علي الشدوي - أقصر حكايات ألف ليلة وليلة.. حكاية الحمال والبنات

في مجلس ثلاث صبايا ( 1 )كان الموت حاضرا ينتظر أن يوجه ضربته الأخيرة إلى الخليفة هارون الرشيد ووزيره جعفر وسيافه مسرور وثلاثة صعاليك إضافة إلى حمال ، كانت رغبتهم في الحياة أقوى من غمهم وارتيابهم مما وقعوا فيه ، كان الخليفة أكثرهم رغبة في أن يبقى حيا في أي حال وبأي طريقة وتحت أي ظرف ، لقد اقترح على وزيره أن يعرفهن به لكن الوزير قال " هذا بعض ما تستحق " الأمر الذي استثار الخليفة فقال " لا ينبغي الهزل في وقت الجد ، كل منهما له وقت" ( 2 ) في مثل هذه الظروف وكما هي العادة في ألف ليلة وليلة لا ملجأ إلا إلى حكاية و لا منجى إلا أن تكون عجيبة وغريبة .

بالفعل فقد التفتت صبية وقالت " كل واحد منكم يحكي حكايته ، وما سبب مجيئه إلى مكاننا ، ثم يملس على رأسه ويروح إلى حال سبيله " ( 3 ) ، أول من تقدم الحمال قائلا " يا سيدتي أنا رجل حمال حملتني هذه الدلالة وأتت بي إلى هنا وجرى لي معكن ما جرى وهذا حديثي والسلام ، فقالت له ملس على رأسك ورح " ( 4 ) .
يثير حديث الحمال سلسلة من الأسئلة هي : هل ما تحدث به حكاية ؟ إذا كانت حكاية فهل هي حكاية عجيبة وغريبة ؟ وإذا كانت كذلك فما الذي يميزها عن الأنواع السردية الأخرى كالحكاية الشعبية والخرافة والحكاية الشطارية أو المرحة ؟ .
لو أجبت عن هذه الأسئلة بأن حديث الحمال حكاية ، أو أنه ليس حكاية فإن ذلك لن يغير شيئا من المهمة التي سأضطلع بها ، في الحالتين ينبغي أن أبين ما الذي جعل حديث الحمال حكاية عجيبة وغريبة ؟ أو ما الذي يجعله غير ذلك ؟ فلو قلت مثلا إن حديث الحمال ليس حكاية عجيبة وغريبة فلا بد من أن أحدد الانحرافات التي أبعدته عنها ، أو أن أقترح التعديلات المناسبة كي يصير حديث الحمال حكاية عجيبة وغريبة .
أول إشارة إلى أن حديث الحمال حكاية هو روايتها في ألف ليلة وليلة ، لو لم يكن حكاية لما روي في غابة سردية لا ينبت فيها إلا الحكاية ، الشرط الأساس لورود الحكاية في ألف ليلة وليلة هو أن تكون عجيبة وغريبة وقد تشددت شهرزاد في هذا الشرط إذ لا مناص من أن تكون الحكاية عجيبة وغريبة و إلا فإنها غير جديرة بأن تروى .
الإشارة الثانية إلى أن حديثه حكاية عجيبة وغريبة هي أنه ورد في سياق المقايضة : يحكي حكايته العجيبة والغريبة ثم يملس على رأسه أي يحكي ثم ينجو ، الإشارة الثالثة هي أثر هذه الحكاية ، لو لم يكن لهذه الحكاية أثر في الصبية لما رويت في ألف ليلة وليلة ، لقد عودتنا ألف ليلة وليلة على ألا تروي إلا الحكايات الجديرة بالإنقاذ من الموت وعلى امتداد حكاياتها العجيبة والغريبة تغمد السيوف وتطوى النطوع وهذا يعني أن هناك حكايات لم ترو لأنها لم تنقذ حياة أحد .
في حكاية الملك يونان والحكيم رويان ( 5 ) يقتل الملك الحكيم لا لشيء إلا لأنه لم يستطع أن يختار من معارفه الهائلة حكاية عجيبة وغريبة ، صحيح أنه نطق باسم الحكاية التي كاد أن يرويها ، قال للملك : " أيكون هذا جزائي منك فتجازيني مجازاة التمساح ، قال الملك وما حكاية التمساح ؟ " ( 6 ) ، لم يرو الحكيم هذه الحكاية فقد قال : " لا يمكنني أن أفولها وأنا في هذه الحال " ( 7 ) ، لم يكن يعرف أن وضعيته تستدعي حكاية عجيبة وغريبة ، وأن وظيفتها في مثل وضعيتة الخطرة هي " إعادة التوازن إلى علاقة مختلة " ( 8 ) .
إذن أثرت حكاية الحمال في الصبية مما يعني أنها حكاية عجيبة وغريبة الأمر الذي أثار رغبة شهرزاد في سردها ، لم يحك الحمال كي يخلد حكايته بل حكى لدفع سوء يحيق به وقد نجح في ذلك ، لقد أعادت الحكاية الطمأنينة إلتي افتقدها ، ورممت العلاقة التي اهتزت واضطربت حتى أنه رفض الخروج محتجا " والله ما أخرج حتى أسمع حديث رفقائي " ( 9 ) .
في أغلب حكايات ألف ليلة وليلة كنت أتعامل مع حكايات تقدمها شهرزاد على أنها عجيبة وغريبة ، حكايات طويلة تشغل بطولها أكثر من ليلة ، ليلتان أو ثلاث وقد تمتد إلى مائة ليلة كما هي حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان ( 10 ) أما حكاية الحمال فهي حكاية قصيرة جدا ، أربع عشرة كلمة لا غير ومع ذلك فهي عجيبة وغريبة وقد قالت ذلك شهرزاد ( 11 ) إذن يمكن أن تكون الحكاية العجيبة والغريبة طويلة مثلما يمكن أن تكون قصيرة .
