نقوس المهدي
كاتب
تكون التجربة الأولى أثناء السفر تلك الزيادة الغامضة للإمكانيات. وليس فيما يتعلق بإتجاهها فقط. ففي العالم الذي يتضاعف لمرات كثيرة يكون الإنسان بحاجة الى يقظة الذهن من أجل أن لايفقد الثقة بالنفس.
ويكون القرار بأن الوجهة هي الآن صقلية شيئا فقيرا عند المقارنة بكبر الإمكانيات. كما أن فيه جورا مضحكا. فلم صقلية بالذات؟. وهل هي الجزيرة الوحيدة في العالم ؟. نعم . تماما كما لو أن أحدهم إختار من صحن ملؤه فواكه البستان كرزة صغيرة. من الصحيح وجوب النزول في كل محطة، وبعدها المضي في كل الجهات في الوقت ذاته.
لربما كان من الأفضل البقاء في البيت وحتى صرف النظر عن النافذة . فهذا هو الطريق القصير والمضمون للإبحار في الكون. لكن إذا تخطى هو عتبة البيت ووجد نفسه وسط المرايا، وتسليه مسألة أنه مازال ينسى كل شيء وما يلقاه ووجهه المشوّه الذي يحدق إليه بغموض؟.
أنت تتعرف في البيت على العالم ، وفي السفر على نفسك. ففي البيت يقع العبء عليك ، وفي الطريق على العالم. ويبقى دائما غير معلوم ما تبصره. وعليه أن يسافر ، وكما إعتاد إشعال النار. من الوسط وفي جميع الإتجاهات ، ومثل النار يلتهم الإنسان حينها كل شيء يلقاه في طريقه لكي لايبقى شيء وراءه بعد السفرغير الهشيم والرماد. حينها يحترق الإنسان بينما العالم يزدهر ويزدهر..
وفي ساعة من ساعات السفر الأولى أخذ يدوّن ملاحظاته عن سفرة مسحورة. ماتعنيه كلمة السفر؟. الجواب : أحقق ذاتي. الا أنني عندما أتوجه الى صقلية فإنما أحقق جزءا بالغ الصغر من العالم الآخذ بالإنفتاح ، وهو قد أخذ من اللامحدود ذلك الجزء فقط. فالبقية يصعب تحقيقها. ليس هناك من شك في أن هذا الأمر نهائي ولا رجعة فيه.
ولو نزلت الآن في البندقية لكان بمقدوري الوصول الى رافينا ومنها الى بادوا ، ولحققت مرة أخرى من الإمكانيات الكثيرة واحدة فقط.
لماذا أعيش هذه الحياة الواحدة بالذات؟. بين الكثير من الأنوات لماذا اكون بالذات هذه الأنا الوحيدة؟. أنا أنتظر منها شيئا ، وهو جنون أن أريد من هذه الواحدة منحي كل شيء لا أملكه بسبب فقدان البقية. ياللمسافر المسكين ، ياللعائش المسكين ، ياللأنا المسكينة.
إذا كنت قد عبرت المحيط فلايعني الأمر أنك قد إنتصرت عليه . فأنت مضيت لوقت ما حسب ، في طريق واحد على سطحه. لوكان بمقدورك ان تعبره على عمق مائة ميل وعرض مائة ميل ، إلا أنك تبحر الآن فقط. أين هي الاف السنين التي لم تبحر خلالها ولن تبحر!. وإذا كان من غير الممكن تزامن هذه الإبحارات فاي عدد منها ممكن؟. أن أحقق الذات حيث أمكن. من الأفضل بهذه الصورة: أن اقفز من النافذة ، أن أقذف نفسي في مسيرة مسحورة كالسفر، أن تحملني أينما تريد ، أن تفعل بي ما تشاء . وليخطفني الدرب الى التحليق ، وليحلق معي.
حينها حصل إضطراب المعدة. اي شيء أكل؟ . لم يعجبه الفطور. لكنه تناوله . هل أضّر به؟. لربما شرب قليلا من الفودكا المرّة الاأنها كانت مغشوشة، وأصابه وجع الرأس. وفكر بالنوم. لكن حين إستيقظ كانت الميلانخوليا متمددة فيه. في المساء شرب القهوة رغم أنه كان معدوم الشهية. والأنكى من ذلك كان قد تناول طعام الغداء. في المساء أصابه الملل وشعر بدوار الرأس. وبهذه الصورة إنقضى اليومان الأول والثاني من الرحلة.
إن التعرف الدقيق على الوضع يفيد كثيرا : إذن عليه ان يخاطب النفس : ما هو وجع المعدة؟. فترة إنقطاع في إستقبال الطعام سببها أن الإنسان لايريد أن يأكل. إذن في الأساس تكون المسألة قطع الصلة بالواقع ، شأن الحال مع كل مرض. الشاعر يقول : (أن تأكل معناه أن تتعلم). حين أرفض الطعام أكون قد رفضت التعلم. أنا لا أريد ان أتعلم. إذن يعني إضطراب المعدة هيمنة العوامل التي تعيق تحقيق الذات.
جلس آنذاك عند ساحل البحر ضجرا يحدق الى المياه العكرة المليئة بالطحالب.وهبّت ريح دافئة رطبة . وكان كل ما يحيطه عبئا عليه. سيكون غدا في صقلية.
