نقوس المهدي
كاتب
ثمة قصص شعبي ألماني انتشر انتشاراً واسعاً جداً وترجم إلى اللغات الكبرى ولا يزال أروج القصص الشعبي انتشارا في العالم حتى اليوم, ونقصد به "حكايات الأطفال والبيت" للأخوين يعقوب (1785 _ 1863) وفلهلم جرمّ (1786 _ 1859) التي صدرت الطبعة الأولى منها في سنة 1812 (الجزء الأول) وسنة 1815 (الجزء الثاني)، ثم توالت طبعاتها في حياة المؤلفين حتى بلغت الطبعة السابعة في سنة 1857، ونمت من طبعة إلى طبعة. فبعد أن كان عددها في الطبعة الأولى بجزئيها 161 وصلت في الطبعة السابعة إلى 201. وكانت الطبعة الأولى تعتمد على مصادر شفوية إذ استمدت من أفواه عامة الشعب، وكانت مصادرهما الأولى ذكريات الحكايات التي كانت تروى لهما في الطفولة وحكايات الناس بسذاجتها ونضارتها الأولية, لكنهما لجأ بعد ذلك إلى مصادر كتابية، وكانا يرويان هذه الحكايات بروايات من عندهما، ومن طبعة إلى أخرى كانا يعدّلان ويصحان في الأسلوب والقصِّ، ويحذفان البعض، ويضيفان البعض الآخر، ويعيران في الأسلوب باستمرار.
وقد درس هذه التغييرات أرنست تونلا، في بحث فيلوجي نقدي ممتاز بعنوان: "حكايات الأخوين جرم: دراسة في الإنشاء والأسلوب لمجموعة حكايات الأطفال والبيت" (باريس سنة 1912).
وقد اعترف المؤلفان في التعليقات على هذه الحكايات أنهما استمدا من ألف ليلة وليلة، أصول ثمانٍ من هذه الحكايات وهي: 1 _ الصياد وزوجته (رقم 19)، 2 _ الماكر وسيده (رقم 68)، 3 _ ستة يذرعون الدنيا (رقم 71)، 4 _ جبل الذهب (رقم 92)، 5 _ الطيور الثلاثة (رقم 96)، 6 _ عين الحياة (رقم 97)، 7 _ الروح في الزجاجة (رقم 99)، 8 _ جبل سملى (رقم 142)،. وهذه الأخيرة مأخوذة من حكاية علي بابا والأربعين حرامياً، وتحكي أن أخا فقيراً سمع الصوص وهم ينادون: "يا جبل سمسى، أفتح" فانفتح جبل ملىء بالكنوز، ويغلقونه بقولهم: "يا جبل سمسى، أغلق". وعن هذا الطريق صار الأخ غنياً بأن استخدم نفس الجملة. وراقبه أخوه الحاسد له، وفتح الجبل، لكنه لم يستطع الخروج، لأنه نادى: "سملى، سملى" بدلاً من "سمسى"، وقتله اللصوص، وكلمة "سمسى" هي كلمة "سمسم" العربية، والعبارة هي: "افتح يا سمسم" المشهورة في حكاية "علي باب والأربعين حراميا".
لكن الأمر لم يقتصر على هذه الحكايات الثماني, بل قام الباحثون من بعد، وقارنوا مصادر الحكايات، وعلى رأسهم ر. كولر وفكتور شوفان، وي، بولت وجاستون باريس وا. كوسكان وا. فسلسكى. واكتشفوا أن عددا كبيراً آخر من حكايات الأخوين جرم يرجع إلى مصادر إسلامية. ولخص يوهان بولت و. ج. بوليفكا الأبحاث التي أجريت في هذا الميدان في تعليقاتهما على حكايات الأخوين جرمَّ ( ج1، 5، ليبتسك، سنة 1913 _ 1932).
وجاء فرانتس فون در لاين في نشرته الممتازة لهذه الحكايات، وقرر أن اثنتين وعشرين من هذه الحكايات ذوات أصول شرقية. ولما كانت "ألف ليلة وليلة" لم تكن قد ترجمت إلى الألمانية بعد، فإن الباحثين قد مالوا إلى افتراض وجود ترجمة أسبانية قديمة منذ القرن الثالث عشر أو بعده بقليل هي التي أثرت في منشأ هذه الحكايات التي انتشرت انتشارا واسعا في أوساط عامة الناس، وصارت قصصاً شعبية ألمانية تتناقلها أفواه الناس ومن أفواههم إلتقطتها الأخوان جرِمّ. ومن الأمور الخليقة بالبحث أن ننظر في تطور هذه الحكايات من الرواية التي هي عليها في "ألف ليلة وليلة" إلى الصورة التي صاغها الأخوان يعقوب وفلهلم جرِمّ.
