محمود سعيد - فتاتنا الحسناءُ الفاتنةُ الضّالّةُ تعود إلينا بعد أكثر من ألف سنة إلى مبدعها كريمة مصو

قبل أن أتطرق إلى الدّراسة أحبّ أن أقول إنّني أقوم لأوّل مرّة في حياتي بتقديم موضوع يتعلق برواية كنت ومازلت مفتوناً بها منذ أكثر من نصف قرن.

لم يسبق أن عرُّض كتاب في التّاريخ، لحملة تزييف وتلفيق وأكاذيب وتشويه ومنع كما تعرض هذا الكتاب العظيم: (ألفُ ليلةٍ وليلةٍ). فقد اتفق معظم من كتب عن هذا الكتاب من المشهورين والمغمورين، على إهانته والحطّ من قدره، وآخرهم كاتبة متواضعة تكتب بالفرنسة (فاطمة المرنيسى) التي ترجمت مقالتّها الأربعاء التّاسع عشر من كانون الثّاني، جنوري في جريدة الزّمان اللندنية. أجمع جميع البلداء وأنصاف المثقّفين أن حكاياتِه فارسيّة هندية عربيّة، وأنّها لم يكن لها مؤلف واحد، وأنّهم لا يعرفوا جامعها أو واضعها على هذه الصّورة، وحسب مقدمة طاهر الطّناحي في طبعة دار الهلال المصرية الخامسة عبارة مطاطة مقتبسة من دون شك يقول: يرجع الباحثون “لم يحدّد من هم” النّواة الأولى لألف ليلة وليلة إلى كتاب فارسيّ يدعى “هزار أفسانة” ومعناه ألف خرافة، ويستند على مصدرين: المسعودي، وابن النّديم. ولكن بعض المستشرقين كـ “ملر” و “نولدكة” تبنوا تلك الفكرة وحاولوا أن يثبتوها بتقسيم الحكايات إلى مستويات أو طبقات، يرجع معظمها إلى أصول غير عربيّة. ويوكد الطّناحي أن النّص الأخير أخذ من النّص المصري، ويعزي الجهد إلى المستشرق روزتنبرج، ويؤيده الكثيرون وكانت مطبعة بولاق قد طبعت الكتاب في سنة 1835. ولما كانوا لم يتعبوا أنفسهم في التّمحيص والدّرس فقد أثبتوا (كيف جنت عليه الأيام كثيرا، فقد تداولته الأيدي، ايدي النّساخ والقصاص والرّواة (والحكواتية) في المقاهي الشّعبية والأعياد، بالتّبديل والتّعديل والاضافة والحذف كثيرا. ثم جاء العصر الحديث، بمطابعه ودور نشره، فزاد مسخ الكتاب كثيرا وصرنا نطالع كلّ حين طبعة له تختلف عن سابقاتها، وكلّ فئة تريد ان تنسب الكتاب اليها وتعمد الى تحريفه وتغيير ألفاظه وأسماء أماكنه وبقاعه، لتزعم بأنّه ملك صرف لها. ولعل أفظع طعنة توجّه لها الزّعم بأن شكلها الحاليّ يرجح إلى القرن الرّابع عشر الميلادي 1500م)
هذا ما يتداوله العربيّ وغير العربيّ في إهانة الّليالي وتشويهها إلى حدّ الآن، بالرّغم من اعترافهم جميعاً بمدى تأثيرها في الآداب العالمية في معظم بقاع الأرض.

تُرجمت الّليالي متأخرة إلى الإنكليزيّة على يد السّير وليم هاي والسّير تيرنر ماكان، سنة 1839، بينما كانت ترجمتها الفرنسيّة أقدم على يد المستشرق الفرنسي انطوان جالان عام 1704م، وترجمها بتصرّف “مع الأسف الشّديد” ومع ذلك أصبحت قبلة للمترجمين إلى باقي اللغات، واستُعملت حكاياتها في قصص الأطفال. ويعتبرها الكثير من النقاد في العالم العمل الأدبيّ الأوّل والأهمّ في التّاريخ إن قوّمنا ذلك بتأثيرها في الأجيال فقد كانت مصدرا لإلهام الكثير من الكتاب والرّوائيين والشّعراء الرّسامين والموسيقيين، ومن منا لا يتذكر سيمفونية شهرزاد لينيكولاي ريمسكي كورسيكوف، ولو جمعنا الّلوحات الفنية الرّائعة المستوحاة منها لملأت مجلدات فيما فاقت الطّوابع الممتخيّلة لشخصياتها المئات في جميع أنحاء العالم، وأصبحت شخصيّاتها عملاقة خالدّة في معظم بلدان العالم كعلاء الدّين، وعلي بابا والأربعين حرامي والسّندباد البحريّ، وشهرزاد وشهريار الملك، والشّاطر حسن. واقتبس منها الكاتب الإيطالي الشّهير “بوكاشيو” “الأيام العشرة” واقتبس منها الكاتب الإنجليزي “شكسبير” موضوع مسرحيته “العبرة بالنّهاية”. وسار “شوسر” على نهج “بوكاشيو” فكتب “قصص كانتوبوري” على المنوال نفسه.

الّليالي رواية ألهمت مئات الكتاب غير العرب من إنكليز وفرنسيين وإسبان، وغيرهم منذ ترجمت وحتى الآن، فقد أشاد بها ماركيز، وقال صراحة أنّه اقتبس منها قصة قصيرة عن ميت يتذكر ساعاته الأخيرة، واستشهد بها بورخيس غير مرّة، وقال ستندال أتمنى أن يساعدني الله على محو ألف ليلة وليلة من ذاكرتي لكي أتمتّع بها عند قراءتها ثانية وقال عنها فولتير: لم أكتب الرّواية إلّا بعد قرائتي ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرّة، ولا يتّسع المقام لذكر من تأثر بها من العظماء، وغّنيت قصائد لم ترد إلّا في ألف ليلة وليلة على لسان أبدع المغنين والمغنيات العرب كأم كلثوم.

