نقوس المهدي
كاتب
1- مقدّمة
ترجم المستشرق الفرنسي أنطوان جالان (ANTOINE GALLAND) (1646- 1715)(1) "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الفرنسية، لأول مرة في تاريخ أوروبا الأدبي، ما بين 1707و 1717، في اثني عشر مجلداً. وتلقى الجمهور الفرنسي هذه الترجمة بحماس نادر، بل احتضنها بكلّ سرور واعتراف بالجميل.(2) و "لم يجد أكثر الناس تحمساً للتنوير من أمثال فولتير ومونتيسكيو... أيّة صعوبة في الاستسلام لعالم الشرق السحري، بل أنصتوا لشهرزاد مندهشين"(3)
لقد انتشرت "ألف ليلة وليلة" في فرنسا انتشاراً واسعاً، ملهبة خيال القراء، ومحدثة ضجة كبرى في الأوساط الثقافية الفرنسية. ويبدو أنّ نجاحاً كاسحاً من هذا الطراز لا يمكن تفسيره إلاّ بسببين: أوّلهما، أنّ انطوان جالان نفسه كان فناناً فذّاً وأديباً موهوباً بصيراً بفنّ القصة، استطاع أن يقدّم لقرائه أجود ما تضمنته "الليالي" بأسلوب قصصي بارع ولغة ناصعة، يتداولها القارئ وكأنه أمام نص كتب بالفرنسية أصلاً.(4) أمّا السبب الثاني فيتمثل في ظهور هذه الترجمة في الوقت المناسب: فلقد سئم القراء، في أوائل القرن الثامن عشر، من الأدب الكلاسيكي الذي جمّدته قوالب فنية ثابتة، وراحوا يبحثون عن أدب جديد يتيح لهم التمتّع بأحلام الطفولة واستكشاف مناطق بعيدة تسيطر عليها أجواء أسطورية سحرية.
ومع ظهور ترجمة جالان، أبدى الفرنسيون اهتماماً متميزاً بكلّ ما يتصل بالشرق، وهو اهتمام لا يمكن مقارنته بالعصور السابقة. وهكذا أخذ اللون الشرقي يفرض نفسه شيئاً فشيئاً على الأدب والفنّ، ودخلت المواضيع الشرقية إلى الرواية الفرنسية ووجهتها توجيهاً جديداً: (أغنتها شكلاً ومضموناً). لقد أثبتت السيدة ماري لويس ديفرنواي في إحصائية دقيقة: "أنّ الكتب التي ظهرت في فرنسا، قبل 1704م، وكان للشرق فيها مكانة، هي كتب قليلة. ففي القرن السابع عشر، ما بين 1600و 1625، صدر تسعة كتب عن الشرق. وما بين 1625و 1650 صدر ثمانية عشر كتاباً. وما بين 1650 و 1675 صدر اثنان وثلاثون كتاباً. وما بين 1675 و 1700 صدر اثنان وخمسون كتاباً. غير أنّ القيمة الأدبية لهذه الكتب بقيت محدودة، لا سيما في المجال الأدبي. أما في القرن الثامن عشر، وبعد ظهور ترجمة جالان، فإنّ
الاهتمام بالشرق قد تزايد بشكل جدّي وملموس. ففي الربع الأول من هذا القرن صدر (98) كتاباً عن الشرق.
وفي الربع الثاني منه (262) كتاباً. وفي الربع الثالث (208) كتاباً... وفي الربع الأخير (111) كتاباً.(5)
إنّ كلّ الدلائل تؤكّد على أنّ "ألف ليلة وليلة" قد خدمت الخيال الفرنسي في فترة (القرن الثامن عشر) تعدّ من أهمّ فتراته التاريخية والأدبية، وذلك بما قدّمته له من مادة روائية غزيرة وأساليب فنية متنوعة، كما أنّها فتحت -في الوقت نفسه- حدود الشرق واسعة أمام الرواية الفرنسية التي كانت لا تزال تلتمس طريقها في هذه الفترة.(6) ولسنا نأتي بجديد إذا أشرنا إلى أنّ "الليالي" أصحبت تعني الشرق عند كثير من القراء والكتاب على حدّ سواء، باعتبارها تطرح -كما كانوا يعتقدون- صورة صادقة لحياة الشرق. و "قد صدقوا قول جالان، في مقدّمة ترجمته، من أنّ "ألف ليلة وليلة" هي الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى السوقة، وأنّها الصورة الصادقة له، فمن قرأها فكأنّه رحل إلى الشرق، ورآه ولمسه لمس اليد".(7)
ويعدّ كريبيون الابن من الكتاب الفرنسيين الذين اهتموا كثيراً بالشرق. فلقد خصّص له مجالاً واسعاً في كتاباته المختلفة، مطلقاً لخياله العنان في تصويره أروع تصوير. ويبدو أنّه كان أكثر دقة من غيره في اختيار مشاهده ونماذجه الشرقية للتعبير عن واقعه الاجتماعي ونقد المؤسسات السياسية والدينية الفرنسية.(8)
وغني عن القول إنّ هذا الروائي متأثر بالليالي العربية في أكثر من عمل أدبي. ولئن اخترنا "الصوفا" (LE SOPHA) نموذجاً للمقارنة والتحليل، فمردّ ذلك أنّ هذه الرواية -التي تعدّ من أشهر رواياته على الإطلاق- تعكس بوضوح أسلوب كريبيون الابن في الكتابة والتعبير: الفكاهة، التحليل النفسي، الاهتمام بالجنس، نقد العادات والتقاليد. إنّها رواية تستهدف الكشف عن آلية المجتمع وتعرية الضعف الإنساني وعجز الكائن الحي أمام شهواته...
- كريبيون الابن والشرق
لقد كتب كريبيون الابن (9) عدّة روايات شرقية نذكر منها:
- المرغاة أو تنزاي ونيادارني، حكاية يابانية (Tanzai et Néadarne, Histoire Japonaise Lécumoire ou) وقد نشرها عام 1734 وكلفته السجن في الباستيل عدّة أسابيع: انتقد فيها رجال الدين والنبلاء الفرنسيين (الكاردينال دوهان، الدوقة دومين...)
- أتالزاييد (ATALZAIDE) ، 1736، التي وصف فيها الأخلاق المتفسخة والمظالم وقوانين الإكليروس الجائرة.
- الصفة، روايات العادات وحكايات أخلاقية (et conte moral Le Sopha, Roman des moeurs) 1740 : وقد انتقد فيها النظام الملكي بشدّة وعادات الشعب الفرنسي وتقاليده. ويبدو تأثره بألف ليلة وليلة، في هذه الرواية، واضحاً.
- غراميات زيو كنزيل ملك الكفار (des Kofirans Les amours de Zéokinizul, roi) التي نشرها عام 1764، واصفاً فيها ما كان يدور في بلاط لويس الخامس عشر (Zeokinizul) من أحداث وقضايا، محلّلاً بدقة محظيات الملك وعشيقاته، اللاتي كن يشاركن في تسيير شؤون المملكة.
- آه يا لها من حكاية (AH! Quel conte) ، 1751: أبرز فيها عيوب الطبقة الأرستقراطية، مقتبساً من "الليالي" أدواتها الرومانسية وروحها المغامرة.
من هذه العناوين، يتجلى للباحث مدى مساهمة كريبيون الابن في خدمة الرواية الفرنسية، التي "كانت- في هذه الفترة على أهبة الولوج بقوة لا تكاد تكبح إلى هذا العالم المضطرب، الذي هو كبرياء الفرد، وسرّ الضمير، وتفصيل الأحاسيس، وحقارة الكائن الإنساني..."(10)
ويبدو أنّ هذا الأديب قد أدرك أهمية توظيف العناصر الشرقية في الوقت المناسب، أي في تلك الفترة التي اشتدّ فيها الصراع الطبقي، وقامت البورجوازية لتقود البلاد نحو الثورة الكبرى. ولقد اعترف هو نفسه أنّه كان يشعر بسعادة لا مثيل لها عند التجائه إلى عالم الشرق، ليصب فيه أفكاره وتأملاته.(11)
ومن الملاحظ أنّ كريبيون الابن قد تميز عن العديد من الروائيين الذين عاصروه بشجاعته الأدبية وقدرته الفائقة على التحليل والغوص في أعماق أبطاله وبطلاته، فضلاً عن نقده اللاذع للمؤسسات الدينية والسياسية والأسر النبيلة التي تفشى فيها الفساد... فقدرته تكمن، قبل كل شيء، في وعيه الاجتماعي- السياسي المتطوّر، ودقّة ملاحظته، وجرأته الخارقة على تعرية الفضائح والعيوب والخزي.
ولعل أهمّ ما عيب على هذا الأديب هو وصفه للقطات الجنسية الجريئة، وتعريته للمرأة الأرستقراطية التي أسهمت بقسط وافر في تسيير السياسة وميله إلى الإلحاد والطيش.(12) وفي الواقع، إنّ هذا الروائي لم يفعل سوى ما أملاه عليه ضميره في عصر تعدّدت فيه المشاكل الاجتماعية والفكرية. كان بإمكانه أن يكتب بطريقة أخرى حتى يجتنب الأذى ويكسب مودة الحكام، لكنه فضل التحدّي والمواجهة: إنّه صاحب مبدأ في الحياة، وأسير نظرة خاصة إلى الكون.
ويبدو أنّ كريبيون الابن قد وفق في توظيف المشاهد الشرقية الساحرة للتعبير عن واقع الطبقة الأرستقراطية التي انتشر فيها الفساد. كان بارعاً في تصوير اللقاءات المدّبرة بين الجنسين ورسم ما يدور في القصور من دعارة، وتحليل سلوك المرأة الشرقية المتمردّة، هذا السلوك الذي يدفعها أحياناً إلى الخيانة على الرغم من تمتّعها بالمال والجاه.(13)
ولئن وجد هذا الأديب في الشرق إطاراً خاصاً يصبّ فيه آراءه وتأملاته، فإنّه استطاع أن يجمع في نصوصه بين الواقعي والخيالي؛ فالجن والعفاريت ترقص في رواياته وتتحدّث لتعبّر عن مشاكل العصر. أمّا الأرواح فتتجوّل في البيوت والشوارع لترى ما لايراه الآخرون ولتعري مشاكل الناس وعيوبهم.
وتأثر كريبيون الابن بألف ليلة وليلة في رواياته ذات الطابع الشرقي أمر جلي واضح. فلقد حاول أكثر من مرّة تقليدها ومحاكاتها:
حاول أن يكتب على نمطها في "آه" يا لها من حكاية"، وأراد أن تكون رواية "الصوفا" مكملة لمجموعة شهرزاد على ما صرّح هو نفسه في مقدّمته لهذه الرواية... أمّا "المرغاة أو تانزاي ونيادارني" فهي مستوحاة من "ألف ليلة وليلة" بل تكاد تكون قطعة منها لما تحمله من أجواء شبيهة بأجواء الليالي. لقد غاص في أساطير شهرزاد الثرية حتى يشيّد تجربة شخصية على درجة عالية من الروعة الجمالية.
ولا بدّ من الإشارة -هنا- إلى أنّ كريبيون الابن -الذي ظلمه التاريخ بدون مبرّر مقبول- (14) قد أصبح بأسلوبه ونظرته إلى الحياة رائد مدرسة روائية قائمة على أسس فنية ومضامين اجتماعية وفلسفية متميزة.
