نقوس المهدي
كاتب
بقدر ما تبدو عليه حكايات (علاء الدين والمصباح السحري) و(علي بابا والاربعين حرامي)، وكذلك (رحلات السند باد البحري) متباينة ومختلفة في المبنى والسرد، الا انها تجتمع ايضا على مجموعة من المقومات التي تكاد ان تتكرر في اغلب حكايات شهرزاد: فهي تمتلك اولا مقومات السرد الامبراطوري، بمعنى انها تتسع للفضاءات الواسعة التي تتشكل منها آفاق توقعات القراء والمستمعين. فلا يبدو المكان وحده وقد تعرض للتمدد والاتساع وقد تسلط عليه وعي الحاكية ليضيف على ما لديه من معلومات جغرافية واخري تتشكل منها بذور المحكي. اذ ان الزمن نفسه قد أعيد تكوينه في ضوء هذا الوعي المتزايد بالمكتشفات الجغرافية والفلكية والمعرفة المستجدة بالشعوب الداخلة حديثا في مملكة الاسلام والاخرى الخارجة عنها او الغريبة عليها. كما ان الوعي بالمدينة وارقتها وأحشائها سرعان ما ازداد تعقيدا كلما تمحورت الصراعات وتعددت، وتبدت ما بين مهنة واخري، وفئة وثانية، قبل ان تجري الافتراضات المستجدة عن (العشيرة ) باتجاه الحرف والصناعات والطبقات، وبين هذه من جانب ومركز السلطة، ومراتبها من جانب آخر.
لكن الملاحظة التي يمكن ان تتسلط عليها دراية القارىء الناقد هي تلك التي تخص مكانة الفرد ازاء قوتين اساسيتين : الايديولوجية ومركز السلطة، فكلاهما يتلون في ضوء المصالح المتغيرة والثابتة، بما يدعو الفرد الى شحذ امكانياته من جانب والى تكوين خطاب مراوغ في أغلب الأحيان، يتواضع ليقترب، ويستعرض ما لديه ليغري، ويتمسكن ليشاغل الآخر، فيتشكل عنده خطابان، خاص وعام، كلاهما يكتسبان اهمية خاصة في المحكي، فيضيفان على السرد الشهرزادي سمته المراوغة ما بين استدراج ومشاكسة.
اما ميزة المحكي الاساس فهي تلك التي لا تنفك بموجبها العلاقة ما بين التركيب وهذه المقومات ؟ فالجانبان يتحدان دائما حتى عندما نرى فيهما وظائف متكررة كالتي تقرر مبدأ رحلة البحث عند السند باد البحري، اذ يمكن ان نتفق على أن الرغبة في الابحار والاتجار والمغامرة هي التي تتكون منها عوامل الرحلة المعلنة لدى السند باد؟ لكن اعادة تسمية الرغبة تحت محمولات أخرى كحب الاستطلاع من جانب واستدعاء القوى الخارقة من جانب آخر، يمكن ان تضع محركات الفعل في علاء الدين والمصباح السحري وكذلك في علي بابا تحت تبويب واحد يتيح لنا ان نتعامل معهما سوية وكأنها محركات ودوافع تشتغل في فضاء ما، مديني اولا، وامبراطوري ثانيا.
فضاء المحكي: الخربة
فاليتيم الطائش علاء الدين ييسر له طيشه ان ينتقيه المغربي الساحر، لما يعنيه طيشه من خروج على الانتظام الاجتماعي (والعائلي ) ويتيحه من خضوع لرغبة الساحر. فاليتيم المتحلل من الارتباطات والخارج عن طاعة أما قد يندفع في المغامرة، ويسترضيه الاغراء، وتستدرجه المكيدة. انه خلو من الارتباط، والانتماء، كما انه خلو من (العقل )، لكن هذه الميزة تجعله مفعولا فيه، عرضة لفعل الآخرين، كاستدراجهم له، وغوايتهم لرغباته، وايقاعهم به، بما يعني انه يمكن ان يكون مثيلا لغيره، كمعروف الاسكافي، في النتيجة : طريدا في خربة. اذ ان الاخيرة تعتبر مكانا هي الايواء الخال من الانتماء، انها الفضاء المهجور والمهمل ؟ وهامش المدن المنتجة، وكما يتموضع معروف الاسكافي بصفته طريدا في تلك الخربة، فان علاء الدين يجد نفسه مستسيغا لايواء مماثل، خرب هو الآخر يتمثل شاغله في شخصية المغربي الساحر. فالابرة التي تعرض عليه لا تواجه منه صدى او عزونا او تساؤلا، لانه مهيأ لالقاء نفسه في البديل الآتي. لكن الشخصية الهشة او الطريدة، اليتيمة او المكابدة، هي نتاج مجتمع محتدم ايضا، اما فرصها في النجاح، فلا تتحقق بدون عامل آخر، كالساحر وخاتمه والمصباح في علاء الدين، وكذلك الخربة والمارد في معروف الاسكافي. ولربما تبعدنا هذه القراءة عما نألقه عن السند باد وعلاء الدين، اي غوايتهما لكل ما فينا من حب للمفا مرة واوتياد المجهول، لكنها القراءة التي تتيح لنا ايضا التوغل في عمق حكايتيهما، :لك العمق الذي يختفي تحت غلاف السذاجة البادية.
ان الخربة هي الفضاء الذي يتحرر من ضغط المجتمع، وتنافسه، ولهذا فهي البديل الملء بالاغراب او لكل ما هو رعوي يلجأ اليه المكابد والمحتاج. انها النهاية التي يتأزم فيها المرء امام اليقين بالمحتم والمكتوب والفاجع، فيكون نداؤه المخذول استدعاء صافيا لقوى أخرى بديلة في فعاليتها وفعلها. ولهذا يأتي المارد الذي لم يسمع صوتا انسيا يقلق خلوته في الخربة منذ زمن، تماما كما هو مارد الصياد الذي يتحرك منه الكثير من السرد في الف ليلة وليلة. ان حضور المارد المستجيب للصوت الانسي ما هو الا ابوة الكون البديلة التي تقدم للمحروم كتلك الابوة التي يعرضها المغربي الساحر على علاء الدين. لكن القبول بالتعاقد الجديد مع هذه الابوة له فرصه المشحونة بالصعود والهبوط، وكلما كثرت هذه وتعددت انهمر السرد وانتشر.
كهف اللصوص:
وينبغي ان نتذكر ان شخصية الطفل اليتيم علاء الدين، طيشه وقلة درايته، تتكرر لدى عدد كبير من الشخوص، كما انها يمكن ان تتشكل منها ملامح العديدين الذين يتوزعون في السرديات ما بين الانذال وابطال الرومانس. فهي تمتلك بذرة التبذير والاسراف التي تنزرع لدى آخرين ورثوا عن آبائهم الكثير ليضيع منهم المال والجاه بعد حين، فتلزمهم الضرورة بالمكابدة والبحث. ولا يشذ السند باد البحري عن ذلك، فهو يخبر الحمال ببداياته التي دفعت به الى المغامرة،والبحث، فالإفلاس يولد الوعي، والوعي يستدعي المجازفة في مجتمع متنافس محتدم، والمغامرة لها جوانبها الضارة والمفيدة.
لكن هذه البذرة لا تظهر عند آخرين كعلي بابا، يكدون فلا يفلحون : فالمدينة يزدهر فيها الشقيق قاسم، اما الحطاب فعليه بخارجها، يجوبه ويكد فيه ويشقى، لكنه الهامش او الخارج المتاح الذي لا يستدعي منه تأمل المنافسة والمعركة المدينية المحتدمة. وكما ان الخربة تتلقى المحروم، فإن الفضاء الخارجي تتيسر فيه فرصة التمدد والمتابعة والاصغاء. انه فضاء لا منافسة فيا، فتأخذ شخصية الحطاب مداها، وحتى عندما يبصر القوافل الآتية ويتخفى، فان التخفي ما هو الا تقمص لدور آخر، هو دور الرقيب المستطلع ؟ وكل ما هو مستطلع متسلط على الآخر مهما كان نوعه ومكانته ووجاهته. ولهذا سرعان ما يرى ويسمع ويتنصت، ويصطاد الكلمة المفتاح : ( افتح ياسمسم ). ان النظرة الرقيبة المتسلطة هي المهيمنة هنا، ولابد لها من ان تصادر مصدر قوة الآخر، اي مفتاحه الشفاهي السحري، فيجري تبادل الادوار بسرعة فريدة، ما بين سارق مكين قوي نافذ وحطاب فقير مراقب.
ومرة أخرى فان (الموضع ) الذي يجد المرء نفسه فيه يمنحه الهوية الجديدة، و معها مجموعة الامتيازات التي تتيح له التحرر مما كان عليه، فيظهر على غير ما كان : تاجرا كبيرا كالسند باد يستضيفه الخليفة ويقربه الى مركز السلطة، او وجيها متنفذا يتزوج من ابنة السلطان كعلاء الدين، او معروف الاسكافي، وكذلك شخصية ذات شأن تجاري باذخ ومؤثر كعلي بابا. ان السرد في هذه الحالات يعيش تركيباته وتحولاته التي تتعاقد بشدة مع تقلبات الموقف والنظرة والشخوص.
المدينة واللصوصية :
ومع ذلك يصعب قرا،ة السرد بدراية تامة بمعزل عن مفهوم المكان من جانب وفضاءات الاستقبال في حينه من جانب آخر؛ كما يصعب ان تنبني مقومات هذا السرد بدون الوعي باستيطانها داخل مثل هذه التوقعات التي ربما تقبع في قاع هذا الوعي، في عمقه البعيد الذي يحيل على ذاكرة اوسع واعم.
فالمكان بصفاته المتباينة (مستدعيا للا بوة المزيفة او البديلة، او مستدرجا للقاء عند السند باد، او متيحا الهيمنة على الآخر عند علي بابا) ينتمي الى تقابلات على صعيد تركيبة المحكي مرة والى متسع امبراطوري كفضاء فاعل مرة اخري: فعلي بابا يقيم في خارج المدينة بحرية اكثر بعدما بدأ هامشيا ومسحوقا فيها، لكنه عندما يأتي بحمله من كهف اللصوص الذي تسلط على سره ومفتاحه السحري، فانا يستوطن المدينة قويا هذه المرة، بينما يأتيه اللصوص تباعا ليمارسوا عليه دوره الاسبق، اي التلصص ومن ثم الهيمنة بقصد الازاحة واستعادة ما فات (ويضمنه المال المسروق من الكهف )، لكن الاهم في قدوم كتائب استطلاعهم (اللص الاول، ثم الثاني، قبل قدوم رئيسهم نفسه بصحبة المتبقين في داخل قرب الزيت مستعدين للاجهاز على علي بابا وابنه وعائلته )، هو انهاء دابر المعرفة بسرهم، وبمفتاحهم السحري، اي انهم الأن يزاولون دور علي بابا؛ ولكن ليس في الخلاء، وانما في المدينة، ولهذا لابد من ان تستدعي ان ينة فعلا اوسع، ومشاركة اكبر من الافراد والحرفيين، فتجري الاستعانة ببابا مصطفى لترقيع جثة قاسم تجنبا للفلط حسب رأي مر جانة الخادمة، وهي استعانة تتكرر ثانية عندما يلجأ اليها اللصوص لمعرفة دار القتيل وشقيقه والتسلط عليها. كما ان (استطلاع ) اللصوص يقابله استطلاع مرجانة : فكما
تدفعهم الرغبة في معرفة دار علي بابا ومن ثم خداعه وقتله الى الاستعانة ببابا مصطفى ومن ثم التخفي وتبني هوية مزيفة جديدة (تاجر زيت غريب بالنسبة لشيخهم، وقرب الزيت بالنسبة للبقية )، فان مرجانة تلجأ الى الظن والتقصي ومن ثم الايقاع باللصوص. اي انها تستعين بالوسائل التي تتيح ارتقاء الشخصية ونفوذها إزاء الموقف ؛ وكلما اكثرت من هذه، تيسرت امامها فرصة الهيمنة على الاحداث، والتسلط عليها، فالمعرفة باللصوص ومساعيهم تعطيها هذه الغلبة، وتتيح لها ايضا استعادة (الموقف الساخر المفارق ) لصالح سيدها الساذج. فالأخير الذي يستضيف بدعة وسذاجة، لم يكن يعرف انه يعد العدة لفنائه، في تلك الوليمة، بينما كان شيخ اللصوص ينتظر اللحظة المناسبة للاجهاز عليه وعلى ولده حالما يعطي الاشارة للقرب التي يقيم فيها رفاقه اللصوص. ولولا رقابة مرجانة من جانب، وتدقيقها في الامر من جانب آخر، ودخول المصادفة (اي قلة الزيت في الدار) من جانب ثالث، لما تمكنت من إحباط المكيدة، ورد الامور الى نصابها، ووضع الحد لما يمكن ان يتشكل نهاية مثيلة لما آل اليه قاسم شقيق علي بابا المجازف. ان المعرفة هنا فاعلة في تركيبة السرد،لانها السرد المضاد؛ لكنها لا تشتغل بدون المصادفة التي تستكمل الحافز وتسنده.