كثيراً ما كنتُ أتساءل كيف يُساء إلى كتاب عظيم كهذا ويشوّهه العارفون وأنصاف العارفين وأرباع الجهلة والأميين طيلة قرون ولا يتصدى لهذا الظّلام الشّاسع من يضيء شمعة، أو “فانوساً، أو يبعث بصيص نور ليقلع هذه الظّلمة الدّامسة والظّلم المتأصّل؟ حتى عثرت على مقال باحث عراقي (د. هادي حسن حمودي) في دراسة رائدة فريدة لا تضاهيها أيّ دراسة سابقة أو لاحقة في الأدب العربيّ في جريدة الحياة اللندنية في خمس حلقات Tue 27 Jan 1998، بعنوان رئيس وأخر ثانويّ: << الف ليلة وليلة تسترد مؤلفها وعمرها وبيئتها. ” مؤلف واحد وضع « الّليالي » بعدما خطط لها وقسمها على الحكايات.”

وكانت الجملة الأولى في الدّراسة: “قراءة متأنية في «ألف ليلة وليلة» تقودنا الى الاقتناع بأن هذا الكتاب الباقي على وجه الأيام له مؤلف واحد، وظهر في بيئة محددة المعالم واضحة القسمات”.
وكان منهج الباحث الرّشيد هو التّعرض إلى نقاط التّشويه وتزييفها وإظهار حكمها الجائر بأسلوب علميّ، فحَسبَ رأي الأميّين وأنصاف المتعلمين والدّارسين أنّ نقاط ضعفها تنحصر في نقاط متعددة هي:
أ- إن الّليالي مضطربة لأن نسخها متعددة وكلّ نسخة تمتاز باحتوائها على موضوع لا يتواجد في النّسخ الأخرى، والتّشكيك بمحتوى نسخة يسري إلى التّشكيك بالنّسخ كلها.
ب- إن الّليالي ألّفت من قبل مجموعة من المؤلفين لا مولف واحد.
ج- إن الّليالي متعدّدة الأوطان والأقوام، فهي هنديّة، فارسيّة، عربيّة، وعراقيّة سوريّة مصريّة إيرانيّة روميّة وربما مريخية.
د- إن الكثير من قصص الّليالي أساطير وخزعبلات فارسيّة وهنديّة الخ، وهذا يعني أن زمن كتابتها يمتد عبر قرون عديدة. لذلك لجأ الباحث إلى إثبات نقاط متعددة تدور حول مبدأين بشكل علمي مقنع:
1- أن مؤلف الّليالي واحد. وهو محمد بن سكّرة الهاشميّ، البغداديّ، وهذا يعني أنها ليست متعدّدة المولّفين وليست متعدّدة الأوطان والأقوام.
2- بعد تعيينه مؤلف (ألفُ ليلةٍ وليلةٍ) لجأ إلى إثبات أنّها بغض النّظر عن المؤلف اكتسبت شخصيّتها البغداديّة المستقلّة. وهذا يعني تأكيداً للنقطة الأولى.
منهج الدّراسة.
في البدء لجأ المؤلف إلى تعداد النّسخ المشهورة لها وأين توجد، وهي نحو 11 نسخة، منها قطعة المعهد الشّرقي في جامعة شيكاغو، ويعود تاريخها الى القرن الرّابع، وهو القرن الّذي شهد وفاة محمد بن سكّرة الهاشمي، أو بعد وفاته بقليل. لكنه لم يعتمدها لأنها غير كاملة، ولم يعتمد النّسخ الأخرى لأسباب عدّة، لكنه توقف عند نسخة مكتبة حيدر أباد، اذ يعود تاريخ نسخها الى سنة 442 للهجرة، أي بعد 57 من وفاة مؤلفها. بحسب ما جاء في آخرها: («هذا ما وقع اليّ من نسخة الف ليلة وليلة، انتسختها في ظاهر مدينة الكوفة في الثّامن من شهر ربيع الأول، واتممت املاءها على طلاب القصص والاذكار في الخامس من رجب المرجب سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة للهجرة، على صاحبها وآله وصحبه السّلام، وكتبه الفقير الى رحمة ربه محمد كريم الدّين بن أحمد اللنكري»). واعتمدها أساساً للدّراسة.

الملاحظات:

الدّليل الأول:
تعبيرات الرّواية الخاصة بالمؤلف ومنها: عنوان الكتاب وتنظيمه مبني على الّليالي، وعددها مذكور في عنوانه، فلا بد، اذن، ان يكون ثمة كاتب واحد، خطّط لحكاياته وقسّمها على عدد معين من الّليالي، وكتبها من البداية إلى النّهاية. ولو كان للكتاب أكثر من مؤلف لاختفت الفكرة الرّئيسيّة من الكتاب، وأصبح كلّ كاتب جديد يضيف ما شاء من الحكايات، ولن يكون هناك حدّ معيّن لليالي، ولا للفكرة الرّئيسيّة فيه، ولا للخاتمة التي وصل اليها الكتاب.
2- أسلوب التّعبير في جميع الحكايات متماثل، في نسخة حيدر آباد، أما النّسخ الأخرى فتتعدد أساليبها وتتغير باسم التّنقيح والذّوق والمحافظة على الحياء العام، ما أدّى الى وقوع اختلافات جمّة في الأساليب. ومع ذلك حافظت النّسخ المزيفة على شيء قليل من أصل الكتاب فاقتبست جميعها التّعبير الآتي: «وكّل واحد منهما (شهريار وأخاه) حاكم عادل في رعيته مدة عشرين سنة» وهي جملة وردت في أولى الحكايات. وتردّدت نفسها: في أكثر من حكاية، منها «حكاية عمر النّعمان» و«حكاية أنيس الجليس».
وتردّدت جملة «فحمل عنده غمّ زائد واصفرّ لونه وضعف جسمه» في حكاية أنيس الجليس. ثم في حكاية «شاه زمان» وحكاية «شركان وأخيه ضوء المكان» وحكاية «أيوّب وقوت القلوب».
وفي نسخة حيدر آباد بدا لدى المؤلّف ذخيرة من التّعابير والجمل التي تشكل أساسا للكتابة، بحيث يعيدها كلما سنحت له الفرصة، بدءا من أولى الحكايات والى آخر ليلة من الّليالي. ويمكن الإشارة إلى جانب منها، هنا:
أوّلاً: بعض الأساليب وردت في النّسخة المعتمدة بين 200 و250 مرّة موزّعة على الكتاب كلّه، وقد يتكرّر بعضها في ليلة واحدة، وخصوصا اذا كانت الليلة طويلة بعض الشّيء، ويستحيل استحالة باتّة أن يشترك غير كاتب بجملة واحدة يردّدونها في كتاباتهم، وبعض الجمل هي:
أ- طار عقله من رأسه: واذا بالجواري وسيدتهم دخلوا مع العبيد وفعلوا كما قال أخوه واستمرّوا كذلك الى العصر. فلما رأى الملك شهريار ذلك الأمر طار عقله من رأسه. وهذا التّعبير مازلنا نستعمله في العراق.
ب – وأعلن بالبكاء والنّحيب، أو وأعلن الثّلاثة الشّيوخ بالبكاء والعويل والنّحيب.
ج- وأنا سكران من غير مدام من كثرة الفرح والسّرور، أو سكران من فرط الغرام
ثانياً: بعض الأساليب وردت بين 150 الى 200 مرة:
أ- فإن روحي وصلت الى قدمي. فان روحي نزلت الى ساقي. فان قلبي نزل الى قدمي. والتّعبير الأخير (قلبي نزل الى قدمي) مازلنا نستعمله في العراق إلى حدّ الآن.
ب- ان كنت نائما فاستيقظ (وتعاد هذه الجملة في جميع المواضع التي فيها تحذير أو تنبيه من غفلة، أو تهديد أمن، أو التّخويف).
ج- ( كلمة الماجور- ويعني بها القدر. وكلمة حطّ ويعني بها وضع) وربما كانت الأولى تستعمل آنذاك، لكنّها اختفتْ الآن. لكنّنا مازلنا نستعمل في العراق كلة حطّ بمعنى وضع: ” ثم أخذ السّمك ودخل به منزله وأتى بماجور ثم ملأه ماءً وحطّ فيه السّمك.”، “ثم أخذ الّلحم الضّانيّ ودخل به منزله وقال لامرأته هاتي الماجور وحطّي فيه اللحم الضّانيّ واملأيه ماءً وضعيه على النّار.”
ثالثّاً: بعض الأساليب التي وردت تستعمل ما بين 100 و150 مرة:
أ- أسحر أهلها سمكا في وسطه. أي مسخهم بسحره.
نظر عبدالرّحمن الى البحيرة فوجد سمكها ألوانا وهم مسحورون.
ب- بنت الملك (أخذت بيدها سكينا مكتوبا عليها أسماء عبرانية/ خطت دائرة في الوسط وكتبت أسماء وطلاسم.)
ج- كلمة عَدَمْتُ بمعنى فقدت، أتلفتُ: عدمت ابنتي التي كانت تساوي مئة رجل،/ وعدمت اضراسي ومات خادمي؟ فعدمته العافية. وما زلنا في العراق نستعملها بهذا المعنى إلى حدّ الآن.
د- تعبير: ابشروا بهلاكنا/ أبشر بهلاك ابنك وهتك حرمة ابنتك./ابشر بزوال ملكك.
هـ- كلمة المغناطيس والالتّصاق. /لأن الله وضع في حجر المغناطيس سرا.
و- عبارة: كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر/ لصار عبرة لمن اعتبر.
ز- كلمة طلع بمعنى ارتقى: ثم ان الخليفة طلع الى قصره. ثم ان الوزير طلع الى مرتبته. ثم ان حسن بدرالدّين طلع الى الدّيوان، ومعظم هذه التّعابير نستعملها إلى حدّ الآن في العراق. فنقول طلعت إلى الدّكان، وطلعت إلى العمل الخ، وطلعت إلى الدور الثاني.
رابعا: بعض الأساليب وردت في ما بين 50 – 100 مرة:
أ- تعبير “قام و” وهو لم يستعمل قط في غير ألف ليلة وليلة. “قمت و”هيأت حالي. “فقمت و”أخذت جواري معي. “قام من التّراب و”تعلق في السّحاب.
ب- كلمة: الدّهليز “القنال “. النّاموسية. فوجدنا دهليزا مفروشا /فمشينا في الدّهليز الى ان دخلنا قاعة مفروشة وفي صدرها سرير من المرمر مرصع بالدّر والجوهر، وعليه ناموسيّة من الأطلسي/ واذا بصبيّة خرجت من النّاموسية. ومازلنا إلى حد الآن نستعمل قام و، كلمة النّاموسيّة وكلمة الأطلسي (ونقصد بها الحرير) والدّهليز والقنال الدّاخلية).
خامساً: بعض الأساليب وردت بين 25 الى 50 مرة:
أ- وقدموا لنا السّماط فأكلنا حتى اكتفينا. “المائدة”
ب- وعملهم حجّابا عنده ويقصد عيّنهم.
ج- سلامتك من هذه الوقعة
د-والله ما بقيت أخرج من بيتي ثلاثة أيام.
هـ- يا سيد الأمراء وكهف الفقراء.
وكل هذه التّعبيرات مازلنا نستعملها وبكثرة مثل السّماط، وعمل بمعنى عين، وما بقيت إلى حدّ الآن في العاميّة العراقيّة باستثناء التّعبير الاخير.
سادساً: بعض الأساليب وردت في ما بين 10 الى 25 مرة:
أ- وقرأت القرآن على سبع روايات (وتارة بسبع روايات أو سبع قراءات)،
ب- وقرأت الكتب على أربابها ثم سرت منها حتى وصلت الى مدينة عامرة بالخبر.
ج- قد ولى عنها الشّتاء ببرده، وأقبل عليها الرّبيع بورده. ونستعملها إلى حدّ الآن.
د- فلما توفّي الوزير اخرجه خرجة عظيمة. أي شيّعه تشيعاً عظيما. ومازلنا نستعمله في العراق.
(هذه نماذج دالة عما وراءها من شواهد أسلوبيّة عدّة تؤكد أنّ مؤلف الّليالي كاتب واحد لأنّ من المستحيل ان يستعمل أكثر من كاتب الذّخيرة الّلغويّة الواحدة. فلكلّ كاتب قديما وحديثا معجمّه الّلغوي، وأسلوبه الّذي يمتاز به عن غيره. كما انّ من المستحيل ان تكون هذه الحكايات أساطير وخرافات شعبيّة لملمها ذلك الكاتب. بل العكس هو الصّحيح، حيث انّ كاتبا ما ألّف تلك الحكايات بقضّها وقضيضها، وكتبها، وأذاعها بين النّاس فانتشرت وأصبحت بمثابة الذّاكرة الشّعبية.)