ولقد شاءت الظروف أن تتسع هذه المدرسة في القرن الثامن عشر لتضم العديد من الروائيين في فرنسا وخارجها (وهم الروائيون الذين حاولوا أن يحذوا حذو المعلم الرائد).
- "الليالي" و "الصوفا"
1- البناء الفني
تعدّ "الصوفا" من أهمّ روايات كريبيون الابن وأشهرها على الإطلاق. وقد عبّر المفكر فولتير عن إعجابه بها بقوله: "أحيي بكل إخلاص صاحب "الصوفا"... أخبروه أن قراءتها منحتني متعة". (15)
ويبدو تأثر كريبيون الابن بـ "الليالي" في هذه الرواية واضحاً جلياً (كما سبقت الإشارة إلى ذلك). فلقد أرادها صاحبها أن تكون مكملة لحكايات شهرزاد (une suite des Mille et une nuits) حتى يلبي طلب القارئ المتعطش إلى هذا النوع من الأدب، ويتمكن من قول ما لم يكن يجسر على قوله في أمور السياسة والأخلاق والدين...
وتدور أحداث هذه الرواية في الهند، بالضبط في "مملكة أكرا".. ويقوم فيها حفيد شهريار بدور البطولة، وقد سماه المؤلف "شاه باهام" (CHAH BAHAM) ووصفه بالتعسف والتزمت: "ملك جاهل، متقلب الأطوار، لا يبالي بأزمات مملكته الخانقة، لا يتردّد في قتل من يخالفه الرأي، ينفق أوقاته في الثرثرة ومغازلة النساء... وقد اختار أفراد حاشيته من المتملقين والمنافقين الذين لا يفقهون شيئاً في أمور السياسة والمجتمع".(16)
وتتكون الرواية من مقدمة (وهي عبارة عن حكاية إطارية) وثماني قصص استطاع الروائي أن يربط بينها ربطاً محكماً. وتشمل المقدّمة، التي جاءت على نمط مقدّمة "الليالي" -أي أنّها تعلو على جميع القصص الواردة في النص وتحويها -على حكايتين اثنتين: أولاهما، حكاية الملك (شاه باهام) وعلاقته بشهريار بطل "ألف ليلة وليلة" وثانيهما، حكاية (أمنزاي) (AMENZةI) الشاب الهندي الذي يقوم بتسلية الملك (يروي له حكايات عجيبة). وواضح أنّ كلّ القصص الأخرى تنبثق من هذه المقدّمة، إذ سرعان ما تختفي شخصية الحكواتي (أمنزاي) ولا يبقى سوى صوته وتدخلات السلطان بين الفينة والأخرى طلباً للشرح والتفسير.(17) يقول الكاتب واصفاً بطله شاه باهام:
" كان في سالف العصور والأزمان، ملك من ملوك الهند يدعى (شاه باهام)، وهو حفيد السلطان الأعظم (شهريار)...
ويا للعجب لم يرث هذا الملك الجبار من جدّه الجبروت سوى حبّه للحكايات وشغفه بها، وإن كان يختلف عنه بتفضيله الحكايات السهلة التي لا ترهق بال السامع... واحتراماً للتقاليد الملكية، قام سلطان أكرا بجمع كل حكايات جدّته شهرزاد في سجلات ضخمة مزركشة..."
"وكان (شاه باهام) سلطاناً مزاجياً، طاغية، لا يحدّه قانون... يقضي أوقاته في الصيد وتربية الطيور، ولا يبالي بمشاكل المملكة... والغريب في الأمر أنه كان متردّداً ومتقلب الأطوار... يحسّ بالقلق يضايقه في كلّ مكان... كان يخاف من المستقبل... فهو لم يحقق للناس الرخاء ولا العدالة..."(18)
"وجد نفسه -يوماً- وسط حاشيته في مقصورة النساء... وكان حزيناً لأنه تذكر جدّته شهرزاد وما عانته من أحزان... فأمر أن تحكى له حكايات جديدة، مسلية، وقد شاءت الأقدار أن يكون القاص هذه المرة أحد أفراد حاشيته يدعى أمنزاي... الذي تقدّم وقبل الأرض بين يديه... وقال: اسمع يا مولاي..."(19)
من الملاحظ أن (شاه باهام) لا يختلف كثيراً عن ملوك الشرق الجبابرة الذين يحبون الحكايات العجيبة والمسلية... فهو يتصرف مثلهم: يحبّ الجواري الفاتنات، ويقضي أوقاته في الصيد وركوب الخيل، ويقتل من يشاء... أما أمنزاي (الذي سيقوم في الرواية بدور شهرزاد) فهو شاب مثقف وذكي، من أتباع براهما، أي أنّه يؤمن بفكرة "تناسخ الأرواح" وإمكانية تقمصها أشكالاً مختلفة (إنسان، حيوان، جماد...). ولقد عاش هذا (الحكواتي) تجارب قاسية: طاف في أماكن مختلفة، وشاهد ما لم يشاهده بقية الناس... ومن مغامراته العجيبة" أنّه ارتكب ذنباً لا يغتفر، فعاقبه براهما عقاباً شديداً، إذ أسكن روحه (صفة) لا تتحرك ولا تتكلم". ولقد عبّر أمنزاي لسيّده الملك عن الألم الشديد الذي كانت تعاني منه روحه وهي في (الصفة) قائلاً: "كان العقاب قاسياً، يا سيدي، وقد شاء براهما أن يهينني بخضوع حتى يردّني إلى الطريق السليم بعد أن يطهر روحي من الآثام.. كنت أفضل جسم (حشرة) على جسم (الصفة).. ولحسن حظي -يا مولاي- لم تبق روحي في (صفة) واحدة وإنّما كانت تنتقل من (صفة) إلى (أخرى) أي من بيت إلى آخر... وكانت تعيش في هذه البيوت ما يعيشه أصحابها من آلام وآمال، فتحكم على سلوك الناس وتصرفاتهم بكل صدق وموضوعية...
لقد كان لون أول (صوفا) أوت إليها روحي وردياً مطرزاً بالذهب... وقد أبى براهما العظيم إلاّ أن يرافق روحي إلى هذه (الصوفا) الجميلة التي اشترتها إحدى السيدات الفاتنات ونقلتها إلى بيتها... هذا البيت الذي عشت فيه، يا سيدي، القصة العجيبة التالية..."(20)
يمكن القول: إذن، إنّ مقدّمة (الصوفا) تقلد مقدّمة "الليالي" تقليداً تاماً. فأمنزاي يقوم بدور القاص المسلي، وهو مهدّد بالقتل في حالة عجزه عن إسعاد السلطان الحزين. فلا بدّ أن يختار له الحكايات العجيبة التي تنال رضاه، وأن يمهد له طريقاً مشوقاً يثير حبّ استطلاعه: التشويق وحده قادر على إنقاذ حياته...
وسيمتع أمنزاي سيده السلطان بثماني حكايات (مغامرات) عاشها في قصور ومنازل مختلفة، واستنتج منها العديد من العبر، حكايات تدور كلها حول "الحبّ والجنس" (21) استطاع من خلالها الراوي أن يميّز بموضوعية بين الحبّ الحقيقي والحب المزيف.
والجدير بالتنبيه أنّ قصص أمنزاي (التي اخترنا منها اثنتين للدراسة والمقارنة) تحتوي على عناصر عدّة تشير إلى تأثر كريبيون الابن بحكايات الليالي، لا سيما تلك التي اعتنت بتصوير حياة المرأة الشرقية وركزت على الخيانة الزوجية، مازجة مشاهد الحبّ والغرام بالعناصر المدهشة والغريبة... ومن طرائف الأمور أنّ كريبيون الابن أخضع كل بطلاته الشرقيات لتلك الأجواء الأوروبية التي كانت شائعة في
الأوساط الأرستقراطية في عصر التنوير (الثقافة، أسلوب الحياة، العلاقات الاجتماعية...). وهذا يعني أنّه اتّخذ المرأة الشرقية وسيلة لنقد تصرفات النساء الفرنسيات الأرستقراطيات، وعلاقتهن بالرجال في فترة تفسخت فيها أخلاق المجتمع.
2- ممارسة الجنس مع العبيد
كانت أول حكاية رواها (أمنزاي) على سيده (شاه باهام) هي حكاية "فاطمة والعبد داهيس" التي تدور حول "الخيانة الزوجية". وقد حاول كريبيون الابن فيها أن يعري الحبّ القائم على اللذة والشهوة، ذلك الحبّ المتقد الذي لا تجني المرأة من ورائه قيمة تذكر سوى أن تستغل مفاتنها الجنسية.
تبدو هذه الحكاية وكأنّها قطعة من "الليالي". ولا يستبعد أن يكون المؤلف قد تأثر فيها بحكاية "الملك السلطان صاحب الجزائر السود"(22) أو بحكايات أخرى من "الليالي" وهي كثيرة(23) والتي نجد فيها المرأة الحرة الجميلة تقع في غرام العبد الأسود وتنام معه في فراش واحد.(24)
وفاطمة هذه امرأة جميلة، غنية، متزوجة من رجل نبيل ولطيف، "من أثرياء أكرا". كانت تكره زوجها وتلعن عشرته، على الرغم من أنّه كان يحبها ويوفر لها كل شروط السعادة: أسكنها في قصر فاخر، واشترى لها العبيد والخدم وملأ حياتها بالبهجة والراحة...
ويبدو أنّ فاطمة كانت مدفوعة بشعور قوي يجعلها تقسو على زوجها وتسيء معاملته، وربما يكون ذلك عائداً إلى القلق المعقد الذي كانت تعاني منه، والذي يمكن تعليله بسبب فراغ أوقاتها وانشغال زوجها عنها بأعماله الكثيرة، فضلاً عن تربيتها الخاصة وطباعها الشاذة الغريبة...
وقد وقعت فاطمة في غرام عبد أسود يدعى داهيس. وكان هذا الزنجي الذي يشتغل عندها غبياً وجاهلاً، يعيش حياة أي عبد آخر في القصر، وإن كانت السيدة قد خففت قليلاً من أعبائه وأشغاله الشاقة.