لا تتضمن حكاية الحمال تفاصيل دقيقة مثلما هي أغلب حكايات ألف ليلة وليلة إنها تكتفي بالمسرود له ( يا سيدتي ) وتحديد السارد ( أنا رجل حمال ) وإشارة إلى المكان ( هنا ) وسبب وصول الحمال إلى هذا المكان ( حملتني هذه الدلالة ) لكن وفي المقابل لا بد من أن الصبية تعرف تفاصيل لم يقلها الحمال ، تفاصيل كلاهما يعرفان أنه يجب الحفاظ عليها سرا ، لم يصغ الحمال تلك التفاصيل ولم تتعرض لها الفتاة لذلك من المناسب أن أسردها خطوة خطوة مثلما يجب أن تسرد .

: 1-7تبدأ حكاية الحمال في سوق بغداد ، كان متكئا على قفصه حينما شاهد امرأة ، تابع الحمال المرأة وهي تتجه إليه ، هل كانت تعلم أنه يحدق فيها ؟ ربما فالنساء حساسات تجاه ثقل التحديق الذي يتمناهن ، كانت في أوج زينتها : إزار موصلي مفصل من حرير موشى بالذهب ، لم تكن تملك نفسها ، لعل الحمال هو أيضا لم يكن يملك نفسه ، وقفت عليه ونادته بصوتها الذي يشوبه أثر من لهاث " خذ قفصك واتبعني " ( 12 ) .
تبعها وهو غير مصدق كمن يرى حلما وهو يعرف أنه يحلم ويريد أن يستيقظ لكنه لا يستطيع ، هو في الخلف وهي في الأمام تدور به المحلات : الفاكهاني ، الجزار ، النقلي ، الحلواني ، العطار ، اشترت شيئا من كل شيء : فاكهة ، لحم ، حلوى ، عطور وزهور ، لم تنس أن تذكره أن يتبعها هو إلى حيث تريد هي ، كان طوع أمرها ، منح نفسه وقفصه لها ، شكل نفسه على الصورة التي تريد أن تراها فيه .
وقفت على إحدى الدور فاحتواه الامتداد الخاوي لرحبة فسيحة وبنيانها المشيد وأبوابها المصفحة بصفائح من ذهب ، تلقى انطباعا بأنه أقبل على دار غامضة تم بصورة متعمدة توسيع مساحتها ، طرقت الباب طرقا خفيفا فانفتحت مصراعاه ، انتابه شعور مفاجىء بكشف هائل للحجب يثير الذهول حيث رأى فتاة " رشيقة القد ، قاعدة النهد ، ذات حسن وجمال وقد واعتدال ، جبين كغرة الهلال ، وعيون كعيون الغزلان ، وحواجب كعيون رمضان ، وخدود كشقائق النعمان ، وفم كخاتم سليمان ، ووجه كالبدر في الإشراق ، ونهدين كرمانتين باتفاق ، وبطن مطوي تحت الثياب كطي السجل للكتاب " ( 13 ) ، لم تكن هذه الفتاة سوى بوابة الدار .
مشى في فراغ هائل ، لم يسبق له قط أن وقف أو مشى في فراغ هائل مثل ذلك ، كان يستعيد أرض المؤمنين الخالدة ، الجنة التي تحظى بالرضى الرباني حيث " قاعة فسيحة ، مزركشة ، مليحة ، ذات تراكيب ومصاطب وخزائن مسدلة عليها الستائر ، وفي وسط القاعة سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر منصوب عليه ناموسية من الأطلس الأحمر " ( 14 ) .
كانت هذه القاعة الفسيحة كالمنظر الطبيعي مهما يكن رائعا فسيظل ناقصا إذا كان بلا شمس ، كالجنة مهما كانت مدهشة فستظل تنقص شيئا ما بال حور عين ، بالفعل فقد كان في وسط القاعة على سرير من المرمر فتاة " بعيون بابلية ، وقامة ألفية ، ووجه يخجل الشمس المضيئة ، كأنها بعض الكواكب الدرية ، أو عقيلة عربية " ( 15 ) ، استغرق بعض الوقت كي يعتاد على هذا الجمال ، في وسط القاعة دار حوار بين هذه الصبية وبين الباقي من الصبايا ، موضوع الحوار هو أجرة الحمال والزيادة التي يستحقها ووجوب مغادرته المكان .
كان يستمع إلى حوارهن وهو غير مصدق أنه سيغادر هذا الجمال وسيتركه في الوقت الذي ظن بأنه توصل إليه لذلك شرع يقدم الحجة تلو الحجة من أجل أن يبقى ، كانت حججه تعتمد على الرقم ثلاثة فهن ثلاث صبايا والمنارة لا تقوم على ثلاث بل على أربع وهن ثلاث صبايا يحتجن إلى رابع يكون رجلا ذلك أن النساء لا يكتمل حظهن إلا بالرجال لا سيما مثله " الرجل العاقل الأمين الذي قرأ الكتب ، وطالع التواريخ والذي يظهر الجميل ويخفي القبيح " ( 16 ) .
وافقن على أن يبقى بعد أن قدرن ما بذل من جهد أثناء دورانه في السوق وحمله الأغراض ، بقي نهاره كله بينهن يكتشف عددا من احتمالات المتع التي لا تعد ولا تحصى ، أكلوا وشربوا وضحكوا ، كن مستعدات لتسليم أنفسهن إليه وكان هو راغب في استقبالهن ، جلس بينهن وهو لا يعرف أين هو ، ولا من هو ، وفي بحيرة صغيرة اقتدنه إلى أبعد مما تصور حتى أنه لم يكن بعرف أي جزء منه يتصل بالواقع وأي جزء منه يتصل بالحلم ( 17 ) .