أيّ كان الرأي ، اليوم ، بنابليون ضابط المدفعية الذي أصبح إمبراطور فرنسا وإستولى على أوربا فإن ناس زمانه رأوا فيه وليس شخصية تأريخية بل شيئا آخر ، مغايرا تماما، فهذا المثال على لامحدودية الإمكانيات التي تأتي بها الحياة البشرية قد هدّ الضعفاء لدرجة اكبر مما فعل الأقوياء. غير أن الإنسان ، في عيون معاصريه ، لعب دورا ثانويا. المهم أنه لم يكن نموذجا يقتدى به، بل اكثر من ذلك. لقد أصبح قانونا إذ إستيقظ في الضعفاء وفي الأقوياء الوعي النابليوني بالإمكانيات غير المحدودة التي تأتي بها الحياة. وتبين أن بمقدورنا أن نفعل كل شيء . فماهو يحيا فينا يكون بلاحدود.
وكان بايرون معجزة الجيل التالي . يقول كاسنر عنه :( كان الحلم الثاني للذين كان نابليون الحلم الأول ) .
لم يكن بايرون نابليونا لكنه لو لم يعش هذا الأمر قبلها لما إستطاع احد أن يعي الإنفعال الجارف الذي فجّر بايرون به جميع الحدود. وخبراء الأدب هم حمقى عندما يبدو لهم أن كل شيء هو أدب. يظنون أن هذا هو رومانسية . وأصل الرومانسية يكمن في أن الناس إكتشفت في النفس اللامنتهى حين إقتفت اثر الوجود النابليوني. وكان بايرون رومانسيا، وهذا يعني أنه اشعل حواليه الحريق الذي يحمله في داخله ويسميّه: الحياة.
إن بايرون هو الحلم الثاني ، التجلي الثاني لشهوة الحياة التي تحطم كل الحدود التقليدية وترمي جميع القيود وتنبذ كل العادات. التجلي الثاني للانضوب الحياة ، المحور الثاني للجوهر الربّاني "1". ولم يكن هو إستثناءا. ولاعلينا أن نبحث بعيدا، لنأخذ مثال ستندال الذي غرق في محيط الرغبة في الشهرة. ومنذ زمن نابليون إكتسبت هذه الرغبة معنى مختلفا تماما. ففي الماضي كان كل واحد يخجل قليلا إذا طوت جوانحه مزيدا من هذه الرغبة .
كان ستندال قد عبّر عن رأيه حين وصف جول سوريل بطل رواية ( الأحمر والأسود) . أن تسيطر / كان يتنهد في الصباح والمساء ، في الحلم واليقظة، في الصحو والسكر ، أن تسيطر / كان يهمس الكلمة بجنون مطلق . بلاتوقف كالمجنون ، لكن أيّ وزن هنا للفتاة !، أيّ وزن للإطلاقية !، أيّ وزن للجنون !، أيّ وزن للحمق! ، أن تسيطر، أن تسيطر.
هكذا بدا الأمر بين ناس الحلم الثاني . أن تسيطر!. بايرون وستندال حواريا نابليون والمبشران بالحياة النابليونية جعلا من الرغبة في اللامنتهى ، من شهوة السلطة ومن غريزتها مراتبا ملزمة.
ليكن لا أحد مصّدقا بأن تقييم هذه الرومانسية بصورة صاحية أمر ممكن . لغاية اليوم يصعب العثور على إنسان قادرعلى القيام بمثل هذا التقييم. فكل واحد يعيش ، اليوم، أمرا واحدا لاغير: أن يسيطر ، أن يسيطر!. وعلى اي شيء؟. ولماذا؟. ليس هذا بالأمر المهم . فكل الأمور سواء. السيطرة . لم يكن ممكنا الصمود وليس أمام البطل بل أمام الصيغة البطولية الحية. وشيللي لم يكن إستثناءا ، شأن فكتورهيغو، أو ليكونت دي ليل أو أي واحد آخر. في الجوهر ماهو المقصود: صيغة جديدة للبطولة ، ففيها وجد الجميع اللامحدود واللامنتهى والكمال والآلوهية. ويسهل اليوم الإنتباه الى أن المرء لم يكن هذا ولا ذاك ، لكن كان من الواجب حينها أن تكون هذا أو ذاك من أجل أن تفقه الأمر. كان بايرون وشيللي وكيتس وهيغو أناس عصرهم البارزين رغم كل شيء. وإذا كانوا قد عرفوا وحتى دوار الرأس فهل كان من المتوقع إنتظار صحو أكبر من همبولدت وهيغل أو فيخته ؟.