لكن التعقيدات التالية، دخول اللصوص في المدينة واستعانتهم بالاستطلاعات والتجسس ومن ثم التخفي والتغرير، تأتي بصفتها مكونات أخرى تنتمي الى احشاء المدينة، حتى عندما تكون من بين (المقومات ) المتكررة في الحكايات الاخري، وعندما يبدو التقابل في الادوار وتبادل الامكنة والمواضع اساسيا في بناء الحكاية وتركيبها، فلان ذلك يستقيم مع مستلزمات المكان، فالهامش او الخلاء يحمل في داخله سره الخامد، كما هو حال كهف اللصوص، لولا تسلط استطلاع علي بابا عليه. وهذا التسلط يعني نقل السر الى مكانه المناسب وهو المدينة. لكن مثل هذه الاقامة في الخلاء لها مثيلاتها في الحكايات ما بين سراديب وكهوف ومناطق اقامة مقصية بقصد او بدون قصد. اما غاية هذه الاقامة (للكنوز او لسجينات المردة أو لصبيان الاباء الخائفين على سلامة ابنائهم ) فهي الابتعاد عما هو أهل بالسكان. وهكذا فان الانتماء للخلاء، يعني التخلي من كل انتماء، والطمع في فك الارتباط بالانس، وكذلك تأكيد تبعية المقصي وملكيته (مالا او ذهبا او كنزا او صبيا او صبية.
اما الدخول الى ما هوآهل، فيعني القبول بالمصادفة والمجازفة وتقلب الاحوال وتبدل الهويات : فهناك يأتي ساحر علاء الدين، مدعيا دور العم، بديل الاب : وهناك يحل شيخ اللصوص بزي تاجر زيت. فاللص لا يقدر على المثول داخل المدينة بغير لبوسها وهوياتها المقبولة، وكذلك متطلباتها وتعقيداتها الاخري، وهكذا،تقيم هذه في احشاء المدينة بينما
تلعب المصادفة دورا هامشيا شأن تمثلاتها الظاهرة في افعال المحكي. فقطعة الذهب العالقة باناء الكيل تحضر مصادفة في دار قاسم، لترى زوجه ذلك،وتكثر من المتابعة والاستطلاع ومن ثم المعرفة وتوريط قاسم الذي يعميه الطمع عن الحذر. ومقابل هذا الطمع وقلة الحذر،تظهر شخصية مرجانة مليئة باليقظة والحذر والوفاء. ولولا هذه المواصفات لقادت الرحلة المضادة (رحلة اللصوص ) الى نهاية علي بابا، تماما كما ان رحلة قاسم الخالعة من الحذر باتجاه الكهف تقوده الى الوقوع بين اللصوص.
أمتحان الفاعل :
ولولا المفتاح السحري لبدت حكاية علي بابا مدينية بامتياز، غنية بحركة الشخوص وافعالهم، وبتقابلات الادوار وتبادلاتها، ويتوافر الغنائم والرغبات الداعية الى الفعل والمحركة له. وما يتحقق فعلا في ضوء الرغبة وموضوعها لا يسعه ذلك في حكاية علاء الدين التي يتماثل فيها الشخوص مع الادواتي العجائبي، اي الخاتم المسحور وكذلك المصباح السحري، فالخاتم له فعله في مناقلة علاء الدين الى المدينة بعدما انفلق عليه كهف الغرائب والبائب، اما الكهف نفسه فلا يتماثل مع كهف علي بابا والاربعين حرامي، فالأخير صنيع الانس، ومخبأ المال المسروق، وما برابته غير آلة متحركة حسب النغمة الصوتية، قبل معرفتنا الحالية بإمكانيات الاستخدامات المماثلة للصورة والصوت. اما مغارة العجائب والغرائب فهي بديل للحياة الانسية، لها اسرارها وقدراتها التي تمنح نفسها بسهولة لغير الرائي او صاحب السر (عبر العجائبي او قراءة المكتوب ). لكن الكهف والمغارة يشكلان امتحانا للفاعل، لحكمته وحذره وبحثه اولا. وكلما كان غرا طالت المواجهة. ولهذا، يأتي الخارق، كالخاتم في اصبع علاء الدين، عونا له للخروج من تلك المغارة العجيبة، بينما لا يحتاج السند باد في مغارة الموت ( المقبرة ) الهندية لمثل هذا الخاتم بعدما اعتمد على سعيه المثابر للبقاء، وقتل الشركاء الاحياء ومصادرة غذائهم، لحين تتبع الحيوان المتسلل الى المقبرة - الكهف ومعرفة الشق البعيد للخروج منه محملا بالثروات التي تنقلها النسوة الشريكات للازواج الامرات الى هناك.
اما فعل المكان فلا يتأكد بدون اغراء المال، كما ان المال هو الذي يقود الى المركز: فالرغبة في المغامرة والاستطلاع عند السند باد لا تكتفي بدون ان يذكر للمستمعين انه لم يبلغ ما هو فيه من جاه ووجاهة لولا قدراته على جمع المال والجواهر والارزاق ؛ كما ان كنز اللصوص يتيح لعلي بابا الوجاهة والحضور في المدينة، ومثله مارد المصباح المسحور الذي يمكن رغبات علاء الدين من التحقق والانتشار حتى يصاهر السلطان، ويستميل العامة والخاصة، ويستحصل منهم التعاطف والاسناد. وبينما يجري الفعل في علي بابا بين الخلاء والمدينة، وبين الكهف والازقة وداري علي بابا وشقيقه قاسم، فان الفعل في علاء الدين يمتد بين الصين والمغرب، كما ان الخطاب القائم مع القص يتوزع وينشق بين اكثر من واحد، ما بين سلطان ووزير وعلاء الدين والساحر وشقيقه، ثم ما بين زوجة علاء الدين وفاطمة الصالحة (الحقيقية والمزيفة اي شقيق الساحر). ولولا تدفق تداعيات الوعي بالامبراطورية لما كثر التجوال بين هذه المساحات الشاسعة، لدرجة ان تنقيل القصور وغيرها ما بين بقعة واخري حسب استدعاءات صاحب المصباح للمردة يصبح من لوازم الفعل. لكن مخاطبة هذه التداعيات وكذلك أفاق توقعات المستمعين تستدعي التوسع في رقعة مملكة الاسلام، فحيث تم بلوغ الصين، يجد فيها الحاكي بغيته، مساحة قصية بعيدة، تتيح له حرية اوسع في مناقشة السلطان ووزيره، والدخول على خصوصياته، بعدما كان الرشيد في واحدة من الحكايات يخاطب احد الشعراء بسؤال عما يظنه من عقاب ينتظره بعد اطلاعه على احوال نساء الخليفة. وهكذا، يتيح المكان القص التجوال في القصر ومعرفة البوزيي وغيرته، ونقل الزوجة ابنة السلطان الى دار علاء الدين ليلا، والضحك من زوجها الصبي ابن الوزير، هذا المكان القصي، ييسر للحاكي ان يأتي بالمردة والمصابيح المسحورة والخواتم، ويدعها تتحرك ما بين شد وجذب بين مملكة الاسلام القصية وتلك القريبة الى المركز.
لكن الخطاب المتقلب للراوي يخفي الكثير ويضمر ما هو اكثر: فاذ يريد ان يتموضع في الخطاب السائد، يدين الساحر المغربي، ويقرنه بالقارة الافريقية، لكنه من الجانب الآخر يترك له ما يحقق حضورا وطفيانا في الفعل والدافع، كشيطان ملتن، فهو صاحب المعرفة بالمصباح، وهو صاحب الخاتم، وهو الذي جاء الى علاء الدين ليتبناه، قبل ان يقرر حسم علاقته به عند بوابة كهف العجائب والغرائب، كما ان شقيقه مستحضر الارواح له غديته ودافعه، اي الثأر لشقيقه بعدما قرأ الرمل وعرف ما حل به، لولا انه يقتل ناظمة الورعة ويتقمص دورها وشخصها، اي انه لا يقل عن السند باد، فالأخير يثأر ويقتل عندما تستدعي رغبته في البقاء، ذلك كما يفعل في مغارة الامرات في الهند. واذ يجري التعامل مع الوقائع والاحداث ضمن الزمن التعاقبي المعروف الذي يعتمده السرد التمثيلي، فإن مجموعة من الادوات الممكنة والغريبة او العجائبية (الرخ والنسور عند السند باد، والخواتم وقراءة الطالع واستحضار الارواح في علاء الدين ) تعيد تشكيل الزمن في ابعاد عمودية لا تستعاد افقية الا على ارض الامبراطورية. وهذه (الارض ) تنقض تكوينها وحضورها الفسلجي طبيعة العقيدة التي تنتشر في بقاع تستميلها بشكل او بآخر نظرة "وحدة الوجود" ولهذا تتخلى الارض عن مفهومها المحدد لتدخل في مفهوم الكون الذي تتداخل بموجبه الارض والماء والسماء، بما يتيح للعقيدة ان تفعل فعلها حتى عندما يسكن جزيرة الرحلة السابعة كغرة يحلقون في الاجواء مانعين السند باد من التسبيح لئلا تتسلط ضدهم الارادة التي يتنكرون لها.
أفق التوقعات :
اي اننا اذن بازاء مفهوم يتشكل منه ويؤثر فيه في الوقت نفسه افق التوقعات وفضاء الحياة والمرجعيات. ولهذا يصعب ان توجد بقعة تخلو من الحياة. فكل افق مسكون، وكل خربة تعيش حياة ما، وكل بحر تغمره الحيرات، بدرجات متفاوتة من الحضور وبانتماء متباين للزمان او لوجوهه الكثيرة، وهكذا، يطل فرس البحر، وتظهر عروسه، وتحطم سفنه اسماك ضخمة، وتظهر في شبكة الصياد قماقم الجن والمردة السجينة منذ امد سحيق. وكل فضاء تطير فيه المخلوقات من رخ وجن ؟ وكل ارض تتوزعها المدن والوديان والكهوف، والغا بات والملاجىء والممرات السرية. في هذه المملكة يبحر السند باد.
وتبتدىء مشكلة التعامل مع المحكي باشكاله ونسخه المدونة عندما تغيب هذه المعتقدات عن القارىء مرة او عندما يفرضها قسرا على الجانب (التجريبي) مرة اخري: فالسند باد مثلا ليس علاء الدين، كما انه ليس علي بابا. وعلى الرغم مما هو مشترك بين الشخوص مما مر ذكره، الا اننا ايضا بازاء منظور ينطلق منه السرد ويفرض حضوره فيه. فنحن نصفي للحاكي مارا بعلي بابا وعلاء الدين. وما جرى لهما وما خرجا به ومنه. ولكننا في رحلات السند باد نصفي الى الحاكي - الفاعل، متسلطا على السرد، سرده لما يعده تجربته وحياته : مؤطرا ذلك بنقد لتجربته السابقة غرا طائشا كعلاء الدين قبل ان يقر رأيه على المغامرة، ومشاركة التجار والبحارة. وبقار انتماء السارد - الفاعل الى فضاء المحكي وافق توقعات المستمع، الا انه يتباعد عن هذا الفضاء والافق، مصادرا الآخرين الذين يبعث في طلبهم كلما جلسوا عند ظلال قصره وبوابته، انه ينتقي شخوصه من المستمعين المقصيين، المنكودين، الذين تعوزهم لقمة العيش ويبحثون عن تزجية ساعة او ساعات في الاصغاء لدروس قد تكون هي دروس الخطاب السائد الذي ينتمي اليه السندباد.
خطاب السندباد:
واذ يتموضع الخطاب بين طرفي المغازلة والملاطفة والغواية والتلقين والتعليم والتوجيه، فانه يتوخي القبول ويرنو اليه. ولهذا ثمة ادانة للماضي، فلولا طيشه ما ضاع منه مال ابيه ؛ وهكذا تجري استمالة المستمع المنكود والمغلوب على امره بمثل هذا النقد الذاتي، بينما تجري الاحالة على زمن الرشيد بين أونة واخري لتتأكد لاحقا بذلك الاطراء الموضوع على لسان ملك سرندب، ومراسلة الرشيد التالية له ردا على وسالته، فرسالة الاول تتوخى الاستمالة والرضا والثناء، ورسالة الثاني تطل من عل، شاكرة متصالحة ظاهرا وعميقة النوديا لتحقيق السيادة وضمان انتماء تبعية سرندب. اما الدروس الكثيرة التي يأتي بها السند باد فلا تتعدى الجد والاجتهاد والمثابرة والذكاء والتلون وحب البقاء والاستناد الى الباري؟ تعالى عند الملمات والشدائد. اي اننا بإزاء خطاب الفئات النامية، التجارية والبروجوازية، في مدن مملكة الاسلام وهي تقيم علاقاتها مع الاطراف.
وحتى عندما نتخلى عما هو (وضعي) في التفسير باتجاه تبادل الادوار، تقابلها مرة وتعاكسها مرة اخري، نرى ان سيمفونية الفعل، ما بين صعود وهبوط، ارتقاع وانكسار، او نفسانية السرد ما بين حقيقة وحلم ويقين واشتباه لا يغيران من طبيعة الاستنتاج بشأن انتماء السرد الى مملكة الاسلام في عزها وانتشارها الوسيط.