لا شيء يدوم إلا انعدام الديمومة ففي المساء طلبن منه مغادرة المكان ، لم يكن الأمر هينا عليه إذ كان متعلقا بهن ، كان يعتقد أن هذا التعلق متبادل ، قد لا يكون التعلق غراما لكنه شبيه به وهذا ما اختلط على الحمال ، يبدو أن الفتاة التي جاء في صحبتها قد أعجبت به ، لم يكن إعجابها حبا بل إعجاب بمنادمته الصافية في صدقها ، بتصرفاته الخفيفة جدا لذلك قالت لهن " بحياتي عندكن تدعنه ينام عندنا نضحك عليه فهو خليع ظريف " ( 18 ) .
وافقن بشرط ألا يكون فضوليا ، أي لا يسأل عما يرى ولا عن سببه ، قاعدة هذه الدار مكتوبة بماء الذهب على بابها " لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك " ( 19 ) كان على الحمال أن يقرأ هذه القاعدة وأن يشهدهن على الامتثال لها ، بدأ سمرهم : أكل وشرب وغناء إلى أن حدث ما يعكر صفو السمر وهذا ما سنعرفه
هذه هي حكاية الحمال وسياق سردها ، الآن كيف أحلل هذه الحكاية لا سيما أننا عرفنا فيما سبق أنها حكاية عجيبة وغريبة ؟ هل أكتفي بالمبدأ الأخلاقي الذي يحكمها أعني عد م الفضول ؟ لا أشك لحظة في أننا يمكن أن نستخرج الحكمة الأخلاقية من أي نوع من أنواع السرد ذلك أن " البحث عن العبرة موضوعة من موضوعات الأدب السردي العربي " ( 20 ) لكنني أتصور أن حكاية الحمال ليست مروية لهذا السبب أعني المبدأ الأخلاقي الذي تنص عليه .
موضوع حكاية الحمال وثيق الارتباط بالموضوعات المهيمنة على حكايات ألف ليلة وليلة العجيبة والغريبة مع تحفظ بسيط هو أن الانتقال من مكان مألوف إلى مكان غير مألوف يمكن أن يحدث من غير أن يستلزم مسافة مكانية بعيدة أو مسافة زمانية طويلة ، إن انتقال الحمال البعيد جدا عن أن يكون سفرا خالصا يندمج بالعجيب والغريب ذلك أن الحمال مثل الرحالة أو المسافر يستحضر العجائب والغرائب حتى وإن لم يسافر حقا عبر البحار والأنهار والفيافي و الصحار ، ما يمكنني اختصاره في هذه الحكاية هو أن العجيب والغريب قد يكون على بعد حذفة حصاة .
الآن ماذا يعني أن يكون أحد ما حمالا ؟ لا أعتقد أن هناك مكانا يمكنني اعتباره مكانا للحمال أي لا يوجد مكان حقيقي له ، بهذا المعنى لا يوجد مكانا محددا للحمال ، أن يكون أحد ما حمالا فذلك يعني أنه يملأ فضاء الأمكنة ، وأن قدره هو عدم الاستقرار .
الانتقال عند الحمال أمر حتمي يستجيب له وينصاع لأوامره ، ليس لتنقل الحمال نهاية فحينما يصل إلى محطة يحط حمله ثم يعود في استراحة مؤقتة ليواصل بعدها تنقلاته ، لا يمكن لحمال أن يستقر في مكان واحد ، إن استقر فسيكون استقراره مهددا لعمله .
إذا كان ذلك كذلك فالحمال مؤهل لأن يخوض تجارب عديدة مثلما يخوض الرحالة أو المسافر ذلك أن السمات التي تؤلف صورة الحمال ليست غريبة عن سمات الرحالة أو المسافر ، إن سمات الحمال تقدم لنا انطباعا مسبقا عما يمكن أن يرويه وتحدد بقدر كبير استقبالنا له ، لن يسرد لنا الحمال المألوف والعادي والمكرر بل سيسرد لنا المدهش والعجيب الذي لا حدود له ، الغريب المنبعث من مخالفة المألوف وعلى هذا النحو تولد الحكاية العجيبة والغريبة .
إن حضور الشخصية المتنقلة في الأمكنة كالحمال والمسافر والرحالة هو الذي تقوم عليه بنية الحكاية العجيبة والغريبة لكن تنقل هذه الشخصيات في المكان والزمان لا يصلح أن يكون سمة للحكاية العجيبة والغريبة إذ لا بد من سرده العجيب والغريب ، لأقل إذن إن سمة أخرى تحدد الحكاية العجيبة والغريبة هي سرد العجائب والغرائب ، ما تسرده الشخصية المتنقلة من العجائب والغرائب ينتج عما شاهدته أو سمعته ، سمة ثالثة تحدد الحكاية العجيبة والغريبة هي العيان أو السماع .
في كل ما تحدثت به إلى الآن لم يغب الحمال عن بالي ، إنه في بؤرة الاهتمام ، حمالنا من بغداد ، لا تخبرنا الحكاية بأنه سافر خارجها ، أغلب الظن أنه لم يسافر ، لو سافر لحكى للصبية عجائب أسفاره وغرائبها ، ثم لماذا يسافر خارجها وهو مسافر دائما ؟ ، إنه يوميا يدخل أمكنة عجيبة ويصادف أشياء غريبة وينتقل من مفاجأة إلى أخرى ، من الدور الفخمة إلى الجمال النادر ، لقد كان حمالنا أعزب ( 21 ) والعزوبية تعني عدم إقامة علاقات مصاهرة تشده نحو هذا المكان أو ذاك .