خيل للمرء أن من الصعب مواصلة السير. فكل المشاعر الكبيرة قد تحررت وكل الكلمات الكبيرة قد قيلت. وعلى غرار نابليون وستندال بدأت ولادة الإنسان الذي أفلح ، لكن في لحظات أكبر جهد فقط ، في أن يفهم جلية الأمر. فمشاعر الناس المتأججة التي كانت قد أطلقت من عقالها قد خلقت مثل هذا الجو ، وكانت قد أنتقيت الكلمات الكبيرة للحياة التي لم تكن آنذاك. فقد مكثت هي في جزيرة القديسة هيلين. بهذه الصورة صار كل هذا الزخم أدبا وأخذ يسلي رجل المدينة ، فلا أحد كان قادراعلى القيام بالخطوة التالية إذ أن النابليونات غزت الصالونات البييدرماييرية "2" وقامت بأعمال بطولية في البورصة ، في التجمعات السياسية ، في المخادع ، بايرون أخذ يتفرغ للإقتصاد ، وستندال كان يغازل عاملات الخياطة. وقمة التبعية ومحاكاة السلف كانتا حين يكتب البطل مقالة الى الصحيفة. هكذا كانت الأمور تجري في الأربعينات حين دعوا الى الأسلوب البطولي في الحياة. لكن لم يكن هناك أبطال. فهؤلاء كانوا قد إختفوا قبلها.
إنه كلام كاذب. كانوا موجودين لكن بمعزل عن العالم ، قطنوا غرف السطوح. ونابليون هذه الغرف من الأربعينات، هذا المعزول المليء بالمرارة ، الغانم البائس للعالم ، السيّد الشحاذي للامنتهى، القديس ذو الأسمال ، قديس الرغبة الوقحة في الشهرة قد عاش في ضواحي باريس وكوبنهاغن ، لكنه لم يخن أي واحد من مثله العليا.
كان أحدها بودلير : ( أن تكون قديسا وبطلا لنفسك ). كان فضيحة عصره وشخصية من المجلات الهزلية. العصر أيقظ فيه الحياء والكراهية. وعندما يبحث الكل عن الكلمات الكبيرة لوجود صغير يعثر هوعلى الصغيرة منها من أجل تحديد أكبر. والغانم الذي لايستخف حتى بالجمع الثرثار والضاج يكون متسامحا معه لاغير ، فهو عبء عليه.
توّجه الغانم عند ستندال الى الداخل ولأن نابليون قد أشعل ، في الخارج ، حريق العالم. وتحولت الرغبة النابليونية في الشهرة الى بسيكولوجيا. فالمهمة كفت عن أن تكون الإستحواذ على الروسيا بل الإمبراطوريات التي لاتملك أسماء ولاحدود. أن تكون بطلا في البسيكولوجيا هو شيء مختلف تماما عن أن تكونه في ساحة المعركة. فهذا أمر أكثر خطرا. كذلك إنتقل الوجود البطولي تماما الى مستو آخر. فأمام الإمكانيات التي لاتحدّ إنفتح عالم جديد ، ولأن العالم الذي غنمه نابليون صار كومة قاذورات ، والناس المعتبرون مرّوا من هناك سادين أنوفهم. وخضع ذلك الجوهر الرباني للحياة الى حالة النكوص: بحث وعثر على منطقة تليق لدرجة أكبر بالتوسع . كانت منطقة لم تخطر أبدا ببال المحتالين الصاخبين. وبالمقارنة معه كان نابليون مجرد طفل صغير. وأصبح السوبرمان بطلا وحيدا وجد في البسيكولوجيا إمكانيات للحياة لاتحد ، وأشعل الحريق الذي يلتهم كل شيء ، ومن ثم قاده الى الداخل.
الا أن المنتصر الحقيقي ، وبصورة أدق : المهزوم الحقيقي ، لم يكن بودلير بل سورين أوبي كيركيغارد. ينبغي التأكيد بقوة على أن ثمن هذا الإنتصار الجديد ، الداخلي ، كان الهزيمة المكبّدة في الخارج . فهذا العالم لايمكن أن يغنمه إنسان واحد فقط ، الإنسان الذي أنغرزت سفينته في مياه ضحلة. والنصر قد يكون من نصيب الإنسان المنهار حسب . كيركيغارد هو الحلم الثالث ، الغنم الذي كفّ عن أن يكون فعلا دنيويا مؤقتا ، وأفضل مكان للقيام به هو غرف السطوح فعلا.
قام كيركيغارد بإكتشاف كبير تكون معركة ( فاغرام) "3" عند المقارنة ، مجرد مباراة كرة قدم. كان يقول إن الحياة لاتعتمد على الظواهر والصور المرئية التي يمكن تحسسّها ولا على التصورات والشخوص ، كلا أبدا. ولايقرر الحياة ما يلمسه الإنسان في الخارج. فهي تعتمد على العزم ، على الحيوية الداخلية ، على النشاط البسيكولوجي الذي هو مستقل عن العالم الخارجي. والوجود لايتألف من الظواهر بل من أحوال العزم. والشي الوحيد المهم هو في أي شيء يحيا الكائن البشري بالصورة المباشرة. إن مركز الوجود ليس الظواهر بل أحوال العزم.
واليوم هناك الكثيرون الذين مازالوا على إعتقاد بأن البطل هو أولا دور مسرحي مؤثر يخلب الألباب. كلا. البطل هوحلم محقق وفكرة لاغير. فالحياة تستمد نسغها وليس من الصيت الفارغ بل من الحلم. والإنسان الجديد لايكفيه القيصر. إنه بفضل قاطن غرفة السطح عليه ديون في دكان الخضراوات لكنه يعرف كيف يجّرب الغنائية التي تتحقق في عيش فعل بطولي .
عندما وصلوا ساحل أحد الموانيء الصقلية إستأجر سكنا. غيّر ثيابه وخرج الى المدينة.