لكن سرد الرحلة في الابتداء والانتهاء قد يتشاكل مع وظائف الحكي المعروفة. كما ان هذا الابتداء والانتهاء هو اعلاء لشأن المركز، عاصمة الخلافة ومستقرها ايام قوتها وحضورها، لان السند باد يقدم من بغداد الى الثغر الرئيسي بالبصرة، ومنها الى البحر. وهو في كل ذلك يبدي معرفة واسعة بالسفن، وصنا عتها، وعدتها، واشرعتها وملاحيها. ويجوب بها بحارا معروفة ايام الاتساع من جانب والبحث والترحال الجغرافي الكثير من جانب آخر. وبينما تتحدد رحلات الجغرافيين بالمعروف والمتواطىء بشأنه، وينضاف المسموع والمقروء الى ذلك، فان المسكوت عنه في المدونة يبقى كثيرا. فالفتوح لم تتحقق بدون مستطلعين وعارفين بجغرافية البلدان الجديدة، اما الذي يبقى خارج تخوم المكتشف والمسكون والعرضة للفتوحات، فانه يبدو بهيئات وتسميات كثيرة، كتلك التي يسقطها الحاكية على بعض (المجامل ) الافريقية، او تلك التي تدعو السند باد الى التكهن او التوتر والارتياب. وكل ما يثير لديه مثل هذه الاحاسيس يتجاوز الكوابيس مرة والاحلام مرة اخري، فيثيره كما هو امر السمك الضخم بحجم الجزيرة في عرض البحر، او كجزيرة أخرى تابعة لشبه القارة الهندية بسائسيها وخيولها عند الساحل، فهي تثير عنده اخيلة وتوقعات لما فيها من طقوس أنسية تنبني على اساس العلاقة بين حيوانات البر والبحر، وشأنه في ذلك كموقفه او رفاقه البحارة ازاء بيضة الرخ، او إزاء وادي الجواهر والحيات الذي تتجاور فيا الثروة والموت. الفنى والخطر وكأنه يجد في ذلك تلخيصا لتجربته، اي مغامرته التي لا يتحقق فيها المكسب بدون الخطر، انه مرة أخرى تستقر سفيتنه عند جبل لا مفر منه يعترض المسار داخل البحر، فتناول القردة من حبال السفينة واشرعتها، ليبقى على اليابسة يتهدده وصحبه عمالقة من اكلة لحوم البشر، لينجو بعد لأي والعمالقة يلقون بالاحجار على
زورق صنعه وصحبه من بقايا الخشب، او انه مرة أخرى نزيل قبيلة من الوحوش، يأكلون البشر، قبل ان يتمكن من الهرب ويلتقي ملكا ومملكة يجيد فيها صناعة السروج، فيحقق مكسبا، ورضا ملوكيا يتمثل بعرض الزواج عليه من ابنة الملك ؛ حتى يحين موتها، فيكون نصيبه ان يموت معها، ليحيا داخل مقبرة الاموات، مصادرا حياة الآخرين من امثاله ليضمن الاستمرار والحياة، ومن ثم المكسب الكبير الذي يتحقق من مجموع الثروة المقبورة مع الاموات وشركائهم، حسب الطقوس التي يقرنها بفئة هندية ما. اي ان السند باد بين الابتداء والانتهاء، الذهاب والاياب، لابد من ان يمر بتجربة فريدة وغريبة، لكنه في مثل هذه التجارب ليس عاطلا، وانما يبدي نفسه مكابدا ذكيا يستدرج مناصرة المصادفة مرة والقدرة مرة اخري، لكنه (بطل ) مديني اولا، له مهاراته وصنعته وحصافته ومقدرته، كما ان له حدوده التي تدفعه الى تكييف شجاعة بطل الرومانس الى ما يرتضيه مفهومه للبقاء والاستمرار، ما بين اسف على حال وطمع الى مال.
لكن السند باد بصفته منتوجا امبراطوريا لا يتورع عن تذليل المعاب بالحيلة، حتى عندما تضطره هذه الى المجاهرة بالخمرة المسكرة، فشيخ البحر في الرحلة الخامسة لا فرار منه بلا عصير العنب المنقوع تحت حرارة الشمس حتى درجة التخمر، فيكون سبيله للترويح عن نفسه اولا قبل استدراج شيخ البحر لديه، وضمان تأثيره فيه كخطوة اول نحو الفكاك منه والقضاء عليه.
اما عندما تقع الممالك التي تقوده الاقدار اليها خارج مملكة الاسلام، فثمة غرابة في سلوك اهلها، كتلك التي يلتقيها في الرحلة السابعة مثلا، او ثمة جهل بلفته العربية، كما هو الامر في الرحلة السادسة : فجزيرة سرندب لم تقع بعد بين ضفاف الامبراطورية، ولهذا جيء له بمترجم يحكي للعلك ما يقوله السند باد، اما معرفة السند باد بأهالي تلك البلاد، فانها تصبح من تحصيل الحاصل، اي من مصادرات السند باد للآخر: اذ ان ما ينظر اليه، ويتسلط عليه، يؤول الى امر معروف ومعروض وظاهر. وهكذا يبتدىء بنقل ما يراه الى المستمع المندهش. وكلما جرى التماس مع ممالك متمدنة، يظهر ثمة انحراف في الخطاب، يمكن للمستمع ان يقرأ فيه او يتابع نقدا مبطنا للبلاط العباسي الباذخ. فالملك في جزيرة سرندب يظهر الى الناس بمناد يمجد به وآخر يؤكد انسانيته، بواحد يطري ما هو عليه وآخر يعلن انه بشرمآله الموت والفناء. ولابد من ان تحتوي التقارير التي يأتي بها السارد - الفاعل الى الرشيد (بصحبة الرسالة التي يرفعها ملك سرندب ) بمثل هذه المعلومات.
اما النقد الاوسع الذي يحتمله الخطاب الامبراطوري، فهو ذلك الذي يأتي على لسان اهل البلاد التي يستطلعها السندباد:
ففي الرحلة السابعة تقول له زوجه، ابنة شيخ السوق المتوفي، انها مؤمنة على خلاف سكان المدينة. ولهذا تدعوه الى العودة معه الى مركز الخلافة. وبقار ما تعنيا العودة من وفاق ومصالحة واعتراف بقيمة المركز فانها تحتمل الدعوة الى اصلاح الحال في الاطراف المماثلة المتباينة مع هذا المركز في الرأي والمعتقد والسلوك. وبكلمة اخري، فان التغاير والتباين مع اخلاق المركز حسب ما ينقله السارد - الفاعل يعني ضمنا اعلاء حال على حساب الآخر: وليس مستغربا بعد ذلك ان يتماهى الخطاب السند بادي مع الخطاب الآمر، محيلا اليه، متموضعا في داخله. اما (البطل ) نفسه، فانه يتعرض للمحن، وتفعل به السنون ما تريد، لكنه مطمئن الى وضوح هويته متمثلة بتجارته التي تحفظها له المواثيق والاعتبارات التجارية السائدة في عصر تحقق فيه الفئات التجارية والمنتجة تقدما كبيرا وحضورا فاعلا. وهكذا، فعند خاتمة رحلة وبداية اخري، نواه منتظرا عند ميناء، ليتعرف برئيس الملاحين، الذي يعلمه بتجارة تقيم على ظهر سفيتنه لتاجر ضاع في البحر، فيكون مشهد التعارف وكذلك شهوده. ومرة أخرى فان مشاهد التعارف بين السند باد والبحارة والقبطان تحيل على مواثيق المركز وعهوده ايام ازدهار الامبراطورية واتساعها.
المرأة والمدن :
وحتى عندما يتسع السرد لاحتواء الحياة الداخلية للمدن، فإن المرأة فاعلا لا تتحدد بصورة واحدة. فالسند باد يحب زوجه الهندية، لكنه لا يتورع عن قتل مثيلاتها في مقبرة الأصوات. كما أن الزوجة في الرحلة السابعة تضحي بالكثير من أجل أن يكونا سوية في رحلة العودة. أما في علاء الدين. فإن الأميرة بدر البدور يستميلها الشاب بفصاحته وماله، لكنها تعاني من غفلة وقلة درية تجعلها عرضة للتغرير مرتين، من قبل المغربي الساحر ومصباحه الجديد الذي تستبدله بالقديم المسحور بدون معرفة منها بشأنه، ومرة أخرى من قبل شقيقا مستحضر الأرواح الذي يظهر لها بدور التقية فاطمة. لكن الذي يتخل عنه السرد هو ما يملأه المستمع أو القاريء فبدون أن يحيطها علاء الدين بأسرار المغامرة يصعب عليها أن تتعرف بما يجري ويدور. أي أن مقالب الأفعال المضادة تتحقق بواسطتها جراء جهلها دولا، وليس لضعف أساسي فيها. وعلى خلافها شخصية مرجانة. فهي لا تحتاج الى معلومات من علي بابا لإحباط اللصوص ومشروعهم، فدربتها ودرايتها وملاحظتها، تجعلها متسلطة على الآخر، عارفة به، مستعدة لإسقاطه في الفخ، ومثل هذا النوع من التشخيص، يجعل المحكي مرنا، قادرا على المشاكلة مرة والاضطراب مرة أخرى حاملا للبذرة الشاملة أو الكونية في داخلا، محيلا على محيط، ومستوعبا لأفق التوقعات ومتواطئا مع الفضاء القريب، بدون أن يبعده ذلك عما هو شامل وكوني يثير اهتمام الآخرين في شتى الأمكنة والمجتمعات والعصور وليس غريبا بعد ذلك أن تحقق هذه الحكايات حضورها الواسع في تاريخ الأداب طيلة عدة قرون. فمن هذه الحكايات تطل شهرزاد لتضمن تدفق الحكي، غناه وتعقيداته ومسراته، بوجوه عديدة متقلبة باستمرار تفري وتخاتل وتستدرج وتشاكس وتريح.
ولربما توجد مثل هذه القراءة مجموعة من الاستجابات والردود لدى القاريء، فلماذا يبدو المحكي متفاوتا هنا مع المدن في المقامات لبديع الزمان مثلا؟ إن المقامة تعني أكثر بالهامشي بحركته بين الأطراف والمركز وبتلونه واستجماعه اللعوب مرة والمضني المكابد مرة أخرى للامكانيات والمهارات، بقصد أن يتموضع داخل المجتمعات المحتدمة، من خلال مواهبه كصعلوك ومتشرد عرف الشعر وخبره صنعة وبضاعة قابلة للبين من جانب والتعريف بحاله من جانب أخر. إنه ليس السند باد الذي يتيم شخصه بنفسه داخل سرده ليعيد ترتيب المشاهدات والانطباعات داخل إطار يمتد بين المركز والأطراف، قبيل العودة ثانية الى المركز منتصرا محققا مزيدا من النجاح والمصالحة والوجاهة داخل سلطة هذا المركز ولربما تختلط في تكويناته السردية في المحكي الوقائع بالرغبات، فيبدو كل ما هو مهدد له بصورة القردة التي تقرض الحبال والغول الذي يأكل البشر والأفاعي الضخمة التي تبتلع البشر. فكل ما يخرج عن الانتظام الذي يعرفه أو ينشده لابد أن يكون مهددا وخطيرا. واذ تقصي حكايته الحضور وتموضعهم في مائدة الاستفادة والتبعية، علينا أن نصادق على ما يقوله، بصفته شاهدا وحيدا وفاعلا يدعي الانتماء الى هيبة المركز، وخطابه وقوته.
الوجوه الكثيرة للحكي:
لكنه هو الأخر لا يعي ضرورة ما يأتي عن الحكي فلربما تدفقت هواجسه وكوابيسا بهذا الشكل كلما فارق المركز، استقراره وعقوده وعهوده، وحتى عندما يتخذ الميناء مخرجا ومدخلا فيما يبدو تمثيلا فعليا لحياة الاتجار والابحار فإن هذا الميناء نافذة متقلبة إيغال في شيء أو خروج من أمر، أنه السر الذي تتقلب وجوهه كثيرا، فيتحقق فيه التعارف مرة لكي يستعيد ثقة الأخوين بهويته المرغوبة ثانية ليبدو فيه لحظة أخرى وقد أوغل في مغامرة وأزمع على أمر وغاية. ان الميناء أكثر من عتبة المنزل، هو المكان المهتز باستمرار بوابة يعوزها الثبات الى عالم الرغبات والأفعال والأشواق والحقائق والمحن، والمشكلات إنه كنز الحكى الآخر الذي يحتمي خلف المشاكلات مع الواقع والبحر والتجارة لينفتح لغزا متقلبا باستمرار يتدفق منه الكلام ما بين الليل والنهار، وما بين أسرار البحر وغموضه وارتجافه الظاهر أمام تباينات الأوقات والمواعيد وتعب الراثي ونكده أو حريته وفرحه ومن هذا المخرج وعند مكان الأوبة نفسه لنا أن نفترض الكثير لنعرف سر المحكي الشهرزادي الذي لا يبور ولا ينتهي.
وهو لا يبور ولا يتحدد بتأويل ما لأنه يحتمل أكثر من وجه، كما أنه يجمع ما يحول دون تنميطا فإذا ما قيل أن الكهوف والسراديب هي البعد القصي للوعي تعبيرات الحنين الى الرحم مرة والى الأمان والاكتفاء مرة أخرى، أو تعقيدات الرغبة والخوف المختلطة المتشابكة فإن هذا التفسير محتمل كما يحتمل غيره فهذا علاء الدين في الكهف ينعم بما تتوق اليه الرغبة ليفاجأ عند البوابة بأن النعيم يقصر عن ضمان الحياة واستمرارية الرغبة إذا ما انفلقت عليه البوابة أو عاقبه الساحر. وهكذا كهف اللصوص الملي ء بالمال في علي بابا. فهو التجسيد الأشمل لرغباته في التعويض عن فقره، لكنه الكنز الذي يجاوره الموت أيضا. فالرغبة والخطر يتعانقان باستمرار تماما كما هو أمرهما في رحلات السند باد. ولا يعني باطن الأرض مشاكلة حتمية للباطن النفسي ما دام الباطن والظاهر العميق والبارز يخضعان لأكثر من فرضية وعقيدة. فقصر علاء الدين عل الأرض هو الآخر ميدان للمغامرة يتجاور فيه الموت مع الحياة، والخطر مع الحب عندما أقام مستحضر الأرواح المتنكر في غرفة مجاورة لبيت الزوجية. وكلمإ يشعر القاريء بالقرب من تأويل محدد وحاسم، تتدفق شتى المخلوقات في الهواء والماء والأرض، وكأنها تريد أن تقول عن نفسها أنها الأفواه العديدة للحكي تتكلم لتؤكد استمراريتها التي صادف أن تكون استمرارية الحياة والسرد في آن واحد، حيث تخلد شهرزاد من قبل ومن بعد.