فوق أنه أعزب فهو قارىء ومطلع قرأ الكتب وطالع التواريخ وحفظ الكثير من الأشعار استشهد بجملة منها تتعلق بكتم السر والمنادمة والغزل والرجاء ( 22 ) ، قبل أن يكون حمالا فهو إنسان قرأ كثيرا لكنه لم يختر من قراءاته حكاية عجيبة وغريبة كي يسردها ، لقد تقلصت قراءاته إلى دور ثانوي لأنه لم يجد فيها ما هو أعجب وأغرب مما رآه ، إن حكايته العجيبة والغريبة مشروطة بالعيان والمشاهدة ، الحمال رغم كونه قارئا إلا أنه شاهد كثيرا ومشاهداته أجدر بالسرد .
مشاهدات الحمال الأجدر بالسرد تذكرني بالرحالة ، من المعروف أن العيان يحظى عندهم بميزة لا شك فيها ، " العيان هو المصدر الرئيسي للحقيقة لأنه مكفول بتجربة الملاحظ " ( 23 ) ، الآن نعرف أن الرحالة العرب القدماء كانوا جغرافيين " والجغرافي هو قبل كل شيء إنسان قرأ كثيرا (24 ) لكن أثناء سرد غرائب الرحلة وعجائبها " يتقلص العنصر الكتبي إلى دور ثانوي ، لا يمكنه الاشتغال إلا إذا استحالت الملاحظة المباشرة ( 25 ) ، حمالنا لم يكن في حاجة إلى معرفته الكتبية ، إنه كالرحالة الذي لم يجبر على استخدام مروياته التي استقاها من الكتب .
فوق أنه مثقف فهو " خليع ظريف " ( 26 ) ، الخلاعة و الظرافة تعنيان الإبهار بحركات وأفكار غير متوقعة ، صفتان تعنيان الرقة الكاملة حتى وقت الألم ، التظاهر بالأدوار مع الإيمان بالدور الذي يجب أن يؤديه ، البهجة في غمار الغواية لا النقاء ، الانتصار المؤقت للطموح الوضيع على المثالية الشامخة ، الخلاعة والظرافة لا يعبر عنهما بالنطق بل يجب أن يعاشا .
الخلاعة والظرافة تساعدان على التنقل عبر الأوضاع الاجتماعية ومواقع الطبقات التراتبية وأشكال الحياة المختلفة وقد حدث مرارا في الثقافة العربية أن تدرج الظرفاء والخلعاء وتغلغلوا في الطبقات العليا في المجتمع .
إن سمتي الخلاعة والظرافة ليستا غريبتين عن سمات الحمال من حيث السفر عبر الطبقات الاجتماعية وأشكال الحياة ، لقد كان الحمال خليعا وظريفا وهما سمتان شفعتا له كي يبقى بين الصبايا لنعرف عجائبهن وغرائبهن ، إن حكاية عجيبة وغريبة لا يمكن أن يسردها إنسان عادي بل يجب أن يكون إنسانا عجيبا أي خليع وظريف ( 27 ) .
تنقل حمالنا عبر الأوضاع الاجتماعية واجتيازه عتبات البيوت لا يستلزم مسافة زمانية أو مكانية ، إنه من بغداد ويتحرك في فضائها الاجتماعي والمكاني وحينما دعته المرأة لم يكن مطلوبا منه إلا أن يسير خلفها مسافة السوق الذي يعرض أشياء ألفها : فاكهة ، لحم ، حلويات ، الخ .. ، إنه يطوف معها السوق من غير أن يكتشف لأنه لا يطوف في أرض غير مألوفة .
أينما عبر الحمال في السوق فهو في مكان مألوف ، لا يترتب على عبوره مصادفات عجيبة ، إن ما يراه ليس من طبيعته أن يلفت نظره لأنه مألوف ، لا عجيب ولا غريب في طريقه ومن ثم فلا دهشة ولا انبهار ، إن الانبهار حدث حينما تخطى عتبة باب الدار .
في أغلب حكايات ألف ليلة وليلة توجد العجائب والغرائب في أمكنة بعيدة ونائية أو غير مسماه أو أمكنة وهمية ليست مسجلة على أي خارطة ، لا ينطبق هذا على حكاية الحمال التي تجري أحداثها في مكان معين هو بغداد ومع ذلك فما شاهده عجيب وغريب بسبب عتبة الباب التي اجتازها ، دار الصبايا ليست بعيدة عن السوق ، إنها جزء منه لكنهما عالمان منفصلان تعين العتبة حدودهما .
فتح الباب وتجاوز العتبة في حكاية حمالنا يكتسيان في حكاية الحمال صبغة رمزية قوية لأنهما يفصلان بين عالمين مختلفين ، بين الداخل والخارج ، بين الفضاء المألوف والفضاء غير المألوف ، إن الأحداث العجيبة والغريبة في حكاية الحمال جرت في الجانب الآخر من الباب ، هناك في الداخل حيث حكى لنا كيف تسير الأمور ، لقد حكى لنا كيف تسير أمور الصبايا في هذه الدار والأحداث العجيبة والغريبة التي يضمها .
إن الباب يوحي بوجود جانب آخر ، إن له وظيفة مزدوجة ، يحمي ويحفظ ويقي من شر الداخل أو الخارج وهو في الوقت ذاته ينفتح على الداخل أو الخارج ميدان الغرابة ، ومن جهة أخرى يثير القلق لأنه ينفتح على الرعب والهلع والعجيب والغريب حتى في حالة ما إذا بقي مغلقا فإن وجوده كاف لأن يدل على ما خلفه ( 28 ) .
تبدأ حكاية الحمال ببداية النهار ، سوق مملوء بالناس ومئات من الحيوات المتشابكة ومهمتان أساسيتان وموغلتان في القدم هما البيع والشراء ، نهار الحمال ذاك لك يكن كسائر النهارات فهو نهار مبارك حتى أنه لم ير أبرك منه ( 29 ) ، نهار عمل من أوله إلى آخره مع امرأة فاتنة يثير جمالها أسوأ الهواء في الحمالين ، لا يمكن لامرأة بجمالها أن تهرب من شهوة الحمالين التي تثيرها .