الدّليل الثّاني:
(طرق التّجارة ومسارات القوافل طريقة أخرى لإثبات انّ «ألف ليلة وليلة» من ابداع كاتب واحد وزمن واحد وبيئة واحدة. فلو تعدّد الكاتبون، سواء كانوا من مدينة واحدة أم من مدن متعدّدة، وسواء كانوا في زمن واحد أو أزمان متعددة، على ما يريدنا كثير من الضّاربين بعصا الجهل ان نقتنع، لوجدنا اختلافا في وصف طرق التّجارة بين بغداد والشّام ومصر، مثلا، إذ انّ كلّ كاتب سيصف طرقا غير هذه المذكورة في «ألف ليلة وليلة» بحسب الطّريق الّذي يسلكه أبناء عصره ومدينته في تجارتهم ومواصلاتهم.) فالطّرق البريّة الآن تختلف عن طرق الماضي، ومع ذلك فكل ّكاتب الآن يعبّر بعبارات تختلف عن عبارات كاتب آخر إذا سافر مثلا بين بغداد وعمان، أو دمشق والقاهرة، أو البصرة ومكة. واليالي حافلة بوصف الطّرق بين مدينتين موجودتين تارة وبين مدينة موجودة ومكان آخر متخيّل كجبل قاف وما وراء بحر الظّلمات والجزائر الخالدّات التي تفصلها عن مدينة بغداد مسافة سبعين عاما للطّائر المجدّ في طيرانه، كما نقرأ في حكاية «الطّيور السّبعة» ومثلها قول شهرزاد في «حكاية الأحدب»: «وبلغني أيها الملك السّعيد أنّه كان في قديم الزّمان في بلاد الصّين». وفي «حكاية غانم بن أيوب»: «وكان في الجزائر الدّاخلة في بلاد الصّين وهي بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسّبعة قصور». وأماكن غامضة مخيفة، مليئة بالجن والعفاريت، ورحلات السّندباد البحري التي تدخل تارة بحر الظّلمات، وتارة البحور التي لا أسماء لها. وفي كلّ هذه الاماكن الحقيقيّة والمتخيّلة، يجري ذكر المواد والبضائع التّجاريّة المنتقلة من هذه المدينة إلى تلك، ومن ذلك البلد إلى هذا، وهي البضائع ذاتها تقريبا في جميع الحكايات، فلا فرق بين ما حملته قافلة قمر الزّمان، وما احتوت عليه قافلة علاء الدّين ابي الشّامات. وما كان السّندباد البحري يتاجر به. فالكاتب واحد ودرايته بالتّجارة لا تؤهله لأكثر من ذلك، ولو كان ثمة كتاب آخرون شاركوا في تأليف الكتاب لظهرت بضائع أخرى، واسماء سلع ووصف تعاملات أكثر من الموجود حاليا في الكتاب. وهناك وصف للتجارة مع الرّوم بمثل قوله: «وهم ناس غرباء قد حضروا بتجارة من أرض الرّوم» ومع الهند: «فسمع بي ملك الهند فأرسل في طلبي من أبي، وأرسل إليه هدايا وتحفا تصلح للملوك، فخرجت في قافلة من التّجارة متّجهة إلى بلاد الهند». ومع جزائر الابنوس الدّاخلة، وهي أماكن حقيقيّة وفي عصر المؤلف كان نهر دجلة يمثل شريانا من شرايين النّقل والتّجارة، حيث نقرأ في «حكاية الحمال والثّلاث بنات»: «فأردت ان أجهّز لي مركبا إلى البصرة، فجهّزت مركبا كبيرا وحملت فيها البضائع والمتاجر وما احتاج اليه! ولم نزل مسافرين فتاه بنا المركب، ودخل بحرا غير البحر الّذي نريده ولم نعلم بذلك مدّة، وطاب لنا الرّيح عشرة أيام، فلاحت لنا مدينة على بعد». وكانت هذه مدينة للمجوس، وبذلك نستطيع تحديد زمن كتابة هذه الحكاية في حوالى أواخر القرن الثّالثّ للهجرة، او ما قبله لأن القرن الثّالثّ شهد افتتاح نهر عظيم يربط ما بين شط العرب من جنوب أهوار العراق، ونهر قارون.