كان وجع المعدة مستمرا وحتى عندما تجنب الروائح الكريهة المنبعثة من أفواههم. قبل كل شيء إستحم في البحر وبعدها أراد الجلوس في مكان لكي يستريح . وبين البيوت إنتشرت حرارة خانقة ونتنة كأنها عملاق بدين كبير الكرش. بحث عن شجرة يحتمي في ظلها لكنه لم يعثر الا على أجمات لم تعط أغصانها التي أيبسها القيظ ظلا. الا أنه جلس هناك وطفق يحدق الى الماء. كانت تسبح فيه الطحالب. أثار منظرها الإشمئزاز. في القعررقدت بين الصخور أوان محطمة.
مضى أبعد كي يعثر على مكان افضل. سار بمحاذاة الساحل بخطوات مترنحة. من جهة الجبال حملت الريح رائحة ثقيلة خانقة هدّت قواه. وجلس ثانية. كان هو هناك بدون اي شيء، بدون كتاب ، بدون أفكار ن بدون رغبات ، بدون مزاج ، بدون حبور.
وكا ن قد تصوّر أنه سيقوم بنزهات طويلة ممتعة على ساحل البحر. لكن لم تكن هناك أي طرق بل شعاب سوّتها أرجل الحمير بين صخور متحركة عبر أجمات شوكية. وفي البحر غير الودود تماما كانت تعوم الحشائش والطحالب الطويلة. أما الشمس فكانت تصب حممها بلا رحمة حتى أنه شعر بنارها على جلده عندما توقف لحظة واحدة.
في طريق العودة سمع ضجة تنبعث من بين الصخور. على مبعدة خطوتين تسللت افعى ببطء ثم كفت عن الحركة وأدارت رأسها مطلقة الفحيح. كما يبدو قد تكون أفعى سامة. قد يدوسها أو يقعد عليها وتلدغه آنذاك. وقف بلاحراك. الأفعى كانت قد إختفت منذ أمد بعيد لكنه لم يجرؤ على الحراك. بعد وقت طويل إنحنى بحذر ورفع حجرا ثم رماه في المكان الذي إختفت فيه الأفعى. رمى حجرا آخر. لاشيء. واصل سيره الا أنه كان ينظر خائفا الى الأحجار. أراد التأكد من ان الأفعى لاترقد تحتها . اخذ العرق يتصبب منه الآن و ليس بسبب القيظ فقط. منذها إمتلك الجرأة على السير قرب البيوت فقط..
إستمر وجع المعدة. الحرّ إستمر بدون توقف وجاءت ريح خاملة من الجبال بروائح حريفة. شعر بقدر كبير من الرطوبة. كانت كل الأشياء في سكنه دبقة. لمرات عديدة كان يجيل بصره في صخور الساحل القريبة وخيّل إليه بأنه وجد فيها أماكن ظليلة ، وقد يعثر هناك على مكان أرحب. لكنه تذكر الأفعى. بهذه الصورة فضّل البقاء بين الجدران الساخنة والنظر في الأواني المهشمة الملقاة في الماء.
كان أمرا مثيرا للفضول أن هذه الميلانخوليا الثقيلة تستمر منذ أسبوع . كانت قد بدأت مع منطلق الرحلة. كان نومه سيئا، يعرق ويستيقظ منهكا. الفطور ذو مذاق رديء ، وكله إشمئزاز عندما يفكر بالخروج من البيت الى الشمس والإستحمام في البحر. لكنه يخرج ، فروائح الزيت الكريهة والقمامة المتفسخة لاتطاق.
كان قد ‘عتاد على الإستحمام قرب آخر البيوت . يصل الى المكان سائرا بمحاذاة الشاطيء لكن في الماء. فالأفعى لاتجرؤ على الإقتراب منه هناك. ولربما كان طول الطريق مائة متر أو مائة وخمسبن على الأكثر. لم يكن الذباب قد أزعجه بعد. ركض صوب الماء . في البدء مشى فوق الأحجار الفاقعة اللون. كان حذرا ينظر الى موقع قدميه . سبح بضعة أمتارمبتعداعن الساحل. بعدها عاد فجأة.
في صباح اليوم السادس من الإقامة إنتبه أثناء السباحة الى سمكة كبيرة كانت تتقافز على مبعدة ثلاثة أميال من الساحل. كانت تسبح بسرعة كبيرة ، ومن وقت الى آخر كانت تهز ذنبها. كانت تلهو. وفكر بأنها كوسج. فهذا وليس غيره من أسماك البحر معتاد على الإنقضاض لوحده. تسارعت دقات قلبه شأن الحال عندما رأى الأفعى . والآن جاء همّ آخر.
أضطر الى البحث عن مكان آخر للإستحمام. فهذا المكان خطر لحد كاف: الكوسج قد يقترب منه ويهاجمه. عثر على مبعدة بضعة أمتار على مكان آخر مياهه ضحلة وتحيطه الصخور ويبدو كأنه حوض. كان مأمونا حقا. الا أنه لم يقدر على الإستحمام في هذه المياه الضحلة الدافئة والعفنة. وفكر : أيّ فارق هناك. ففي البيت يغتسل في طاسة ، وهنا في طاسة أيضا. وهذه ليست أكبر من طاسة البيت. الفارق هو أن الشمس تحرقه هنا ويقرصه الذباب.