لكن هل يمكن أن أتصور العكس ؟ أي هل يمكن أن تجري هذه الأحداث في الليل ؟ لا أتصور ذلك لأن عمل الحمال لا يؤيد هذا التصور ، الحمال كائن نهاري يمتد عمله من أول النهار إلى آخره لذلك فما وافقن على مبيته حتى شرع مباشرة في السمر حيث " قامت الدلالة وجهزت لهم مأكولا فأكلوا ثم أوقدوا الشمع والعود وقعدوا في أكل وشرب " ( 30 ) .
في هذه الأثناء سمعوا طرقا على الباب ، قامت إحدى الصبايا إلى الباب فرأت ثلاثة صعاليك فأدخلتهم بشرط عدم الفضول ، كان هؤلاء الصعاليك ذوو هيئات مرعبة ، لم يكن في قدرة الحمال أن يمضي الليل مع أناس غرباء وغريبين ذوي أشكال منذرة بالخطر ، كان إحساسه بالطمأنينة محض وهم أمام قلقه الناجم عن وجوده بين هؤلاء .
فجأة سألهم " هل معكم حكاية أو نادرة تسلوننا بها ؟ " ( 31 ) ، الآن يمكن أن يتسلى الحمال ، إنه في الليل ويمكن لحكاية أو نادرة أن تسليه و تهدىء من روعه ، الليل ظرف يناسب الحكي ، لماذا ؟ لأن " الناس في الليل غريبو الأطوار ، إذ أن أسرارهم تنمو أكثر من قدرتهم على الاحتفاظ بها وتحملها " ( 32 ) ، إن الليل يستخرج ما هو سر وأولئك الذين يتسامرون يعرفون كيف يحكون حكاية ؟ وكيف أن الحكاية زخم أسرار يتخذ شكلا حميميا بين السمار .
من المعلوم أن هناك أنواعا سردية لا تروى إلا في الليل ، النوع الذي لا بد من ذكره هنا هو الحكاية العجيبة والغريبة ، الحكايات المنعوتة بالعجيبة والغريبة لا ينبغي أن تروى إلا عندما تغيب الشمس و لا أدل على ذلك من كون شهرزاد تحكي في الليل وتسكت عن الكلام المباح عندما يلوح الصباح أثناء النهار يكون الكلام المتعلق بالحكاية العجيبة والغريبة ممنوعا ، " الأشياء العجيبة لا يجوز إثارتها إلا بالليل " ( 33 ) ، سمة أخرى من سمات الحكاية العجيبة والغريبة .
لا يبدو ظاهريا في حكاية الحمال ما يثير العجب أو الغرابة ، حمال ما يزال في حالة اجتماعية يشكل فيها النساء لغزا فاستسلم للافتتان ، هذا انطباع أولي لكن يجب ألا أستعجل فليس في هذه الحكاية ما يعطي شعورا بعدم عجائبيتها أكثر من التعجل .
تأمل هذه الحكاية يحتاج إلى مقاومة وتحمل أكثر مما يحتاج إلى سرعة وتعجل ، إنني أتصور أن العجيب والغريب في هذه الحكاية مضمونين في تصميم متزاحم حيث لا حادثة عرضية ولا مبتذلة وكل ما فيها بنية حكاية متماسكة في فوضى سجلها انطباعي الأول .
أول ما يثير الدهشة والتعجب هي الدار التي تسكنها الصبايا ، دار ليست بعيدة أو نائية مثلما هي أغلب الدور والقصور في ألف ليلة وليلة ، لم تكن الدار بعيدة لا في الزمان ولا في المكان كي يلعب الخيال بحرية بل هي دار ملتصقة بالسوق ، باب لا غير يفصلها عنه .
ما لم ندرك أن هذه الدار قريبة وداخل عالم مألوف هو السوق فإننا سنفقد دهشتنا وتعجبنا ، إن الدار تقع ضمن العالم المألوف لكن في الوقت ذاته يتوقف فيها العمل بما نعرفه من قوانين المألوف ، لا أحد يعرف على أي الصور سيكون في هذه الدار حيث الحقيقي والمحلوم به صارا واحدا .
كل شيء في هذه الدار مختلف كما يحدث في الأحلام : ضخامة القاعة الفسيحة والخزائن الضخمة والستائر والسرير ، أبعاد غير معقولة وفراغ هائل وتجهيزات مكونة من حدين أحدهما ذو طابع بصري ولآخر ذو طابع سمعي .
يكمن الطابع البصري في العلو في البناء وأبواب الأبنوس المصفحة بصفائح الذهب الأحمر أما الطابع السمعي فيكمن في الدفوف الموصلية والأعواد العراقية والجنك الأعجمية ، إن وصف الدار مشبع بما تراه العين وما تسمعه الأذن ، لا يوجد وصف واحد لا يقتضي أو يستدعي أحدهما ، ما يثير الهشة والتعجب هو أن هذا يحدث أيضا في السوق المجاور للدار حيث أصوات الباعة والدلالين وألوان المعروضات كالفواكه واللحم و الحلويات غير أن مقارنة ما يسمع أو يرى في السوق بما يسمع أو يرى في الدار ييسر لنا استيعاب عجائب هذه الدار .
تسير هذه الدار بنظام لا يخطر على بال ، نظام غريب عما يحدث في السوق المجاور ، في السوق البشر فضوليون ، يقلبون المعروضات ، يفتشونها ، يسألون عن مصادرها ، يفاوضون على أثمانها ، أحيانا يشترون وأغلب الأحيان يكتفون بإشباع فضولهم .