أصول أسفار السندباد :
ثمة سؤال لابد منه عندما يتطرق الأمر لتاريخ ظهور الحكايات المذكورة أصولها وتناميها، وتداولها بالشكل المتعارف عليه فإذا ما افترضنا وجود أساس واقعي لحكايات السند باد ورحلاته فإن المطابقة التاريخية لا تصمد كثيرا كتفسير لاستمرار حظوة الحكايات بين القراء، حتى في عصرنا الذي يتجاوز المدونة نحو وسائل الاتصال المرئية والمسموعة. وازاء ذلك،نحن أمام سلسلة من المشكلات التي تستدعي التفسير والحل، ومهما يكن فإننا مدعوون أولا الى تقصي جانب المحاكاة في المحكي: فالمدن الاسلامية الوسيطة منتجة لانماط سلوكية معينة وكذلك لمدونات ومحكيات لها القدرة عل الصمود أمام تقلبات الأزمان وكما أن أعمال بلزاك وفلوبير وأكنز أو أخرى كأعمال كافكا مشاكلة بالضد للتكوينات المؤسساتية السائدة الآن لكنها تقدر على تجاوزا لتغيرات فإن المنتوج المديني الوسيط المعقد للحضارة العربية الاسلامية مكتوب له مثل هذا الصمود والمجاراة والاثارة والمشاغلة وتوليد الدهشة. وهذا يصدق على حكايات بغدادية وقاهرية كثيرة، كما يصدق على ما يدور فيه محكي علي بابا والأربعين حرامي، الذي ينتقل فيه الراوي بمعرفة بادية بين المدينة وأرقتها ودورها وصناعييها وبين ذلك الباب الدوار الذي يختبيء خلفه الذهب المسروق الذي تتمكن منه وتزيد عليه عصابة قوية تخضع لنظام داخلي صارم.
ولئلا نستبق التفسير، يمكن أن نتأمل عددا من الوقائع التي ترد في المدونات الأخرى المعاصرة لنشأة الليالي، وتناميها ومن ثم تدوينها.
الرحلة العباسية :
فسواء جرى التنقيب بين آثار الجغرافيين أو المؤرخين العرب منذ ذلك العصر الزاهر الغامر بحيويته ونشاطه ومجهوده، ومشكلاته وافاقه، أو تأملنا حياة هؤلاء أنفسهم لوجدنا (التجوال ) باتجاه مركز الخلافة ولغاية سقوط بغداد سمة أساسية من سمات الرحلة ومواصفاتها. هكذا يفعل أبوزيد البلخي، وهكذا يتحرك أبو دلف الينبعي الخزرجي الصعلوك صاحب المقامة الساسانية وبطلها والذي صادر هذا اللقب ليؤول لشخصه ولصحبا
المكدين، وهو يأتي من بخاري نحو الشرق وبغداد (1).
وليس ذلك بمستغرب اذا ما عرفنا معنى بلوغ بغداد، مركزا للحظوة والمجد والشهرة والمعرفة والتتلمذ على أخوين أو اختراق الحواجز والموانع التي تحول دون الانتشار.
لكن هذا العامل الذي يفسر جزئيا شكل الرحلة بابتدائها وانتهاشها كما في أسفار السند باد لا يبدو شاملا إن لم يقترن أيضا بمعرفة ما يعنيه المركز عند مؤرخي تلك المرحلة وكتابها فاليعقوبي الذي غادر بغداد مبكرا وتنقل في أسيا وأقام في مصر والمغرب يكتب في تقديم (كتاب البلدان ) مبررا السبب في تكريس ربع كتابه لوصف بغداد وسامرا، قائلا:
(وقد ذكرنا بغداد وسر من رأى وبدأنا بهما لأنهما ميدنتا الملك ودار الخلافة ووصفنا ابتداء أمر كل واحدة منهما فلنذكر الآن سامر البلدان والمسافات...) (2).
لكن الاكتفاء بهذا التفسير المتداول لمعنى الاتجاه الى المركز، والأوبة اليه لا يمكن أن يلغي التمساؤلات الأخرى بشأن معنى قدرة المدونة والرحلة السند بادية تحديدا على تجاوز مجرى الأزمان وتقلباتها فثمة اعتقاد آخر تتحرك بوجبه الرحلة بصفتها اكتشافا ومخاطرة ومسعى للاتجار أو للمعرفة أو مغالبة الذات (الرومانسية ) الهائمة والقلقة أو المتوترة.
أنواع الرحالة :
وعند المسعى لمعرفة اتجاهات هذا الموضوع، علينا أن نفصل بين نوعين من الرحالة، فهناك من هو منخرط في فعل مملكة الاسلام، كما هو شأن حوقل، مثلا. وهناك المغامر الذي تتعاظم نزعة المجازفة مقارنة بغيرها فالانشداد الى المغامرة والمعرفة والاكتشاف نتبينه ني شخصية ابن بطوطة مثلا، وهناك العشرات من أمثاله الذين تركوا مدونات تقل حظوة وشهرة، لكنهم غامروا مثله مدفوعين بغريزة الاستطلاع والمثابرة والاكتشاف.
لكن نموذج ابن حوقل مثلا يجتمع فيه التاجر والمستطلع والراغب في المعرفة،وهو أيضا النموذج الذي يكتفي بأهل الكتاب داخل مملكة الاسلام وخارجها عارضا لهم أصحاب حضارة تستحق الذكر على خلاف غيرهم ممن يستبعدهم من هذه الدائرة غير مثيرين لاهتمامه والشخصية التي تطن علينا في مثل هذه الفقرة مثلا تنتمي أيضا الى (الأيديولوجية ) السائدة أولا، تلك التي تتموضع فيها شرعية المعرفة داخل منظومات أخلاقية واجتماعية وسياسية تجد مواصفاتها في التأويل السائد للديانة الاسلامية، فالاعتبار الأول يعطى للمسلمين، بصفتهم ينهلون من دين مملكة الاسلام التي تمثل للكاتب عنوان التحضر والمعرفة والنجاح بدليل امتلاكها لمثل ذلك المركز ونظائره وبعدهم يأتي أهل الكتاب سواء جاءوا ضمن شعوب المملكة أو خارجها. فابن حوقل ينطلق من بغداد (مايو 943) تاجرا، ليزور افريقيا الشمالية والأندلس وباليرمر والهند ونابلي وغيرها، ليرفع كتابه الى بلاط سيف الدولة، بصفته البديل الناجح للمركز الأخذ بالأفول ففي (كتاب المسالك والممالك ) يقول ابن حوقل انه لم يذكر بعض بلدان افريقيا (ومن اعراضهم من الأمم لأن انتظام المماليك بالديانات والآداب والحكم وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة وهؤلاء مهملون في هذه الفصال ولاحظ لهم في شيء من ذلك فيستحقون به افراد ممالكهم مما ذكرت به سائر الممالك (ص 219). أما عندما يستدرك على هذا التعميم فلأن (بعض السودان المقاربين لهذه الممالك المعروفة يرجعون الى ديانة ورياضة وحكم ويقاربون أهل هذه الممالك كالنوبة والحبشة فإنهم نصاري يرتسمون مذاهب الروم وقد كانوا قبل الاسلإم يتصلون بملكة الروم على المجاورة...) وسرعان كان ابن حوقل داعيا سياسيا أو تاجرا، فإن استدراكاته تقوم على مبدأ واضح، يتم بموجبه تشديد الاقتران بين (الايديولوجية ) والحضارة والدولة.
لكن هذا التمسك بالتأويل ( الايديولوجي) لا يكتسب صفة التعميم عندما نريد قراءة مواقف الرحالة والجغرافيين والمؤرخين والكتاب الآخرين. فثمة نمط آخر لا ينتمي الى طائفة المكدين أو الصعاليك الجوالين،من على شاكلة أبي دلف، كما أنهم لا يجدون هويتهم في المهنة وشروطها واعتباراتها. فهذا المسعودي الذي يعده كريمرز من (أكثر الجغرافيين أصالة في القرن العاشر)، شملت رحلاته عشرات البلدان (من الهند الى المحيط الاطلنطي ومن البحر الأحمر الى بحر تزوين ) وغيرها. ليقدم خلاصة لجولاته في عدد من المؤلفات كـ (أخبار الزمان ) و(الكتاب الأوسط ) و(التنبيه والاشراف ) والتي تعد من غرر كتابات القرن العاشر علاوة على ما هو معروف له من كتب أخرى كمروج الذهب. لكن هذا الترحال يدفعه حب المعرفة، مما يعني وجود نزعة أصيلة لديه للانتماء اليها بديلا للمكان وهو اذ يعتذر عما يمكن أن يفوته سهوا أو غفلة يؤكد أن (طول الغربة وبعد الدار وتواتر الأسفار طورا مشرقين وطورا مغربين أسباب محتملة لا يمكن أن يسهو عنه. لكن هذه الملاحظة لم تأت مقطوعة عما يقوله أبو تمام وهو يجد نفسه جوابا مالكا للهوية مرة ومنزوعا عنها مرة أخرى. ولهذا جرت الاشارة الى الشاعر وما يقوله بهذا الصدد.
أي أننا بإزاء ترحال آخر يفني في حال ليضعف في أخرى،
فغربت حتى لم اجد ذكر مشرق = وشرقت حتى قد نسيت المغاربا
كما يقول أبو تمام، فمملكة الاسلام تتسع للانتماء لكنها تضيق أيضا ازاء الهاجس الفرداني أو المغترب للمبدع :
بالشام قومي و بغداد الهوى وأنا = بالرقتين وبالفسطاط إخوتي
وبقدر ما تعنيه الاشارة الجغرافية من انتماء واسع فانها تعرض أيضا لذات تتمدد وعيا في أكثر من مساحة داخل هذه المملكة وهذه الذات ديدنها التجوال والاكتشاف والمعرفة أولا لكن هذا الانشغال لا يعني ضرورة الانكفاء على ما هو وضعي: فعلى الرغم من أن السلطة اهتمت هي الأخرى بالتثبت مما هو غريب أو عجيب أو مما هو مألوف في النص الديني أو مثير للتقولات، إلا أن ذلك لا يعني انتفاء النزعة للاغراب مرة أو لتمرير العشرات من الملاحظات والصور والحكايات التي تثير ريبة المشاهد صاحب الرحلة مرة أخرى،فيمكن أن يبعث الخليفة الواثق مرسليه للتثبت من خبر ما كما فعل أبو بكر من قبل وهو يبعث عبادة بن الصامت لمعرفة خبر رقيم أهل الكهف على مقربة من القسطنطينية وهاهو الواثق يبعث (محمد بن موسى الفلكي ليستقمي خبر أهل الكهف ) (3) مرة وسلاما الترجمان مرة أخرى عندما تراءى في المنام (كأنما انفتح السد الذي بناه الأسكندر ذو القرنين ليحول دون تسرب يأجوج ومأجوج ). لكن دارسي علم الجغرافيا يرون أيضا أن (هذا الحلم المزعج قد سببته للخليفة الشائعات عن تحرك القبائل التركية في أواسط آسيا) (ص 158) أي أننا بازاء اختلاط الحقيقة بالخيال والواقع بالحلم، لا يمكن أن نقبل بما يجيء من الباحثين والدارسين التالين أو نكتفي بظاهر المدونة فمن الواضح أن الخلفاء المعنيين بالمعرفة والعلوم تستميلهم رغبات أخرى في ضوء ازدهار ما هو تجريبي أيضا. فالمأمون والواثق ينشغلان بالعلم وينظران الى كل ما هو (عجائبي) بعين الشك والتجرد.
ولهذا غالبا ما يختلط على الأخوين من مؤرقين أو جغرافيين معنى انشغالهم بالبعثات والرحلات : فكل خبر لدى هؤلاء وغيرهم ظن، وكل ظن لا يستحق الاهتمام الا عندما يتحول الى يقين. ولهذا انشغل كلاهما بالمراصد والمختبرات أيضا. لكن هذا الاهتمام من قبل السلطان لا يلغي الجانب الشخصي لدى الرحالة، فهم ينظرون الى مواضع ترحالهم في مواقيت متباينة وتحت ظل ظروف نفسية متقلبة. وبينما يأتون على الوصف والملاحظة بدون كلل ولا ملل، إن ما يربك الأحاسيس أو يثير الشبهة أو يتباين مع المألوف أو يتداخل مع المقروء أو المسموع قد يأتينا في باب العجائب والغرائب، وهو باب يتباعد عن المألوف والظاهر، لكنه يدعوهم الى الدراسة والتبصر. كما يفعل بزوج بن شهريار في عجائب الهند مثلا. وهكذا يحفل علم الجغرافية ووصف الكون تحديدا، بانشغال بهذا الجانب الذي يقول كراتشكوفسكي انه نال تسمية (علم عجائب البلاد) (ص 23). ومثل هذا العلم قد يحتوي في داخله ما يقوله المسعودي مثلا عن أخبار (بحر الظلمات ) أو المحيط الأطلنطي الذي يغيب فيه الكثيرون بينما يكتب المسعودي عن خشخاش القرطبي الذي (غاب فيه مدة ثم انثنى بغنائم واسعة وخبره مشهور عند أهل الأندلس ) "ص152".