ولما كانت هذه الحكايات قد انتشرت انتشاراً هائلاً في ألمانيا وخارجها وفي سائر بلاد العالم، وكانت المعين الأول الذي يمتتح منه الشباب الأوروبي, حتى أنها لتعد من أعظم الأحداث الأدبية في تاريخ الأدب الأوروبي الحديث, وأثارت مساجلات عنيفة بين صاحبهاوبين برنتانو وفون أرنم اللذين أصدرا مجموعة مشابهة بعنوان "البوق الذهبي"، حول الصياغة الفنية والشعر الفني والشعر الشعبي _ فإن هذا يدل على ما لبعض القصص الشعبي الإسلامي من أثر بالغ في الأدب الأوربي، وفي تكوين الثقافة الأدبية والفنية للشباب الأوربي.
ومن القصص الأخرى المستمدة من "ألف ليلة وليلة" نجد:
1 _ أولا قصة هرفيزدي متز وهي أنشودةِ فعال (ملحمة بطولية) بطلها هو هِرْفيزدي متز, أنشئت في نهاية القرن الثاني عشر كان أبوه من عامة الناس، وأراد أن يجعل منه تاجرا فبعث به إلى المواسم والأسواق، لكن الفتى أنفق كل أمواله في الاحتفال وشراء أدوات الصيد والخيل والسلاح. وفي "لانى" بالقرب من باريس، خلص الأميرة بياتركس بنت ملك صور، التي اختطفها بعض السواس وأتوا بها إلى فرنسا لبيعها. ثم طرده أبوه من مدينة متز، فتزوج بياتركس. وأصابه الفقر المدقع، فرحل إلى صور وهو يحمل تطريزا من شغل بياتركس يمثل أباها وأمها وابنته هو منها. فاشترى ملك صور هذه التحفة باثنين وثلاثين ألف مارك، وهكذا عاد هرفيز غنياً إلى وطنه بعد أن رحل منه فقيراً. فلما وصل متز احتلفبه الجميع، وكذلك احتفى به دوق اللورين العجوز بعد أن عاد من البلاد المقدسة وسلحه فارسا. ومن هنا تبدأ سلسلة طويلة من المغامرات: إذ يختطف أهل بياتركس ابنتهم، لكن زوجها يستعيدها ويبرز هرفيز في مغامرات عظيمة مدهشة. وصار دوقا لاقليم اللورين، وأيد شارل مارتل ضد جيرار دي روسيون، ووقف زحف الوندال وهزمهم وخلص مدينة متز. ثم رحل إلى الأراضي المقدسة بصحبة بياتركس ناشدين تمضية بقية العمر في تلك الأراضي. وتركا وراءهما في متز ابنيهما جاران وبيج. وقد صار جاران هذا بطلا لملحمة بطولية أخرى تتمم ملحمة "هر فيز دي متز".
وقد جاء ل. جوردان في مقال له بمجلة "محفوظات دراسات اللغات الحديثة" (ج 114، ص 432 _ 440) فأثبت أن ثم تشابها لا شك فيه بين حكاية "هر فيز دي متز" وحكاية نور الدين في "ألف ليلة وليلة".
2 _ كذلك قصة "الدوق أرنست", وقد أنشئت في القرن الحادي عشر، تبين أن مصدرها شرقي إسلامي هو "ألف ليلة وليلة". إذ يرى فكتور شوفان أن كل ما جرى من مغامرات للدوق أرنست وهو في رحلة في الخارج مستمدة م حكاية "أمير خوارزم", كما أن جوردان يرى أن بينها وبين رحلات السندباد (السادسة، وبعض الثانية) علاقة وثيقة.
وملحمة "الدوق ارنست" من الملاحم الألمانية الشهيرة في العصور الوسطى، وتقع في العصر الثاني من عصور الملاحم الألمانية. ويعد الدوق أرنست من الشخصيات الحبيبة جداً إلى قلب الشعب الألماني. وربما أسهم في إيجاد أسطورته بعض العناصر التاريخية ومنها الكونت أرنست البافاري الذي كان يعيش في سنة 837 في بلاد الإمبراطور لودفج، واتهم في سنة 865 بالخيانة العظمى فنزعت عنه كل ألقابه، وكذلك الدوق أرنست الثاني، دوق شفابن، الذي نصح أمه جيزيلا بالزواج للمرة الثانية من الإمبراطور كونراد الثاني، وصار بعد ذلك من أخطر المتمردين على الإمبراطورية. وعنوان هذه القصيدة الملحمية هو" "علو الدوق ارنست البافارى, ونفيه، وحجه، وعودته" وفيها 5560 بيتامن الشعر، ونشرها هاجن وبوشنج. ولما كانت الرحلة التي قام بها الدوق تتحدث عن عجائب البلاد الأخرى فقد انتشرت في الأوساط الشعبية، وصارت نوعاً من الكتب الجغرافية الشعرية. وخلاصتها أن أرنست صهر الإمبراطور أوتو، غضب عليه الإمبراطور لأنه قتل ابن أخيه، الكونت هينرش لأنه وشى به. فحكم عليه بالنفي، فسافر إلى البلاد المقدسة محاربا في صحبة الكونت فتسل Wezel ووصلا بغير عناء إلى القسطنطينية، لكنهما لم يكادا يبحران من هذه المدينة حتى أصابتهما عاصفة عاتية ألقت بهما على جزيزة قبرص. وهنا وجدا قصرا مسحورا، وصفه الشاعر بروعة خيال جامع وشاهدا عدداً كبيراً من الكراكي (طيور كبرة) تسكن القصر. وكانت الكراكي (مثل الرخ في رحلات