النظام في هذه الدار التي لا يفصلها عن السوق إلا باب نظام مختلف " مهما رأيت لا تسأل عنه ولا عن سببه ، لا تتكلم فيما يعنيك تسمع ما لا يرضيك " ( 34 ) ، إن التأثير الذي يتركه هذا النظام مرهون بما يحدث في الخارج حيث القانون السائد الذي يتوقف العمل به في الداخل ، ما بعد عتبة من المألوف هو التأثير الأولي للعجيب لكن الأعجب هو المفارقة بيت ما قبل الباب وما بعده ، العالمان اللذان يعين النظام حدودهما .
في هذه الدار يعيش الصبايا الثلاث وهن من عجائب خلق الله ، جمال نادر وآسر ، حشد من التشبيهات سأعيد ذكرها لأهميتها " جبين كغرة الهلال ، عيون كعيون الغزلان ، حواجب كهلال رمضان ، خدود مثل شقائق النعمان ، فم كخاتم سليمان ، وجه كالبدر ، نهدان كرمانتين ، بطن مطوي كطي السجل بالكتاب ، عيون بابلية ، قامة ألفية _ نسبة إلى الألف _ " ( 35 ) ، إن عناصر من الكون والطبيعة والثقافة تظافرت لتشكيل الصبايا .
تسرب إلى فضاء الحمال والصبايا ثلاثة أشخاص ، لم يكن من الممكن تسربهم لولا أنهم كانوا موضع فضول الصبايا ، إن ما جعلهم موضع فضول هو أنهم نسخ مكررة من بعضهم بعضا " ذقونهم محلوقة وشواربهم مبرومة وممشوقة والثلاثة عور بالعين الشمال " ( 36 ) ، ألحت الصبية التي فتحت الباب على دخولهم ، كان إلحاحها لهدف محدد هو أن لكل واحد منهم شكلا وصورة مضحكة فإن دخلوا فسيضحك الجميع عليهم .
لقد نظرت إليهم الصبية نظرة لا مبالاة ، لم تأخذ في اعتبارها عورهم وغربتهم بل أخذت في اعتبارها أن تشابه الثلاثة من " أعجب الاتفاق " ( 37 ) ، هذه العبارة تعني بمعنى ما الصدفة والصدفة كالعجيب جهل مدقع بالآلية المعقدة للأسباب .
لا يشتغل الضحك في حالة الشعور بالعزلة ، الضحك ممارسة جماعية ، إنه في حاجة إلى صدى الآخر : صديق ، صديق صديق ، كان الحمال والصبايا في غاية الانبساط والانشراح بعد أن انضم إليهم الثلاثة بشرط ألا يتكلموا فيما لا يعنيهم ، رضي الثلاثة وانخرطوا مباشرة مع المجموعة يأكلون ويشربون ، أخذ واحد منهم العود وأخذ الثاني الدف والثالث الطنبور وشرعوا في الغناء .
في الخارج كان الحوار دائرا بين الخليفة هارون الرشيد ووزيره جعفر وسيافه مسرور ( 38 ) :
- الخليفة : أريد أن ندخل هذه الدار ونشاهد أصحاب هذه الأصوات .
- جعفر : هؤلاء قوم سكارى ونخشى أن يصيبنا منهم شر .
- الخليفة : لا بد من دخولنا ولا بد من أن ندخل .
- جعفر : سمعا وطاعة .
هذا الحوار يحتكم إلى قانون ما قبل عتبة الصبايا ، إلى العالم المألوف ، عالم السوق حيث الفضول متواجد وفي المتناول دائما ، لكن ما بعد عتبة الدار من وجهة نظر الوزير العاقل مخيف ، إن عاقبة التطفل على بيوت الناس وخيمة ولا بد من حيلة لاقتحام العالم الغريب ، لقد كانت الحيلة متواجدة دائما للدخول إلى العالم العجيب والغريب من أجل الحصول على حكاية عجيبة وغريبة .
الفضول يحضر بقوة في الحكايات العجيبة والغريبة ، لولا الفضول لما ولدت الحكاية ، لا أبالغ إذا قلت إن الحكاية في ألف ليلة وليلة تتولد عن الفضول ، إن دراسة الفضول في هذا الكتاب الخالد من أمتع الموضوعات التي يمكن أن يطرقها باحث ، لقد علمنا كيف نكون فضوليين كي نكون قادرين على إدراك الحقائق المغايرة لحقائقنا الخاصة ، بهذا المعنى فهو كتاب الفضول ( 39 ) .
لقد كان فضول شهريار كاملا وهو يستمع إلى حكايات شهرزاد ، لم يكن فضوله ناقصا ، لو كان كذلك لما استمر يستمع بالحماس ذاته ثلاث سنوات وبضعة أشهر ، إن الأسفار التي تعج بها حكايات ألف ليلة وليلة هي قبل كل شيء استجابة للفضول ورغبة في اكتشاف أشياء جديدة وعلى امتداد ألف ليلة وليلة توجد عشرات الحيل التي تبرر الفضول كالكوارث والأقدار والصدف ، إن حكاية لا تولد من الفضول ولا تثيره لا تستحق أن تروى في كتاب الفضول ولا تستحق أن تكون حكاية عجيبة وغريبة لأنها لا تنقذ صاحبها ( 40 ) .
احتال جعفر على الصبايا ، قال إنهم تجار من طبريا ولهم في بغداد عشرة أيام وأنهم يسكنون في أحد الخانات وقد عزمهم أحد التجار وقد ضلوا الطريق وهم الآن غرباء ، بعد مشاورات سمحن لهم بالمبيت بشرط ألا يكونوا فضوليين ، لقد رضخوا لقانون اخترقوه قبل لحظة .