ومثل هذه التفاوتات في تكوين الرحالة وهمومهم وانتماءاتهم وسعاهم تضعنا أمام مجموعة أخرى من الأسئلة. فهذا الذي يقتفي الأثر ويطارد المجهول أوزان الذي يحركه الدين أو يدفعه مسعى الاتجار لا يعود كما كان فالدهشة التي توجدها الممالك والمسالك أو الظلمات قد تنبعث عنها افتراقات كثيرة عن الأنماط السالكة والمقولات الدارجة والمعلومات السابقة.كما أن اليقين قد يزداد قوة ومنعة عندما يقابل بما يقال عنه.وكلما بدا الأمر لرحالة عارفين بشؤون الآخر أو متسلطين عليا أو سكتفين بامتيازهم عليه أو ساعين الى ضمه اليهم كواحد منهم، عادوا وقد ازدادوا يقينا و?
.
لكن الملاحظة التي يمكن ان تتسلط عليها دراية القارىء الناقد هي تلك التي تخص مكانة الفرد ازاء قوتين اساسيتين : الايديولوجية ومركز السلطة، فكلاهما يتلون في ضوء المصالح المتغيرة والثابتة، بما يدعو الفرد الى شحذ امكانياته من جانب والى تكوين خطاب مراوغ في أغلب الأحيان، يتواضع ليقترب، ويستعرض ما لديه ليغري، ويتمسكن ليشاغل الآخر، فيتشكل عنده خطابان، خاص وعام، كلاهما يكتسبان اهمية خاصة في المحكي، فيضيفان على السرد الشهرزادي سمته المراوغة ما بين استدراج ومشاكسة.
اما ميزة المحكي الاساس فهي تلك التي لا تنفك بموجبها العلاقة ما بين التركيب وهذه المقومات ؟ فالجانبان يتحدان دائما حتى عندما نرى فيهما وظائف متكررة كالتي تقرر مبدأ رحلة البحث عند السند باد البحري، اذ يمكن ان نتفق على أن الرغبة في الابحار والاتجار والمغامرة هي التي تتكون منها عوامل الرحلة المعلنة لدى السند باد؟ لكن اعادة تسمية الرغبة تحت محمولات أخرى كحب الاستطلاع من جانب واستدعاء القوى الخارقة من جانب آخر، يمكن ان تضع محركات الفعل في علاء الدين والمصباح السحري وكذلك في علي بابا تحت تبويب واحد يتيح لنا ان نتعامل معهما سوية وكأنها محركات ودوافع تشتغل في فضاء ما، مديني اولا، وامبراطوري ثانيا.
فضاء المحكي: الخربة
فاليتيم الطائش علاء الدين ييسر له طيشه ان ينتقيه المغربي الساحر، لما يعنيه طيشه من خروج على الانتظام الاجتماعي (والعائلي ) ويتيحه من خضوع لرغبة الساحر. فاليتيم المتحلل من الارتباطات والخارج عن طاعة أما قد يندفع في المغامرة، ويسترضيه الاغراء، وتستدرجه المكيدة. انه خلو من الارتباط، والانتماء، كما انه خلو من (العقل )، لكن هذه الميزة تجعله مفعولا فيه، عرضة لفعل الآخرين، كاستدراجهم له، وغوايتهم لرغباته، وايقاعهم به، بما يعني انه يمكن ان يكون مثيلا لغيره، كمعروف الاسكافي، في النتيجة : طريدا في خربة. اذ ان الاخيرة تعتبر مكانا هي الايواء الخال من الانتماء، انها الفضاء المهجور والمهمل ؟ وهامش المدن المنتجة، وكما يتموضع معروف الاسكافي بصفته طريدا في تلك الخربة، فان علاء الدين يجد نفسه مستسيغا لايواء مماثل، خرب هو الآخر يتمثل شاغله في شخصية المغربي الساحر. فالابرة التي تعرض عليه لا تواجه منه صدى او عزونا او تساؤلا، لانه مهيأ لالقاء نفسه في البديل الآتي. لكن الشخصية الهشة او الطريدة، اليتيمة او المكابدة، هي نتاج مجتمع محتدم ايضا، اما فرصها في النجاح، فلا تتحقق بدون عامل آخر، كالساحر وخاتمه والمصباح في علاء الدين، وكذلك الخربة والمارد في معروف الاسكافي. ولربما تبعدنا هذه القراءة عما نألقه عن السند باد وعلاء الدين، اي غوايتهما لكل ما فينا من حب للمفا مرة واوتياد المجهول، لكنها القراءة التي تتيح لنا ايضا التوغل في عمق حكايتيهما، :لك العمق الذي يختفي تحت غلاف السذاجة البادية.
ان الخربة هي الفضاء الذي يتحرر من ضغط المجتمع، وتنافسه، ولهذا فهي البديل الملء بالاغراب او لكل ما هو رعوي يلجأ اليه المكابد والمحتاج. انها النهاية التي يتأزم فيها المرء امام اليقين بالمحتم والمكتوب والفاجع، فيكون نداؤه المخذول استدعاء صافيا لقوى أخرى بديلة في فعاليتها وفعلها. ولهذا يأتي المارد الذي لم يسمع صوتا انسيا يقلق خلوته في الخربة منذ زمن، تماما كما هو مارد الصياد الذي يتحرك منه الكثير من السرد في الف ليلة وليلة. ان حضور المارد المستجيب للصوت الانسي ما هو الا ابوة الكون البديلة التي تقدم للمحروم كتلك الابوة التي يعرضها المغربي الساحر على علاء الدين. لكن القبول بالتعاقد الجديد مع هذه الابوة له فرصه المشحونة بالصعود والهبوط، وكلما كثرت هذه وتعددت انهمر السرد وانتشر.
كهف اللصوص:
وينبغي ان نتذكر ان شخصية الطفل اليتيم علاء الدين، طيشه وقلة درايته، تتكرر لدى عدد كبير من الشخوص، كما انها يمكن ان تتشكل منها ملامح العديدين الذين يتوزعون في السرديات ما بين الانذال وابطال الرومانس. فهي تمتلك بذرة التبذير والاسراف التي تنزرع لدى آخرين ورثوا عن آبائهم الكثير ليضيع منهم المال والجاه بعد حين، فتلزمهم الضرورة بالمكابدة والبحث. ولا يشذ السند باد البحري عن ذلك، فهو يخبر الحمال ببداياته التي دفعت به الى المغامرة،والبحث، فالإفلاس يولد الوعي، والوعي يستدعي المجازفة في مجتمع متنافس محتدم، والمغامرة لها جوانبها الضارة والمفيدة.
لكن هذه البذرة لا تظهر عند آخرين كعلي بابا، يكدون فلا يفلحون : فالمدينة يزدهر فيها الشقيق قاسم، اما الحطاب فعليه بخارجها، يجوبه ويكد فيه ويشقى، لكنه الهامش او الخارج المتاح الذي لا يستدعي منه تأمل المنافسة والمعركة المدينية المحتدمة. وكما ان الخربة تتلقى المحروم، فإن الفضاء الخارجي تتيسر فيه فرصة التمدد والمتابعة والاصغاء. انه فضاء لا منافسة فيا، فتأخذ شخصية الحطاب مداها، وحتى عندما يبصر القوافل الآتية ويتخفى، فان التخفي ما هو الا تقمص لدور آخر، هو دور الرقيب المستطلع ؟ وكل ما هو مستطلع متسلط على الآخر مهما كان نوعه ومكانته ووجاهته. ولهذا سرعان ما يرى ويسمع ويتنصت، ويصطاد الكلمة المفتاح : ( افتح ياسمسم ). ان النظرة الرقيبة المتسلطة هي المهيمنة هنا، ولابد لها من ان تصادر مصدر قوة الآخر، اي مفتاحه الشفاهي السحري، فيجري تبادل الادوار بسرعة فريدة، ما بين سارق مكين قوي نافذ وحطاب فقير مراقب.
ومرة أخرى فان (الموضع ) الذي يجد المرء نفسه فيه يمنحه الهوية الجديدة، و معها مجموعة الامتيازات التي تتيح له التحرر مما كان عليه، فيظهر على غير ما كان : تاجرا كبيرا كالسند باد يستضيفه الخليفة ويقربه الى مركز السلطة، او وجيها متنفذا يتزوج من ابنة السلطان كعلاء الدين، او معروف الاسكافي، وكذلك شخصية ذات شأن تجاري باذخ ومؤثر كعلي بابا. ان السرد في هذه الحالات يعيش تركيباته وتحولاته التي تتعاقد بشدة مع تقلبات الموقف والنظرة والشخوص.
المدينة واللصوصية :
ومع ذلك يصعب قرا،ة السرد بدراية تامة بمعزل عن مفهوم المكان من جانب وفضاءات الاستقبال في حينه من جانب آخر؛ كما يصعب ان تنبني مقومات هذا السرد بدون الوعي باستيطانها داخل مثل هذه التوقعات التي ربما تقبع في قاع هذا الوعي، في عمقه البعيد الذي يحيل على ذاكرة اوسع واعم.
فالمكان بصفاته المتباينة (مستدعيا للا بوة المزيفة او البديلة، او مستدرجا للقاء عند السند باد، او متيحا الهيمنة على الآخر عند علي بابا) ينتمي الى تقابلات على صعيد تركيبة المحكي مرة والى متسع امبراطوري كفضاء فاعل مرة اخري: فعلي بابا يقيم في خارج المدينة بحرية اكثر بعدما بدأ هامشيا ومسحوقا فيها، لكنه عندما يأتي بحمله من كهف اللصوص الذي تسلط على سره ومفتاحه السحري، فانا يستوطن المدينة قويا هذه المرة، بينما يأتيه اللصوص تباعا ليمارسوا عليه دوره الاسبق، اي التلصص ومن ثم الهيمنة بقصد الازاحة واستعادة ما فات (ويضمنه المال المسروق من الكهف )، لكن الاهم في قدوم كتائب استطلاعهم (اللص الاول، ثم الثاني، قبل قدوم رئيسهم نفسه بصحبة المتبقين في داخل قرب الزيت مستعدين للاجهاز على علي بابا وابنه وعائلته )، هو انهاء دابر المعرفة بسرهم، وبمفتاحهم السحري، اي انهم الأن يزاولون دور علي بابا؛ ولكن ليس في الخلاء، وانما في المدينة، ولهذا لابد من ان تستدعي ان ينة فعلا اوسع، ومشاركة اكبر من الافراد والحرفيين، فتجري الاستعانة ببابا مصطفى لترقيع جثة قاسم تجنبا للفلط حسب رأي مر جانة الخادمة، وهي استعانة تتكرر ثانية عندما يلجأ اليها اللصوص لمعرفة دار القتيل وشقيقه والتسلط عليها. كما ان (استطلاع ) اللصوص يقابله استطلاع مرجانة : فكما
تدفعهم الرغبة في معرفة دار علي بابا ومن ثم خداعه وقتله الى الاستعانة ببابا مصطفى ومن ثم التخفي وتبني هوية مزيفة جديدة (تاجر زيت غريب بالنسبة لشيخهم، وقرب الزيت بالنسبة للبقية )، فان مرجانة تلجأ الى الظن والتقصي ومن ثم الايقاع باللصوص. اي انها تستعين بالوسائل التي تتيح ارتقاء الشخصية ونفوذها إزاء الموقف ؛ وكلما اكثرت من هذه، تيسرت امامها فرصة الهيمنة على الاحداث، والتسلط عليها، فالمعرفة باللصوص ومساعيهم تعطيها هذه الغلبة، وتتيح لها ايضا استعادة (الموقف الساخر المفارق ) لصالح سيدها الساذج. فالأخير الذي يستضيف بدعة وسذاجة، لم يكن يعرف انه يعد العدة لفنائه، في تلك الوليمة، بينما كان شيخ اللصوص ينتظر اللحظة المناسبة للاجهاز عليه وعلى ولده حالما يعطي الاشارة للقرب التي يقيم فيها رفاقه اللصوص. ولولا رقابة مرجانة من جانب، وتدقيقها في الامر من جانب آخر، ودخول المصادفة (اي قلة الزيت في الدار) من جانب ثالث، لما تمكنت من إحباط المكيدة، ورد الامور الى نصابها، ووضع الحد لما يمكن ان يتشكل نهاية مثيلة لما آل اليه قاسم شقيق علي بابا المجازف. ان المعرفة هنا فاعلة في تركيبة السرد،لانها السرد المضاد؛ لكنها لا تشتغل بدون المصادفة التي تستكمل الحافز وتسنده.
لكن التعقيدات التالية، دخول اللصوص في المدينة واستعانتهم بالاستطلاعات والتجسس ومن ثم التخفي والتغرير، تأتي بصفتها مكونات أخرى تنتمي الى احشاء المدينة، حتى عندما تكون من بين (المقومات ) المتكررة في الحكايات الاخري، وعندما يبدو التقابل في الادوار وتبادل الامكنة والمواضع اساسيا في بناء الحكاية وتركيبها، فلان ذلك يستقيم مع مستلزمات المكان، فالهامش او الخلاء يحمل في داخله سره الخامد، كما هو حال كهف اللصوص، لولا تسلط استطلاع علي بابا عليه. وهذا التسلط يعني نقل السر الى مكانه المناسب وهو المدينة. لكن مثل هذه الاقامة في الخلاء لها مثيلاتها في الحكايات ما بين سراديب وكهوف ومناطق اقامة مقصية بقصد او بدون قصد. اما غاية هذه الاقامة (للكنوز او لسجينات المردة أو لصبيان الاباء الخائفين على سلامة ابنائهم ) فهي الابتعاد عما هو أهل بالسكان. وهكذا فان الانتماء للخلاء، يعني التخلي من كل انتماء، والطمع في فك الارتباط بالانس، وكذلك تأكيد تبعية المقصي وملكيته (مالا او ذهبا او كنزا او صبيا او صبية.