وتهتم الحكايات بذكر الرّوابط التّجاريّة بين بغداد والبصرة، وتذكر الطّرق الرّابطة بينهما ومملكة الملك اقناموس التي لا نعلم عنها إلّا «وكانت على البحر، والبحر متسع، وحولنا جزائر معدة للقتال، فأردت ان اتفرج على الجزائر». ويدخل العفاريت في التّجارة بين المدن، ولكنها جميعا، تقريبا، أسماء مدن لا وجود لها على وجه الأرض، «حكاية محمود البلخي» هناك وصف اكثر تفصيلا ودقة، مع المرور بالقدس وحلب ايضا، والموصل ثم الى بغداد، ووصف لرحلات إلى دمشق، والقاهرة

الدّليل الثّالثّ:
ولعل عدد ورود المدن في الرّواية دليل إيجابيّ على كون الكاتب واحد أولاً، وبغداديّ ثانياً.
فعلى سبيل المثال ورد اسم بغداد في الرّواية ووصف حاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها 478 مرة. دمشق والشّام ووصف بعض معالمها 68 مرة، القاهرة (أو مصر في بعض المواضع) 22 مرة، البصرة 18 مرة (ثم مدينة القدس 12 مرة، ومكة والمدينة المنورة معاً 10 مرات، ثم المدن الأخرى التي يأتي ذكرها عرضا مثل سمرقند وخراسان والهند والصّين وغيرها. مع ملاحظة التّوسع في وصف أحياء المدن العراقيّة بغداد والبصرة والموصل وذكر أخبارها بشموليّة واستيعاب أكثر من المدن الأخرى كدمشق وحلب والقاهرة والاسكندريّة ومدن إيران والهند)،
(وفي هذا دلالة على موطن الكاتب وبيئته، فمن الطّبيعي أن ابن المدينة أقدر من غيره على وصفها واضفاء مزيد من الدّقة على أوصافه، «وأهل مكة أدرى بشعابها)

الدّليل الرّابع:
الأشعار والأمثال: (إنّ تاريخ تلك الأشعار والأمثال، تساعدنا، كثيرا، في تحديد زمن التّأليف. فلو كان ثمة مجموعة من المؤلفين تعاقبت على تأليف هذه الحكايات، لظهرت في كلّ حكاية أشعار وأمثال تختلف عما وقع في حكايات أخرى. ولو امتدّت حكايات الكتاب الى القرن العاشر للهجرة على ما يريد بعض الكتاب تصويره، لظهرت أشعار من ذلك القرن أو ما سبقه. أما توقّف الحكايات عند أشعار القرن الرّابع وما سبقه، فيدلّ دلالة ساطعة على زمن التّأليف، بل ومكانه أيضا. منذ الحكاية الأولى تظهر الأشعار، وهي ما بين عشق وعتاب ومديح ووصف وشجاعة وفروسيّة، يستشهد بها أبطال الحكايات على ما هم فيه، أو بما ينسجم وحالهم ومتطلبات لحظتها.

بعض الاشعار يذكر لمرّة واحدة، وهذه أشعار قليلة لا تزيد عن خمسين نصاً. فأما الأشعار الأخرى أو التي تزيد عن ثلاثمئة نصّ، فقد أعيد بعضها مرّتين، وبعضها أكثر من ذلك. كما أنّ بعضاً منها أعيد بتغيير طفيف، بسبب رغبة المؤلّف في التّنويع، ولو كان الكتاب من تأليف مجموعة من المؤلّفين، لما برزت هذه الظّاهرة، اذ سيكون لكلّ واحد من المؤلفين قاموسه الشّعري المغاير، وميلُه الى شاعر معيّن، وذوقه في انتقاء الأشعار الى هذه الدّرجة أو تلك لقواميس الآخرين، فيستغني بما لديه من أشعار عن إعادة أشعار المؤلفين الآخرين أو تغيير بعض حروفها.
وعلى سبيل المثال، فإنّ قول الشّاعر:
قلْ للمليحة في الخمار الأسود = ماذا فعلت براهب متعبّد
يظهر مرة بهذا اللّفظ، ومرّة بألفاظ أخرى:
قلْ للمليحة في الخمار الأسود = ماذا فعلت براهب متزنر
أي يلبس الزّنار، وهو الحزام. وسبب التّغيير وجود بيت آخر على قافية الرّاء يريد مؤلفه أن يستشهد به. والتّغيير إحد ألعاب الشّعراء آنذاك ويظهر في مقامات بديع الزّمان الهمذاني (ت 498 هـ). وهو زميل ابن سكّرة وأحمد ابن فارس.
قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت المنام
كي استريح وتنطفي = نار تأجج في العظام
دنف تقلبه الأكف = على بساط من سهام
أما انا فكلما علمت = فهل لوصلك من دوام
حيث يمسك الرّاوية المعنى ويغيّر القافية الى:
قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت الوسن
كي استريح وتنطفي = نار تأجج في البدن
دنف تقلبه الأكف = أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من ثمن = ومرة اخرى يتم التّغيير الى:
قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت الرّقاد
كي استريح وتنطفي = نار تأجج في الفؤاد
دنف تقلبه الأكف = على بساط من سهاد
أما أنا فكما علمت = فهل لوصلك من سداد
ومرّة رابعة تمسك بطلة الحكاية المعنى والألفاظ وتغيّر القافية، بناء على طلب الخليفة هارون الرّشيد، فتقول:
قولي لطيفك ينثني = عن مضجعي وقت الهجوع
كي استريح وتنطفي = نار تأجج في الضّلوع
دنف تقلبه الأكف = على بساط من دموع
أما أنا فكما علمت = فهل لوصلك من رجوع
وهذه القصيدة تغنيها أم كلثوم.

