وهناك ايضا طه حسين, الذي استوحاها في روايته( احلام شهر زاد).
(5) التهذيب, وهو ما يبدو وفي طبعة مطبعة بولاق الأميرية عام1908 التي حققها مقابلة وتصحيحا, الشيخ محمد قطة العدوي احد علماء الأزهر وحذف منها اجزاء بها غزل صريح او مواقف ساخنة.
(6) الاختصار: حيث اختار المستعرب الفرنسي اندرية ميكيل سبع حكايات منها وقدمها بعنوان( ليست هناك حكايات بريئة) وترجمتها عن الفرنسية صيام ابو الحسن وسامية أسعد عن مركز الكتاب الفرنسي بالقاهرة عام1986.
ويواجهنا هنا, عبر حيثيات هذا الأثر الشعبي, سؤال ماثل: لماذا لقي هذا الانتشار الداوي؟
لانه بمثابة ذخيرة تكتنز رموزا وعلامات وامشاجا اسطورية تستعيد دلالاتها ضمن الاطار العام للثقافة الانسانية, وحسب طرائقها التعبيرية التي تتيح الافصاح عن المكبوت والمخالف للأعراف, والمتمرد علي السائد.
ولأنه يحيلنا إلي كثير من جوانب حياتنا المعاصرة التي لوثتها الرأسمالية حين نقلت الفرد إلي مرحلة التشيؤ بمفهوم لوكاش, وصنمية السلعة بمفهوم ماركس, ومنطق السوق بمفهوم الليبرالية الجديدة.
وفي عالمنا العربي لم يعتن العرب القدامي تماما بالليالي, ولم يذكروه في مصادرهم إلا لماما, فيما يعد المسعودي أول من أشار اليه حين رده إلي كتاب( هزار افسانة) الفارسي الذي ترجمه العرب أيام العباسيين, ومن بعده تحدث عنه ابن النديم, وتابعهما التوحيدي والمقريزي والقرطبي, وهذا الأخير كان أول من ذكر الكتاب باسم( ألف ليلة وليلة).
وقد اختلفت لدينا الآراء والتفسيرات حول تسمية هذا الأثر, حيث هناك من عاينه كمحاكاة لكتابين كانا معروفين في القرن السابع الهجري, هما( ألف جارية وجارية) و(ألف عبد وعبد) علي حين رأي أحمد حسن الزيات ان زيادة الليلة علي الألف جاءت لافادة الاكمال اعتبارا من ان الألف عدد تام, فاذا زيد عليه الواحد كان كاملا, والكمال درجة فوق التمام.
وخلال القرن التاسع عشر, آثار المستشرقون الاوروبيون جدلا جديا وفعالا حول اصول هذا الكتاب يبرز منهم المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر الذي رده إلي ثلاث طبقات فارسية وعربية ومصرية, وخالفه الرأي المستشرق الفرنسي سلفستر دوماس حين رأي فيه عملا عربيا اسلاميا خالصا, بدأ تدوينه في سوريا ثم أكمله النقلة والرواة في عصور لاحقه بإضافة حكايات جديدة, وجاء بعدهما المستشرق الانجليزي ادوارد وليم لين, وحاول اثبات ان الكتاب كله من تأليف رجل واحد موطنه مصر, اعتبارا من ان الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي صورتها حكاياته هي أوضاع عاشتها مصر, اما ليتمان الذي ترجمه إلي الألمانية فعاين فيه قسمين: الأول بغدادي تدخل في دائرته كل الحكايات الهندية والفارسية التي ترجمت إلي العربية ايام العباسيين وما أضيف اليها في بغداد, والثاني مصري وضع في مصر وسوريا ايام المماليك والأتراك.