السندباد) قد خطفت ابنة ملك الهند، وكان رب القصر يريد الزواج منها. وأراد الدوق أرنست تخليصها. لكنه قام بهذه العملية في الليل فقتل الكثير من الكراكي كما قتل ابنة الملك المخطوفة ثم عاد وصاحبه إلى المركب، وأقلعا بها حتى بلغا بحراً رهيبا فيه جبل المغناطيس، الذي اجتذب سفينتهما فتحطمت عليه كالزجاج. وأصاب الجميع عطش شديد، فهلك الكل إلا سبعة من بينهم الدوق أرنست. وخطرت بباله فكرة عجيبة هي أن يضعوا أنفسهم في جلود يخيطونها ويتركونها وهم فيها أحياء ليطير بهم العقبان، إذ من عادة العقبان أن تحمل الجثث وتطير. وأفلحت هذه الحيلة, وطار أرنست إلى عش العقبان هو وأصحابه. واستطاعوا بعد ذلك أن يتخلصوا، ولما تخلصوا صنعوا زورقا، واستأنفو السفر في البحر ومن باب مغطى بالياقوت دخلوا مملكة القوفلوفاس (وهم الأساطير اليونانية كائنات تصنع الصواعق الإليه، وفي الشعر الكندري هم جن في المرتبة الثانية وحدادون وصناع لكل أسلحة الآلهة، ولهم مصهر تحت الأرض، وإليهم ينسب بناء كل الأبنية التاريخية العتيقة في اليونان وصقلية). وساعدوا هؤلاء الجن على محاربة المردة وأصحاب الأقدام الممسوحة. وأخيراً وصلت الجماعة إلى بابل, وذاعت شهرة مغامراتهم حتى وصلت إلى ألمانيا. وهنالك توسلت أم أرنست إلى الإمبراطور ليصفح عن أرنست، فصفح عنه، وعاد من منفاه.
وبمقارنة تفاصيل هذه الملحمة نجد تشابها شديدا بينها وبين رحلة السندباد السادسة وبعض تفاصيل الرحلة الثانية.
فالحيلة التي لجأ إليها أرنست للتخلص من ذلك الوادي الذي لقى فيه وصحبه العطش والجوع هي بعينها التي لجأ إليها السندباد في رحلته الثانية، قال السندباد "وجدت نفسي في مكان عال، وتحته واد كبير واسع عميق، وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو لا يقدر أحد أن يرى أعلاه من فرط علوه، وليس لأحد قدرة على الطلوع فوقه. فلمت نفسي على ما فعلته وقلت" ياليتني مكثت في الجزيرة فإنها أحسن من هذا المكان القفر.. ثم أني قمت وقويت نفسي ومشيت في ذلك الوادي فرأيت أرضه من حجر الألماس الذي يثبون به المعادن الجواهر ويثقبون به الصيني والجزع، وهو حجر صلب يابس لا يعمل فيه الحديد ولا الصخر.. وكل ذلك الوادي حيات وأفاع كل واحدة مثل النخلة, ومن عظم خلقتها لو جاءها فيل لابتلعته، وتلك الحيات يظهرن في الليل ويختفين في النهار خوفا من طير الرخ والنسر أن يختطفها ويقطعها.. فأقمت بذلك الوادي وأنا متندم على ما فعلته.. وأقمت رأسي وسلمت أمري للقضاء والقدر.. وبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة قد سقطت قدامي، ولم أجد أحداً. فتعجبت من ذلك غاية العجب، وتذكرت حكاية سمعتها من قديم الزمان من بعض التجار والمسافرين وأهل السياحة أن في جبال حجر الألماس الأهوال العظيمة، ولا يقدر أحد أن يسلك إليه. ولكن التجار الذين يجلبونه يعملون حيلة في الوصول إليه, فيأخذون الشاه من الغنم ويذبحونها ويسلخونها ويرشحون لحمها ويرمونه من أعلى ذلك الجبل إلى أرض الوادي فتنزل وهي طرية، فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة، ثم يتركها التجار إلى نصف النهار. فتنزل الطيور من النسور والرخ إلى ذلك اللحم وتأخذه في مخالبها، وتصعد إلى أعلى الجبل, فيأتيها التجار وتصيح عليها، وتطير من عند ذلك اللحم, وتخلص منه الحجارة اللاصقة به" ثم قال (أي السندباد)" "فلما نظرت إلى تلك الذبيحة تذكرت هذه الحكاية فقمت وجئت عند الذبيحة، فنقيت من هذه الحجارة شيئاً كثيراً وأدخلته في جيبي وبين ثيابي. وصرت أنقى وأدخل في جيوبي وحزامي وعمامتي وبين حوائجي. فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة كبيرة فربطت نفسي عليها بعمامتي، ونمت على ظهري، وجعلتها على صدري، وأنا قابض عليها، فصارت عالية على الأرض، وإذا بنسر نزل على تلك الذبيحة، وقبض عليها بمخالبه، وأقلع بها إلى الجو، وأنا معلق بها. ولم يزل طائرا بها، إلى أن صعد بها إلى أعلى الجبل وحط بها، وأراد أن ينهش منها. وإذا بصيحة عظيمة عالية من خلف ذك النسر وشئ يخبط بالخشب على ذلك الجبل. فجفل النسر وخاف، وطار إلى الجو, ففككت نفسي من الذبيحة".