والواقع أنّ فاطمة كانت تجد في داهيس أكثر من تسلية: فهي تنام معه في فراش واحد وتأمره أن يضاجعها بعنف، وتناديه كلما أحست بالقلق والضيق... كانت تشعر بسعادة لا شبيه لها وهي تحتضنه وتقبله، لأنه كان الوحيد -في نظرها- الذي يملأ حياتها بالبهجة والسرور، ويزيل عنها الهموم والأحزان.(25)
لقد كانت فاطمة امرأة متقلبة الأطوار، لا تستقر على رأي، متردّدة وقلقة في أغلب الأحيان... وكان لا بدّ أن تنتهي علاقتها الجنسية بداهيس بفضيحة كبرى تألمت لها روح أمنزاي التي كانت مثل (الكاميرا) تتبع كلّ الأحداث. فلقد "حدث يوماً أن دخل الزوج إلى غرفة النوم فوجدها نائمة في فراشها معانقة عبدها وقد خلعت كل ثيابها وهي في أحلى لحظات سعادتها. فلما رأى السيد الخادم يواقع زوجته، اضطرب وارتعش قلبه من الألم والغيرة، فاستل سيفه البتار وأغمده في قلب امرأته التي لم تمنحه حبّها يوماً..."(26)
يمكن القول، إذن، أنّ حكاية "فاطمة والعبد داهيس" مقتبسة من "الليالي" التي اعتنت كثيراً بموضوع "الخيانة الزوجية" وسمحت لعبيدها أن يمارسوا الجنس مع أجمل النساء وأرقاهن مرتبة. ولعلّ أهمّ ما يلفت النظر في هذه القصة أنّ صاحبها قد برع في تصوير بطلته، فهو لم يعن بوصف شكلها الخارجي فحسب، وإنّما تغلغل في أعماق شعورها: حلّل نفسيتها ومزاجها وقلقها واضطرابها وأحاسيسها نحو زوجها وعبدها وأصدقائها، وركز -بشكل خاص- على حياتها الجنسية وعلاقتها بعبدها الخدوم داهيس:
"كانت عيناها متقدتين: وقد احتضنت داهيس بكل ما تملكه من قوة، ثم استرخت وقد استلقت على ظهرها (وهي مجردة من جميع ملابسها) وتركت العبد يفعل بها ما يشاء... كانت تشعر بسعادة غير متناهية، وتهمس في أذنه بكلمات الحبّ..."(27)
ثمة ملاحظة أخرى هي أنّ كريبيون الابن -الذي أثبت قدرته في ميدان التحليل النفسي -قد برع أيضاً في وصف اللقطات الجنسية المكشوفة. ويبدو أنّ هذا الأديب، الذي فشل عدّة مرات في حياته العاطفية،(28) قد استهدف، في هذه الرواية، تعرية الحبّ الطائش القائم على اللذة والشهوة. وقد استطاع -فعلاً- من خلال تحليلاته الدقيقة أن يكشف انفعالات المرأة المستسلمة لأهوائها وشهوتها المتقدة، وأن ينتقد بسخرية سلوكها المضطرب وميلها إلى تلبية غرائزها الحيوانية.
3- دور العجوز في اللقاءات المدبرة
إنّ جميع القصص -التي رويت على لسان أمنزاي وجرت في دائرة شرقية- تدور حول الحبّ والجنس. وأمثال فاطمة، المرأة المتمردّة والمتعطشة للذة، يتكرّرن في النص الروائي أكثر من مرة: نساء فاتنات وأرستقراطيات لكنهن أسيرات شهواتهن ورغباتهن. والملفت للنظر أنّ "العجائز"- وعلى نمط الليالي- هن اللائي يدفعن أحياناً بالفتيات إلى الفساد والدمار، ويدبرن اللقاءات السرية بين النساء الجميلات والرجال كما تصوّر ذلك قصة: أمينة وعبد اللطيف" التي رام كريبيون الابن من خلالها نقد المجتمع الفرنسي المنهار خلقياً .
وأمينة فتاة يتوفر لها الحسن كله، تعمل راقصة في قصر الملك وتسكن مع والدتها العجوز في بيت متواضع، ولقد أحبّها الوزير عبد اللطيف، واستطاع أن يكسب ودّها وأن يضيفها إلى عدد عشيقاته الذي لا يحصى... وكانت أمّ أمينة، العجوز المحتالة- التي ترتدي (زي الأتقياء) لتتفنن في حيلها- تشجع ابنتها على استغلال الوزير لأنّ ما كان يهمها هو الثروة والجاه...(29)
كانت أمينة تخضع لكل طلبات عشيقها الذي اشترى لها قصراً وكساها بما لم تكن تحلم به (أغرقها في الذهب والجواهر)... كان هذا الوزير يقضي كل وقته خارج قصره (لتعدّد مهامه السياسية والغرامية) ولا يعود إلى أمينة إلاّ من حين لآخر ليتمتّع بجسدها وجمالها بكل قسوة وأنانية (السادية)... لم يكن يحبّها بصدق وما فكر يوماً في الاقتران بها، وإنّما اعتبرها (جارية) يلهو بها في أوقات فراغه.
لقد أصيبت أمينة بخيبة أمل بعد أن اكتشفت حقيقة أمرها... أدركت أنّها تحوّلت إلى أداة (وسيلة جنسية)، وأنّ رفاهيتها لن تدوم لأنّها مقرونة بوقت معيّن قد لا يطول... إنّ الوزير يعيش مع نساء أخريات، أمّا هي فتريد أن تحقق سعادتها، تنفذ كل رغباتها المعنوية والجسدية... لقد قرّرت أن تنتقم من (النبيل) الذي أغراها بأسلوبها الخاص: ممارسة الجنس مع رجال آخرين... ولم تجد خير معين لها -في تجسيد قرارها- من والدتها العجوز، الكائن الوحيد القادر على تلبية كل رغباتها...(30)
لقد اختارت العجوز لابنتها -في بداية الأمر- عبداً أسود يدعى (مسعود)(31)... استطاعت أن تقرّب بينهما بكل سهولة... وكان هذا الزنجي يلبي كلّ طلبات أمينة يمارس معها الجنس بدون خوف أو حرج: يضاجعها عدّة مرات في اليوم الواحد ويمنحها سعادة وبهجة لا حدود لهما...
ومع الوقت، أصبحت أمينة (شهوانية) أكثر من اللازم، شديدة الغريزة، تراودها باستمرار مشاعر الهوى وتتطلع إليه... ولقد أحبت -في مرحلة ثانية- مساعد الوزير، وطلبت من أمها أن تقوم بدور الوسيط بينها وبينه. ولقد استطاعت أمّها العجوز -فعلاً- أن توقع الفريسة في فخها وأن تقود الرجل (النبيل) إلى القصر ليسعد ابنتها ويدخل البهجة إلى قلبها...
ولم تكتف أمينة بـ (مسعود) أو بـ (مساعد الوزير) وإنّما أقامت -بفضل أمها- علاقات مع (نبلاء) آخرين... لقد أصبحت تبحث عن (الجنس) في كل مكان لتشبع رغبات جسدها. فهي لا ترتوي باللمس والقبلات والممارسة الجنسية، وإنّما تشتاق في كثير من الحالات إلى فحولة فظة لا تعرف الرثاء للذات، فحولة توقظ فيها إحساسات النشوة الحقيقية...
إنّ قصة "أمينة وعبد اللطيف" لا تختلف كثيراً عن سابقتها شكلاً ومضموناً... فلقد خصص فيها الروائي حيزاً واسعاً للجنس والتحليل النفسي، محاولاً الغوص في أعماق "المرأة الأرستقراطية" التي تفسخت أخلاقها، في هذه الفترة، وأصبحت محط متعة جنسية جافة، تلبي بكل حرية رغباتها الجنسية مع من تريد من الرجال.
إنّها قصة مشحونة بالمواقف النفسية والانفعالات، مكتظة بتأمّلات عن معنى الحرية وخطيئة الغرور والطمع.
4- المشاهد الشهرزادية والتعبير عن الواقع
من الواضح أنّ "الصوفا" متأثرة بحكايات شهرزاد إلى حدّ بعيد. فروحها قريبة من روح الليالي، وأبطالها (ملوك، أمراء، عبيد، نساء، عجائز...) شبيهون بأبطال "الليالي"... ومن الواضح أيضاً أنّ الروائي تفنن في وصف المشاهد الشرقية المختلفة التي كان يصبّ فيها أفكاره وتأملاته، وبرع في رسم القصور الملكية وعرض ما كان يدور فيها من آلام وآمال...
وغني عن القول أنّ هذه الرواية الثرية بموضوعاتها ونماذجها تحمل نقداً أساسياً لاذعاً استهدف أساساً الملكية المطلقة والطبقة الأرستقراطية المنهارة. وما التجاء الروائي إلى العالم الشرقي إلا للكشف عن الأخلاق الفاسدة المتفشية في المجتمع الفرنسي وإبراز ما كان يدور في قصور فرساي من أحداث خطيرة لم يأبه بها الملوك الذين تعاقبوا على العرش في أغلب الأحيان.(32)
ولفهم أبعاد هذه الرواية لا بدّ من قراءتها بتمعن؛ فالروائي اختار اسم (شاه باهام) للدلالة على لويس الخامس عشر، ذلك الملك المضطرب، العاجز سياسياً، المتعجرف، والذي لم يكن ليهتمّ بشؤون مملكته إلاّ قليلاً، وإنّما يتعشى مع عشيقاته في قصر فرساي ويتحدّث عن الصيد والحيوانات (تسليته المفضلة). وهذا يعني أنّ كل الصفات التي ألصقها الروائي ببطله (شاه باهام) تنطبق على لويس الخامس عشر انطباقاً كلياً: "ملك متهتك بطيء، متثاقل، يأبى التفكير في الأمور الخطيرة ولا يبالي بما يحدث خارج حدود قصره الضيقة.
ومن الملاحظ أنّ كريبيون الابن اعتنى كثيراً بتحليل مشاكل المرأة الأرستقراطية التي كانت في أدبه موضع استملاح وفكاهة. فلقد استطاع أن ينفذ إلى أعماقها ويحلّل مزاجها وطباعها ورغباتها الدفينة... ويتجلى لنا صاحب "الصفة" في تحليلاته وكأنه فيزيائي يهتمّ بكل صغيرة وكبيرة، يدرس النفس البشرية من
كلّ جوانبها ويقطع أحداث قصصه في الوقت المناسبة ليفسر ويسهب في تحليلاته ويعرّي شخوصه ويكشف الدوافع النفسية والحوافز الاجتماعية...
إن كريبيون الابن روائي قدير، اتسم بوعيه الفني العميق ونفاذه في النفس البشرية قصد تعرية عيوبها وبشاعتها، فضلاً عن اهتمامه بالمرأة(33) وميله إلى الفلسفة الإيبقورية... كان يشعر براحة وهو يرسم المشاهد الشرقية ويخلق الأبطال الشرقيين للتعبير عن أفكاره وأحاسيسه. ويبدو أنّه كان أوّل من أدخل عنصر الجنس في الرواية الفرنسية وسمح لأبطاله أن يتحاروا في دوافعه ومشاكله بحرية مطلقة... فهو لم يهتم برسم اللقطات الجنسية الجريئة (PORNOGRAPHIQUES SCENES) ، وتصوير ما يدور في البيوت الأرستقراطية من دعارة فحسب، وإنّما حاول أيضاً أن يبحث عن الأسباب التي تؤدّي إلى الفساد وتفسخ الأخلاق، مجسداً الفضائح والعيوب التي كان المجتمع الفرنسي يعاني منها في القرن الثامن عشر.
لقد حاول العديد من الكتاب الفرنسيين أن يقلدوا "الصوفا"،(34)، غير أنهم وقفوا عاجزين أمام براعة كريبيون الابن وقدرته على التحليل والنفاذ إلى أعماق الشخصيات... وهكذا أصبحت الأرواح- في هذه الأعمال المقلدة- تتقلّص أشكالاً مختلفة وتتجول في البيوت والقصور لتشاهد عن كثب ما يجري فيها من أحداث ولتكتشف أسرار الناس وخباياهم.
الخاتمـــة
في الحقيقة، إنّ كريبيون الابن لم يقلد "ألف ليلة وليلة" في الأسلوب فحسب (الحكاية الإطارية، الوصف، التشويق...)، وإنّما استلهم منها أيضاً مضامينها وكلّ ما يمكن أن يخدم به أفكاره وتأملاته (الحرية/ الوفاء/ الصراع السياسي/ التفاوت الطبقي...) واللافت للنظر أنّه، على الرغم من تأثره العميق بحكايات شهرزاد، استطاع أن يقدّم عملاً أصيلاً وممتازاً: برع في وصفه للمشاهد الشرقية الفاتنة، وتحليلاته النفسية الدقيقة، وكشفه عن الأمراض السيكولوجية والجنسية، وتناوله لأهمّ القضايا السياسية والاجتماعية...