ولدينا, رأت سهير القلماوي وكانت الليالي موضوعا لأطروحة حصلت بها علي درجة الدكتوراة باشراف طه حسين ان الكلام عن تاريخ هذا الكتاب رجم بالغيب, وأن البحث عن اصوله ليست مهمة سهلة, وأنه صنف من الأدب الشعبي المجهول المؤلف, بوصفه نتاج الأضيلة الشعبية وابتكار الجماعات, ودللت علي ذلك بأن القاص الشعبي العربي ظل زمنا طويلا يحفظ حكاياته, ويرويها في الأزقة والأسواق وفي المواسم والأعياد, تارة يحور فيها, وأخري يلحقها بالصدق والتهذيب مايشي بعبث تتبعها زمنيا او مكانيا, مع تناقلها واعادة انتاجها علي هيئة جديدة تفارق معها مهادها الأول كي تسهم بذلك في اضفاء قيم جمالية عليها, تتميز بتعدد مستويات دلالتها, وكسر أحادية صوتها, ونمو القص فيها وتشعبه.
ومع ذلك ورغمه يجوز القول إن انفتاح البلدان العربية في العصر الوسيط علي ارث كبير من الحكايات والاساطير واحاديث السمر وايام العرب ثم القصص القرآني والسير الشعبية ما يشي بان الليالي تمثل خيالا عربيا خصبا متطورا عن الحكايات التي عرفتها هذه البلدان, حين تفاعلت مع خيال الشعوب والأقوام التي أخذت بالاسلام وامتزجت في مجتمعه الجديد.
عالم الليالي:
والليالي تزدحم بمغامرات الجسد والروح, وتضج بأصوات الأمراء وصرخات المهمشين, وتنضح بالتراتبية الجنسية كاستتباع لتراتبية العبد والأمير, وتسودها علاقات الاغتراب القائمة بين طبقات مجتمعاتها, ما يوحي بإمكان النظر إلي عالمها كاستمرار لعلاقات السيطرة والتحكم التي تحيل إلي واقع اجتماعي وسياسي, لا يغفرفيه الرجال للحرائر بمقدار ما يتسامحون مع الجواري, وكتعزيز لمدينة بطريركية شهريارية قائمة علي استلاب النساء والجواري والقيان والعبيد والفقراء.
ومجتمعات هذه الليالي تنوس ثقافيا بين البدائية والبدوية وشبه البدوية والحضرية وشبه الحضرية, وسياسيا بين العبودية والاقطاعية والمركنتالية( التجارية), واقتصاديا بين الرعوية والزراعية والتجارة, وكلها مجتمعات تكرس في ثقافتها وسياستها واقتصادها لغرض علاقات اغترابية بين السيد والعبد, الغني والفقير, الحاكم والمحكوم, والرجل والمرأة.
ومن خلالها, تواترت إلينا حكاياتها المليئة بالمتعة والأسرار مخترقة كل الحواجز, ومتحدية مقاييس البلاغيين المحافظين والأخلاقيين الطهريين, ومتكئة علي تقنيات سردية بعينها:
أولها استهلالات تحمل عباراتها الفعل الدائري للسرد, ويميل إلي التركيز المحدد بكلمات, وتجسد وضعا زمنيا متداخلا بين الماضي, زمن الحكاية, والحاضر زمن روايتها ويمكن معاينة صنفين متميزين من هذه الاستهلالات: الأول ما تبتدئ به كل حكاية بلغني أيها الملك السعيد أن.. أما الثاني استهلال الرواية, فله قالب فني متميز, وخصوصية أسلوبية مختلفة عن السابقة, هي اعلم ايها الملك السعيد انه...
وثاني هذه التقنيات, هو خلو عالم الليالي من التعيين الزمني, ووقوع حكاياتها في زمن لا محدود كان ياما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان... كي تجعل من حفل القص فعلا كونيا شاملا, وكتمويه يلجأ إليه القاص الشعبي للتعبير الحر عن واقع عصره, وكمحاولة منه لتجنب ادانته.
وثالثها, ما يتصل بالتضفير القائم علي التشكل في حكاية اطار تلد حكايات أخري كي تمنح أمثلة لمداومة تأويل, يمكن للتراتبة الاجتماعية من التعبير عن نفسها أو كشف مأزمها. بأكثر مماهي حكايات جنسية.