اما الدخول الى ما هوآهل، فيعني القبول بالمصادفة والمجازفة وتقلب الاحوال وتبدل الهويات : فهناك يأتي ساحر علاء الدين، مدعيا دور العم، بديل الاب : وهناك يحل شيخ اللصوص بزي تاجر زيت. فاللص لا يقدر على المثول داخل المدينة بغير لبوسها وهوياتها المقبولة، وكذلك متطلباتها وتعقيداتها الاخري، وهكذا،تقيم هذه في احشاء المدينة بينما
تلعب المصادفة دورا هامشيا شأن تمثلاتها الظاهرة في افعال المحكي. فقطعة الذهب العالقة باناء الكيل تحضر مصادفة في دار قاسم، لترى زوجه ذلك،وتكثر من المتابعة والاستطلاع ومن ثم المعرفة وتوريط قاسم الذي يعميه الطمع عن الحذر. ومقابل هذا الطمع وقلة الحذر،تظهر شخصية مرجانة مليئة باليقظة والحذر والوفاء. ولولا هذه المواصفات لقادت الرحلة المضادة (رحلة اللصوص ) الى نهاية علي بابا، تماما كما ان رحلة قاسم الخالعة من الحذر باتجاه الكهف تقوده الى الوقوع بين اللصوص.
أمتحان الفاعل :
ولولا المفتاح السحري لبدت حكاية علي بابا مدينية بامتياز، غنية بحركة الشخوص وافعالهم، وبتقابلات الادوار وتبادلاتها، ويتوافر الغنائم والرغبات الداعية الى الفعل والمحركة له. وما يتحقق فعلا في ضوء الرغبة وموضوعها لا يسعه ذلك في حكاية علاء الدين التي يتماثل فيها الشخوص مع الادواتي العجائبي، اي الخاتم المسحور وكذلك المصباح السحري، فالخاتم له فعله في مناقلة علاء الدين الى المدينة بعدما انفلق عليه كهف الغرائب والبائب، اما الكهف نفسه فلا يتماثل مع كهف علي بابا والاربعين حرامي، فالأخير صنيع الانس، ومخبأ المال المسروق، وما برابته غير آلة متحركة حسب النغمة الصوتية، قبل معرفتنا الحالية بإمكانيات الاستخدامات المماثلة للصورة والصوت. اما مغارة العجائب والغرائب فهي بديل للحياة الانسية، لها اسرارها وقدراتها التي تمنح نفسها بسهولة لغير الرائي او صاحب السر (عبر العجائبي او قراءة المكتوب ). لكن الكهف والمغارة يشكلان امتحانا للفاعل، لحكمته وحذره وبحثه اولا. وكلما كان غرا طالت المواجهة. ولهذا، يأتي الخارق، كالخاتم في اصبع علاء الدين، عونا له للخروج من تلك المغارة العجيبة، بينما لا يحتاج السند باد في مغارة الموت ( المقبرة ) الهندية لمثل هذا الخاتم بعدما اعتمد على سعيه المثابر للبقاء، وقتل الشركاء الاحياء ومصادرة غذائهم، لحين تتبع الحيوان المتسلل الى المقبرة - الكهف ومعرفة الشق البعيد للخروج منه محملا بالثروات التي تنقلها النسوة الشريكات للازواج الامرات الى هناك.
اما فعل المكان فلا يتأكد بدون اغراء المال، كما ان المال هو الذي يقود الى المركز: فالرغبة في المغامرة والاستطلاع عند السند باد لا تكتفي بدون ان يذكر للمستمعين انه لم يبلغ ما هو فيه من جاه ووجاهة لولا قدراته على جمع المال والجواهر والارزاق ؛ كما ان كنز اللصوص يتيح لعلي بابا الوجاهة والحضور في المدينة، ومثله مارد المصباح المسحور الذي يمكن رغبات علاء الدين من التحقق والانتشار حتى يصاهر السلطان، ويستميل العامة والخاصة، ويستحصل منهم التعاطف والاسناد. وبينما يجري الفعل في علي بابا بين الخلاء والمدينة، وبين الكهف والازقة وداري علي بابا وشقيقه قاسم، فان الفعل في علاء الدين يمتد بين الصين والمغرب، كما ان الخطاب القائم مع القص يتوزع وينشق بين اكثر من واحد، ما بين سلطان ووزير وعلاء الدين والساحر وشقيقه، ثم ما بين زوجة علاء الدين وفاطمة الصالحة (الحقيقية والمزيفة اي شقيق الساحر). ولولا تدفق تداعيات الوعي بالامبراطورية لما كثر التجوال بين هذه المساحات الشاسعة، لدرجة ان تنقيل القصور وغيرها ما بين بقعة واخري حسب استدعاءات صاحب المصباح للمردة يصبح من لوازم الفعل. لكن مخاطبة هذه التداعيات وكذلك أفاق توقعات المستمعين تستدعي التوسع في رقعة مملكة الاسلام، فحيث تم بلوغ الصين، يجد فيها الحاكي بغيته، مساحة قصية بعيدة، تتيح له حرية اوسع في مناقشة السلطان ووزيره، والدخول على خصوصياته، بعدما كان الرشيد في واحدة من الحكايات يخاطب احد الشعراء بسؤال عما يظنه من عقاب ينتظره بعد اطلاعه على احوال نساء الخليفة. وهكذا، يتيح المكان القص التجوال في القصر ومعرفة البوزيي وغيرته، ونقل الزوجة ابنة السلطان الى دار علاء الدين ليلا، والضحك من زوجها الصبي ابن الوزير، هذا المكان القصي، ييسر للحاكي ان يأتي بالمردة والمصابيح المسحورة والخواتم، ويدعها تتحرك ما بين شد وجذب بين مملكة الاسلام القصية وتلك القريبة الى المركز.
لكن الخطاب المتقلب للراوي يخفي الكثير ويضمر ما هو اكثر: فاذ يريد ان يتموضع في الخطاب السائد، يدين الساحر المغربي، ويقرنه بالقارة الافريقية، لكنه من الجانب الآخر يترك له ما يحقق حضورا وطفيانا في الفعل والدافع، كشيطان ملتن، فهو صاحب المعرفة بالمصباح، وهو صاحب الخاتم، وهو الذي جاء الى علاء الدين ليتبناه، قبل ان يقرر حسم علاقته به عند بوابة كهف العجائب والغرائب، كما ان شقيقه مستحضر الارواح له غديته ودافعه، اي الثأر لشقيقه بعدما قرأ الرمل وعرف ما حل به، لولا انه يقتل ناظمة الورعة ويتقمص دورها وشخصها، اي انه لا يقل عن السند باد، فالأخير يثأر ويقتل عندما تستدعي رغبته في البقاء، ذلك كما يفعل في مغارة الامرات في الهند. واذ يجري التعامل مع الوقائع والاحداث ضمن الزمن التعاقبي المعروف الذي يعتمده السرد التمثيلي، فإن مجموعة من الادوات الممكنة والغريبة او العجائبية (الرخ والنسور عند السند باد، والخواتم وقراءة الطالع واستحضار الارواح في علاء الدين ) تعيد تشكيل الزمن في ابعاد عمودية لا تستعاد افقية الا على ارض الامبراطورية. وهذه (الارض ) تنقض تكوينها وحضورها الفسلجي طبيعة العقيدة التي تنتشر في بقاع تستميلها بشكل او بآخر نظرة "وحدة الوجود" ولهذا تتخلى الارض عن مفهومها المحدد لتدخل في مفهوم الكون الذي تتداخل بموجبه الارض والماء والسماء، بما يتيح للعقيدة ان تفعل فعلها حتى عندما يسكن جزيرة الرحلة السابعة كغرة يحلقون في الاجواء مانعين السند باد من التسبيح لئلا تتسلط ضدهم الارادة التي يتنكرون لها.
أفق التوقعات :
اي اننا اذن بازاء مفهوم يتشكل منه ويؤثر فيه في الوقت نفسه افق التوقعات وفضاء الحياة والمرجعيات. ولهذا يصعب ان توجد بقعة تخلو من الحياة. فكل افق مسكون، وكل خربة تعيش حياة ما، وكل بحر تغمره الحيرات، بدرجات متفاوتة من الحضور وبانتماء متباين للزمان او لوجوهه الكثيرة، وهكذا، يطل فرس البحر، وتظهر عروسه، وتحطم سفنه اسماك ضخمة، وتظهر في شبكة الصياد قماقم الجن والمردة السجينة منذ امد سحيق. وكل فضاء تطير فيه المخلوقات من رخ وجن ؟ وكل ارض تتوزعها المدن والوديان والكهوف، والغا بات والملاجىء والممرات السرية. في هذه المملكة يبحر السند باد.
وتبتدىء مشكلة التعامل مع المحكي باشكاله ونسخه المدونة عندما تغيب هذه المعتقدات عن القارىء مرة او عندما يفرضها قسرا على الجانب (التجريبي) مرة اخري: فالسند باد مثلا ليس علاء الدين، كما انه ليس علي بابا. وعلى الرغم مما هو مشترك بين الشخوص مما مر ذكره، الا اننا ايضا بازاء منظور ينطلق منه السرد ويفرض حضوره فيه. فنحن نصفي للحاكي مارا بعلي بابا وعلاء الدين. وما جرى لهما وما خرجا به ومنه. ولكننا في رحلات السند باد نصفي الى الحاكي - الفاعل، متسلطا على السرد، سرده لما يعده تجربته وحياته : مؤطرا ذلك بنقد لتجربته السابقة غرا طائشا كعلاء الدين قبل ان يقر رأيه على المغامرة، ومشاركة التجار والبحارة. وبقار انتماء السارد - الفاعل الى فضاء المحكي وافق توقعات المستمع، الا انه يتباعد عن هذا الفضاء والافق، مصادرا الآخرين الذين يبعث في طلبهم كلما جلسوا عند ظلال قصره وبوابته، انه ينتقي شخوصه من المستمعين المقصيين، المنكودين، الذين تعوزهم لقمة العيش ويبحثون عن تزجية ساعة او ساعات في الاصغاء لدروس قد تكون هي دروس الخطاب السائد الذي ينتمي اليه السندباد.
خطاب السندباد:
واذ يتموضع الخطاب بين طرفي المغازلة والملاطفة والغواية والتلقين والتعليم والتوجيه، فانه يتوخي القبول ويرنو اليه. ولهذا ثمة ادانة للماضي، فلولا طيشه ما ضاع منه مال ابيه ؛ وهكذا تجري استمالة المستمع المنكود والمغلوب على امره بمثل هذا النقد الذاتي، بينما تجري الاحالة على زمن الرشيد بين أونة واخري لتتأكد لاحقا بذلك الاطراء الموضوع على لسان ملك سرندب، ومراسلة الرشيد التالية له ردا على وسالته، فرسالة الاول تتوخى الاستمالة والرضا والثناء، ورسالة الثاني تطل من عل، شاكرة متصالحة ظاهرا وعميقة النوديا لتحقيق السيادة وضمان انتماء تبعية سرندب. اما الدروس الكثيرة التي يأتي بها السند باد فلا تتعدى الجد والاجتهاد والمثابرة والذكاء والتلون وحب البقاء والاستناد الى الباري؟ تعالى عند الملمات والشدائد. اي اننا بإزاء خطاب الفئات النامية، التجارية والبروجوازية، في مدن مملكة الاسلام وهي تقيم علاقاتها مع الاطراف.
وحتى عندما نتخلى عما هو (وضعي) في التفسير باتجاه تبادل الادوار، تقابلها مرة وتعاكسها مرة اخري، نرى ان سيمفونية الفعل، ما بين صعود وهبوط، ارتقاع وانكسار، او نفسانية السرد ما بين حقيقة وحلم ويقين واشتباه لا يغيران من طبيعة الاستنتاج بشأن انتماء السرد الى مملكة الاسلام في عزها وانتشارها الوسيط.