لقد خدم كريبيون الابن الرواية الفرنسية وعمل على تطويرها وإثرائها بتقنياته الحديثة وتحليلاته النفسية العميقة والجادة. ومن الواضح أنّ هذا الأديب الفنان -الذي يحلّل الجنس ولا يهمل الأخلاق- استطاع أن يمزج، في أعماله، بين الواقعي وروعة الخيال وذلك حتى يضفي عليها عنصر التشويق ويقربها إلى جمهوره الذي كان شغوفاً -في هذه الفترة- بأحلام الطفولة.
وغني عن القول إنّ "الليالي" ملكت أجيالاً من المفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر: لم ينج من سحرها حتى عباقرة العصر من أمثال ديدرو وفولتير... ولسنا نبالغ أيضاً إذا أكّدنا على أنّ هذه المجموعة الشعبية استطاعت أن تغيّر مجرى الرواية الفرنسية في بداية تطوّرها (أي بعد ظهور ترجمة جالان): جهزتها بأساليبها وحبكها وأطرها، وشخوصها ومشاهدها وتعبيراتها، ووجهتها إلى ما كان ينقصها من الاهتمام بالمغامرات وعوامل الإثارة... كلّ ذلك حتى تخرج (هذه الرواية) من إطارها الضيق وتتجه نحو التطوّر والكمال...
لقد كان كلّ شيء في ترجمة جالان جميلاً ومغرياً ومثيراً: ألوانها الشرقية الصاخبة، أجواؤها الأسطورية الفاتنة، مضامينها الإنسانية الثرية، فضلاً عن أنّها "تحتوي تقاليد عديدة، ليست غريبة على
القارئ الفرنسي في القرن الثامن عشر... وكان أن اكتظ أغلب هذه الحكايات بتأملات عن معنى الحرية وخطيئة الغرور والطمع... وبكلمة موجزة، فإنّ القارئ في هذا القرن، وإن كان قد وجد المتعة في متابعة هذه الحكايات وسحرته أجواؤها بلذة غريبة، لا بدّ أن يكون قد اتفق مع السندباد في استنتاجاته بأن لا تحصيل بدون مشقة..."
? الهوامش والمراجع
1- أنطوان جالان مستشرق فرنسي مشهور، درس في الكلية الملكية وعكف على تعلم اللغات الشرقية (لا سيما العربية والعبرية). تقلب في عدّة مناصب دبلوماسية واعتنى بجمع التحف والمخطوطات الشرقية النادرة. لمزيد من التفاصيل، ينظر:
R. SCHWAB, ANTOINE GALLAND, PARIS, MERCURE, 1966.
2- يبدو أنّ ترجمة جالان -التي تلقاها المجتمع الفرنسي بحفاوة -احتلت مكانة الصدارة في المكتبات الباريسية في القرن الثامن عشر: أصبحت لا تقل أهميّة عن ملاحم اليونان والرومان.
3- كاترينا مومسن، جوته وألف ليلة وليلة، ترجمة أحمد حمو، دمشق، مطبوعات وزارة التعليم العالي، ط1، ص11.
4- لقد قدّم جالان لقرائه ترجمة أنيقة الأسلوب، رائعة السبك، تتسم بالوضوح والبساطة والرشاقة، وممّا يذكر أنّ بعض أصدقائه كانوا يطلعون على الحكايات المترجمة قبل نشرها.
5- M. L. Dufrenoy, L ٍrient romanesque en france, Montreal, Beauchemin, 1949, PP. 39-40.
6- لا بد أن نميز -هنا- بين الشرق الحقيقي الواقعي والشرق الذي صوّرته الرواية الفرنسية في هذه الفترة، والذي يطلق عليه النقاد مصطلح "الشرق الروائي" أو "الشرق الخيالي".
7- نجيب العقيقي، المستشرقون، القاهرة، دار المعارف المصرية، ط2 ص29.
8- لقد تحوّل الشرق، في الأدب الفرنسي، إلى وسيلة ومهمّة خطيرة لنقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية التي كانت تتخبّط فيها البلاد في عصر التنوير. وتدرك هذه الحقيقة بمجردّ التمعن في الروايات الكثيرة ذات الطابع الشرقي التي حرّرها أدباء ومفكرون من أمثال فولتير ومونتيسكيو وديدرو ومارمونتيل.
9- ولد كلود بروسبير جوليو دو كريبيون (C. P. Jolyot de Grebillon) سنة 1707 (14 فبراير) في باريس. توفيت أمه وهو في الرابعة من عمره، ولم يعتن أبوه بتربيته لاهتمامه بخشبة المسرح وسعيه للحصول على منصب سام في الدولة.
درس كريبيون الابن في مدرسة اليسوعيين، وأبدى اهتماماً كبيراً بالمسرح والرواية منذ صغره، كان يتردّد على الصالونات الفكرية الشهيرة ويناقش الفلاسفة والأدباء من أمثال ديدرو ومونكريف وهاملتون ومرسي... وكان أيضاً يحبّ مخالطة المسرحيين وخصوصاً فرق الكوميديا الإيطالية والأوبيرا الباريسية. لمزيد من التفاصيل، ينظر:
ERNEST STURN, Crebillon et le libertinage au XVIII ene siécle, Paris, A. NIZET, 1970.
10- ر. م. ألبيرس، تاريخ الرواية الحديثة، ترجمة جورج سالم، دار عويدات، 1967، ص 27.
11- CF. M. L. Dufrenoy, OP. Cit, 71-72.
12- CF. E. STURN, Crebillon et le libertimage au XVIII siecle, Paris NIZERT, 71.
13- لقد اعتنى هذا الأديب بالمرأة أكثر من غيرها من الشخصيات الأخرى، لأنه كان يرى فيها كائناً جديراً بالدراسة والتحليل (لما تقوم به من أدوار خطيرة في المجتمع).
14- لئن احتل من جديد مكانته في تاريخ الأدب الفرنسي فإنّ الفضل يعود إلى باحثين من أمثال ريني إثيمبل الذين نبهوا إلى قدرته الفنية والأدبية.
15- C.F. E. STURN, OP. Cit, 37.
16- CREBILLON FILS, LE Sopha, Grenoble, poissard, 1970, P. P. 7.
17- يتجلى السلطان شاه باهام (لويس الخامس عشر) في النص الروائي، قلقاً مضطرباً ومغفّلاً ساذجاً، يستمع إلى القصص فيعلق عليها تعليقات سمجة تدلّ على غبائه وغفلته.
18- Le SOPha, 7-8.
19- Ibid, 9.
20- Ibid, 10.
21- يشكل الحبّ بشتى أنواعه لحمة هذه القصص وسداها، إذ أنّ روح أمنزاي التي تسربت إلى مجموعة من البيوت، قد عاشت في كل بيت قصة حبّ مختلفة عن الأخرى.
22- خلاصة هذه الحكاية أنّ الملكة قد وقعت في غرام عبد أسود، يسكن في كوخ مهدّم... وكانت تحبه حباً عظيماً وتشعر بسعادة لا مثيل لها وهي تحتضنه...
23- يمكن أن نذكر على سبيل المثال حكاية شاه زمان وزوجته. "رجع شاه زمان إلى القصر.. فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقة عبداً أسود.. "ثم ذهب شهريار إلى أخيه شاه زمان فتكرّر أمامه المشهد الجنسي نفسه..
24- يقول أحد العبيد في "حكاية أيوب وابنه غانم " التي ترجمها جالان إلى الفرنسية: "دخلت على ابنة سيدي وقد ارتدت ملابس جميلة فلاعبتني ولاعبتها فدفعتني على الأرض وركبت على صدري وصارت تتمرّغ علي".
25- Crebillon, Le SOPHA, p. 42.
26- Ibid, 45-46.
27- جاء في حكاية "السلطان صاحب الجزر السود "التي سبقت الإشارة إليها أنّ الملكة: "لما شعرت أنّ العبد قد رضي عنها قامت وخلعت ثيابها ورقدت مع العبد... فلما رأى الملك ذلك اسودت الدنيا في وجهه فضرب العبد على رقبته".
28- لقد فشل كريبيون الابن في ميدان الحبّ عدّة مرات، عشق فتاة تدعى دولا جستين وتعلقاً بها تعليقاً شديداً لكن سرعان ما تخلت عنه وتزوجت بأحد النبلاء...
وتعرف على فتاة أخرى تسمى ماري وأحبّها حبّاً عظيماً غير أنّها لم تتمكن من الانسجام معه فتخلت عنه وتعلقت بشخص آخر.
29- إنّ الدور الذي تقوم به العجوز في هذه القصة شبيه بأدوار بعض العجائز في الليالي: القيام بدور الوسيط بين المرأة الجميلة وعشاقها، حمل الرسائل، اصطياد الرجال... وأمّ أمينة تكيد من أجل المال ولا تتردّد في الاتجار بابنتها وعرضها على من يدفع أكثر... إنّها ماكرة، بشعة ومحتالة... تعمل للجمع بين ابنتها وعشاقها، بل قد تذهب أبعد من ذلك -كما سنرى- فتلبي كل رغبات أمينة بدون حياء.
30- Le SOPHA, 62.
31- جاء في مقدّمة ألف ليلة وليلة:
"خرج عشرون جارية وعشرون عبداً، وبينهم الملكة وهي في غاية الحسن والجمال... حتى وصلوا إلى الحديقة وخلعوا ثيابهم، وإذا بامرأة الملك تقول: يا مسعود... فجاءها عبد أسود، فعانقها وعانقته وأوقعها... وكذلك فعل العبيد بالجواري...
32- لقد أثارت هذه الرواية بمضامينها الجريئة ردود فعل لدى بعض النبلاء، والمراقبين، فكان من نتائج ذلك أن سجن كريبيون الابن ونفي خارج فرنسا عدّة شهور.
33- لقد اتخذ كريبيون الابن المرأة الفرنسية نموذجاً لتسديد ضربات إلى طبقة النبلاء... كان يريد أن يعرّي وجهها بعد أن تفسخت أخلاقها... ويبدو أنّ هذه المرأة كانت تعاني من أزمات نفسية حادّة، ناتجة عن وضعية طبقتها المنهارة.
34- نذكر من الروائيين الذين تأثروا بكريبيون الابن:
- الأب فوازنون (Abbé de VOISENON) في روايته: "زلميس وزلماييد" 1745، و "السلطان ميزابوف" 1746.
- ف. أ. شفري (F. A. CHEVRIER) في روايته "بيبي" BIBI (1746).
- كيليس (CAYLUS) في روايته "المعاطف" (1746).
- الآنسة فوك (FAUQUE) في روايتها "العباسة" 1753.
ويبدو أنّ الأب بريفو نفسه قد توقف عن كتابة روايته "لمنون لسكوت" عدّة شهور، بعد اطلاعه على "الصفة" وذلك حتى يعطيها نفساً جديداً وتحليلاً عميقاً.