والمغامرة الرهيبة في البحر وما وقع للسفينة عند اصطدامها بالجبل، ترويها السفرة السادسة من سفرات السندباد البحري هكذا"
"إن السندباد البحري لما جهز حمولة ونزلها في المركب من مدينة البصرة وسافر قال: لم نزل مسافرين من مكان إلى مكان ومن مدينة إلى مدينة، ونحن نبيع ونشتري ونتفرج على بلاد الناس وقد طاب لنا السعد والسفر واغتنمنا المعاش' إلى أن كنا سائرين يوما من الأيام،وإذا بريس المركب صرخ وصاح، ورمى عمامته ولطم على وجهه ونتف لحيته ووقع في بطن المركب من شدة الغم والقهر فاجتمع عليه جميع التجار والركاب.. ثم أن الريس قام وصعد على الصارى وأراد أن يحل القلوع، فقوى الريح على المركب، فردها على مؤخرها فانكسرت دفتها قرب جبل عال... ومالت المركب على ذلك الجبل فانكسرت وتفرقت ألواحها فغرق جميع ما فيها, ووقع التجار في البحر: فمنهم من غرق، ومنهم من تمسك بذلك الجبل، وطلع عليه. وكنت أنا من جملة من طلع على ذلك الجبل، وإذا فيه جزيرة كبيرة عندها كثير من المراكب المكسرة وفيها أرزاق كثيرة على شاطئ البحر من الذي يطرحه البحر من المراكب التي كسرت وغرق ركابها.. فعند ذلك طلعت على تلك الجزيرة ومشيت فيها، فرأيت في وسطها عين ماء عذب جار خارج من تحت أول ذلك الجبل وداخل من تحت أول ذلك الجبل وداخل في آخره من الجانب الثاني.. وقد رأيت في وسط تلك العين شيئاً كثيرا من أصناف الجواهر والمعادن واليواقيت واللالئ الكبار الملوكية، وهي مثل الحصى في مجارى الماء في تلك الغيطان، وجميع أرض تلك العين تبرق من كثرة ما فيها من المعادن وغيرها. ورأينا كثيرا في تلك الجزيرة من أغلى العود الصيني والعود القماري، وفي تلك الجزيرة عين نابعة من صنف العنبر الخام، وهو يسيل مثل الشمع على جانب تلك العين من شدة حر الشمس. وذلك المكان الذي هو فيه هذا العنبر الخام لا يقدر أحد على دخوله ولا يستطيع سلوكه، فإن الجبل محيط بتلك الجزيرة، ولا يقدر أحد على صعود ذلك الجبل. ولم نزل دائرين في تلك الجزيرة.. وعندنا خوف شديد.. ونحن خائفون أن يفرغ الزاد منا فنموت كمداً من شدة الجوع والخوف.. حتى مات منا خلق كثير.. فمات جميع أصحابي ورفقائي واحداً بعد واحد، وكل من مات ندفنه. وبقيت في تلك الجزيرة وحدي وبقى معي زاد قليل بعد أن كان كثيرا، فبكيت على نفسي.. وقلت في نفسي: إذا ضعفت وعلمت أن الموت قد أتاني أرقد في هذا القبر فأموت فيه. ثم إني تفكرت في نفسي وقلت: والله لابد أن هذا النهر له أول وآخر، ولابد له من مكان يخرج منه إلى العمار، والرأي السديدعندي أن أعمل لي فُلْكا صغيرا على قدر ما أجلس فيه، وأنزل وألقيه في هذا النهر وأسير به: فإن وجدت لي خلاصا أخلص وأنجو بإذن الله تعالى، وإن لم أجد لي مخلصاً أموت داخل هذا النهر احسن من هذا المكان. وصرت أتحسر على نفسي. ثم أني قمت وسعيت فجمعت أخشابا من تلك الجزيرة من خشب العود الصيني والقماري، وشددتها على جانب البحر بحبال من حبال المراكب التي كسرت؛ وجئت بألواح مساوية من ألواح المراكب، ووضعتها في ذلك الخشب، وجعلت ذلك الفلك على عرض ذلك النهر أو أقل من عرضه. وشددته شدا طيبا مكينا. وقد أخذت معي من تلك المعادن والجواهر والأموال واللؤلؤ الكبير الذي مثل الحصى وغير ذلك من الذي في تلك الجزيرة، وشيئاً من العنبر الخام الخالص الطيب ووضعته في ذلك الفلك، ووضعت فيه جميع ما جمعته من الجزيرة وأخذت معي جميع ما كان باقيا من الزاد. ثم أني ألقيت ذلك الفلك في هذا النهر.. وسرت بذلك الفلك في النهر وأنا متفكر فيما يصير إليه أمري... ولم يزل سائراً بي.. حتى استيقظت فوجدت نفسي في النور؛ ففتحت عيني فرأيت مكانا واسعاً؛ وذلك الفلك مربوط على جزيرة، وحولي جماعة من الهنود والحبشة".