ما كادوا يهنؤون حتى حدث ما عكر صفوهم ( 41 ) :
- كلبتان مجنزرتان ضربتا من قبل أحد الصبايا .
- بعد أن ضربتهما ضمتهما إلى صدرها وهي في غاية الحزن .
- أثناء الضم كانت تجفف دموع الكلبتين .
- بعد الضرب شرعت إحداهن في الغناء الحزين .
- أثناء الغناء غشي على الصبية التي ضربت الكلبتين .
- حينما سقطت على الأرض انكشف جسدها فشاهد الجميع آثار ضرب رهيب .
- توالى سقوط الصبيتين وفي كل مرة يشاهد آثار الضرب .
كان رد فعل الجميع هو " التعجب من ذلك غاية العجب " ( 42 ) .
لماذا تعجبوا ؟ أتصور أن التعجب هنا مبني على جهلهم بالأسباب ، فلا أحد منهم يعرف لماذا جنزرت الكلبتان ؟ ولا لماذا تضربان ؟ ولا السبب الذي يدفع الصبية إلى البكاء ، إضافة إلى ذلك فهذه الأحداث ليست مألوفة وغير محسوبة من وجهة نظر الواقع المألوف فأي كلبة تجنزر كي تضرب وأي يضرب لكلبتين يتلو ذلك مسح لدموعهما ؟ وأي غشيان هذا الذي يحدث بالتناوب بين الصبايا الثلاث ؟ إن ما حدث في الدار عجيب ذلك أنه لم يطلع عليه أحد قبل هؤلاء .
بعد انتهاء هذه المشاهد دار حوار قصير بين الخليفة وجعفر ، وبين هذين من جهة والصعاليك الثلاثة من جهة أخرى وبين هؤلاء وبين الحمال ( 43 ) :
- الخليفة : جعفر ، أما تنظر إلى هذه المرأة وما عليها من أثر الضرب ؟ أنا لا أقدر أن أسكت على هذا ولا أستريح إلا إذا وقفت على خبر هذه الصبية وحقيقة خبر هاتين الكلبتين .
- جعفر : يا مولانا قد شرطوا علينا شرطا وهو ألا نتكلم إلا فيما يعنينا .
- الصعاليك الثلاثة : ليتنا ما دخلنا هذه الدار .
- الخليفة : لم ذلك ؟
- الصعاليك : اشتغل سرنا بهذا الأمر .
- الخليفة : أما أنتم من هذا البيت ؟
- الصعاليك : لا ، وما ظننا هذا الموضع إلا للرجل الذي عندكم .
- الحمال : والله ما رأيت هذا الموضع إلا هذه الليلة .
- الجميع : نحن سبعة رجال وهن ثلاث نساء وليس لهن رابعة فنسألهن عن حالهن فإن أجبن طوعا أجبننا كرها .
- جعفر : ما هذا رأي سديد ، دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطنا علينا شرطا فنوفي به .
- الخليفة : لم يبق لي صبر عن خبرهن .
- الجميع : من يسألهن ؟
- الحمال : أنا .
- الحمال : يا سيدتي سألتك بالله وأقسم عليك أن تخبرينا عن حال الكلبتين ، وبأي سبب تعاقبينهما ثم تعودين تبكين ؟ وأن تخبرينا عن سبب الضرب .
- الصبية : أصحيح ما يقوله ؟
- الجميع : نعم ، قالوا ذلك ماعدا جعفر .
الصبية : والله لقد آذيتموننا يا ضيوفنا أذية بالغة ، لقد اشترطنا عليكم أن من يتكلم فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه ، أما كفى أننا أدخلناكم منزلنا وأطعمناكم زادنا ؟ لكن لا ذنب لكم إنما الذنب لمن أوصلكم لنا .
شمرت عن ذراعها وضربت الأرض ثلاث ضربات ففتح باب خزانة وخرج منه سبعة عبيد وبأيديهم سيوف لامعة مسلولة .
- الصبية : كتفوا هؤلاء واربطوا بعضهم ببعض .
- العبيد : أتأذنين في ضرب رقابهم ؟
- الصبية : أمهلوهم ساعة حتى أسألهم عن حالهم قبل ضرب رقابهم .
هذا الحوار منقول نصا لأهميته الاستثنائية ، إن ترتيب الحوار يتوافق مع حيرة الجميع ، يتوافق مع الفوضى التي تطغى والمعاني التي تتشظى ، يعرف الجميع أن ما يحدث لا يجاري ما يعرفونه عن العالم المألوف وبذلك فهم مجبرون على أن يقوموا بمحاولات غير مألوفة في هذا المكان لفهم ما يحدث ، يتحدون القانون الذي قبلوه ، لم يكن لديهم أي فكرة عن أي ردة فعل ، المكان غريب وبذلك فتوقعاتهم تخبو لأن معطياتهم لا تستطيع أن تعمل بصورة صحيحة لقد حملوا معطياتهم معهم من الخارج ومن الطبيعي أن يتوقف العمل بها .
ما حدث أمامهم هو نشاز في المألوف وقد شرعوا يفكرون في تصحيح مسار الأحداث لكي تكون مألوفة ، لقد قامت الأحداث في هذا المكان على إرباكهم وبهذا أصبح عالمهم مشوشا ، إن الخليفة كما هي وظيفته مشغوف بنظام مألوف ، لم يكن يعلم أنه لا يشتغل إلا في مكان مألوف ، لم يكن بعرف أنه يدخل إلى مكان له نظامه الخاص .
إن المجهول لا يستساغ وهو بمعنى ما غير واقعي ، الواقع والمألوف الذي يعرفه هؤلاء منظم وواضح المعالم ، يعرفون قواعد تنظيمه وسيره لكن حينما دخلوا هذه الدار لم ينسوا ذلك النظام وتلك القواعد بل تصرفوا بمقتضاها فبدا ما يحدث عجيبا وغريبا .