في اليوم العاشر قرر أن يستحم بعد غروب الشمس. في الصباح كان يجلس على سلالم الكنيسة في مكان ظليل وبارد نسبيا وهو يطرد الذباب عنه. عندما هبّت ريح شمالية أو شرقية كان الزمن خفيف الوطأة الا أن الريح الجنوبية كانت تحمل معها كل الروائح الكريهة المنتشرة بين البيوت. حوالي الظهر كان يفكر مهموما بالغداء. لم يكن جائعا، وها أن تحقيق الذات توقف منذ أسبوعين في معدته كأنه إسفنجة أو قطعة من الورق الرقيق قد إلتصقت بها. تناول طعامه بمزاج سيء. لم يستمريء النبيذ لكنه جاءه بالخدرعلى الأقل. عند العصر سار ثانية صوب الكنيسة ومرق محني الجذع بمحاذاة الجدران كي لاتصله الشمس. تحت جدار الكنيسة جلس لغاية الساعة السادسة والنصف. في هذا الوقت تميل الشمس صوب الغروب الى الحد الذي يمكنه من الذهاب الى تلك الطاسة. إغتسل وراقب ، بقلق ، البحر. فالكوسج قد يقترب منه.
تبين أن الرحلة فاشلة تماما. عندما رحل كان مقتنعا بأن الإمكانيات تنفتح في كل الجهات ، أما الآن فبات واضحا بأنها أنغلقت، ولم يشعر قبلها بأنه سجين مثلما الآن. بدل النزهات الطويلة خمسون خطوة من البيت الى الكنيسة ومنها الى البيت. بدل أطايب الطعام هذا الغثيان المستمر في المعدة ، بدل أشعة الشمس الرائعة هذا الجلوس الإرغامي في الظل، بدل الإستحمام الحبور المنعش هذه الطاسة الصغيرة. وبهذه الصورة كان على العالم المنفتح أن يضيق. حين يفكر بأنه يختنق بالأبخرة العفنة وأن الذباب يقرصه وأن عنقه ويديه مغطاة بالجروح والبثور وأن الريح الرطبة الخفيفة تسحق مخه، يكون مقتنعا بأن كل ما كان يتوقعه قد عاشه بصورة سلبية، أي حصل بالضبط عكس ما كان يتوقعه. كان السؤال لماذا قررالقيام بالرحلة ثم التورط في هذا الأمر ، يبدو هكذا: قرر أن يخوض التجربة ، وهل يا ترى أن الجمال الذي تصوّره قائم في العالم حقا، وهل هو قادر على أن يجرّه من ديره، وهل يملك القدر الكافي من القوة لصد إغراء الطبيعة الرائعة؟. نعم كان قوّيا بمافيه الكفاية . لم يجرّ الأنا من وجارها أيّ شيء. فهي قد تسترت عميقا وعانت. وعانت.
كان واثقا من أن وجهه ينظر إليه. فالأنا كانت مختبأة في الداخل ، ولم تر شيئا عداها . عندما نزل الى الماء كانت تغطي جسمه رواسب لزجة ، وكان الذباب الكريه يزعجه ، وكان يختنق بالأبخرة الحارة، وفي الليل كان يتقلب في الفراش ، كان يعرق ، ولايغفو له جفن تماما كما لو أنه ألقي في فرن ساخن. حين تسافر تتعرف على نفسك .(هل أنا هو تلك الأنا؟) أهو الحلم الثالث؟ هذه الدودة البائسة؟.إنه لايذكر بالأول ولا بالثانية.
كان يفضل المواقف التي يشعر فيها بالحرج وأنه مقيّد. كان الحزم الزهدي سلاحه عند عقد السلام مع العالم. كلا!. ليس العالم ! ، الأنا ! أي شيء تريده؟ أن تدحر الأنا؟ لقد منيت هي الآن بالهزيمة النكراء. وليس هناك من هزيمة أكبر .
هل هذه هي صورتي حقا؟ أخاف على شهيتي، كذلك فيّ مثل هذا النفور الكبير من الإستحمام في البحر بعيدا عن الشاطيء وأهرب من حيوان زاحف صغير قد لايكون ساما أبدا؟ الى هذا الحد ينتابني الهلع من الشمس والذباب ، هذه الطفيليات؟ هل أنا حقا هو هذا؟ وهل رحل هو من هناك؟ كلا. لم يغادر البيت إطلاقا ، فهو لم يقدر على الخروج من الأنا. وهذه الإندفاعة السحرية التي هي السفر لم تفلح في طرد الأنا من الدير الداخلي الذي ترتجف فيه مصطكة الأسنان خائفة على شيء ما. التشنج . المعدة. الإستحمام . الشمس. وكا مالقيه / الطعام ، النبيذ ، الفاكهة ، النزهات ، الماء ، الصخر ، الزهور ، الروائح ، لقد أدار ظهره لكل شيء وهو يغصّ بالمرارة والإحباط إذ لم يعثر على وشيجة مع كل هذه الأشياء ، لم يفلح في غنم اي شيء من العالم. وليست الأنا ما صار رحبا وطلق الهواء كالعالم بل العالم هو ما صار خانقا ومظلما وصغيرا بهذا الشكل البائس ومثل الأنا. رمز الإستحمام : أليس هو بالأمر الفظيع أن يسبح في بركة الوحل الكريهة هذه وليس في المحيط؟ نعم إنه شيء فظيع. ان يكون قرب البحر ويغتسل في طاسة؟ لماذا؟ إنه يخاف الطحالب والكواسج وسرطان البحر. أهو من يخاف حقا؟ الأنا تخاف، وايّ شيء يريد ان يحميه؟ النفس ، لكي لا يؤذيه أحد ، لكي لايهينه أحد ، لكي يكون منقذا، وماذا كانت النتيجة؟ أوجاع المعدة ، العرق المنهك، السيرخلسة بمحاذاة الجدران ، الضجر ، قرص الذباب.