لكن سرد الرحلة في الابتداء والانتهاء قد يتشاكل مع وظائف الحكي المعروفة. كما ان هذا الابتداء والانتهاء هو اعلاء لشأن المركز، عاصمة الخلافة ومستقرها ايام قوتها وحضورها، لان السند باد يقدم من بغداد الى الثغر الرئيسي بالبصرة، ومنها الى البحر. وهو في كل ذلك يبدي معرفة واسعة بالسفن، وصنا عتها، وعدتها، واشرعتها وملاحيها. ويجوب بها بحارا معروفة ايام الاتساع من جانب والبحث والترحال الجغرافي الكثير من جانب آخر. وبينما تتحدد رحلات الجغرافيين بالمعروف والمتواطىء بشأنه، وينضاف المسموع والمقروء الى ذلك، فان المسكوت عنه في المدونة يبقى كثيرا. فالفتوح لم تتحقق بدون مستطلعين وعارفين بجغرافية البلدان الجديدة، اما الذي يبقى خارج تخوم المكتشف والمسكون والعرضة للفتوحات، فانه يبدو بهيئات وتسميات كثيرة، كتلك التي يسقطها الحاكية على بعض (المجامل ) الافريقية، او تلك التي تدعو السند باد الى التكهن او التوتر والارتياب. وكل ما يثير لديه مثل هذه الاحاسيس يتجاوز الكوابيس مرة والاحلام مرة اخري، فيثيره كما هو امر السمك الضخم بحجم الجزيرة في عرض البحر، او كجزيرة أخرى تابعة لشبه القارة الهندية بسائسيها وخيولها عند الساحل، فهي تثير عنده اخيلة وتوقعات لما فيها من طقوس أنسية تنبني على اساس العلاقة بين حيوانات البر والبحر، وشأنه في ذلك كموقفه او رفاقه البحارة ازاء بيضة الرخ، او إزاء وادي الجواهر والحيات الذي تتجاور فيا الثروة والموت. الفنى والخطر وكأنه يجد في ذلك تلخيصا لتجربته، اي مغامرته التي لا يتحقق فيها المكسب بدون الخطر، انه مرة أخرى تستقر سفيتنه عند جبل لا مفر منه يعترض المسار داخل البحر، فتناول القردة من حبال السفينة واشرعتها، ليبقى على اليابسة يتهدده وصحبه عمالقة من اكلة لحوم البشر، لينجو بعد لأي والعمالقة يلقون بالاحجار على
زورق صنعه وصحبه من بقايا الخشب، او انه مرة أخرى نزيل قبيلة من الوحوش، يأكلون البشر، قبل ان يتمكن من الهرب ويلتقي ملكا ومملكة يجيد فيها صناعة السروج، فيحقق مكسبا، ورضا ملوكيا يتمثل بعرض الزواج عليه من ابنة الملك ؛ حتى يحين موتها، فيكون نصيبه ان يموت معها، ليحيا داخل مقبرة الاموات، مصادرا حياة الآخرين من امثاله ليضمن الاستمرار والحياة، ومن ثم المكسب الكبير الذي يتحقق من مجموع الثروة المقبورة مع الاموات وشركائهم، حسب الطقوس التي يقرنها بفئة هندية ما. اي ان السند باد بين الابتداء والانتهاء، الذهاب والاياب، لابد من ان يمر بتجربة فريدة وغريبة، لكنه في مثل هذه التجارب ليس عاطلا، وانما يبدي نفسه مكابدا ذكيا يستدرج مناصرة المصادفة مرة والقدرة مرة اخري، لكنه (بطل ) مديني اولا، له مهاراته وصنعته وحصافته ومقدرته، كما ان له حدوده التي تدفعه الى تكييف شجاعة بطل الرومانس الى ما يرتضيه مفهومه للبقاء والاستمرار، ما بين اسف على حال وطمع الى مال.
لكن السند باد بصفته منتوجا امبراطوريا لا يتورع عن تذليل المعاب بالحيلة، حتى عندما تضطره هذه الى المجاهرة بالخمرة المسكرة، فشيخ البحر في الرحلة الخامسة لا فرار منه بلا عصير العنب المنقوع تحت حرارة الشمس حتى درجة التخمر، فيكون سبيله للترويح عن نفسه اولا قبل استدراج شيخ البحر لديه، وضمان تأثيره فيه كخطوة اول نحو الفكاك منه والقضاء عليه.
اما عندما تقع الممالك التي تقوده الاقدار اليها خارج مملكة الاسلام، فثمة غرابة في سلوك اهلها، كتلك التي يلتقيها في الرحلة السابعة مثلا، او ثمة جهل بلفته العربية، كما هو الامر في الرحلة السادسة : فجزيرة سرندب لم تقع بعد بين ضفاف الامبراطورية، ولهذا جيء له بمترجم يحكي للعلك ما يقوله السند باد، اما معرفة السند باد بأهالي تلك البلاد، فانها تصبح من تحصيل الحاصل، اي من مصادرات السند باد للآخر: اذ ان ما ينظر اليه، ويتسلط عليه، يؤول الى امر معروف ومعروض وظاهر. وهكذا يبتدىء بنقل ما يراه الى المستمع المندهش. وكلما جرى التماس مع ممالك متمدنة، يظهر ثمة انحراف في الخطاب، يمكن للمستمع ان يقرأ فيه او يتابع نقدا مبطنا للبلاط العباسي الباذخ. فالملك في جزيرة سرندب يظهر الى الناس بمناد يمجد به وآخر يؤكد انسانيته، بواحد يطري ما هو عليه وآخر يعلن انه بشرمآله الموت والفناء. ولابد من ان تحتوي التقارير التي يأتي بها السارد - الفاعل الى الرشيد (بصحبة الرسالة التي يرفعها ملك سرندب ) بمثل هذه المعلومات.
اما النقد الاوسع الذي يحتمله الخطاب الامبراطوري، فهو ذلك الذي يأتي على لسان اهل البلاد التي يستطلعها السندباد:
ففي الرحلة السابعة تقول له زوجه، ابنة شيخ السوق المتوفي، انها مؤمنة على خلاف سكان المدينة. ولهذا تدعوه الى العودة معه الى مركز الخلافة. وبقار ما تعنيا العودة من وفاق ومصالحة واعتراف بقيمة المركز فانها تحتمل الدعوة الى اصلاح الحال في الاطراف المماثلة المتباينة مع هذا المركز في الرأي والمعتقد والسلوك. وبكلمة اخري، فان التغاير والتباين مع اخلاق المركز حسب ما ينقله السارد - الفاعل يعني ضمنا اعلاء حال على حساب الآخر: وليس مستغربا بعد ذلك ان يتماهى الخطاب السند بادي مع الخطاب الآمر، محيلا اليه، متموضعا في داخله. اما (البطل ) نفسه، فانه يتعرض للمحن، وتفعل به السنون ما تريد، لكنه مطمئن الى وضوح هويته متمثلة بتجارته التي تحفظها له المواثيق والاعتبارات التجارية السائدة في عصر تحقق فيه الفئات التجارية والمنتجة تقدما كبيرا وحضورا فاعلا. وهكذا، فعند خاتمة رحلة وبداية اخري، نواه منتظرا عند ميناء، ليتعرف برئيس الملاحين، الذي يعلمه بتجارة تقيم على ظهر سفيتنه لتاجر ضاع في البحر، فيكون مشهد التعارف وكذلك شهوده. ومرة أخرى فان مشاهد التعارف بين السند باد والبحارة والقبطان تحيل على مواثيق المركز وعهوده ايام ازدهار الامبراطورية واتساعها.
المرأة والمدن :
وحتى عندما يتسع السرد لاحتواء الحياة الداخلية للمدن، فإن المرأة فاعلا لا تتحدد بصورة واحدة. فالسند باد يحب زوجه الهندية، لكنه لا يتورع عن قتل مثيلاتها في مقبرة الأصوات. كما أن الزوجة في الرحلة السابعة تضحي بالكثير من أجل أن يكونا سوية في رحلة العودة. أما في علاء الدين. فإن الأميرة بدر البدور يستميلها الشاب بفصاحته وماله، لكنها تعاني من غفلة وقلة درية تجعلها عرضة للتغرير مرتين، من قبل المغربي الساحر ومصباحه الجديد الذي تستبدله بالقديم المسحور بدون معرفة منها بشأنه، ومرة أخرى من قبل شقيقا مستحضر الأرواح الذي يظهر لها بدور التقية فاطمة. لكن الذي يتخل عنه السرد هو ما يملأه المستمع أو القاريء فبدون أن يحيطها علاء الدين بأسرار المغامرة يصعب عليها أن تتعرف بما يجري ويدور. أي أن مقالب الأفعال المضادة تتحقق بواسطتها جراء جهلها دولا، وليس لضعف أساسي فيها. وعلى خلافها شخصية مرجانة. فهي لا تحتاج الى معلومات من علي بابا لإحباط اللصوص ومشروعهم، فدربتها ودرايتها وملاحظتها، تجعلها متسلطة على الآخر، عارفة به، مستعدة لإسقاطه في الفخ، ومثل هذا النوع من التشخيص، يجعل المحكي مرنا، قادرا على المشاكلة مرة والاضطراب مرة أخرى حاملا للبذرة الشاملة أو الكونية في داخلا، محيلا على محيط، ومستوعبا لأفق التوقعات ومتواطئا مع الفضاء القريب، بدون أن يبعده ذلك عما هو شامل وكوني يثير اهتمام الآخرين في شتى الأمكنة والمجتمعات والعصور وليس غريبا بعد ذلك أن تحقق هذه الحكايات حضورها الواسع في تاريخ الأداب طيلة عدة قرون. فمن هذه الحكايات تطل شهرزاد لتضمن تدفق الحكي، غناه وتعقيداته ومسراته، بوجوه عديدة متقلبة باستمرار تفري وتخاتل وتستدرج وتشاكس وتريح.
ولربما توجد مثل هذه القراءة مجموعة من الاستجابات والردود لدى القاريء، فلماذا يبدو المحكي متفاوتا هنا مع المدن في المقامات لبديع الزمان مثلا؟ إن المقامة تعني أكثر بالهامشي بحركته بين الأطراف والمركز وبتلونه واستجماعه اللعوب مرة والمضني المكابد مرة أخرى للامكانيات والمهارات، بقصد أن يتموضع داخل المجتمعات المحتدمة، من خلال مواهبه كصعلوك ومتشرد عرف الشعر وخبره صنعة وبضاعة قابلة للبين من جانب والتعريف بحاله من جانب أخر. إنه ليس السند باد الذي يتيم شخصه بنفسه داخل سرده ليعيد ترتيب المشاهدات والانطباعات داخل إطار يمتد بين المركز والأطراف، قبيل العودة ثانية الى المركز منتصرا محققا مزيدا من النجاح والمصالحة والوجاهة داخل سلطة هذا المركز ولربما تختلط في تكويناته السردية في المحكي الوقائع بالرغبات، فيبدو كل ما هو مهدد له بصورة القردة التي تقرض الحبال والغول الذي يأكل البشر والأفاعي الضخمة التي تبتلع البشر. فكل ما يخرج عن الانتظام الذي يعرفه أو ينشده لابد أن يكون مهددا وخطيرا. واذ تقصي حكايته الحضور وتموضعهم في مائدة الاستفادة والتبعية، علينا أن نصادق على ما يقوله، بصفته شاهدا وحيدا وفاعلا يدعي الانتماء الى هيبة المركز، وخطابه وقوته.
الوجوه الكثيرة للحكي:
لكنه هو الأخر لا يعي ضرورة ما يأتي عن الحكي فلربما تدفقت هواجسه وكوابيسا بهذا الشكل كلما فارق المركز، استقراره وعقوده وعهوده، وحتى عندما يتخذ الميناء مخرجا ومدخلا فيما يبدو تمثيلا فعليا لحياة الاتجار والابحار فإن هذا الميناء نافذة متقلبة إيغال في شيء أو خروج من أمر، أنه السر الذي تتقلب وجوهه كثيرا، فيتحقق فيه التعارف مرة لكي يستعيد ثقة الأخوين بهويته المرغوبة ثانية ليبدو فيه لحظة أخرى وقد أوغل في مغامرة وأزمع على أمر وغاية. ان الميناء أكثر من عتبة المنزل، هو المكان المهتز باستمرار بوابة يعوزها الثبات الى عالم الرغبات والأفعال والأشواق والحقائق والمحن، والمشكلات إنه كنز الحكى الآخر الذي يحتمي خلف المشاكلات مع الواقع والبحر والتجارة لينفتح لغزا متقلبا باستمرار يتدفق منه الكلام ما بين الليل والنهار، وما بين أسرار البحر وغموضه وارتجافه الظاهر أمام تباينات الأوقات والمواعيد وتعب الراثي ونكده أو حريته وفرحه ومن هذا المخرج وعند مكان الأوبة نفسه لنا أن نفترض الكثير لنعرف سر المحكي الشهرزادي الذي لا يبور ولا ينتهي.
وهو لا يبور ولا يتحدد بتأويل ما لأنه يحتمل أكثر من وجه، كما أنه يجمع ما يحول دون تنميطا فإذا ما قيل أن الكهوف والسراديب هي البعد القصي للوعي تعبيرات الحنين الى الرحم مرة والى الأمان والاكتفاء مرة أخرى، أو تعقيدات الرغبة والخوف المختلطة المتشابكة فإن هذا التفسير محتمل كما يحتمل غيره فهذا علاء الدين في الكهف ينعم بما تتوق اليه الرغبة ليفاجأ عند البوابة بأن النعيم يقصر عن ضمان الحياة واستمرارية الرغبة إذا ما انفلقت عليه البوابة أو عاقبه الساحر. وهكذا كهف اللصوص الملي ء بالمال في علي بابا. فهو التجسيد الأشمل لرغباته في التعويض عن فقره، لكنه الكنز الذي يجاوره الموت أيضا. فالرغبة والخطر يتعانقان باستمرار تماما كما هو أمرهما في رحلات السند باد. ولا يعني باطن الأرض مشاكلة حتمية للباطن النفسي ما دام الباطن والظاهر العميق والبارز يخضعان لأكثر من فرضية وعقيدة. فقصر علاء الدين عل الأرض هو الآخر ميدان للمغامرة يتجاور فيه الموت مع الحياة، والخطر مع الحب عندما أقام مستحضر الأرواح المتنكر في غرفة مجاورة لبيت الزوجية. وكلمإ يشعر القاريء بالقرب من تأويل محدد وحاسم، تتدفق شتى المخلوقات في الهواء والماء والأرض، وكأنها تريد أن تقول عن نفسها أنها الأفواه العديدة للحكي تتكلم لتؤكد استمراريتها التي صادف أن تكون استمرارية الحياة والسرد في آن واحد، حيث تخلد شهرزاد من قبل ومن بعد.
