عمر كوش - صورة الشرق الأقصى والعالم في حكايات «ألف ليلة وليلة»

لا شك في أن قصص وحكايات «ألف ليلة وليلة» سحرت مخيلة قرّائها وسامعيها على مرّ العصور، نظراً لما نسجته عن عوالم الشرق الأقصى الخلابة التي كانت مسرحاً للكثير من أحداثها، لا سيما قصص أبطالها البحرية، وفي مقدمهم السندباد البحري. فعرضت مشاهد متناثرة أخاذة عن الشرق، وعن بره الحضاري الكبير في الصين والهند، أو عن بحاره ومحيطاته المترامية الأطراف، التي تناثرت عليها مئات الجزر. ويتناول شمس الدين الكيلاني في كتابه «صورة الشرق الأقصى والعالم في حكايات ألف ليلة وليلة» (اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2008) ما ترويه تلك الحكايات عن الشرق الأقصى، مبيناً مدى انتمائها الحميم إلى المُتخيل العربي في العصر الوسيط، والكيفية التي عكست في سرديتها صورة العالم كما تجسد في الثقافة العربية، إذ نجد في كل ملمح أبرزته تلك الحكايات عن الهند والصين، وعن بحار الشرق الأقصى، وجزرها القريبة والبعيدة الغامضة، مصدره التخيُّلي في سجلات الثقافة العربية، ومدوناتها عن هذه العوالم، كما نراها بوضوح في مؤلفات: السيرافي، وبزرك، وابن بطوطة، والمسعودي، والإدريسي، وابن خرذابة، وغيرهم من الجغرافيين والرحالة، وأصحاب المدونات الأدبية، وأصحاب «العجائب»، كالقزويني، والدمشقي. وقد نتج من هذا التأليف الكثيف عن الشرق الأقصى أدباً قصصياً ثرياً، بما يتضمنه من مشاهد وحكايات واقعية، وأخرى مُتخيلة.
ويرى المؤلف أن «الليالي» سواء كانت من القصص التي بدأ في تأليفها الجهشياري، أم من نواة قصص هندي، أم غير ذلك، فإنها لم تكن على هذه الصورة بعينها التي استقرت عليه اليوم، أو في القرون الماضية، فالمترجم منها عن الهندية، أو العائد إلى الجهشياري لم يكن سوى النواة، أضيفت إليها قصص كثيرة، لا نستطيع أن نحدد تاريخها، وغدت بمجملها صورة لحياة شعوب الدولة الإسلامية، أو المتصلين بها. وبغض النظر عن الأصول الأولى للنواة المؤسسة لـ «الليالي»، فقد أضاف إليها التأليف العربي حكايات وأشخاصاً، وأوصافاً ومشاهد، جعلها تنصهر في عمق الثقافة العربية، لتصبح جزءاً من متنها، فعكست مُتخيلها عن العالم، وامتزجت العناصر الهندية، إن وجدت، في صلب حكاياها العربية، واكتسبت شخوصها روحاً عربية - إسلامية، وكستها الأخيرة لحماً ودماً وخيالاً، لذا لا يمكن التعامل مع هذا الأثر العظيم إلاّ بوصفه ينتمي إلى الأدب الشعبي العربي، وإلى عواطف الإنسان العربي وعقله، ورموزه، وقيمه ونسقه الثقافي.

