ميزوبوتاميا - الف ليلة وليلة.. والانوثة العراقية..

كثير ما تداول الحديث عن هوية (الف ليلة وليلة).. هل هي هندية ام ايرانية ام شامية ام مصرية.. ام عراقية؟ ومن اجل ان نكون واقعيين وموضوعيين، نقول انها عراقية وعالمية( شرقية) بنفس الوقت.. انها اولا وقبل كل شيء نتاج عراقي صرف لأنها بكل بساطة نشأت ونمت وعرفت في بغداد. صحيح ان فكرتنها الاولية او قل برعمها قد ولد في الهند ثم مر يايران، الا ان هذا البرعم نبت ونمى وترعرع واثمر في بغداد بعد ان سقاه العراقيون بكل خزينهم الحكائي والثقافي الموروث منذ ايام عشتار التي لا تختلف عن شهرزاد وكلكامش الذي وجد بعضه في شهريار وبعضه في السندباد البحري. لا احد يقول عن مسرحية(عطيل) لشكسبير، بأنها نتاج ايطالي، رغم ان اصلها حكاية شعبية ايطالية حولها شكسبير الى مسرحية خالدة، لتصبح نتاج انكليزي قح.

رغم ذلك نقول ايضا ان الف وليلة وليلة، عالمية شرقية، لسبب جدا بسيط، لأن حضارة بغداد العباسية لم تكن فقط تمثل وتعبر عن العراقيين وحدهم بل تعبرعن واحدة من اعظم واكبر امبراطوريات التاريخ التي جمعت شتى الشعوب واللغات والثقافات. وكان من الطبيعي جدا ان تعبر هذه الحكايات ليس عن ثقافة العراقيين وحدهم بل عن ثقافة الشعوب المنضوية تحت امبراطوريتهم. كما يصح القول ان حضارة روما تمثل الرومان اولا، لكنها كذلك تمثل كل الشعوب المنضوية تحت الامبراطورية الرومانية. نفس الكلام بالنسبة لموسكو ايام السوفييت، على سبيل التشبيه.

الف ليلة وليلة، ام الف انثى وانثى؟!

ليس بالصدفة ان هذه الحكايات تسردها (إمرأة) هي شهريار، بالاضافة الى ان النساء لهن الحضور الاكبر في غالبية الحكايات. ثم ان الليل حسب المفهوم النفسي والتاوي الصيني، يمثل الجاانب الانثوي من الوجود عكس النهار الذي يمثل الجانب الذكوري. الحكايات جميعا تسردها شهرزاد في الليل حيث تهيمن الروح الانثوية على الكون، ليس بالصدفة ان تسمية (ليلة) صارت هي اسم هذه النتاج الشعبي العبقري. تبدأ حكاية هذه الحكايات بالحديث عن صدمة رجل يعاني من عذابات مكر الانثى. يكتشف شهريار وهو أحد الملوك بجزائر الهند والصين أن زوجته، لمجرد مغادرته القصر، تسلم نفسها لمضاجعة احد عبيده.

وتكاملت الصدمة وهو في طريق ترحاله عندما أرغمته زوجة احد العفاريت على مضاجعتها، لا لشيء إلاّ رغبة في إهانة زوجها العفريت. حينها طفح الكيل لدى شهريار وقرر منذ تلك اللحظة ان يشرع بقتل زوجاته بعد الدخول بهن وقضاء ليلة واحدة معهن. ليلة بعد ليلة ظل يمارس طقوس القتل المتكررة. والطريف ان هذا الملك يقتل اناثه بعد ان يقضي معها الليل، وكأنه بهذا يقتل رمز الانوثة بمعناه البشري المتثل بالمرأة وبمعناه الكوني المتمثل بالليل.

لكن الانوثة قادرة على الدفاع عن نفسها امام استفحال( الفحولة). تظهر فجأة( شهرزاد) وهي ابنة الوزير. كانت تلك المرأة المتعلمة وواسعة الإطلاع قد تدبرت خطة انثوية جدا: أن تقص الحكايات من أجل إنقاذ حياتها وإنقاذ الملك والعالم. الحكي على طريقة مسلسل من القصص المتداخلة، بطريقة جذابة ومثيرة بحيث يبلغ التشويق عند انبلاج الفجر ذروته ("واستل الجني سيفه ليضرب عنقها...") تجعل المستمع يتشوق لسماع الحلقة الموالية.

هكذا إذن تقول لنا الحكايات وباسلوب رمزي رائع وخلاب ومنطقي جدا: إن كان السيف سلاح الرجل فأن اللسان هو سلاح المرأة !! يتواصل الحكي، والموت يؤجل ليلة بعد ليلة إلى أن تمكنت( شهرزاد) من انجاب طفلا للملك، فاصبحت بذلك، زوجة كاملة تهيمن على الدار، وكذلك حبيية تهيمن على القلب، وجعلت الملك يتخلى عن وحشيته الفحولية. إنها الخطة العلاجية الظاهرية البسيطة. لكن وراءها تتخفى الحقيقة الأعمق لفن السرد، ذلك أن شهرزاد، ومنذ الليلة الأولى قد راحت تحوم حول عقدة زوجها وتعالجها بقصصها، عن طريق الاعيب حكائية وافكار ومشاهد وحكم تجذب السلطان وتجعله يتخلى عن وحشيته مؤقتا بانتظار البقية في الليلة القادمة.

مع توالي الليالي وتعاقب الحكايات تمكنت هذه الانثى من ان تهبط الى اعماق الرجل وتبلغ لب المشكلة فتشرع باطفاء نيران الحقد المتأججة. بذكاء قد سبق ذكاء(فرويد) بقرون طويلة، ومن خلال جلسات علاج نفسي تلقائية توصّلت الراوية إلى أن تحكي له قصته الخاصة بصفة مكشوفة بّينة. ظلت (شهرزاد ) تسرد حكايات الف ليلة وليلة، حتى استطاعت ان تروض نزعة الشر والعدوانية عند شهريار. كانت هي البلسم لشفاء المرض وهي زخات المطر التي اطفأت نيران الجنون. عندها صحا شهريار وانجلت عنه سكرته وقال : والله إن هذه الحكاية لَحكايتي، وهذه القصة قصتي؛ لقد كنت في حال من الغضب والحنق حتى أعدتيني إلى صوابي، ثم استعاد عقله وطهر قلبه وثاب إلى رشده".

نعم ان حكايات ألف ليلة وليلة ما هي إلا اعلان نهائي عن انتصار (لسان المرأة وذكائها وقدراتها الحكائية) على (جبروت الرجل وعناده وقدراته العضلية ). لقد تمكنت إمرأة عزلاء إلا من لسانها وذكائها أن تعالج عن طريق الحكي الروح المريضة لرجل محبط وحاقد على نفسه وبالاخص على جانبه الانثوي!

هل ياترى تستطيع المرأة العراقية ان تستفيد من تجربة جدتها العباسية، وتنجح بترويض الرجل العراقي عن طريق الكلام والحكايات، وتعمل بالتالي على رد الاعتبار للانوثة المقموعة في مجتمعنا وحياتنا جمعاء. ومن اجل ان ترتوي ارواحنا من منابع الانوثة والنعومة والعاطفة الانسانية، ويعم الهدوء والامان حياتنا التي يهيمن عليها منطق الفحولة بأبشع صوره واكثرها تطرفا: العنف والقسوة والطغيان.

لا يبقى لنا اخيرا إلا ان نقول بان الف ليلة وليلة ما هي إلا رسالة الانوثة العراقية والشرقية من اجل السلام والتفاهم و(الحكي)..


.* mesopot
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...