ولو كان عصر التّأليف متأخرا عن القرن الرّابع كثيرا، لوجدنا استشهادا اضافيّا على هذه الابيات التي أوصلها بعض شعراء القرن السّابع الهجريّ الى ثمانين بيتا.
وهناك مجموعة من الأشعار تكرّرت في سبعة مواقع، وكرّر أبياتا بعينها أربع عشرة مرّة، وهي لشاعر واحد، هو العالم الّلغوي “أستاذه” ابو الحسين احمد بن فارس المتوفي سنة 395 للهجرة. ومن ذلك قوله:
ونفسك فز بها ان خفت ضيما = وخلّ الــدّار تنعي من بناها

ورواه مرّة «وخلّ الدّار تنعي من بكاها». كما أنّها تمثّل اهتماما خاصا من المؤلّف بها لقربه وصداقته للمؤلّف، لأنّه أعادها أكثر من غيرها. (أربع عشرة مرّة) ولا نظنّ بأنّ المصادفة هي التي قادته الى ذلك، ولا أنّ ابيات ابن فارس اجمل من غيرها. وأدل على ذلك المعنى من سواها، فثمة أبيات أكثر جمالا وعذوبة، وأقرب الى مواضع الاستشهاد من أبيات ابن فارس، ومع ذلك عُني بها المؤلّف كثيراً واعادها أكثر مما أعاد غيرها. فهل لهذه الإعادة دلالة تسعفنا في الوصول الى تخوم تحديد اسم مؤلف «الّليالي» وعصره وبيئته؟ نحسب ذلك، لأنّ الاهتمام بشعر ابن فارس وتكراره أكثر من غيره، يدلّ على صلة خاصّة بين المؤلّف وبين ذلك العالم الّلغوي الجليل، على ما سنراه لاحقا.

الدّليل الخامس:
العادات والتّقاليد. (ظاهرة الزّواج مثلا ظاهرة مشتركة بين العرب وغيرهم، والمسلمين وغيرهم باعتبارها ظاهرة اجتماعية دينيّة بالدّرجة الأولى، تفاصيلها تختلف من بلد الى آخر بل من مدينة الى أخرى، أحيانا، في داخل البلد الواحد نفسه. من يدفع المهر؟ أهل الزّوج أم الزّوجة؟ من يقوم بتأثيث بيت الزّوجية؟ قضايا العصمة! بعض البلدان العربيّة تمنح المرأة ذلك الحق، وبعضها الآخر لا يعترف به. مسألة إشهار الزّواج وإعلانه، قضايا الطّلاق وشروط وقوعه، مشكلات تعدّد الزّوجات بين الإباحة والمنع والبين بين!) ففي الّليالي طرق الزّواج العراقيّة هي السّائدة حتى الآن. يدفع الرّجل المهر، ولا تساهم المرأة إلّا بزينتها، الطّلاق قليل أشبه بالمعدوم، وكذلك الزّواج بثانية نادر جدا إلى آخره.

الدّليل السّادس:
أ- يذكر الكتاب أسماء شخصيات بغداديّة معينة، مثلاً ذكر اسم هارون الرّشيد أكثر من 300 مرة في طوايا الحكايات بينما لا يذكر أسماء الحكام الآخرين “عرب أو غير عرب” إلّا مرّة أو مرّتين، واذا كان ذكر هارون والأمين والمأمون يتمّ بتفصيل واستيعاب، فإن الآخرين يذكرون عرضا كأن تقول لك الّليالي «حدث في مصر في زمن الحاكم بأمر الله وتتوقّف وتتجاوزه بعيداً.
ب- كما نلاحظ أنّ أسماء الحكام والأمراء والولاة غالبا ما تكون لشخصيّات حقيقيّة حين تجري أحداث الحكاية في العراق، أمّا أسماء حكام وأمراء وولاة البلدان والأقاليم الأخرى فيذكرون من دون تفصيلات مهمّة، وربما من اسماء مختلقة غير واقعيّة مثل «طغميموس» حاكم همدان، وآخر اسمه «جانفه» حاكم الاسكندرية.
ج- يُعنى الكتاب كثيرا بأسماء بغداديّة مشهورة معروفة في الأدب والفن، كأبي نواس وابراهيم الموصليّ واسحق الموصليّ وابراهيم بن المهديّ، وأسماء جوارٍ تذكرهن كتب التّاريخ والأدب الأخرى ككتاب الأغانيّ لأبي الفرج الأصفهانيّ الّذي لولا نهجه العلميّ الواقعيّ لاقترب كثيرا من بعض سمات ليالي شهرزاد. ولا نكاد نجد في الكتاب أسماء أعلام آخرين من أقاليم أخرى، بل هو يكتفي أحيانا بالقول «وتوجه الى قاضي دمشق” أو «وأصدر والي مصر» أو “وكان في خراسان حاكم عادل فاهم” من دون ذكر اسمه أو صفاته”. وهذا دليل قويّ على الانتماء.