بدل هذا كله يقوم بأمور محظورة ويخوض في القذارة. اهكذا تبدو البطولة الداخلية ؟ أن تبصر ، أن تمنح الشهادة، أن تتعذب ، أن تمتهن ، أن تعترف . إنه الإنفعال الزهدي في تحليل الشخصية . الولوج الى الداخل وإكتشاف النفس . ويالها من مشقة!. كفى!.
كلا ليست هي الكفاية. إذا كنت موجودا هنا ، وفي تهويمة الغنائية البسيكولوجية ، عليك الإعتراف بأن نظرية الإستدراج لاتستحق كلها خداع النفس. أنت تكاد القول إن هذا العالم يريد : كل ، إشرب ، إستحم ، تنزّه ، قدّر المجازفة ، الحرية ، الأخطار ، الشمس ، بالطبع إعشق شيئا غير ذاتك ، إلا أنك تحول ، بعناد، دون ذلك ، ولأنك تريد ان تواصل البقاء. وهذه الممارسة تليق بالتمجيد. هل يخيل إليك أنه إذا لم تحب أي شيء فإنك قادرعلى حب النفس ؟ إن الطريق الى النفس لا يمر عبر العالم ، وليس بإمكانك أن تحب نفسك إذا لم تحب الآخرين. ألا يعني إختباؤك امام العالم أنك تختبيء امام النفس ؟ لست بحاجة الى الشمس ، بعبارة أخرى : أنت لست بحاجة الى نفسك ، وماذا يعني هذا الشيء؟. أنت تخاف من كل شيء ؟ لماذا؟ وهل أن كل شيء ضدك؟ الأسماك ؟. النبيذ؟ الأفعى؟ الروائح ؟ الريح؟ هل كل شيء يعذبك ، انت ايها البائس؟ بالأحرى ما يعذبك هو الأنا يا أحمق!.
إن الواقع يحيط بنا لحد أكبر مما بد لك. القضية هي بمنتهى البساطة: أنت لاتعرف الخروج من النفس. والأنا ليست ديرا على الإطلاق. ولنبق على الأوهام الدينية. الكلام لايخص الدين، ولا أحد يريد أن يدفعك صوب الغواية. أنت دخلت بنفسك التجربة، أم أنك لم تفلح في التحرر من الخورالإنساني في هذا التحليل الذاتي الخانق الذي تكون نتيجته أسئلة تعذب النفس. إنك تختفي عند الجدران حين تظهر الشمس.
لقد خسرت ايها التعيس . وأنت أردت الخسارة. تحمّل العاقبة الآن. وأنت أيها العاطفي الساخر لاتعرف كيف تحب العالم. يا قديسا لم يفتدى. أنت لاتقدر على خيانة النفس. إنك مغلق في أناك. وهاهو يطبق دائما المباديء التقشفية عندما تحين فرصة التعرف على المتعة، إنه يختبيء أمام السعادة، فهي تبدو له جريمة ، الجريمة ايها الصديق هي أن تبقى في المركز. أن تبقى الأنا ، وفي هذا التحول السحري للسفر، غير قادرة هي ان تصبح بحرا ، شمسا، نبيذا، ريحا. أن لاتقدر على الأكل ويصيبك الغثيان بين روائح بساتين البرتقال. حاول أن تعيش العالم وليس بإسمك ، بل بإسم العالم عش ذاتك. حاول أن تعيش الذات كالقيثارة التي تعزف عليها عناصر الطبيعة . ومن يطلب منك أن تبصق على وجهك قبل أن تلحظ شيئا جميلا؟ وأنت تجد في هذا دينا؟ أن ترمي العالم كالفضلات لكي تبقى الأنا بدون مساس؟ هذا ليس دينا أيها الصديق بل مزاج سيء.