وهذه الأحداث في خطوطها العامة هي بعينها التي ترويها ملحمة الدوق أرنست, مما يقطع بأن هذه الملحمة أخذت كلها عن أسفار السندباد البحري في "ألف ليلة وليلة
وقد درس هذه التغييرات أرنست تونلا، في بحث فيلوجي نقدي ممتاز بعنوان: "حكايات الأخوين جرم: دراسة في الإنشاء والأسلوب لمجموعة حكايات الأطفال والبيت" (باريس سنة 1912).
وقد اعترف المؤلفان في التعليقات على هذه الحكايات أنهما استمدا من ألف ليلة وليلة، أصول ثمانٍ من هذه الحكايات وهي: 1 _ الصياد وزوجته (رقم 19)، 2 _ الماكر وسيده (رقم 68)، 3 _ ستة يذرعون الدنيا (رقم 71)، 4 _ جبل الذهب (رقم 92)، 5 _ الطيور الثلاثة (رقم 96)، 6 _ عين الحياة (رقم 97)، 7 _ الروح في الزجاجة (رقم 99)، 8 _ جبل سملى (رقم 142)،. وهذه الأخيرة مأخوذة من حكاية علي بابا والأربعين حرامياً، وتحكي أن أخا فقيراً سمع الصوص وهم ينادون: "يا جبل سمسى، أفتح" فانفتح جبل ملىء بالكنوز، ويغلقونه بقولهم: "يا جبل سمسى، أغلق". وعن هذا الطريق صار الأخ غنياً بأن استخدم نفس الجملة. وراقبه أخوه الحاسد له، وفتح الجبل، لكنه لم يستطع الخروج، لأنه نادى: "سملى، سملى" بدلاً من "سمسى"، وقتله اللصوص، وكلمة "سمسى" هي كلمة "سمسم" العربية، والعبارة هي: "افتح يا سمسم" المشهورة في حكاية "علي باب والأربعين حراميا".
لكن الأمر لم يقتصر على هذه الحكايات الثماني, بل قام الباحثون من بعد، وقارنوا مصادر الحكايات، وعلى رأسهم ر. كولر وفكتور شوفان، وي، بولت وجاستون باريس وا. كوسكان وا. فسلسكى. واكتشفوا أن عددا كبيراً آخر من حكايات الأخوين جرم يرجع إلى مصادر إسلامية. ولخص يوهان بولت و. ج. بوليفكا الأبحاث التي أجريت في هذا الميدان في تعليقاتهما على حكايات الأخوين جرمَّ ( ج1، 5، ليبتسك، سنة 1913 _ 1932).
وجاء فرانتس فون در لاين في نشرته الممتازة لهذه الحكايات، وقرر أن اثنتين وعشرين من هذه الحكايات ذوات أصول شرقية. ولما كانت "ألف ليلة وليلة" لم تكن قد ترجمت إلى الألمانية بعد، فإن الباحثين قد مالوا إلى افتراض وجود ترجمة أسبانية قديمة منذ القرن الثالث عشر أو بعده بقليل هي التي أثرت في منشأ هذه الحكايات التي انتشرت انتشارا واسعا في أوساط عامة الناس، وصارت قصصاً شعبية ألمانية تتناقلها أفواه الناس ومن أفواههم إلتقطتها الأخوان جرِمّ. ومن الأمور الخليقة بالبحث أن ننظر في تطور هذه الحكايات من الرواية التي هي عليها في "ألف ليلة وليلة" إلى الصورة التي صاغها الأخوان يعقوب وفلهلم جرِمّ.
ولما كانت هذه الحكايات قد انتشرت انتشاراً هائلاً في ألمانيا وخارجها وفي سائر بلاد العالم، وكانت المعين الأول الذي يمتتح منه الشباب الأوروبي, حتى أنها لتعد من أعظم الأحداث الأدبية في تاريخ الأدب الأوروبي الحديث, وأثارت مساجلات عنيفة بين صاحبهاوبين برنتانو وفون أرنم اللذين أصدرا مجموعة مشابهة بعنوان "البوق الذهبي"، حول الصياغة الفنية والشعر الفني والشعر الشعبي _ فإن هذا يدل على ما لبعض القصص الشعبي الإسلامي من أثر بالغ في الأدب الأوربي، وفي تكوين الثقافة الأدبية والفنية للشباب الأوربي.