" إن التأثير الذي يتركه العجيب مرهون بحقيقة مؤداها أن العالم الذي تطرحه يبدو عالمنا دون ريب ، لكن في الوقت ذاته يتوقف العمل بالمعاني الاعتيادية كما في الأحلام ، إن كل شيء يفيض بمعاني ضمنية ويصبح خطرا مضمرا وحتى عندما يتضح بأن خطأ معينا قد حصل فإن الخوف لا تقل وطأتـه ، تبقى الأفكار والأشياء والمواقف خاضعة لتداعيات مثبطة ، إذ يصبح كل إحساس بالطمأنينة والخلاص محض وهم أمام القلق الناجم عن الإدراك الذي قوامه أن المألوف يمكن أن يتخذ بل وينحو إلى اتخاذ أشكال غريبة ومنذرة بالخطر " ( 44 ) .
الحوار الأخير دار بين الصبية وبينهم ( 45 ) :
- الصبية : أخبروني بخبركم ، ما بقي من أعماركم إلا ساعة .
- الخليفة : عرفها بنا .
- جعفر : بعض ما تستحق .
- الخليفة : لا ينبغي الهزل وقت الجد ، كل منهما له وقت .
- الصبية : هل أنتم أخوة ؟
الصعاليك : لا والله ما نحن إلا فقراء .
-الصبية هل أنت أعور ؟
- الصعلوك الأول : لا والله ، غنما جرى لي أمر عجيب حين تلتفت عيني ولهذا الأمر حكاية لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر .
- الصبية : وأنت ؟
- الصعلوك الثاني : لا والله وقال مثل الأول .
الصبية : وأنت ؟
- الصعلوك الثالث : لا والله وقال مثل الأولين .
- الصبية : كل واحد منكم يحكي حكايته وما سبب مجيئه إلى مكاننا ثم يملس على رأسه ويروح .
- الحمال : يا سيدتي أنا رجل حمال حملتني هذه الدلالة وأتت بي إلى هنا وجرى لي معكن ما جرى وهذا حديثي والسلام .
- الصبية : ملس على رأسك ورح .
هكذا هي حكاية الحمال ، لقد تأملتها وهي تكبر وتزدهر ، إن التأمل المستمر معرفة أشبه ما تكون بمعرفة مجالسة طويلة .

ـــــــــــــــــــ



الهوامش


1- ألف ليلة وليلة ، مقابلة وتصحيح الشيخ محمد قطة العدوي ، دار صادر ، بيروت ، الحكاية في المجلد الأول من ص 25 إلى 31 .
2- نفسه ، ص 31 .
3 - نفسه ، ص 31 .
4- نفسه ، ص 31 .
5 - نفسه ، من ص 12 إلى ص 25 .
6 - نفسه ، ص 17 .
7 - نفسه ، ص 17 .
8 - عبد الفتاح كيليطو ، الأدب والغرابة ، دراسات بنيوية في الأدب العربي ، دار الطليعة ، بيروت الطبعة الأولى 1982 ، 104 .
9 - ألف ليلة وليلة ، سابق ص 31 .
10 - نفسه ، من ص 139 إلى 296 .
11 - نفسه ، ص 24 .
12 - نفسه ، ص 25 .
13 - نفسه ، ص 25 .
14 - نفسه ص ، 25 .
15 - نفسه ، ص 25 .
16 - نفسه ، ص 26 .
17 - نفسه ، ص 26 / 27 .
18 - نفسه ، ص 27 .
19 - نفسه ، 27 .
20 - عبد الفتاح كيليطو ، المقامات ، السرد والأنساق الثقافية ، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، دار توبقال للنشر ، الطبعة الأولى 1993 ، ص 211 .
21 - ألف ليلة وليلة ، سابق ، ص 25 .
22 - نفسه ، ص 26 .
23 - المقامات ، سابق ، ص 14 .
24 - نفسه ، ص 15 .
25 - نفسه ، ص 14 .
26 - ألف ليلة وليلة ، سابق ، ص 27 .
27 - ابن منظور ، لسان العرب ، دار صادر ، مادة ظرف .
28 - عبد الفتاح كيليطو ، الغائب ، دراسة في مقامة الحريري ، دار توبقال للنشر ، الطبعة الثانية 1997 ، ص 50 .
29 - ألف ليلة وليلة ، سابق 25 .
30 - نفسه ، ص 27 .
31 - نفسه ، ص 28 .
32 - راينر ماريا رلكه ، وليمة العائلة ، ترجمة حسين الموزاني ، منشورات الجمل ، ألمانيا 1998 ص 11 .
33 - الغائب ، سابق ، ص 11 .
34 - ألف ليلة وليلة ، سابق ، ص 27 .
35 - نفسه ، ص 25 .
36- نفسه ، ص28 .
37 - نفسه ، ص 28 .
38 - نفسه ، ص 28 .
39 - هذا الموضوع قيد الدراسة الآن وأرجو أن يخرج قريبا .
40 - من هذه الحكايات التي لم تثر فضول الملك حكاية التمساح ، انظر ألف ليلة وليلة ، سابق ، ص 17 .
41 - نفسه ، ص 28 .
42 - نفسه ، ص 29 .
43 - ت- ي- أيتر ، أدب الفنتازيا ، مدخل إلى الواقع ، ترجمة صبار سعدون السعدون ، دار المأمون للترجمة والنشر ن بغداد 1989 ، ص 14 .
44 - ألف ليلة وليلة ، سابق ن ص 31 .



ـــــــــــــــ
الفصل الأخير من كتاب : جماليات العجيب والغريب ، مدخل إلى ألف ليلة وليلة . علي الشدوي . نادي جدة الأدبي . 2004
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...