هل عليك أن تخون ما أردت إنقاذه. لقد ورثت حياة بطولية الا أن الحلم الأول قد إختفى ، وبعده الثاني. عليك أن تترك الإنفعال البطولي. وما يتوقع منك ليس أداءا دقيقا لدور مدروس. عليك أن تكف عن أن تكون بطلا. تعلم العيش كما لوكنت وحيدا ، كما لو أن أي أحد لم يرقبك. كما لو أنك كنت في اليبت. أي شيء تريده؟ إنك تقوم بالدورالذي أداه أسلافك. الدور نفسه. كانوا هم يؤدونه من الخارج، أما أنت فإلى الداخل. صدّقني، في الإتجاه صوب المركز ليس ثمة هناك دور بطولي ، كذلك ليس هناك من بطل. إنه شيء حسن أن تكون إنسانا ، حاول أن تكون صادقا وبدون بسيكولوجيا ، أن تعشق بدون الأنا، أن تبصرالله بدون دين ، كما هو بالفعل ، من القلب بهذه الصورة أو تلك ، وبحبور . الدودة ليست هي الحقيقة : إنها الوجه الثاني للبطل. البطل ليس بالحقيقة أيضا: إنه الوجه الثاني للدود. كلاهما دون سند. ليس من وجود للأنا: إنها الوجه الثاني للعالم. هناك الرب وحده. إنه من يوجد هنا فوق البحر والأفعى والكوسج والنبيذ.، ولاتضع في الحساب أي حلم ، بل بالأحرى عليك أن تحلم.
* هوامش المترجم :
"1" جاءت في النص ( دايمونيون ) وتعني باليونانية الروح الراعية أيضا. لدى سقراط هي الصوت الداخلي ( الرباني ) أي الضمير الذي يحذر الإنسان من السوء. وعلى الأرجح قصد المؤلف المعنى الأصلي للكلمة .
"2" بييديرميير أسلوب الماني في معمار الداخل والأثاث بشكل خاص . وكان رد فعل ضدأسلوب الأمبير المفخم البارد. ويتمييز هذا1لأسلوب بالبساطة والرخص ومراعاة عناصر الراحة.
"3" معركة إنتصر فيها نابليون على الجيش النمساوي في عام 1809.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بيلا هامفاش (1897 / 1968 ) كاتب وروائي مجري كبير. أصبحت روايته ( الكرنفال ) من أبرز أعمال الأدب المجري في القرن العشرين. وكان في فترة ما بين الحربين من أكبر دعاة التجديد في الأدب. وفي عام 1948 تعرّض مؤلفه ( ثورة في الفن ) الى هجوم عنيف من قبل جورج لوكاش منظر الحزب الشيوعي المجري مما إنسحب على أوضاعه المعاشية والإبداعية أيضا. وكان مذهب هامفاش هو الخلق الأدبي كمواصلة للتقاليد في البعدين القومي والشمولي. وفي أعماله نلقى تأثيرات قوية لفلسفة نيتشه ( إرادة القوة) وكيركيغارد ( نقد الزمن ). وكان هامفاش على معرفة واسعة بالفلسفات الوجودية في أوربا. المترجم
* منقول عن موقع القصة العراقية
ويكون القرار بأن الوجهة هي الآن صقلية شيئا فقيرا عند المقارنة بكبر الإمكانيات. كما أن فيه جورا مضحكا. فلم صقلية بالذات؟. وهل هي الجزيرة الوحيدة في العالم ؟. نعم . تماما كما لو أن أحدهم إختار من صحن ملؤه فواكه البستان كرزة صغيرة. من الصحيح وجوب النزول في كل محطة، وبعدها المضي في كل الجهات في الوقت ذاته.
لربما كان من الأفضل البقاء في البيت وحتى صرف النظر عن النافذة . فهذا هو الطريق القصير والمضمون للإبحار في الكون. لكن إذا تخطى هو عتبة البيت ووجد نفسه وسط المرايا، وتسليه مسألة أنه مازال ينسى كل شيء وما يلقاه ووجهه المشوّه الذي يحدق إليه بغموض؟.
أنت تتعرف في البيت على العالم ، وفي السفر على نفسك. ففي البيت يقع العبء عليك ، وفي الطريق على العالم. ويبقى دائما غير معلوم ما تبصره. وعليه أن يسافر ، وكما إعتاد إشعال النار. من الوسط وفي جميع الإتجاهات ، ومثل النار يلتهم الإنسان حينها كل شيء يلقاه في طريقه لكي لايبقى شيء وراءه بعد السفرغير الهشيم والرماد. حينها يحترق الإنسان بينما العالم يزدهر ويزدهر..
وفي ساعة من ساعات السفر الأولى أخذ يدوّن ملاحظاته عن سفرة مسحورة. ماتعنيه كلمة السفر؟. الجواب : أحقق ذاتي. الا أنني عندما أتوجه الى صقلية فإنما أحقق جزءا بالغ الصغر من العالم الآخذ بالإنفتاح ، وهو قد أخذ من اللامحدود ذلك الجزء فقط. فالبقية يصعب تحقيقها. ليس هناك من شك في أن هذا الأمر نهائي ولا رجعة فيه.
ولو نزلت الآن في البندقية لكان بمقدوري الوصول الى رافينا ومنها الى بادوا ، ولحققت مرة أخرى من الإمكانيات الكثيرة واحدة فقط.
لماذا أعيش هذه الحياة الواحدة بالذات؟. بين الكثير من الأنوات لماذا اكون بالذات هذه الأنا الوحيدة؟. أنا أنتظر منها شيئا ، وهو جنون أن أريد من هذه الواحدة منحي كل شيء لا أملكه بسبب فقدان البقية. ياللمسافر المسكين ، ياللعائش المسكين ، ياللأنا المسكينة.