ومن القصص الأخرى المستمدة من "ألف ليلة وليلة" نجد:
1 _ أولا قصة هرفيزدي متز وهي أنشودةِ فعال (ملحمة بطولية) بطلها هو هِرْفيزدي متز, أنشئت في نهاية القرن الثاني عشر كان أبوه من عامة الناس، وأراد أن يجعل منه تاجرا فبعث به إلى المواسم والأسواق، لكن الفتى أنفق كل أمواله في الاحتفال وشراء أدوات الصيد والخيل والسلاح. وفي "لانى" بالقرب من باريس، خلص الأميرة بياتركس بنت ملك صور، التي اختطفها بعض السواس وأتوا بها إلى فرنسا لبيعها. ثم طرده أبوه من مدينة متز، فتزوج بياتركس. وأصابه الفقر المدقع، فرحل إلى صور وهو يحمل تطريزا من شغل بياتركس يمثل أباها وأمها وابنته هو منها. فاشترى ملك صور هذه التحفة باثنين وثلاثين ألف مارك، وهكذا عاد هرفيز غنياً إلى وطنه بعد أن رحل منه فقيراً. فلما وصل متز احتلفبه الجميع، وكذلك احتفى به دوق اللورين العجوز بعد أن عاد من البلاد المقدسة وسلحه فارسا. ومن هنا تبدأ سلسلة طويلة من المغامرات: إذ يختطف أهل بياتركس ابنتهم، لكن زوجها يستعيدها ويبرز هرفيز في مغامرات عظيمة مدهشة. وصار دوقا لاقليم اللورين، وأيد شارل مارتل ضد جيرار دي روسيون، ووقف زحف الوندال وهزمهم وخلص مدينة متز. ثم رحل إلى الأراضي المقدسة بصحبة بياتركس ناشدين تمضية بقية العمر في تلك الأراضي. وتركا وراءهما في متز ابنيهما جاران وبيج. وقد صار جاران هذا بطلا لملحمة بطولية أخرى تتمم ملحمة "هر فيز دي متز".
وقد جاء ل. جوردان في مقال له بمجلة "محفوظات دراسات اللغات الحديثة" (ج 114، ص 432 _ 440) فأثبت أن ثم تشابها لا شك فيه بين حكاية "هر فيز دي متز" وحكاية نور الدين في "ألف ليلة وليلة".
2 _ كذلك قصة "الدوق أرنست", وقد أنشئت في القرن الحادي عشر، تبين أن مصدرها شرقي إسلامي هو "ألف ليلة وليلة". إذ يرى فكتور شوفان أن كل ما جرى من مغامرات للدوق أرنست وهو في رحلة في الخارج مستمدة م حكاية "أمير خوارزم", كما أن جوردان يرى أن بينها وبين رحلات السندباد (السادسة، وبعض الثانية) علاقة وثيقة.
وملحمة "الدوق ارنست" من الملاحم الألمانية الشهيرة في العصور الوسطى، وتقع في العصر الثاني من عصور الملاحم الألمانية. ويعد الدوق أرنست من الشخصيات الحبيبة جداً إلى قلب الشعب الألماني. وربما أسهم في إيجاد أسطورته بعض العناصر التاريخية ومنها الكونت أرنست البافاري الذي كان يعيش في سنة 837 في بلاد الإمبراطور لودفج، واتهم في سنة 865 بالخيانة العظمى فنزعت عنه كل ألقابه، وكذلك الدوق أرنست الثاني، دوق شفابن، الذي نصح أمه جيزيلا بالزواج للمرة الثانية من الإمبراطور كونراد الثاني، وصار بعد ذلك من أخطر المتمردين على الإمبراطورية. وعنوان هذه القصيدة الملحمية هو" "علو الدوق ارنست البافارى, ونفيه، وحجه، وعودته" وفيها 5560 بيتامن الشعر، ونشرها هاجن وبوشنج. ولما كانت الرحلة التي قام بها الدوق تتحدث عن عجائب البلاد الأخرى فقد انتشرت في الأوساط الشعبية، وصارت نوعاً من الكتب الجغرافية الشعرية. وخلاصتها أن أرنست صهر الإمبراطور أوتو، غضب عليه الإمبراطور لأنه قتل ابن أخيه، الكونت هينرش لأنه وشى به. فحكم عليه بالنفي، فسافر إلى البلاد المقدسة محاربا في صحبة الكونت فتسل Wezel ووصلا بغير عناء إلى القسطنطينية، لكنهما لم يكادا يبحران من هذه المدينة حتى أصابتهما عاصفة عاتية ألقت بهما على جزيزة قبرص. وهنا وجدا قصرا مسحورا، وصفه الشاعر بروعة خيال جامع وشاهدا عدداً كبيراً من الكراكي (طيور كبرة) تسكن القصر. وكانت الكراكي (مثل الرخ في رحلات السندباد) قد خطفت ابنة ملك الهند، وكان رب القصر يريد الزواج منها. وأراد الدوق أرنست تخليصها. لكنه قام بهذه العملية في الليل فقتل الكثير من الكراكي كما قتل ابنة الملك المخطوفة ثم عاد وصاحبه إلى المركب، وأقلعا بها حتى بلغا بحراً رهيبا فيه جبل المغناطيس، الذي اجتذب سفينتهما فتحطمت عليه كالزجاج. وأصاب الجميع عطش شديد، فهلك الكل إلا سبعة من بينهم الدوق أرنست. وخطرت بباله فكرة عجيبة هي أن يضعوا أنفسهم في جلود يخيطونها ويتركونها وهم فيها أحياء ليطير بهم العقبان، إذ من عادة العقبان أن تحمل الجثث وتطير. وأفلحت هذه الحيلة, وطار أرنست إلى عش العقبان هو وأصحابه. واستطاعوا بعد ذلك أن يتخلصوا، ولما تخلصوا صنعوا زورقا، واستأنفو السفر في البحر ومن باب مغطى بالياقوت دخلوا مملكة القوفلوفاس (وهم الأساطير اليونانية كائنات تصنع الصواعق الإليه، وفي الشعر الكندري هم جن في المرتبة الثانية وحدادون وصناع لكل أسلحة الآلهة، ولهم مصهر تحت الأرض، وإليهم ينسب بناء كل الأبنية التاريخية العتيقة في اليونان وصقلية). وساعدوا هؤلاء الجن على محاربة المردة وأصحاب الأقدام الممسوحة. وأخيراً وصلت الجماعة إلى بابل, وذاعت شهرة مغامراتهم حتى وصلت إلى ألمانيا. وهنالك توسلت أم أرنست إلى الإمبراطور ليصفح عن أرنست، فصفح عنه، وعاد من منفاه.