وقدمت مغامرات السندباد البحري ورحلاته، التي احتلت موقع حبة العقد في الليالي، مشهداً مهماً من حكايات «ألف ليلة وليلة» البحرية، التي جمعت إلى جانب قصص بحرية أخرى، الكثير من قصص البحارة جوابي الآفاق، اختلط فيها خيال مؤلفيها المجهولين بجملة من الوقائع والمعارف عن برّ الشرق الأقصى وبحوره وجزره، بتصورات الجغرافيين العرب، وأصحاب مدوناتهم العجائبية عن هذا الشرق. وارتبطت رحلات السندباد البحري، والقصص البحرية الأخرى، في «الليالي» بعصور ازدهار الحضارة العربية، وبتطلعاتها للاتصال بالعالم، والتعرف إليه، وتبادل المنافع والأرزاق معه، وتميزت أيضاً، بالتقاطها المشاهد لماحاً، فهي لا تتوقف عند الوصف التفصيلي للمدن، بل ويتميّز وصفها بخلطه بين المدن وأيضاً بين أعلام التاريخ، والمواقيت، وكلما بعد المكان عن بلاد العرب، لاحظنا ازدياد الغموض والتعميم في ذكر البلدان، حتى تصبح خيالاً، فتبدو أجزاء الهند ومدنها متماثلة، وإذا توجه أبطالها شرقاً صادفوا، جزائر الكافور، والواق واق، وجزيرة النساء، وجزائر القرود، والكثير مما كان متداولاً بين العرب آنئذ عن عجائب الهند ومحيطاتها، وإذا كنا وجدنا بعض القصص التي تقع في أرض الهند تغلب عليها المواعظ والحكم، فذلك لأنها مقتبسة من الصورة الشائعة عن الهند، في ذهن العرب والمسلمين في العصر الوسيط.

وقد اشتملت «الليالي» على موضوعات شتى، منها الحكايات التاريخية، وتلك التي تعنى بأشخاص فعليين، والحكايات الرومانسية التي توزعت بين حكايا الخوارق، والتي مزجت الواقعي بالخيالي، واشتملت أيضاً على حكايات الأشقياء والشطار، التي مارست تأثيرها على الأدب الرومانسي. وهناك قصص الحب الجارف، وقصص المغامرات البحرية.

وقد تأثرت القصص البحرية إلى حد كبير بالرحلات البحرية العربية، كرحلة سليمان التاجر والرحلات التي سجلها بزرك بن شهريار في (عجائب الهند) عن بحار الشرق الأقصى، وجزرها، وبمؤلفات الجغرافيين العرب أمثال ابن حوقل، والاصطخري، والغرناطي، والإدريسي، وابن القيه، وأيضاً مصنفات الكوزمغرافيين، كابن الوردي، والقزويني، والدمشقي، إذ تضمنت تلك المعطيات المادة الأولية اللازمة لأي أدب قصصي كي يبني منها حكاياته البحرية، في قالب فني يرفعها إلى مستوى الأدب القصصي، وهو ما نجده في الكثير من الحكايات، التي يدخل البحر كعامل حاسم، أو ثانوي، في حياة أبطالها، وعكست التصورات العامة للجغرافية العربية وللرحلات العربية. واهتم الجغرافيون والرحالة العرب بموضوعات البحر بقصد المعرفة، أو لبسط تصورهم عن تلك البحار وجزرها وعوالمها، وبما تمتلئ به من حيوان ونبات، وعجائب وغرائب، من دون زخرف فني قصصي، فانتقلت تلك التصورات إلى حكايا «ألف ليلة وليلة».
وحظيت شعوب الشرق الأقصى بنظرة إيجابية من العرب، خالية إلى حد كبير من الاستعلاء، والعداء، وإذا استثنينا ما حملوه من معرفة غائمة عن الأطراف التي تنتهي عندهم بتخوم الشرق الأقصى، والتي اعتقدوا أنها الجزء غير المعمور من الأرض، فإنهم استطاعوا تكوين معرفة مهمة عن الهند والصين، والبحار والجزء المحيط بهما، فكان أن تصوروا أن هذا الشرق يحتل الزاوية الشرقية من العالم المعمور يحيطه (البحر المحيط) من الشرق والجنوب، والبراري القفراء التي تقطنها الشعوب الغامضة يأجوج ومأجوج في الشمال، وتقع الصين والهند في منطقة القلب منه، يحاذيهما في الجنوب (بحر الهند) وجزره المترامية في أطرافه المختلفة، وهو المجال الذي انطلقت إليه رحلات أبطال قصص البحر في «ألف ليلة وليلة». وتمثَّل العرب، في العصر الوسيط، معرفياً وتخيلياً، هذا العالم برمته بأطرافه المختلفة، وضمنوا هذا التمثُّل معارفهم وتخيلاتهم وأحكامهم، وتحيّزاتهم، فامتزجت في الصورة التي كونوها عنه، حدود معارفهم بمواقفهم الوجدانية، بأحكامهم ومعاييرهم، وبمروحة واسعة من الرموز والدلالات المستندة إلى مرجعياتهم الدينية والسياسية والمعرفية، التي شكلت بمجموعها القبّة الرمزية للثقافة العربية في العصر الوسيط.