جامعة وهران - الجزائر
* د. شريفي عبد الواحد
كربيون الابن و " ألف ليلة وليلة "
ترجم المستشرق الفرنسي أنطوان جالان (ANTOINE GALLAND) (1646- 1715)(1) "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الفرنسية، لأول مرة في تاريخ أوروبا الأدبي، ما بين 1707و 1717، في اثني عشر مجلداً. وتلقى الجمهور الفرنسي هذه الترجمة بحماس نادر، بل احتضنها بكلّ سرور واعتراف بالجميل.(2) و "لم يجد أكثر الناس تحمساً للتنوير من أمثال فولتير ومونتيسكيو... أيّة صعوبة في الاستسلام لعالم الشرق السحري، بل أنصتوا لشهرزاد مندهشين"(3)
لقد انتشرت "ألف ليلة وليلة" في فرنسا انتشاراً واسعاً، ملهبة خيال القراء، ومحدثة ضجة كبرى في الأوساط الثقافية الفرنسية. ويبدو أنّ نجاحاً كاسحاً من هذا الطراز لا يمكن تفسيره إلاّ بسببين: أوّلهما، أنّ انطوان جالان نفسه كان فناناً فذّاً وأديباً موهوباً بصيراً بفنّ القصة، استطاع أن يقدّم لقرائه أجود ما تضمنته "الليالي" بأسلوب قصصي بارع ولغة ناصعة، يتداولها القارئ وكأنه أمام نص كتب بالفرنسية أصلاً.(4) أمّا السبب الثاني فيتمثل في ظهور هذه الترجمة في الوقت المناسب: فلقد سئم القراء، في أوائل القرن الثامن عشر، من الأدب الكلاسيكي الذي جمّدته قوالب فنية ثابتة، وراحوا يبحثون عن أدب جديد يتيح لهم التمتّع بأحلام الطفولة واستكشاف مناطق بعيدة تسيطر عليها أجواء أسطورية سحرية.
ومع ظهور ترجمة جالان، أبدى الفرنسيون اهتماماً متميزاً بكلّ ما يتصل بالشرق، وهو اهتمام لا يمكن مقارنته بالعصور السابقة. وهكذا أخذ اللون الشرقي يفرض نفسه شيئاً فشيئاً على الأدب والفنّ، ودخلت المواضيع الشرقية إلى الرواية الفرنسية ووجهتها توجيهاً جديداً: (أغنتها شكلاً ومضموناً). لقد أثبتت السيدة ماري لويس ديفرنواي في إحصائية دقيقة: "أنّ الكتب التي ظهرت في فرنسا، قبل 1704م، وكان للشرق فيها مكانة، هي كتب قليلة. ففي القرن السابع عشر، ما بين 1600و 1625، صدر تسعة كتب عن الشرق. وما بين 1625و 1650 صدر ثمانية عشر كتاباً. وما بين 1650 و 1675 صدر اثنان وثلاثون كتاباً. وما بين 1675 و 1700 صدر اثنان وخمسون كتاباً. غير أنّ القيمة الأدبية لهذه الكتب بقيت محدودة، لا سيما في المجال الأدبي. أما في القرن الثامن عشر، وبعد ظهور ترجمة جالان، فإنّ
الاهتمام بالشرق قد تزايد بشكل جدّي وملموس. ففي الربع الأول من هذا القرن صدر (98) كتاباً عن الشرق.
وفي الربع الثاني منه (262) كتاباً. وفي الربع الثالث (208) كتاباً... وفي الربع الأخير (111) كتاباً.(5)
إنّ كلّ الدلائل تؤكّد على أنّ "ألف ليلة وليلة" قد خدمت الخيال الفرنسي في فترة (القرن الثامن عشر) تعدّ من أهمّ فتراته التاريخية والأدبية، وذلك بما قدّمته له من مادة روائية غزيرة وأساليب فنية متنوعة، كما أنّها فتحت -في الوقت نفسه- حدود الشرق واسعة أمام الرواية الفرنسية التي كانت لا تزال تلتمس طريقها في هذه الفترة.(6) ولسنا نأتي بجديد إذا أشرنا إلى أنّ "الليالي" أصحبت تعني الشرق عند كثير من القراء والكتاب على حدّ سواء، باعتبارها تطرح -كما كانوا يعتقدون- صورة صادقة لحياة الشرق. و "قد صدقوا قول جالان، في مقدّمة ترجمته، من أنّ "ألف ليلة وليلة" هي الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى السوقة، وأنّها الصورة الصادقة له، فمن قرأها فكأنّه رحل إلى الشرق، ورآه ولمسه لمس اليد".(7)
ويعدّ كريبيون الابن من الكتاب الفرنسيين الذين اهتموا كثيراً بالشرق. فلقد خصّص له مجالاً واسعاً في كتاباته المختلفة، مطلقاً لخياله العنان في تصويره أروع تصوير. ويبدو أنّه كان أكثر دقة من غيره في اختيار مشاهده ونماذجه الشرقية للتعبير عن واقعه الاجتماعي ونقد المؤسسات السياسية والدينية الفرنسية.(8)
وغني عن القول إنّ هذا الروائي متأثر بالليالي العربية في أكثر من عمل أدبي. ولئن اخترنا "الصوفا" (LE SOPHA) نموذجاً للمقارنة والتحليل، فمردّ ذلك أنّ هذه الرواية -التي تعدّ من أشهر رواياته على الإطلاق- تعكس بوضوح أسلوب كريبيون الابن في الكتابة والتعبير: الفكاهة، التحليل النفسي، الاهتمام بالجنس، نقد العادات والتقاليد. إنّها رواية تستهدف الكشف عن آلية المجتمع وتعرية الضعف الإنساني وعجز الكائن الحي أمام شهواته...
- كريبيون الابن والشرق
لقد كتب كريبيون الابن (9) عدّة روايات شرقية نذكر منها:
- المرغاة أو تنزاي ونيادارني، حكاية يابانية (Tanzai et Néadarne, Histoire Japonaise Lécumoire ou) وقد نشرها عام 1734 وكلفته السجن في الباستيل عدّة أسابيع: انتقد فيها رجال الدين والنبلاء الفرنسيين (الكاردينال دوهان، الدوقة دومين...)
- أتالزاييد (ATALZAIDE) ، 1736، التي وصف فيها الأخلاق المتفسخة والمظالم وقوانين الإكليروس الجائرة.
- الصفة، روايات العادات وحكايات أخلاقية (et conte moral Le Sopha, Roman des moeurs) 1740 : وقد انتقد فيها النظام الملكي بشدّة وعادات الشعب الفرنسي وتقاليده. ويبدو تأثره بألف ليلة وليلة، في هذه الرواية، واضحاً.
- غراميات زيو كنزيل ملك الكفار (des Kofirans Les amours de Zéokinizul, roi) التي نشرها عام 1764، واصفاً فيها ما كان يدور في بلاط لويس الخامس عشر (Zeokinizul) من أحداث وقضايا، محلّلاً بدقة محظيات الملك وعشيقاته، اللاتي كن يشاركن في تسيير شؤون المملكة.
- آه يا لها من حكاية (AH! Quel conte) ، 1751: أبرز فيها عيوب الطبقة الأرستقراطية، مقتبساً من "الليالي" أدواتها الرومانسية وروحها المغامرة.
من هذه العناوين، يتجلى للباحث مدى مساهمة كريبيون الابن في خدمة الرواية الفرنسية، التي "كانت- في هذه الفترة على أهبة الولوج بقوة لا تكاد تكبح إلى هذا العالم المضطرب، الذي هو كبرياء الفرد، وسرّ الضمير، وتفصيل الأحاسيس، وحقارة الكائن الإنساني..."(10)
ويبدو أنّ هذا الأديب قد أدرك أهمية توظيف العناصر الشرقية في الوقت المناسب، أي في تلك الفترة التي اشتدّ فيها الصراع الطبقي، وقامت البورجوازية لتقود البلاد نحو الثورة الكبرى. ولقد اعترف هو نفسه أنّه كان يشعر بسعادة لا مثيل لها عند التجائه إلى عالم الشرق، ليصب فيه أفكاره وتأملاته.(11)
ومن الملاحظ أنّ كريبيون الابن قد تميز عن العديد من الروائيين الذين عاصروه بشجاعته الأدبية وقدرته الفائقة على التحليل والغوص في أعماق أبطاله وبطلاته، فضلاً عن نقده اللاذع للمؤسسات الدينية والسياسية والأسر النبيلة التي تفشى فيها الفساد... فقدرته تكمن، قبل كل شيء، في وعيه الاجتماعي- السياسي المتطوّر، ودقّة ملاحظته، وجرأته الخارقة على تعرية الفضائح والعيوب والخزي.
ولعل أهمّ ما عيب على هذا الأديب هو وصفه للقطات الجنسية الجريئة، وتعريته للمرأة الأرستقراطية التي أسهمت بقسط وافر في تسيير السياسة وميله إلى الإلحاد والطيش.(12) وفي الواقع، إنّ هذا الروائي لم يفعل سوى ما أملاه عليه ضميره في عصر تعدّدت فيه المشاكل الاجتماعية والفكرية. كان بإمكانه أن يكتب بطريقة أخرى حتى يجتنب الأذى ويكسب مودة الحكام، لكنه فضل التحدّي والمواجهة: إنّه صاحب مبدأ في الحياة، وأسير نظرة خاصة إلى الكون.
ويبدو أنّ كريبيون الابن قد وفق في توظيف المشاهد الشرقية الساحرة للتعبير عن واقع الطبقة الأرستقراطية التي انتشر فيها الفساد. كان بارعاً في تصوير اللقاءات المدّبرة بين الجنسين ورسم ما يدور في القصور من دعارة، وتحليل سلوك المرأة الشرقية المتمردّة، هذا السلوك الذي يدفعها أحياناً إلى الخيانة على الرغم من تمتّعها بالمال والجاه.(13)
ولئن وجد هذا الأديب في الشرق إطاراً خاصاً يصبّ فيه آراءه وتأملاته، فإنّه استطاع أن يجمع في نصوصه بين الواقعي والخيالي؛ فالجن والعفاريت ترقص في رواياته وتتحدّث لتعبّر عن مشاكل العصر. أمّا الأرواح فتتجوّل في البيوت والشوارع لترى ما لايراه الآخرون ولتعري مشاكل الناس وعيوبهم.
وتأثر كريبيون الابن بألف ليلة وليلة في رواياته ذات الطابع الشرقي أمر جلي واضح. فلقد حاول أكثر من مرّة تقليدها ومحاكاتها:
حاول أن يكتب على نمطها في "آه" يا لها من حكاية"، وأراد أن تكون رواية "الصوفا" مكملة لمجموعة شهرزاد على ما صرّح هو نفسه في مقدّمته لهذه الرواية... أمّا "المرغاة أو تانزاي ونيادارني" فهي مستوحاة من "ألف ليلة وليلة" بل تكاد تكون قطعة منها لما تحمله من أجواء شبيهة بأجواء الليالي. لقد غاص في أساطير شهرزاد الثرية حتى يشيّد تجربة شخصية على درجة عالية من الروعة الجمالية.
ولا بدّ من الإشارة -هنا- إلى أنّ كريبيون الابن -الذي ظلمه التاريخ بدون مبرّر مقبول- (14) قد أصبح بأسلوبه ونظرته إلى الحياة رائد مدرسة روائية قائمة على أسس فنية ومضامين اجتماعية وفلسفية متميزة.