أصول أسفار السندباد :
ثمة سؤال لابد منه عندما يتطرق الأمر لتاريخ ظهور الحكايات المذكورة أصولها وتناميها، وتداولها بالشكل المتعارف عليه فإذا ما افترضنا وجود أساس واقعي لحكايات السند باد ورحلاته فإن المطابقة التاريخية لا تصمد كثيرا كتفسير لاستمرار حظوة الحكايات بين القراء، حتى في عصرنا الذي يتجاوز المدونة نحو وسائل الاتصال المرئية والمسموعة. وازاء ذلك،نحن أمام سلسلة من المشكلات التي تستدعي التفسير والحل، ومهما يكن فإننا مدعوون أولا الى تقصي جانب المحاكاة في المحكي: فالمدن الاسلامية الوسيطة منتجة لانماط سلوكية معينة وكذلك لمدونات ومحكيات لها القدرة عل الصمود أمام تقلبات الأزمان وكما أن أعمال بلزاك وفلوبير وأكنز أو أخرى كأعمال كافكا مشاكلة بالضد للتكوينات المؤسساتية السائدة الآن لكنها تقدر على تجاوزا لتغيرات فإن المنتوج المديني الوسيط المعقد للحضارة العربية الاسلامية مكتوب له مثل هذا الصمود والمجاراة والاثارة والمشاغلة وتوليد الدهشة. وهذا يصدق على حكايات بغدادية وقاهرية كثيرة، كما يصدق على ما يدور فيه محكي علي بابا والأربعين حرامي، الذي ينتقل فيه الراوي بمعرفة بادية بين المدينة وأرقتها ودورها وصناعييها وبين ذلك الباب الدوار الذي يختبيء خلفه الذهب المسروق الذي تتمكن منه وتزيد عليه عصابة قوية تخضع لنظام داخلي صارم.
ولئلا نستبق التفسير، يمكن أن نتأمل عددا من الوقائع التي ترد في المدونات الأخرى المعاصرة لنشأة الليالي، وتناميها ومن ثم تدوينها.
الرحلة العباسية :
فسواء جرى التنقيب بين آثار الجغرافيين أو المؤرخين العرب منذ ذلك العصر الزاهر الغامر بحيويته ونشاطه ومجهوده، ومشكلاته وافاقه، أو تأملنا حياة هؤلاء أنفسهم لوجدنا (التجوال ) باتجاه مركز الخلافة ولغاية سقوط بغداد سمة أساسية من سمات الرحلة ومواصفاتها. هكذا يفعل أبوزيد البلخي، وهكذا يتحرك أبو دلف الينبعي الخزرجي الصعلوك صاحب المقامة الساسانية وبطلها والذي صادر هذا اللقب ليؤول لشخصه ولصحبا
المكدين، وهو يأتي من بخاري نحو الشرق وبغداد (1).
وليس ذلك بمستغرب اذا ما عرفنا معنى بلوغ بغداد، مركزا للحظوة والمجد والشهرة والمعرفة والتتلمذ على أخوين أو اختراق الحواجز والموانع التي تحول دون الانتشار.
لكن هذا العامل الذي يفسر جزئيا شكل الرحلة بابتدائها وانتهاشها كما في أسفار السند باد لا يبدو شاملا إن لم يقترن أيضا بمعرفة ما يعنيه المركز عند مؤرخي تلك المرحلة وكتابها فاليعقوبي الذي غادر بغداد مبكرا وتنقل في أسيا وأقام في مصر والمغرب يكتب في تقديم (كتاب البلدان ) مبررا السبب في تكريس ربع كتابه لوصف بغداد وسامرا، قائلا:
(وقد ذكرنا بغداد وسر من رأى وبدأنا بهما لأنهما ميدنتا الملك ودار الخلافة ووصفنا ابتداء أمر كل واحدة منهما فلنذكر الآن سامر البلدان والمسافات...) (2).
لكن الاكتفاء بهذا التفسير المتداول لمعنى الاتجاه الى المركز، والأوبة اليه لا يمكن أن يلغي التمساؤلات الأخرى بشأن معنى قدرة المدونة والرحلة السند بادية تحديدا على تجاوز مجرى الأزمان وتقلباتها فثمة اعتقاد آخر تتحرك بوجبه الرحلة بصفتها اكتشافا ومخاطرة ومسعى للاتجار أو للمعرفة أو مغالبة الذات (الرومانسية ) الهائمة والقلقة أو المتوترة.
أنواع الرحالة :
وعند المسعى لمعرفة اتجاهات هذا الموضوع، علينا أن نفصل بين نوعين من الرحالة، فهناك من هو منخرط في فعل مملكة الاسلام، كما هو شأن حوقل، مثلا. وهناك المغامر الذي تتعاظم نزعة المجازفة مقارنة بغيرها فالانشداد الى المغامرة والمعرفة والاكتشاف نتبينه ني شخصية ابن بطوطة مثلا، وهناك العشرات من أمثاله الذين تركوا مدونات تقل حظوة وشهرة، لكنهم غامروا مثله مدفوعين بغريزة الاستطلاع والمثابرة والاكتشاف.
لكن نموذج ابن حوقل مثلا يجتمع فيه التاجر والمستطلع والراغب في المعرفة،وهو أيضا النموذج الذي يكتفي بأهل الكتاب داخل مملكة الاسلام وخارجها عارضا لهم أصحاب حضارة تستحق الذكر على خلاف غيرهم ممن يستبعدهم من هذه الدائرة غير مثيرين لاهتمامه والشخصية التي تطن علينا في مثل هذه الفقرة مثلا تنتمي أيضا الى (الأيديولوجية ) السائدة أولا، تلك التي تتموضع فيها شرعية المعرفة داخل منظومات أخلاقية واجتماعية وسياسية تجد مواصفاتها في التأويل السائد للديانة الاسلامية، فالاعتبار الأول يعطى للمسلمين، بصفتهم ينهلون من دين مملكة الاسلام التي تمثل للكاتب عنوان التحضر والمعرفة والنجاح بدليل امتلاكها لمثل ذلك المركز ونظائره وبعدهم يأتي أهل الكتاب سواء جاءوا ضمن شعوب المملكة أو خارجها. فابن حوقل ينطلق من بغداد (مايو 943) تاجرا، ليزور افريقيا الشمالية والأندلس وباليرمر والهند ونابلي وغيرها، ليرفع كتابه الى بلاط سيف الدولة، بصفته البديل الناجح للمركز الأخذ بالأفول ففي (كتاب المسالك والممالك ) يقول ابن حوقل انه لم يذكر بعض بلدان افريقيا (ومن اعراضهم من الأمم لأن انتظام المماليك بالديانات والآداب والحكم وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة وهؤلاء مهملون في هذه الفصال ولاحظ لهم في شيء من ذلك فيستحقون به افراد ممالكهم مما ذكرت به سائر الممالك (ص 219). أما عندما يستدرك على هذا التعميم فلأن (بعض السودان المقاربين لهذه الممالك المعروفة يرجعون الى ديانة ورياضة وحكم ويقاربون أهل هذه الممالك كالنوبة والحبشة فإنهم نصاري يرتسمون مذاهب الروم وقد كانوا قبل الاسلإم يتصلون بملكة الروم على المجاورة...) وسرعان كان ابن حوقل داعيا سياسيا أو تاجرا، فإن استدراكاته تقوم على مبدأ واضح، يتم بموجبه تشديد الاقتران بين (الايديولوجية ) والحضارة والدولة.
لكن هذا التمسك بالتأويل ( الايديولوجي) لا يكتسب صفة التعميم عندما نريد قراءة مواقف الرحالة والجغرافيين والمؤرخين والكتاب الآخرين. فثمة نمط آخر لا ينتمي الى طائفة المكدين أو الصعاليك الجوالين،من على شاكلة أبي دلف، كما أنهم لا يجدون هويتهم في المهنة وشروطها واعتباراتها. فهذا المسعودي الذي يعده كريمرز من (أكثر الجغرافيين أصالة في القرن العاشر)، شملت رحلاته عشرات البلدان (من الهند الى المحيط الاطلنطي ومن البحر الأحمر الى بحر تزوين ) وغيرها. ليقدم خلاصة لجولاته في عدد من المؤلفات كـ (أخبار الزمان ) و(الكتاب الأوسط ) و(التنبيه والاشراف ) والتي تعد من غرر كتابات القرن العاشر علاوة على ما هو معروف له من كتب أخرى كمروج الذهب. لكن هذا الترحال يدفعه حب المعرفة، مما يعني وجود نزعة أصيلة لديه للانتماء اليها بديلا للمكان وهو اذ يعتذر عما يمكن أن يفوته سهوا أو غفلة يؤكد أن (طول الغربة وبعد الدار وتواتر الأسفار طورا مشرقين وطورا مغربين أسباب محتملة لا يمكن أن يسهو عنه. لكن هذه الملاحظة لم تأت مقطوعة عما يقوله أبو تمام وهو يجد نفسه جوابا مالكا للهوية مرة ومنزوعا عنها مرة أخرى. ولهذا جرت الاشارة الى الشاعر وما يقوله بهذا الصدد.
أي أننا بإزاء ترحال آخر يفني في حال ليضعف في أخرى،
فغربت حتى لم اجد ذكر مشرق = وشرقت حتى قد نسيت المغاربا
كما يقول أبو تمام، فمملكة الاسلام تتسع للانتماء لكنها تضيق أيضا ازاء الهاجس الفرداني أو المغترب للمبدع :
بالشام قومي و بغداد الهوى وأنا = بالرقتين وبالفسطاط إخوتي
وبقدر ما تعنيه الاشارة الجغرافية من انتماء واسع فانها تعرض أيضا لذات تتمدد وعيا في أكثر من مساحة داخل هذه المملكة وهذه الذات ديدنها التجوال والاكتشاف والمعرفة أولا لكن هذا الانشغال لا يعني ضرورة الانكفاء على ما هو وضعي: فعلى الرغم من أن السلطة اهتمت هي الأخرى بالتثبت مما هو غريب أو عجيب أو مما هو مألوف في النص الديني أو مثير للتقولات، إلا أن ذلك لا يعني انتفاء النزعة للاغراب مرة أو لتمرير العشرات من الملاحظات والصور والحكايات التي تثير ريبة المشاهد صاحب الرحلة مرة أخرى،فيمكن أن يبعث الخليفة الواثق مرسليه للتثبت من خبر ما كما فعل أبو بكر من قبل وهو يبعث عبادة بن الصامت لمعرفة خبر رقيم أهل الكهف على مقربة من القسطنطينية وهاهو الواثق يبعث (محمد بن موسى الفلكي ليستقمي خبر أهل الكهف ) (3) مرة وسلاما الترجمان مرة أخرى عندما تراءى في المنام (كأنما انفتح السد الذي بناه الأسكندر ذو القرنين ليحول دون تسرب يأجوج ومأجوج ). لكن دارسي علم الجغرافيا يرون أيضا أن (هذا الحلم المزعج قد سببته للخليفة الشائعات عن تحرك القبائل التركية في أواسط آسيا) (ص 158) أي أننا بازاء اختلاط الحقيقة بالخيال والواقع بالحلم، لا يمكن أن نقبل بما يجيء من الباحثين والدارسين التالين أو نكتفي بظاهر المدونة فمن الواضح أن الخلفاء المعنيين بالمعرفة والعلوم تستميلهم رغبات أخرى في ضوء ازدهار ما هو تجريبي أيضا. فالمأمون والواثق ينشغلان بالعلم وينظران الى كل ما هو (عجائبي) بعين الشك والتجرد.
ولهذا غالبا ما يختلط على الأخوين من مؤرقين أو جغرافيين معنى انشغالهم بالبعثات والرحلات : فكل خبر لدى هؤلاء وغيرهم ظن، وكل ظن لا يستحق الاهتمام الا عندما يتحول الى يقين. ولهذا انشغل كلاهما بالمراصد والمختبرات أيضا. لكن هذا الاهتمام من قبل السلطان لا يلغي الجانب الشخصي لدى الرحالة، فهم ينظرون الى مواضع ترحالهم في مواقيت متباينة وتحت ظل ظروف نفسية متقلبة. وبينما يأتون على الوصف والملاحظة بدون كلل ولا ملل، إن ما يربك الأحاسيس أو يثير الشبهة أو يتباين مع المألوف أو يتداخل مع المقروء أو المسموع قد يأتينا في باب العجائب والغرائب، وهو باب يتباعد عن المألوف والظاهر، لكنه يدعوهم الى الدراسة والتبصر. كما يفعل بزوج بن شهريار في عجائب الهند مثلا. وهكذا يحفل علم الجغرافية ووصف الكون تحديدا، بانشغال بهذا الجانب الذي يقول كراتشكوفسكي انه نال تسمية (علم عجائب البلاد) (ص 23). ومثل هذا العلم قد يحتوي في داخله ما يقوله المسعودي مثلا عن أخبار (بحر الظلمات ) أو المحيط الأطلنطي الذي يغيب فيه الكثيرون بينما يكتب المسعودي عن خشخاش القرطبي الذي (غاب فيه مدة ثم انثنى بغنائم واسعة وخبره مشهور عند أهل الأندلس ) "ص152".
ومثل هذه التفاوتات في تكوين الرحالة وهمومهم وانتماءاتهم وسعاهم تضعنا أمام مجموعة أخرى من الأسئلة. فهذا الذي يقتفي الأثر ويطارد المجهول أوزان الذي يحركه الدين أو يدفعه مسعى الاتجار لا يعود كما كان فالدهشة التي توجدها الممالك والمسالك أو الظلمات قد تنبعث عنها افتراقات كثيرة عن الأنماط السالكة والمقولات الدارجة والمعلومات السابقة.كما أن اليقين قد يزداد قوة ومنعة عندما يقابل بما يقال عنه.وكلما بدا الأمر لرحالة عارفين بشؤون الآخر أو متسلطين عليا أو سكتفين بامتيازهم عليه أو ساعين الى ضمه اليهم كواحد منهم، عادوا وقد ازدادوا يقينا و?
.