الدّليل السّابع:
من مضامين الكتاب التي تدلّ على توحّد الكاتب تكرّر أخلاق معيّنة بشكل متواتر، فلو كان للكتاب أكثر من مؤلّف لاختلف الميل إلى خلق موحد، فقد ركّز على الاقتصاد، وهو الاعتدال في التّصرف بالمال، أي استبعاد وذم الاسراف وتبديد الأموال على توافه الأمور، ونبذ البخل أيضاً. وتلك خصوصيّة يستحيل توافرها في مجموعة من النّاس اشتركوا في كتابة الّليالي. لأن لكل كاتب خلق يفضّله. ويصوغ المؤلف، عادة، ذلك المضمون صياغة متشابهة في كل موضع ذكره فيه. وكأنه يريد أن يقول أن المال الّذي يأتي بسهولة، كالميراث مثلا، يضيع بسهولة أيضا، وأنّ أصدقاء السّوء أكثر ضررا على المرء من أعدائه الظّاهرين المعروفين.

ويظهر هذا في أكثر من خمس عشرة حكاية من حكاياته الطّويلة، مثلاً في قصة علي نورالدّين وقوت القلوب.

وتتّفق القصص الخمس عشرة على وجود شاب يرث ميراثاً عظيماً ثم يصرفه على النّساء والشّراب والأصدقاء، حتى إذ يفلس لم يجد من يدعوه إلى وجبة واحدة.
يصل الكاتب إلى نتيجة: (عند هذه الجولة السّريعة التي قمنا بها في الحلقات السّابقة حول شكل الكتاب ومضامينه، وصلنا الى تحديد أن الكتاب لا يصح عزوه لأكثر من مؤلف واحد، وأن ذلك المؤلف عاش في بغداد وأنّه من أهل القرن الرّابع للهجرة. وبقي علينا إلوصول إلى تحديد أكثر دقّة، فربما أمكنتنا الشّواهد من تحديد اسم الكتاب بشكل يمكن الرّكون إليه.

في هذا القرن الرّابع ظهر العلماء الكبار الّذين تُعنى المؤلفات بهم عادة. مع جمهور من القصاصين والرّواة و«الحكواتية» على ما يطلق عليهم هذه الايام، بل أنّ بعض العلماء كانوا يمارسون ذلك النّوع من الانتاج الفكريّ والثّقافيّ، ونعني به كتابة القصص والحكايات.
فعلى سبيل المثال تتردّد أشعار صديق المؤلف أحمد بن فارس في «ألف ليلة وليلة» أكثر من غيرها من الأشعار والشّواهد وله يعود جذر «فن المقامات» في الأدب العربيّ، ذلك الفن الّذي أخذه منه تلميذه بديع الزّمان الهمذاني (ت 398 هـ) وطوّره وأبدع فيه مقاماته المعروفة اليوم.

أحمد بن فارس شيخ جليل كان التّلاميذ يسارعون اليه في أيّة مدينة حلّ والى أيّة مدينة ارتحل، حتى تجاوز تلامذته المئات من مختلف البلدان. وله كتب مشهورة جداً «مجمل اللغة» و«مقاييس اللغة» و«الصّاحبي» ولكن له كتابا بعنوان «قصص النّهار وسمر الليل» بحيث نفهم منه التّفات هذا العالم الكبير الى أهميّة الحكايات والقصص في تلك الايام. ومن المنطقيّ أنّ الأصدقاء الهمدانيّ وابن سكّرة كما يقال تتلمذا على يده، وبعد نضوج صداقاتهم وإبداعاتهم توجّه كلّ منهم نحو فنّ من الفنون.