ولقد شاءت الظروف أن تتسع هذه المدرسة في القرن الثامن عشر لتضم العديد من الروائيين في فرنسا وخارجها (وهم الروائيون الذين حاولوا أن يحذوا حذو المعلم الرائد).
- "الليالي" و "الصوفا"
1- البناء الفني
تعدّ "الصوفا" من أهمّ روايات كريبيون الابن وأشهرها على الإطلاق. وقد عبّر المفكر فولتير عن إعجابه بها بقوله: "أحيي بكل إخلاص صاحب "الصوفا"... أخبروه أن قراءتها منحتني متعة". (15)
ويبدو تأثر كريبيون الابن بـ "الليالي" في هذه الرواية واضحاً جلياً (كما سبقت الإشارة إلى ذلك). فلقد أرادها صاحبها أن تكون مكملة لحكايات شهرزاد (une suite des Mille et une nuits) حتى يلبي طلب القارئ المتعطش إلى هذا النوع من الأدب، ويتمكن من قول ما لم يكن يجسر على قوله في أمور السياسة والأخلاق والدين...
وتدور أحداث هذه الرواية في الهند، بالضبط في "مملكة أكرا".. ويقوم فيها حفيد شهريار بدور البطولة، وقد سماه المؤلف "شاه باهام" (CHAH BAHAM) ووصفه بالتعسف والتزمت: "ملك جاهل، متقلب الأطوار، لا يبالي بأزمات مملكته الخانقة، لا يتردّد في قتل من يخالفه الرأي، ينفق أوقاته في الثرثرة ومغازلة النساء... وقد اختار أفراد حاشيته من المتملقين والمنافقين الذين لا يفقهون شيئاً في أمور السياسة والمجتمع".(16)
وتتكون الرواية من مقدمة (وهي عبارة عن حكاية إطارية) وثماني قصص استطاع الروائي أن يربط بينها ربطاً محكماً. وتشمل المقدّمة، التي جاءت على نمط مقدّمة "الليالي" -أي أنّها تعلو على جميع القصص الواردة في النص وتحويها -على حكايتين اثنتين: أولاهما، حكاية الملك (شاه باهام) وعلاقته بشهريار بطل "ألف ليلة وليلة" وثانيهما، حكاية (أمنزاي) (AMENZةI) الشاب الهندي الذي يقوم بتسلية الملك (يروي له حكايات عجيبة). وواضح أنّ كلّ القصص الأخرى تنبثق من هذه المقدّمة، إذ سرعان ما تختفي شخصية الحكواتي (أمنزاي) ولا يبقى سوى صوته وتدخلات السلطان بين الفينة والأخرى طلباً للشرح والتفسير.(17) يقول الكاتب واصفاً بطله شاه باهام:
" كان في سالف العصور والأزمان، ملك من ملوك الهند يدعى (شاه باهام)، وهو حفيد السلطان الأعظم (شهريار)...
ويا للعجب لم يرث هذا الملك الجبار من جدّه الجبروت سوى حبّه للحكايات وشغفه بها، وإن كان يختلف عنه بتفضيله الحكايات السهلة التي لا ترهق بال السامع... واحتراماً للتقاليد الملكية، قام سلطان أكرا بجمع كل حكايات جدّته شهرزاد في سجلات ضخمة مزركشة..."
"وكان (شاه باهام) سلطاناً مزاجياً، طاغية، لا يحدّه قانون... يقضي أوقاته في الصيد وتربية الطيور، ولا يبالي بمشاكل المملكة... والغريب في الأمر أنه كان متردّداً ومتقلب الأطوار... يحسّ بالقلق يضايقه في كلّ مكان... كان يخاف من المستقبل... فهو لم يحقق للناس الرخاء ولا العدالة..."(18)
"وجد نفسه -يوماً- وسط حاشيته في مقصورة النساء... وكان حزيناً لأنه تذكر جدّته شهرزاد وما عانته من أحزان... فأمر أن تحكى له حكايات جديدة، مسلية، وقد شاءت الأقدار أن يكون القاص هذه المرة أحد أفراد حاشيته يدعى أمنزاي... الذي تقدّم وقبل الأرض بين يديه... وقال: اسمع يا مولاي..."(19)
من الملاحظ أن (شاه باهام) لا يختلف كثيراً عن ملوك الشرق الجبابرة الذين يحبون الحكايات العجيبة والمسلية... فهو يتصرف مثلهم: يحبّ الجواري الفاتنات، ويقضي أوقاته في الصيد وركوب الخيل، ويقتل من يشاء... أما أمنزاي (الذي سيقوم في الرواية بدور شهرزاد) فهو شاب مثقف وذكي، من أتباع براهما، أي أنّه يؤمن بفكرة "تناسخ الأرواح" وإمكانية تقمصها أشكالاً مختلفة (إنسان، حيوان، جماد...). ولقد عاش هذا (الحكواتي) تجارب قاسية: طاف في أماكن مختلفة، وشاهد ما لم يشاهده بقية الناس... ومن مغامراته العجيبة" أنّه ارتكب ذنباً لا يغتفر، فعاقبه براهما عقاباً شديداً، إذ أسكن روحه (صفة) لا تتحرك ولا تتكلم". ولقد عبّر أمنزاي لسيّده الملك عن الألم الشديد الذي كانت تعاني منه روحه وهي في (الصفة) قائلاً: "كان العقاب قاسياً، يا سيدي، وقد شاء براهما أن يهينني بخضوع حتى يردّني إلى الطريق السليم بعد أن يطهر روحي من الآثام.. كنت أفضل جسم (حشرة) على جسم (الصفة).. ولحسن حظي -يا مولاي- لم تبق روحي في (صفة) واحدة وإنّما كانت تنتقل من (صفة) إلى (أخرى) أي من بيت إلى آخر... وكانت تعيش في هذه البيوت ما يعيشه أصحابها من آلام وآمال، فتحكم على سلوك الناس وتصرفاتهم بكل صدق وموضوعية...
لقد كان لون أول (صوفا) أوت إليها روحي وردياً مطرزاً بالذهب... وقد أبى براهما العظيم إلاّ أن يرافق روحي إلى هذه (الصوفا) الجميلة التي اشترتها إحدى السيدات الفاتنات ونقلتها إلى بيتها... هذا البيت الذي عشت فيه، يا سيدي، القصة العجيبة التالية..."(20)
يمكن القول: إذن، إنّ مقدّمة (الصوفا) تقلد مقدّمة "الليالي" تقليداً تاماً. فأمنزاي يقوم بدور القاص المسلي، وهو مهدّد بالقتل في حالة عجزه عن إسعاد السلطان الحزين. فلا بدّ أن يختار له الحكايات العجيبة التي تنال رضاه، وأن يمهد له طريقاً مشوقاً يثير حبّ استطلاعه: التشويق وحده قادر على إنقاذ حياته...
وسيمتع أمنزاي سيده السلطان بثماني حكايات (مغامرات) عاشها في قصور ومنازل مختلفة، واستنتج منها العديد من العبر، حكايات تدور كلها حول "الحبّ والجنس" (21) استطاع من خلالها الراوي أن يميّز بموضوعية بين الحبّ الحقيقي والحب المزيف.
والجدير بالتنبيه أنّ قصص أمنزاي (التي اخترنا منها اثنتين للدراسة والمقارنة) تحتوي على عناصر عدّة تشير إلى تأثر كريبيون الابن بحكايات الليالي، لا سيما تلك التي اعتنت بتصوير حياة المرأة الشرقية وركزت على الخيانة الزوجية، مازجة مشاهد الحبّ والغرام بالعناصر المدهشة والغريبة... ومن طرائف الأمور أنّ كريبيون الابن أخضع كل بطلاته الشرقيات لتلك الأجواء الأوروبية التي كانت شائعة في
الأوساط الأرستقراطية في عصر التنوير (الثقافة، أسلوب الحياة، العلاقات الاجتماعية...). وهذا يعني أنّه اتّخذ المرأة الشرقية وسيلة لنقد تصرفات النساء الفرنسيات الأرستقراطيات، وعلاقتهن بالرجال في فترة تفسخت فيها أخلاق المجتمع.
2- ممارسة الجنس مع العبيد
كانت أول حكاية رواها (أمنزاي) على سيده (شاه باهام) هي حكاية "فاطمة والعبد داهيس" التي تدور حول "الخيانة الزوجية". وقد حاول كريبيون الابن فيها أن يعري الحبّ القائم على اللذة والشهوة، ذلك الحبّ المتقد الذي لا تجني المرأة من ورائه قيمة تذكر سوى أن تستغل مفاتنها الجنسية.
تبدو هذه الحكاية وكأنّها قطعة من "الليالي". ولا يستبعد أن يكون المؤلف قد تأثر فيها بحكاية "الملك السلطان صاحب الجزائر السود"(22) أو بحكايات أخرى من "الليالي" وهي كثيرة(23) والتي نجد فيها المرأة الحرة الجميلة تقع في غرام العبد الأسود وتنام معه في فراش واحد.(24)
وفاطمة هذه امرأة جميلة، غنية، متزوجة من رجل نبيل ولطيف، "من أثرياء أكرا". كانت تكره زوجها وتلعن عشرته، على الرغم من أنّه كان يحبها ويوفر لها كل شروط السعادة: أسكنها في قصر فاخر، واشترى لها العبيد والخدم وملأ حياتها بالبهجة والراحة...
ويبدو أنّ فاطمة كانت مدفوعة بشعور قوي يجعلها تقسو على زوجها وتسيء معاملته، وربما يكون ذلك عائداً إلى القلق المعقد الذي كانت تعاني منه، والذي يمكن تعليله بسبب فراغ أوقاتها وانشغال زوجها عنها بأعماله الكثيرة، فضلاً عن تربيتها الخاصة وطباعها الشاذة الغريبة...
وقد وقعت فاطمة في غرام عبد أسود يدعى داهيس. وكان هذا الزنجي الذي يشتغل عندها غبياً وجاهلاً، يعيش حياة أي عبد آخر في القصر، وإن كانت السيدة قد خففت قليلاً من أعبائه وأشغاله الشاقة.