ولكن, هل تري تنحصر مشغولية الحكايات في مجرد الحديث عن المسألة الجنسية, أم أن لها قرونا أخري يجدر الامساك بها؟
ثمة مايشي بهذا الاحتمال, لو تجاوزنا معجمية هذه الحكايات إلي سرديتها, حين يبدو اشتعال السرد بالجنس تدبيرا لاشتغال آخر, تفتح وقائعة علي شخوص تقترن بشرائح وفئات اجتماعية متباعدة, علي متصل من الثنائيات( السيد والعبد, الغني والفقير, الحاكم والمحكوم, رجولة بطريركية وأنوثة خاضعة..) علي اختلاف تنويعات هذه الثنائيات: بين السيد والعبد, كما تتبدي في قصة( كان ياماكان وقضي فكان), مع الملك عمر النعمان وولده الأمير شركان, وبين العبد غضبان والقيان.
بين ذي النعمة والتاجر المتحكم بتجارة المدينة وبرقاب التجار الصغار دونه, قبالة قطاع عريض من الفقراء والمسحوقين.
بين الحاكم أمير المؤمنين والملك والسلطان والأمير والوزير والثائر, ومعهم كاتم السر والسياف والمتوكل علي بيت المال وكاتب الخزنة والبصاص, مقابل العامة من المحكومين.
بين الرجل والمرأة, وهذه الأخيرة تمتلك حضورا مكثفا بكل صنوفها, وتشكل البنية شبه الكلية لمكونات السرد. فمن الشرائح النسوية, هناك الملكة والأميرة والسيدة مقابل الجارية والوصيفة والقوادة والقهرمانة, الجميلة والقبيحة, البيضاء والشقراء والسوادء, المتعففة والداعرة والمعربدة والمتولعة, الشابة والعجوز, ناهينا عن المحتالة والداهية, المشتكية والعياطة الهمازة والغمازة, والبكر والثيب, فيما تتراوح المرأة العجوز بين ذات الحيلة شواهي ذات الدواهي, أو المحتالة سعدانة, أو الخبيثة باكون.
أما شرائح الرجال, فتتفاوت كذلك بين الأمير بإزاء العبد والمخصي والخادم, وأغلبهم يقاسي الحب فيتعذب ويبكي ويشكو, وبعضهم يشرف علي الموت بسبب بعدهم عمن يحبون.
تتطوح هذه الشخوص بين دوائر من الاستبقاء والاستبعاد, بما يمكن من اختصارها في نموذجين أساسيين: السادة والعامة, وتجلياتها في الأميرة والعبد, وما يصل ويقطع بينهما من علاقات لها متكافئة.
ومع هذه العلاقات, وبرغمها, يبدو العبد كممثل لطبقة العامة متحينا كل فرصة لتحقيق مكبوتة مع الأميرة ممثلة طبقة السادة هكذا يضحي جسد هذه المرأة حلما يؤرق طبقة العامة, نتيجة احساس افرادها بالاحباط والخيبة في ظل نظام سياسي فرض علي هذه الطبقة العبودية والدونية ان العبد يظل في حال اشتهاء دائمة لجسد سيدته أو زوجة سيدة, وتلك حالة من رفض المهانة التي يتعرض لها, أو هي شعور بالانتقام من طبقة السادة, التي تستأثر بكل النساء, حرائركن أو وصيفات أو جوار.
وحين التحقق بين العبد وسيدته, تتداعي المسافة الفاصلة بين العبودية والسيادة: تستحيل سيدته مجرد امرأة, تحضر حرية العبد, تغيب السلطة, وتنهار التراتبية ولو قد انفضحت العلاقة فالخيانة هنا جرم في حق الملة, ومس بالتراتبية, وتهديد لقيمها هكذا تحدثنا حكايات الليالي, ما يعني انها تصوب في العمق نحو تعرية خطاب السلطة, فيما دلالاتها الجنسية تحيل إلي واقع اجتماعي وسياسي معايش, يتشيأ فيه البشر المهمشون.
ذلك انه, قد يبدو صحيحا أن هذه الحكايات راهنت علي معرفة جنسية, ولكنها تلك المعرفة التي لا توجد الا في مجتمع البضاعة والوسطاء السماسرة والنخاسين, حيث تسود التراتبية والتاريخ الهش الفاقد لامكانات صيرورته ونموه, والمكتنز بتقاليد بينة أو مطمورة يصعب فيها بحثه عن بديل أكثر كرامة.