وبمقارنة تفاصيل هذه الملحمة نجد تشابها شديدا بينها وبين رحلة السندباد السادسة وبعض تفاصيل الرحلة الثانية.
فالحيلة التي لجأ إليها أرنست للتخلص من ذلك الوادي الذي لقى فيه وصحبه العطش والجوع هي بعينها التي لجأ إليها السندباد في رحلته الثانية، قال السندباد "وجدت نفسي في مكان عال، وتحته واد كبير واسع عميق، وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو لا يقدر أحد أن يرى أعلاه من فرط علوه، وليس لأحد قدرة على الطلوع فوقه. فلمت نفسي على ما فعلته وقلت" ياليتني مكثت في الجزيرة فإنها أحسن من هذا المكان القفر.. ثم أني قمت وقويت نفسي ومشيت في ذلك الوادي فرأيت أرضه من حجر الألماس الذي يثبون به المعادن الجواهر ويثقبون به الصيني والجزع، وهو حجر صلب يابس لا يعمل فيه الحديد ولا الصخر.. وكل ذلك الوادي حيات وأفاع كل واحدة مثل النخلة, ومن عظم خلقتها لو جاءها فيل لابتلعته، وتلك الحيات يظهرن في الليل ويختفين في النهار خوفا من طير الرخ والنسر أن يختطفها ويقطعها.. فأقمت بذلك الوادي وأنا متندم على ما فعلته.. وأقمت رأسي وسلمت أمري للقضاء والقدر.. وبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة قد سقطت قدامي، ولم أجد أحداً. فتعجبت من ذلك غاية العجب، وتذكرت حكاية سمعتها من قديم الزمان من بعض التجار والمسافرين وأهل السياحة أن في جبال حجر الألماس الأهوال العظيمة، ولا يقدر أحد أن يسلك إليه. ولكن التجار الذين يجلبونه يعملون حيلة في الوصول إليه, فيأخذون الشاه من الغنم ويذبحونها ويسلخونها ويرشحون لحمها ويرمونه من أعلى ذلك الجبل إلى أرض الوادي فتنزل وهي طرية، فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة، ثم يتركها التجار إلى نصف النهار. فتنزل الطيور من النسور والرخ إلى ذلك اللحم وتأخذه في مخالبها، وتصعد إلى أعلى الجبل, فيأتيها التجار وتصيح عليها، وتطير من عند ذلك اللحم, وتخلص منه الحجارة اللاصقة به" ثم قال (أي السندباد)" "فلما نظرت إلى تلك الذبيحة تذكرت هذه الحكاية فقمت وجئت عند الذبيحة، فنقيت من هذه الحجارة شيئاً كثيراً وأدخلته في جيبي وبين ثيابي. وصرت أنقى وأدخل في جيوبي وحزامي وعمامتي وبين حوائجي. فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة كبيرة فربطت نفسي عليها بعمامتي، ونمت على ظهري، وجعلتها على صدري، وأنا قابض عليها، فصارت عالية على الأرض، وإذا بنسر نزل على تلك الذبيحة، وقبض عليها بمخالبه، وأقلع بها إلى الجو، وأنا معلق بها. ولم يزل طائرا بها، إلى أن صعد بها إلى أعلى الجبل وحط بها، وأراد أن ينهش منها. وإذا بصيحة عظيمة عالية من خلف ذك النسر وشئ يخبط بالخشب على ذلك الجبل. فجفل النسر وخاف، وطار إلى الجو, ففككت نفسي من الذبيحة".