وصف الثّعالبي ابن سكّرة الهاشمي في «يتيمة الدّهر» فقال: «هو شاعر متّسع الباع في أنواع الابداع، فائق في قول الطّرف والملح على الفحول والافراد، جارٍ في ميدان المجون والحكايات الدّالة عليه ما أراد. وكان يقال ببغداد: إنّ زمانا جاد بمثل ابن سكّرة وابن حجاج (شاعر وأديب عاصر ابن سكّرة) لعصر سخيّ جدا». يقول عنه شيخه وصديقه ابن فارس: «لم أجد مولعا بالجن والعفاريت وحكاياتهم أكثر من ابن الحسن محمّد بن سكّرة الهاشمي». ويصفه الذّهبي في «العبر» بأنه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق يعجب الخاص والعام. وفي «الشّذرات» نقرأ قريبا من ذلك. ومن هنا فقد تجمّع لابن سكّرة الهاشميّ ما لم يتجمّع لغيره من صفاتٍ تؤهّله لأن يكون هو المؤلف الحقيقيّ لـ «ألف ليلة وليلة». فهو:
1- تكرار شعر شيخه وصديقه ابن فارس أكثر من غيره في الّليالي.
2- هو نفسه معروفا بالقصص والحكايات.
3- بعض حكاياته تدخل في باب الخرافات والأساطير.
4- بعض حكاياته ينطوي على شيء من روح «المقامات» التي عرف بها شيخه ابن فارس، وصديقه الثّاني بديع الزّمان الهمذاني.
5- كثرة ورود أخبار الجن والعفاريت في حكاياته، حتى أنّ ابن فارس لم يجد أكثر منه ولعا بها.
6- وصف العلماء شعره بأنه شعر رائق راق، وان أسلوبه جميل يمتاز بالليونة والسّهولة وسلاسة المبنى، شعرا ونثرا.
7- كان لا يتحرج من ان يوصف بالمجون ولا بالسّخف، وهذه صفة مهمة لمن أراد ان يكون واضحاً وصريحاً فيما يعبّر عنه من مشاعر أبطال حكاياته وأوضاعهم في مختلف أحوالهم.
8- إنّه ابن بغداد مولدا ونشأة، فهو أعرف من غيره بشعابها وأسرارها وأخبارها وما تضمه بين جوانحها من إرث عريق من الأخبار والأمثال والأشعار وغيرها.
9- ونظرا إلى كون نسبه يعود الى أبي جعفر المنصور عن طريق علي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، فلا عجب أن نرى في الكتاب تلك العناية الفائقة بأخبار خلفاء بني العباس، وعلى الأخص هارون الرّشيد، كما لن نتعجب من اهتمامه بأخبار ابراهيم بن المهدي بن أبي جعفر المنصور وهو أحد كبار فناني زمانه بعد أن أبعد نفسه عن التّنافس مع الآخرين على الحكم والخلافة.
10- وصف في المصادر بصاحب الحكايات الرّائقة والاسمار الفائقة والخرافات التي تحبس الأنفاس. ولا نعرف في تراثنا كتابا تنطبق عليه هذه الأوصاف أكثر من كتاب «ألف ليلة وليلة».
11- ولا نعرف كاتبا آخر ينطبق عليه قول الذّهبي انه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق ىعجب الخاص والعام.
12- كان ابن سكّرة كثيرة الأسفار محبا للحياة، ولا شك في أنّه سافر الى مصر والى الشّام والى الأماكن التي ذكرها في كتابه وفي شعره.
13- كان له مجالسّ أنس وسمر في بغداد، يلتقي فيها بالتّجار والسّواح والزّائرين، فلا غرابة أن يكون على معرفة بطرق التّجارة والمواثيق التي تعقد بين التّجار في المساومة والبيع والشّراء.
14- استخدم في شعره أمثالا وحكما نجدها نفسها مستعملة أيضا في «ألف ليلة وليلة» وفي المواضيع ذاتها تقريبا.
15- ذكر في شعره اسماء لا نجدها إلّا في «ألف ليلة وليلة»، مثل دهنش (وهو اسم اطلقه على أحد عفاريت «ألف ليلة وليلة»، وشواهي (وهو اسم أطلقه على عجوز روميّة تآمرت لقتل شركان وأبيه في «ألف ليلة وليلة»، وتركاش (وهو أحد قواد التّرك في جيش عمر النّعمان في الّليالي). ولو كانت هذه الأسماء وغيرها من الاسماء شائعة لأمكن أن يقال أنه استعملها كما يستعملها غيره، إلّا أنّها اسماء نادرة الوجود والاستعمال، بل لا نجدها إلّا في «ألف ليلة وليلة» ما يجعلنا نعتقد بأن ابن سكّرة هو الّذي اختلقها خلقا واستعملها في شعره ونثره، أي في ديوانه وفي حكايات ليالي شهرزاد.
16- المعروف عن ابن سكّرة أنّه غزير الانتاج طويل النّفس في الكتابة، فلا نعجب أن يحدثنا ابن خلكان في «وفيات الأعيان» بأنّ ديوانه يضمّ خمسين ألف بيت، مما يساعدنا في أن نفهم طول نفسه في كتابة «ألف ليلة وليلة» نثراً، ما دام قد كتب خمسين ألف بيت شعرا.
17- وأخيراً فإنّه ابن القرن الرّابع الّذي عنه صدرت ليالي شهرزاد، إذ توفي سنة 385 هـ.
18- وجود حكايات يتحدث فيها المؤلف بضمير المتكلّم، ويستشهد بأشعار هي أشعار ابن سكّرة البغدادي نفسه:
أ- فلما خرجت من الحمام قمت فتفقدت مداسي فوجدته قد ضاع، فقلت في نفسي وأنا ممتلئ غيظا:
إليك أذم حمام ابن موسى = وإن فاق المنى طيبا وحرا
تكاثرت اللصوص عليه حتى = ليحفى من يطوف به ويعرى
ولم أفقد به ثوبا ولكن = دخلت (محمدا) وخرجت بشرا

يريد أنه خرج حافيا مثل بشر الحافي الزّاهد المشهور التي ترد أخباره في الّليالي.
ونجد القصة والأبيات نفسها في ديوان ابن سكّرة قالها بعد أن سرق نعاله في حمام ابن موسى.
ب- وهناك أشعار له كثيرة في الّليالي وفي ديوانه:
بليت ولا أقول بمن لأني = متى ما قلت من هو يعشقوه
حبيب قد نفى عني رقادي = فإن غمضت أيقظني أبوه
ج- فلما لامني فيه العاذلون والزّموني مفارقته كتبت إليه بدمع مقلتي بيتين أقول فيهما:
قالوا التّحى وستسلو عنه قلت لهم = هل يحسن الرّوض ما لم يطلع الزّهر
هل التحى طرفه السّاجي فأهجره = أم هل تزحزح عن أجفانه الحور
د- وهناك مواضع أخرى غير هذه نرى فيها شخصيّة ابن سكّرة البغداديّ الهاشميّ واضحة تماما في «ألف ليلة وليلة»، وبخاصة في حديثه عن نفسه واستشهاده بشعره في حوادث وقعت له فعلا، كما يقول المؤرخون.

(إن كل هذا يثبت الرّأي الّذي يراه الباحث من ضرورة تصحيح نسبة الكتاب الى مؤلفه أبي الحسن محمد بن عبدالله بن محمد المعروف بابن سكّرة الهاشمي البغدادي، الشّاعر المشهور الّذي توفي في بغداد يوم الأربعاء حادي عشر من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وثمانين وثلثمئة، وخلد الشّرق وسحره في ليالي شهرزاد العريقة.)




* محمود سعيد
فتاتنا الحسناءُ الفاتنةُ الضّالّةُ تعود إلينا بعد أكثر من ألف سنة إلى مبدعها كريمة مصونة. (ألفُ ليلةٍ وليلةٍ)
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...