ويرى المؤلف أنه في كل مرة تأتي «الليالي» على ذكر الصين والهند، تبرز نظرتها الإيجابية لهذين البلدين، وطغيان الطابع السلمي لعلاقة أبطالهما بهما، وهو ما يعكس النظرة التي اختزنتها الثقافة العربية عنهما. ففي الشرق وجد الرحالة العرب المسلمون والتجار، الحدود مفتوحة أمامهم، فأينما ذهبوا إلى الصين والهند، وجزر البحر الهندي الشهيرة، وجدوا جاليات إسلامية بانتظارهم.

ولم تخرج مناخات ألف ليلة وليلة، ولا تصورات أبطال قصصها ولياليها، عما تختزنه الثقافة العربية من موقف إيجابي، وسلمي، إن لم نقل ودي، من أهالي الصين والهند، والجزر المحيطة بهما، وفي كل مناسبة أتت فيها حوادث (الليالي) وحكاياتها، على ذكر الصين والهند تتجلى هذه النظرة المسالمة الهادئة، غير المتوترة منهما، ففي حكاية «قمر الزمان»، وحكاية «سيف الملوك»، أحد ملوك مصر في زمن النبي سليمان، تدور بعض حوادث تلك الحكايتين في بلاد الصين، وبلاد الهند، وسرنديب (سريلانكا)، وفي بحار الهند والصين، فيمتزج في وصف العفريت دهنش، في حكاية قمر الزمان، الذي رأى الملكة بدور وجمعها وهي نائمة بقمر الزمان، وكان سبباً في تعارف الحبيبين، وتعلقهما ببعض، ويمتزج في وصفه للصين الإعجاب بثرائها، ومكانتها، واتساع ملكها، وقوتها، بموقف غير عدائي، وهو ما يتفق مع روح النصوص العربية حول الصين، إذ يقول: «وهي بلاد الملك الغيور، صاحب الجزائر، والبحور، والسبعة قصور»، وعندما يأتي على ذكر ملك الصين، يعكس هذه النظرة نفسها، فيروي: «وأبو تلك الصبية ملك جبار، فارس كرار، يخوض بحار الأقطار في الليل والنهار، ولا يهاب الموت، ولا يخاف القوت، وهو صاحب جيوش وعساكر، وأقاليم وجزائر ومدن ودور، واسمه الملك الغيور». وأحد مظاهر غنى هذا الملك، وثرائه، أنه بنى لابنته حبيبة قمر الزمان، سبعة قصور «القصر الأول من بلور، والقصر الثاني من الرخام، والقصر الثالث من الحديد الصيني، والقصر السادس من الذهب، والقصر السابع من الجوهر». كما أن ملك الصين لم يتردد، بعد أن برأت ابنته (بدور) من المرض، بفضل قدوم قمر الزمان، من أن يزوجها له، وهو من أقصى بلاد العرب، في المغرب الأقصى، وهو ما يرمز إلى التقارب بين العالمين، وتقبل كل منهما للآخر. ويخلص المؤلف إلى القول بان الصورة الشاملة التي كونتها سردية الليالي عن الشرق، براً وبحراً، إنما كانت تنضح من بحر الثقافة العربية، ومن تصور هذه الثقافة للعالم في العصر الوسيط.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...