والمغامرة الرهيبة في البحر وما وقع للسفينة عند اصطدامها بالجبل، ترويها السفرة السادسة من سفرات السندباد البحري هكذا"
"إن السندباد البحري لما جهز حمولة ونزلها في المركب من مدينة البصرة وسافر قال: لم نزل مسافرين من مكان إلى مكان ومن مدينة إلى مدينة، ونحن نبيع ونشتري ونتفرج على بلاد الناس وقد طاب لنا السعد والسفر واغتنمنا المعاش' إلى أن كنا سائرين يوما من الأيام،وإذا بريس المركب صرخ وصاح، ورمى عمامته ولطم على وجهه ونتف لحيته ووقع في بطن المركب من شدة الغم والقهر فاجتمع عليه جميع التجار والركاب.. ثم أن الريس قام وصعد على الصارى وأراد أن يحل القلوع، فقوى الريح على المركب، فردها على مؤخرها فانكسرت دفتها قرب جبل عال... ومالت المركب على ذلك الجبل فانكسرت وتفرقت ألواحها فغرق جميع ما فيها, ووقع التجار في البحر: فمنهم من غرق، ومنهم من تمسك بذلك الجبل، وطلع عليه. وكنت أنا من جملة من طلع على ذلك الجبل، وإذا فيه جزيرة كبيرة عندها كثير من المراكب المكسرة وفيها أرزاق كثيرة على شاطئ البحر من الذي يطرحه البحر من المراكب التي كسرت وغرق ركابها.. فعند ذلك طلعت على تلك الجزيرة ومشيت فيها، فرأيت في وسطها عين ماء عذب جار خارج من تحت أول ذلك الجبل وداخل من تحت أول ذلك الجبل وداخل في آخره من الجانب الثاني.. وقد رأيت في وسط تلك العين شيئاً كثيرا من أصناف الجواهر والمعادن واليواقيت واللالئ الكبار الملوكية، وهي مثل الحصى في مجارى الماء في تلك الغيطان، وجميع أرض تلك العين تبرق من كثرة ما فيها من المعادن وغيرها. ورأينا كثيرا في تلك الجزيرة من أغلى العود الصيني والعود القماري، وفي تلك الجزيرة عين نابعة من صنف العنبر الخام، وهو يسيل مثل الشمع على جانب تلك العين من شدة حر الشمس. وذلك المكان الذي هو فيه هذا العنبر الخام لا يقدر أحد على دخوله ولا يستطيع سلوكه، فإن الجبل محيط بتلك الجزيرة، ولا يقدر أحد على صعود ذلك الجبل. ولم نزل دائرين في تلك الجزيرة.. وعندنا خوف شديد.. ونحن خائفون أن يفرغ الزاد منا فنموت كمداً من شدة الجوع والخوف.. حتى مات منا خلق كثير.. فمات جميع أصحابي ورفقائي واحداً بعد واحد، وكل من مات ندفنه. وبقيت في تلك الجزيرة وحدي وبقى معي زاد قليل بعد أن كان كثيرا، فبكيت على نفسي.. وقلت في نفسي: إذا ضعفت وعلمت أن الموت قد أتاني أرقد في هذا القبر فأموت فيه. ثم إني تفكرت في نفسي وقلت: والله لابد أن هذا النهر له أول وآخر، ولابد له من مكان يخرج منه إلى العمار، والرأي السديدعندي أن أعمل لي فُلْكا صغيرا على قدر ما أجلس فيه، وأنزل وألقيه في هذا النهر وأسير به: فإن وجدت لي خلاصا أخلص وأنجو بإذن الله تعالى، وإن لم أجد لي مخلصاً أموت داخل هذا النهر احسن من هذا المكان. وصرت أتحسر على نفسي. ثم أني قمت وسعيت فجمعت أخشابا من تلك الجزيرة من خشب العود الصيني والقماري، وشددتها على جانب البحر بحبال من حبال المراكب التي كسرت؛ وجئت بألواح مساوية من ألواح المراكب، ووضعتها في ذلك الخشب، وجعلت ذلك الفلك على عرض ذلك النهر أو أقل من عرضه. وشددته شدا طيبا مكينا. وقد أخذت معي من تلك المعادن والجواهر والأموال واللؤلؤ الكبير الذي مثل الحصى وغير ذلك من الذي في تلك الجزيرة، وشيئاً من العنبر الخام الخالص الطيب ووضعته في ذلك الفلك، ووضعت فيه جميع ما جمعته من الجزيرة وأخذت معي جميع ما كان باقيا من الزاد. ثم أني ألقيت ذلك الفلك في هذا النهر.. وسرت بذلك الفلك في النهر وأنا متفكر فيما يصير إليه أمري... ولم يزل سائراً بي.. حتى استيقظت فوجدت نفسي في النور؛ ففتحت عيني فرأيت مكانا واسعاً؛ وذلك الفلك مربوط على جزيرة، وحولي جماعة من الهنود والحبشة".
وهذه الأحداث في خطوطها العامة هي بعينها التي ترويها ملحمة الدوق أرنست, مما يقطع بأن هذه الملحمة أخذت كلها عن أسفار السندباد البحري في "ألف ليلة وليلة