والواقع أنّ فاطمة كانت تجد في داهيس أكثر من تسلية: فهي تنام معه في فراش واحد وتأمره أن يضاجعها بعنف، وتناديه كلما أحست بالقلق والضيق... كانت تشعر بسعادة لا شبيه لها وهي تحتضنه وتقبله، لأنه كان الوحيد -في نظرها- الذي يملأ حياتها بالبهجة والسرور، ويزيل عنها الهموم والأحزان.(25)
لقد كانت فاطمة امرأة متقلبة الأطوار، لا تستقر على رأي، متردّدة وقلقة في أغلب الأحيان... وكان لا بدّ أن تنتهي علاقتها الجنسية بداهيس بفضيحة كبرى تألمت لها روح أمنزاي التي كانت مثل (الكاميرا) تتبع كلّ الأحداث. فلقد "حدث يوماً أن دخل الزوج إلى غرفة النوم فوجدها نائمة في فراشها معانقة عبدها وقد خلعت كل ثيابها وهي في أحلى لحظات سعادتها. فلما رأى السيد الخادم يواقع زوجته، اضطرب وارتعش قلبه من الألم والغيرة، فاستل سيفه البتار وأغمده في قلب امرأته التي لم تمنحه حبّها يوماً..."(26)
يمكن القول، إذن، أنّ حكاية "فاطمة والعبد داهيس" مقتبسة من "الليالي" التي اعتنت كثيراً بموضوع "الخيانة الزوجية" وسمحت لعبيدها أن يمارسوا الجنس مع أجمل النساء وأرقاهن مرتبة. ولعلّ أهمّ ما يلفت النظر في هذه القصة أنّ صاحبها قد برع في تصوير بطلته، فهو لم يعن بوصف شكلها الخارجي فحسب، وإنّما تغلغل في أعماق شعورها: حلّل نفسيتها ومزاجها وقلقها واضطرابها وأحاسيسها نحو زوجها وعبدها وأصدقائها، وركز -بشكل خاص- على حياتها الجنسية وعلاقتها بعبدها الخدوم داهيس:
"كانت عيناها متقدتين: وقد احتضنت داهيس بكل ما تملكه من قوة، ثم استرخت وقد استلقت على ظهرها (وهي مجردة من جميع ملابسها) وتركت العبد يفعل بها ما يشاء... كانت تشعر بسعادة غير متناهية، وتهمس في أذنه بكلمات الحبّ..."(27)
ثمة ملاحظة أخرى هي أنّ كريبيون الابن -الذي أثبت قدرته في ميدان التحليل النفسي -قد برع أيضاً في وصف اللقطات الجنسية المكشوفة. ويبدو أنّ هذا الأديب، الذي فشل عدّة مرات في حياته العاطفية،(28) قد استهدف، في هذه الرواية، تعرية الحبّ الطائش القائم على اللذة والشهوة. وقد استطاع -فعلاً- من خلال تحليلاته الدقيقة أن يكشف انفعالات المرأة المستسلمة لأهوائها وشهوتها المتقدة، وأن ينتقد بسخرية سلوكها المضطرب وميلها إلى تلبية غرائزها الحيوانية.
3- دور العجوز في اللقاءات المدبرة
إنّ جميع القصص -التي رويت على لسان أمنزاي وجرت في دائرة شرقية- تدور حول الحبّ والجنس. وأمثال فاطمة، المرأة المتمردّة والمتعطشة للذة، يتكرّرن في النص الروائي أكثر من مرة: نساء فاتنات وأرستقراطيات لكنهن أسيرات شهواتهن ورغباتهن. والملفت للنظر أنّ "العجائز"- وعلى نمط الليالي- هن اللائي يدفعن أحياناً بالفتيات إلى الفساد والدمار، ويدبرن اللقاءات السرية بين النساء الجميلات والرجال كما تصوّر ذلك قصة: أمينة وعبد اللطيف" التي رام كريبيون الابن من خلالها نقد المجتمع الفرنسي المنهار خلقياً .
وأمينة فتاة يتوفر لها الحسن كله، تعمل راقصة في قصر الملك وتسكن مع والدتها العجوز في بيت متواضع، ولقد أحبّها الوزير عبد اللطيف، واستطاع أن يكسب ودّها وأن يضيفها إلى عدد عشيقاته الذي لا يحصى... وكانت أمّ أمينة، العجوز المحتالة- التي ترتدي (زي الأتقياء) لتتفنن في حيلها- تشجع ابنتها على استغلال الوزير لأنّ ما كان يهمها هو الثروة والجاه...(29)
كانت أمينة تخضع لكل طلبات عشيقها الذي اشترى لها قصراً وكساها بما لم تكن تحلم به (أغرقها في الذهب والجواهر)... كان هذا الوزير يقضي كل وقته خارج قصره (لتعدّد مهامه السياسية والغرامية) ولا يعود إلى أمينة إلاّ من حين لآخر ليتمتّع بجسدها وجمالها بكل قسوة وأنانية (السادية)... لم يكن يحبّها بصدق وما فكر يوماً في الاقتران بها، وإنّما اعتبرها (جارية) يلهو بها في أوقات فراغه.
لقد أصيبت أمينة بخيبة أمل بعد أن اكتشفت حقيقة أمرها... أدركت أنّها تحوّلت إلى أداة (وسيلة جنسية)، وأنّ رفاهيتها لن تدوم لأنّها مقرونة بوقت معيّن قد لا يطول... إنّ الوزير يعيش مع نساء أخريات، أمّا هي فتريد أن تحقق سعادتها، تنفذ كل رغباتها المعنوية والجسدية... لقد قرّرت أن تنتقم من (النبيل) الذي أغراها بأسلوبها الخاص: ممارسة الجنس مع رجال آخرين... ولم تجد خير معين لها -في تجسيد قرارها- من والدتها العجوز، الكائن الوحيد القادر على تلبية كل رغباتها...(30)
لقد اختارت العجوز لابنتها -في بداية الأمر- عبداً أسود يدعى (مسعود)(31)... استطاعت أن تقرّب بينهما بكل سهولة... وكان هذا الزنجي يلبي كلّ طلبات أمينة يمارس معها الجنس بدون خوف أو حرج: يضاجعها عدّة مرات في اليوم الواحد ويمنحها سعادة وبهجة لا حدود لهما...
ومع الوقت، أصبحت أمينة (شهوانية) أكثر من اللازم، شديدة الغريزة، تراودها باستمرار مشاعر الهوى وتتطلع إليه... ولقد أحبت -في مرحلة ثانية- مساعد الوزير، وطلبت من أمها أن تقوم بدور الوسيط بينها وبينه. ولقد استطاعت أمّها العجوز -فعلاً- أن توقع الفريسة في فخها وأن تقود الرجل (النبيل) إلى القصر ليسعد ابنتها ويدخل البهجة إلى قلبها...
ولم تكتف أمينة بـ (مسعود) أو بـ (مساعد الوزير) وإنّما أقامت -بفضل أمها- علاقات مع (نبلاء) آخرين... لقد أصبحت تبحث عن (الجنس) في كل مكان لتشبع رغبات جسدها. فهي لا ترتوي باللمس والقبلات والممارسة الجنسية، وإنّما تشتاق في كثير من الحالات إلى فحولة فظة لا تعرف الرثاء للذات، فحولة توقظ فيها إحساسات النشوة الحقيقية...
إنّ قصة "أمينة وعبد اللطيف" لا تختلف كثيراً عن سابقتها شكلاً ومضموناً... فلقد خصص فيها الروائي حيزاً واسعاً للجنس والتحليل النفسي، محاولاً الغوص في أعماق "المرأة الأرستقراطية" التي تفسخت أخلاقها، في هذه الفترة، وأصبحت محط متعة جنسية جافة، تلبي بكل حرية رغباتها الجنسية مع من تريد من الرجال.
إنّها قصة مشحونة بالمواقف النفسية والانفعالات، مكتظة بتأمّلات عن معنى الحرية وخطيئة الغرور والطمع.
4- المشاهد الشهرزادية والتعبير عن الواقع
من الواضح أنّ "الصوفا" متأثرة بحكايات شهرزاد إلى حدّ بعيد. فروحها قريبة من روح الليالي، وأبطالها (ملوك، أمراء، عبيد، نساء، عجائز...) شبيهون بأبطال "الليالي"... ومن الواضح أيضاً أنّ الروائي تفنن في وصف المشاهد الشرقية المختلفة التي كان يصبّ فيها أفكاره وتأملاته، وبرع في رسم القصور الملكية وعرض ما كان يدور فيها من آلام وآمال...
وغني عن القول أنّ هذه الرواية الثرية بموضوعاتها ونماذجها تحمل نقداً أساسياً لاذعاً استهدف أساساً الملكية المطلقة والطبقة الأرستقراطية المنهارة. وما التجاء الروائي إلى العالم الشرقي إلا للكشف عن الأخلاق الفاسدة المتفشية في المجتمع الفرنسي وإبراز ما كان يدور في قصور فرساي من أحداث خطيرة لم يأبه بها الملوك الذين تعاقبوا على العرش في أغلب الأحيان.(32)
ولفهم أبعاد هذه الرواية لا بدّ من قراءتها بتمعن؛ فالروائي اختار اسم (شاه باهام) للدلالة على لويس الخامس عشر، ذلك الملك المضطرب، العاجز سياسياً، المتعجرف، والذي لم يكن ليهتمّ بشؤون مملكته إلاّ قليلاً، وإنّما يتعشى مع عشيقاته في قصر فرساي ويتحدّث عن الصيد والحيوانات (تسليته المفضلة). وهذا يعني أنّ كل الصفات التي ألصقها الروائي ببطله (شاه باهام) تنطبق على لويس الخامس عشر انطباقاً كلياً: "ملك متهتك بطيء، متثاقل، يأبى التفكير في الأمور الخطيرة ولا يبالي بما يحدث خارج حدود قصره الضيقة.
ومن الملاحظ أنّ كريبيون الابن اعتنى كثيراً بتحليل مشاكل المرأة الأرستقراطية التي كانت في أدبه موضع استملاح وفكاهة. فلقد استطاع أن ينفذ إلى أعماقها ويحلّل مزاجها وطباعها ورغباتها الدفينة... ويتجلى لنا صاحب "الصفة" في تحليلاته وكأنه فيزيائي يهتمّ بكل صغيرة وكبيرة، يدرس النفس البشرية من
كلّ جوانبها ويقطع أحداث قصصه في الوقت المناسبة ليفسر ويسهب في تحليلاته ويعرّي شخوصه ويكشف الدوافع النفسية والحوافز الاجتماعية...
إن كريبيون الابن روائي قدير، اتسم بوعيه الفني العميق ونفاذه في النفس البشرية قصد تعرية عيوبها وبشاعتها، فضلاً عن اهتمامه بالمرأة(33) وميله إلى الفلسفة الإيبقورية... كان يشعر براحة وهو يرسم المشاهد الشرقية ويخلق الأبطال الشرقيين للتعبير عن أفكاره وأحاسيسه. ويبدو أنّه كان أوّل من أدخل عنصر الجنس في الرواية الفرنسية وسمح لأبطاله أن يتحاروا في دوافعه ومشاكله بحرية مطلقة... فهو لم يهتم برسم اللقطات الجنسية الجريئة (PORNOGRAPHIQUES SCENES) ، وتصوير ما يدور في البيوت الأرستقراطية من دعارة فحسب، وإنّما حاول أيضاً أن يبحث عن الأسباب التي تؤدّي إلى الفساد وتفسخ الأخلاق، مجسداً الفضائح والعيوب التي كان المجتمع الفرنسي يعاني منها في القرن الثامن عشر.
لقد حاول العديد من الكتاب الفرنسيين أن يقلدوا "الصوفا"،(34)، غير أنهم وقفوا عاجزين أمام براعة كريبيون الابن وقدرته على التحليل والنفاذ إلى أعماق الشخصيات... وهكذا أصبحت الأرواح- في هذه الأعمال المقلدة- تتقلّص أشكالاً مختلفة وتتجول في البيوت والقصور لتشاهد عن كثب ما يجري فيها من أحداث ولتكتشف أسرار الناس وخباياهم.
الخاتمـــة
في الحقيقة، إنّ كريبيون الابن لم يقلد "ألف ليلة وليلة" في الأسلوب فحسب (الحكاية الإطارية، الوصف، التشويق...)، وإنّما استلهم منها أيضاً مضامينها وكلّ ما يمكن أن يخدم به أفكاره وتأملاته (الحرية/ الوفاء/ الصراع السياسي/ التفاوت الطبقي...) واللافت للنظر أنّه، على الرغم من تأثره العميق بحكايات شهرزاد، استطاع أن يقدّم عملاً أصيلاً وممتازاً: برع في وصفه للمشاهد الشرقية الفاتنة، وتحليلاته النفسية الدقيقة، وكشفه عن الأمراض السيكولوجية والجنسية، وتناوله لأهمّ القضايا السياسية والاجتماعية...