قراءات:
وربما لهذا, وقعت الليالي بين قراءة التوصيف البرانية التي عولت علي معجمها الجنسي, وقراءة التأويل الجوانية الكاشفة عن أن هذا المعجم لا يمكن سبر غوره إلا في ضوء ملابساته الاجتماعية والسياسية بمايشي ان تلقي الليالي قطع مسار متعرج, لدرجة باتت فيها بمثابة حقل انتاج رمزي وصراعي بين مختلف قرائها, ساعد عليه تغير الاسئلة والأذواق والمعايير الثقافية والفكرية والسياسية.
هناك, مثل الباحث العراقي محسن جاسم الموسوي, من ركز علي صياغتها اللغوية ومعاييرها البيانية وعلاقات الدوال القائمة فيها, وهو ما قد يصم هذه المقاربة بالأحادية, مادامت لم تستحضر مدلولاتها الاجتماعية والسياسية.
وعكس هذه المحاولة, ثم قراءة سوسيولوجية, تزدحم بالمقاربات التاريخية والاسقاطات الأيديولوجية الجاهزة, علي نحو ما قدم عالم الاجتماع اللبناني خليل أحمد خليل, حين عاين هذا الأثر كانعكاس لفترة تاريخية, واختزله إلي سجل لمباذل الملوك والأمراء والتجار, وإلي صور مجسدة لعبودية المرأة وتسليط القمع عليها.
أما قراءة الباحث الجزائري جمال الدين بن الشيخ, فهي قراءة بيانية, تتناول هذا الأثر بوصفه نصوصا تخييلية, تمزج الواقع بالحلم, والتاريخي بالاسطوري, ومخزون الذاكرة بمنطق اللغات المرتجلة, بما يوحي لديه أنها نصوص مفتوحة, لم تتوقف عند صيغة ثابتة, ولم يبدعها شخص واحد, بل عرفت صياغات مختلفة واضافات متنوعة, وان ظلت نواتها الأساسية قائمة, بمقتضي تواصلها مع تلقائية المخيلة الشعبية.
وعندنا في مصر تعرضت الليالي لسوابق من الملاحقات والمصادرات, والاعتراف في أحيان: فقد صادرتها الحكومة المصرية مع أول طبعة لها عام1908, وطالب أعضاء بمجلس الشعب بإحراقها عام1978, ومعها كتاب( الفتوح المكية) لابن عربي, ورفع بعض المحامين دعوي لمصادرتها عام1998, لكن المحكمة رأت فيها تراثا انسانيا, وذلك علي الرغم من أنها كانت تدرس في المدارس الثانوية حتي الثمانينيات, ويوجد علي الانترنت الآن(146) موقعا مصريا وعربيا, تنشر نصها الكامل بالمجان.
ويأتي البلاغ المقدم حاليا إلي النائب العام لمصادرتها, كإشارة لانحطاط ثقافة التلقي, وفي ظروف ضعف شروط المقاومة المضادة أمام معسكر جاهلي, يرتدي من الأقنعة الزائفة ما لا صلة تجمعه بدين حنيف ليس فيه ما يصطدم بهذا العمل, أو يحرم الخوض في أمور الدنيا, بدعوي تنقية التراث من شوائبه مما يتناقض مع الاأخلاق والملة, وهو ما يتفق مع محاولات بدونه الثقافة التي نعيشها راهنا.
انها القراءة المتربصة, القائمة علي الادانة والتبخيس والتكفير, حين تضع قواعدها وضوابطها وممنوعاتها علي المخيال الشعبي, فتمدد الخطوط العريضة والخطاب المسموح به حول متطلباته, بحسب اختزالية أخلاقية تنبني علي اقامة تعارضات مزدوجة بين الفضيلة والاثم, وهو ما حدا بهذه القراءة أن تطمر حيوية الليالي, بوصفها تشكيلا جماليا بالغ الثراء والتنوع, ومنفتحا علي الثقافات الفارسية والهندية والعربية واليونانية والسريانية, وكاشفا لفجاجة البطريركية والتشيؤ والاستبداد, لكن المتربصين الجدد يريدون قضم ما تبقي لنا من أشواق انسانية.

د. محمد حافظ دياب



* الاهرام
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...