سناء شعلان - شهريار يتوب

كانتْ غلطة كبيرة جعلت شهريار يدفع سمعته ثمنًا لها، بل ويدفع ألف ليلة وليلة من السّهر المضني والمتواصل محبوسًا مع نزير الماء والطعام في مخدعه السّلطاني الذي يحرسه السيّاف المرتشي مع زوجته الثرثارة شهرزاد، ولولا ستر الله، ودفعه الفتنة بالحكمة، والتمرّد بالحلم، لكـان رأسه الآن متدحرجًا بعيدًا عن جسده، وملقىً عند قدمي زوجته الغيورة الثرثارة شهرزاد، وما أبعده من اسـم عن ودّ قلبه !! فما هو إلا اختزال لكلمتي "شر" و "زاد"، فهي الشرّ كلّه قد زاد عن حدّه، وتوّج قباحة خلقتها وسوء معشرها، وقاتل الله الطّمع، فلولا طمع شهريار بالمال المزعوم للوزير عفّار والد شهرزاد، لما كان متورطًا بها الآن، ولكان حظّه من المتعة مع جواريه الألف عوضًا له عن كلّ المال والسّلطان، ولكن الطّمع ضرّ ما نفع، وفرّق ما جمع؛ فالكوارث تهلكه، ويبقى القرد في وجه صاحبـه الطمّاع، وها هي القردة شهرزاد في وجهه.

تستطيع شهرزاد أن تلفّق آلاف القصص والأكاذيب عن جمالها المزعوم وثقافتها الواسعة وحكمتها المنشودة، ولكنّ المرايا لا شكّ ستفضح كذبها، والجهل سيضع حدًّا لأكاذيبها، ولولا ذكاؤها الذي يشهد به شهريار، ويعضّ عليه النواجذ لكانتْ الآن نسيًا منسيًا كما هو الآن في قصره وفي سلطنته منسيًا وألعوبةً في يديّ زوجته المخادعة.

منذ أن انتهتْ الليالي الألف التي منعته شهرزاد من النّوم فيها، وأقامت عليه الحرس والعيون، وألزمته بالاستيقاظ والسّماع إلى حديثها المقيت دون انقطاع، وإلاّ فرأسه الملكي النبيل سيكون ثمنًا لعصيانه الوحيد لزوجته، وهو يعاني من أرقٍ ملازم، وتعجز أقراص النّوم وأقراص المهدّئ عن أن تدفعه إلى مدينة النّوم. وها هي شهرزاد تغّط في النّوم هانئة سعيدة بعد أن تمّ لها كلّ مـا شاءت، وملأت الدّنيا قصصًا وأكاذيب، وجعلته أضحوكة وألعوبة، ورسمته في أذهان العامة على هيئة السّفاح الدّموي الجاهل المغرور، وها هو الآن يساهر نجوم السّماء، ويتميّز غيظًا بسبب ديك الصباح اللئيم الذي يذكّره بمعاناتـه الّليلية الألفيّة، ويذكره بخطيئته الكبرى المدّعاة التي ساقتْ البلاءَ إليه.

كان يومًا شمسيّا قائظا عندما دخل عليه نخّاس القصر اليهوديّ يزفّ إليه جارية فُلقتْ من القمر في ليلة اكتماله في ليلة صيفيّة، جمالها أطار لُبّه، واشتراها بألف ألف درهم، وما كان ذلك بالكثير إذا ما قُورن بجمالها وسحرها وأنوثتها، وقد أمل في أن يجد في جوارها السّعادة التي رحلت عن حياته منذ أن دخلت شهرزاد مخدعه، ودستّ أنفها الكبير المقوّس كأنف صقر في شؤونه وشؤون دولته، ولكن الويل كان في حضورها، فما كادتْ عينا شهرزاد تدركانها، حتى جـنّ جنونها، وأصابها هوس القرود، وإلحاح البراغيث والقمل والبقّ، واتهمته بالسّفاهة، وتبديد أموال المسلمين، وحجرتْ عليه، وأغلقتْ يديها دونه، وكادتْ للجارية، وأودعتها الأرض حيّة في صندوق خشبي مغلق، الشّيطان نفسه يعجز عن فتحه، ومن ليلتها كان البلاء، فقـد شرعتْ شهرزاد في ثرثرتها التي امتدتْ ألف ليلة، وغلّقتْ الأبواب، وخلعتْ ستر الحياء، وطفقتْ في حكايـا وألغاز وعبرَ، تذكّره بها بكلّ خطايا البشر، وتصفه بكلّ نواقصهم، وتضرب له الحكم، وتجسّد له الشَّر كلّه في جاريته الدّفينة حيّة، وتلومه وتقرّعه وتبكي وتنتحب وترقص وتقفز وتستلقي وتكسّر وتتوعّد وتسبّ وتشتم وتعضّ وتضرب بالقبقاب، وبعد ذلك ليس في يديّ شهريار المسكين إلا أن يستسلم، ويتوب عن خطيئته، ويستجدي شهرزاد المغفرة، ويضرب رأسه بنعليه ندمًا على ما أخطأ وفرّط، ويخلص إلى حكمة مفادها : "حمارٌ من يتزوّج امرأة ثرثارة غيورة وقبيحة كشهرزاد لا سيما إن كانت تجيد نسج القصص".



* oudnad
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...