لقد خدم كريبيون الابن الرواية الفرنسية وعمل على تطويرها وإثرائها بتقنياته الحديثة وتحليلاته النفسية العميقة والجادة. ومن الواضح أنّ هذا الأديب الفنان -الذي يحلّل الجنس ولا يهمل الأخلاق- استطاع أن يمزج، في أعماله، بين الواقعي وروعة الخيال وذلك حتى يضفي عليها عنصر التشويق ويقربها إلى جمهوره الذي كان شغوفاً -في هذه الفترة- بأحلام الطفولة.
وغني عن القول إنّ "الليالي" ملكت أجيالاً من المفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر: لم ينج من سحرها حتى عباقرة العصر من أمثال ديدرو وفولتير... ولسنا نبالغ أيضاً إذا أكّدنا على أنّ هذه المجموعة الشعبية استطاعت أن تغيّر مجرى الرواية الفرنسية في بداية تطوّرها (أي بعد ظهور ترجمة جالان): جهزتها بأساليبها وحبكها وأطرها، وشخوصها ومشاهدها وتعبيراتها، ووجهتها إلى ما كان ينقصها من الاهتمام بالمغامرات وعوامل الإثارة... كلّ ذلك حتى تخرج (هذه الرواية) من إطارها الضيق وتتجه نحو التطوّر والكمال...
لقد كان كلّ شيء في ترجمة جالان جميلاً ومغرياً ومثيراً: ألوانها الشرقية الصاخبة، أجواؤها الأسطورية الفاتنة، مضامينها الإنسانية الثرية، فضلاً عن أنّها "تحتوي تقاليد عديدة، ليست غريبة على
القارئ الفرنسي في القرن الثامن عشر... وكان أن اكتظ أغلب هذه الحكايات بتأملات عن معنى الحرية وخطيئة الغرور والطمع... وبكلمة موجزة، فإنّ القارئ في هذا القرن، وإن كان قد وجد المتعة في متابعة هذه الحكايات وسحرته أجواؤها بلذة غريبة، لا بدّ أن يكون قد اتفق مع السندباد في استنتاجاته بأن لا تحصيل بدون مشقة..."
? الهوامش والمراجع
1- أنطوان جالان مستشرق فرنسي مشهور، درس في الكلية الملكية وعكف على تعلم اللغات الشرقية (لا سيما العربية والعبرية). تقلب في عدّة مناصب دبلوماسية واعتنى بجمع التحف والمخطوطات الشرقية النادرة. لمزيد من التفاصيل، ينظر:
R. SCHWAB, ANTOINE GALLAND, PARIS, MERCURE, 1966.
2- يبدو أنّ ترجمة جالان -التي تلقاها المجتمع الفرنسي بحفاوة -احتلت مكانة الصدارة في المكتبات الباريسية في القرن الثامن عشر: أصبحت لا تقل أهميّة عن ملاحم اليونان والرومان.
3- كاترينا مومسن، جوته وألف ليلة وليلة، ترجمة أحمد حمو، دمشق، مطبوعات وزارة التعليم العالي، ط1، ص11.
4- لقد قدّم جالان لقرائه ترجمة أنيقة الأسلوب، رائعة السبك، تتسم بالوضوح والبساطة والرشاقة، وممّا يذكر أنّ بعض أصدقائه كانوا يطلعون على الحكايات المترجمة قبل نشرها.
5- M. L. Dufrenoy, L ٍrient romanesque en france, Montreal, Beauchemin, 1949, PP. 39-40.
6- لا بد أن نميز -هنا- بين الشرق الحقيقي الواقعي والشرق الذي صوّرته الرواية الفرنسية في هذه الفترة، والذي يطلق عليه النقاد مصطلح "الشرق الروائي" أو "الشرق الخيالي".
7- نجيب العقيقي، المستشرقون، القاهرة، دار المعارف المصرية، ط2 ص29.
8- لقد تحوّل الشرق، في الأدب الفرنسي، إلى وسيلة ومهمّة خطيرة لنقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية التي كانت تتخبّط فيها البلاد في عصر التنوير. وتدرك هذه الحقيقة بمجردّ التمعن في الروايات الكثيرة ذات الطابع الشرقي التي حرّرها أدباء ومفكرون من أمثال فولتير ومونتيسكيو وديدرو ومارمونتيل.
9- ولد كلود بروسبير جوليو دو كريبيون (C. P. Jolyot de Grebillon) سنة 1707 (14 فبراير) في باريس. توفيت أمه وهو في الرابعة من عمره، ولم يعتن أبوه بتربيته لاهتمامه بخشبة المسرح وسعيه للحصول على منصب سام في الدولة.
درس كريبيون الابن في مدرسة اليسوعيين، وأبدى اهتماماً كبيراً بالمسرح والرواية منذ صغره، كان يتردّد على الصالونات الفكرية الشهيرة ويناقش الفلاسفة والأدباء من أمثال ديدرو ومونكريف وهاملتون ومرسي... وكان أيضاً يحبّ مخالطة المسرحيين وخصوصاً فرق الكوميديا الإيطالية والأوبيرا الباريسية. لمزيد من التفاصيل، ينظر:
ERNEST STURN, Crebillon et le libertinage au XVIII ene siécle, Paris, A. NIZET, 1970.
10- ر. م. ألبيرس، تاريخ الرواية الحديثة، ترجمة جورج سالم، دار عويدات، 1967، ص 27.
11- CF. M. L. Dufrenoy, OP. Cit, 71-72.
12- CF. E. STURN, Crebillon et le libertimage au XVIII siecle, Paris NIZERT, 71.
13- لقد اعتنى هذا الأديب بالمرأة أكثر من غيرها من الشخصيات الأخرى، لأنه كان يرى فيها كائناً جديراً بالدراسة والتحليل (لما تقوم به من أدوار خطيرة في المجتمع).
14- لئن احتل من جديد مكانته في تاريخ الأدب الفرنسي فإنّ الفضل يعود إلى باحثين من أمثال ريني إثيمبل الذين نبهوا إلى قدرته الفنية والأدبية.
15- C.F. E. STURN, OP. Cit, 37.
16- CREBILLON FILS, LE Sopha, Grenoble, poissard, 1970, P. P. 7.
17- يتجلى السلطان شاه باهام (لويس الخامس عشر) في النص الروائي، قلقاً مضطرباً ومغفّلاً ساذجاً، يستمع إلى القصص فيعلق عليها تعليقات سمجة تدلّ على غبائه وغفلته.
18- Le SOPha, 7-8.
19- Ibid, 9.
20- Ibid, 10.
21- يشكل الحبّ بشتى أنواعه لحمة هذه القصص وسداها، إذ أنّ روح أمنزاي التي تسربت إلى مجموعة من البيوت، قد عاشت في كل بيت قصة حبّ مختلفة عن الأخرى.
22- خلاصة هذه الحكاية أنّ الملكة قد وقعت في غرام عبد أسود، يسكن في كوخ مهدّم... وكانت تحبه حباً عظيماً وتشعر بسعادة لا مثيل لها وهي تحتضنه...
23- يمكن أن نذكر على سبيل المثال حكاية شاه زمان وزوجته. "رجع شاه زمان إلى القصر.. فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقة عبداً أسود.. "ثم ذهب شهريار إلى أخيه شاه زمان فتكرّر أمامه المشهد الجنسي نفسه..
24- يقول أحد العبيد في "حكاية أيوب وابنه غانم " التي ترجمها جالان إلى الفرنسية: "دخلت على ابنة سيدي وقد ارتدت ملابس جميلة فلاعبتني ولاعبتها فدفعتني على الأرض وركبت على صدري وصارت تتمرّغ علي".
25- Crebillon, Le SOPHA, p. 42.
26- Ibid, 45-46.
27- جاء في حكاية "السلطان صاحب الجزر السود "التي سبقت الإشارة إليها أنّ الملكة: "لما شعرت أنّ العبد قد رضي عنها قامت وخلعت ثيابها ورقدت مع العبد... فلما رأى الملك ذلك اسودت الدنيا في وجهه فضرب العبد على رقبته".
28- لقد فشل كريبيون الابن في ميدان الحبّ عدّة مرات، عشق فتاة تدعى دولا جستين وتعلقاً بها تعليقاً شديداً لكن سرعان ما تخلت عنه وتزوجت بأحد النبلاء...
وتعرف على فتاة أخرى تسمى ماري وأحبّها حبّاً عظيماً غير أنّها لم تتمكن من الانسجام معه فتخلت عنه وتعلقت بشخص آخر.
29- إنّ الدور الذي تقوم به العجوز في هذه القصة شبيه بأدوار بعض العجائز في الليالي: القيام بدور الوسيط بين المرأة الجميلة وعشاقها، حمل الرسائل، اصطياد الرجال... وأمّ أمينة تكيد من أجل المال ولا تتردّد في الاتجار بابنتها وعرضها على من يدفع أكثر... إنّها ماكرة، بشعة ومحتالة... تعمل للجمع بين ابنتها وعشاقها، بل قد تذهب أبعد من ذلك -كما سنرى- فتلبي كل رغبات أمينة بدون حياء.
30- Le SOPHA, 62.
31- جاء في مقدّمة ألف ليلة وليلة:
"خرج عشرون جارية وعشرون عبداً، وبينهم الملكة وهي في غاية الحسن والجمال... حتى وصلوا إلى الحديقة وخلعوا ثيابهم، وإذا بامرأة الملك تقول: يا مسعود... فجاءها عبد أسود، فعانقها وعانقته وأوقعها... وكذلك فعل العبيد بالجواري...
32- لقد أثارت هذه الرواية بمضامينها الجريئة ردود فعل لدى بعض النبلاء، والمراقبين، فكان من نتائج ذلك أن سجن كريبيون الابن ونفي خارج فرنسا عدّة شهور.
33- لقد اتخذ كريبيون الابن المرأة الفرنسية نموذجاً لتسديد ضربات إلى طبقة النبلاء... كان يريد أن يعرّي وجهها بعد أن تفسخت أخلاقها... ويبدو أنّ هذه المرأة كانت تعاني من أزمات نفسية حادّة، ناتجة عن وضعية طبقتها المنهارة.
34- نذكر من الروائيين الذين تأثروا بكريبيون الابن:
- الأب فوازنون (Abbé de VOISENON) في روايته: "زلميس وزلماييد" 1745، و "السلطان ميزابوف" 1746.
- ف. أ. شفري (F. A. CHEVRIER) في روايته "بيبي" BIBI (1746).
- كيليس (CAYLUS) في روايته "المعاطف" (1746).
- الآنسة فوك (FAUQUE) في روايتها "العباسة" 1753.
ويبدو أنّ الأب بريفو نفسه قد توقف عن كتابة روايته "لمنون لسكوت" عدّة شهور، بعد اطلاعه على "الصفة" وذلك حتى يعطيها نفساً جديداً وتحليلاً عميقاً.
جامعة وهران - الجزائر
* د. شريفي عبد الواحد
كربيون الابن و " ألف ليلة وليلة "