إذا كنت قد عبرت المحيط فلايعني الأمر أنك قد إنتصرت عليه . فأنت مضيت لوقت ما حسب ، في طريق واحد على سطحه. لوكان بمقدورك ان تعبره على عمق مائة ميل وعرض مائة ميل ، إلا أنك تبحر الآن فقط. أين هي الاف السنين التي لم تبحر خلالها ولن تبحر!. وإذا كان من غير الممكن تزامن هذه الإبحارات فاي عدد منها ممكن؟. أن أحقق الذات حيث أمكن. من الأفضل بهذه الصورة: أن اقفز من النافذة ، أن أقذف نفسي في مسيرة مسحورة كالسفر، أن تحملني أينما تريد ، أن تفعل بي ما تشاء . وليخطفني الدرب الى التحليق ، وليحلق معي.
حينها حصل إضطراب المعدة. اي شيء أكل؟ . لم يعجبه الفطور. لكنه تناوله . هل أضّر به؟. لربما شرب قليلا من الفودكا المرّة الاأنها كانت مغشوشة، وأصابه وجع الرأس. وفكر بالنوم. لكن حين إستيقظ كانت الميلانخوليا متمددة فيه. في المساء شرب القهوة رغم أنه كان معدوم الشهية. والأنكى من ذلك كان قد تناول طعام الغداء. في المساء أصابه الملل وشعر بدوار الرأس. وبهذه الصورة إنقضى اليومان الأول والثاني من الرحلة.
إن التعرف الدقيق على الوضع يفيد كثيرا : إذن عليه ان يخاطب النفس : ما هو وجع المعدة؟. فترة إنقطاع في إستقبال الطعام سببها أن الإنسان لايريد أن يأكل. إذن في الأساس تكون المسألة قطع الصلة بالواقع ، شأن الحال مع كل مرض. الشاعر يقول : (أن تأكل معناه أن تتعلم). حين أرفض الطعام أكون قد رفضت التعلم. أنا لا أريد ان أتعلم. إذن يعني إضطراب المعدة هيمنة العوامل التي تعيق تحقيق الذات.
جلس آنذاك عند ساحل البحر ضجرا يحدق الى المياه العكرة المليئة بالطحالب.وهبّت ريح دافئة رطبة . وكان كل ما يحيطه عبئا عليه. سيكون غدا في صقلية.
أيّ كان الرأي ، اليوم ، بنابليون ضابط المدفعية الذي أصبح إمبراطور فرنسا وإستولى على أوربا فإن ناس زمانه رأوا فيه وليس شخصية تأريخية بل شيئا آخر ، مغايرا تماما، فهذا المثال على لامحدودية الإمكانيات التي تأتي بها الحياة البشرية قد هدّ الضعفاء لدرجة اكبر مما فعل الأقوياء. غير أن الإنسان ، في عيون معاصريه ، لعب دورا ثانويا. المهم أنه لم يكن نموذجا يقتدى به، بل اكثر من ذلك. لقد أصبح قانونا إذ إستيقظ في الضعفاء وفي الأقوياء الوعي النابليوني بالإمكانيات غير المحدودة التي تأتي بها الحياة. وتبين أن بمقدورنا أن نفعل كل شيء . فماهو يحيا فينا يكون بلاحدود.
وكان بايرون معجزة الجيل التالي . يقول كاسنر عنه :( كان الحلم الثاني للذين كان نابليون الحلم الأول ) .
لم يكن بايرون نابليونا لكنه لو لم يعش هذا الأمر قبلها لما إستطاع احد أن يعي الإنفعال الجارف الذي فجّر بايرون به جميع الحدود. وخبراء الأدب هم حمقى عندما يبدو لهم أن كل شيء هو أدب. يظنون أن هذا هو رومانسية . وأصل الرومانسية يكمن في أن الناس إكتشفت في النفس اللامنتهى حين إقتفت اثر الوجود النابليوني. وكان بايرون رومانسيا، وهذا يعني أنه اشعل حواليه الحريق الذي يحمله في داخله ويسميّه: الحياة.
إن بايرون هو الحلم الثاني ، التجلي الثاني لشهوة الحياة التي تحطم كل الحدود التقليدية وترمي جميع القيود وتنبذ كل العادات. التجلي الثاني للانضوب الحياة ، المحور الثاني للجوهر الربّاني "1". ولم يكن هو إستثناءا. ولاعلينا أن نبحث بعيدا، لنأخذ مثال ستندال الذي غرق في محيط الرغبة في الشهرة. ومنذ زمن نابليون إكتسبت هذه الرغبة معنى مختلفا تماما. ففي الماضي كان كل واحد يخجل قليلا إذا طوت جوانحه مزيدا من هذه الرغبة .
كان ستندال قد عبّر عن رأيه حين وصف جول سوريل بطل رواية ( الأحمر والأسود) . أن تسيطر / كان يتنهد في الصباح والمساء ، في الحلم واليقظة، في الصحو والسكر ، أن تسيطر / كان يهمس الكلمة بجنون مطلق . بلاتوقف كالمجنون ، لكن أيّ وزن هنا للفتاة !، أيّ وزن للإطلاقية !، أيّ وزن للجنون !، أيّ وزن للحمق! ، أن تسيطر، أن تسيطر.
هكذا بدا الأمر بين ناس الحلم الثاني . أن تسيطر!. بايرون وستندال حواريا نابليون والمبشران بالحياة النابليونية جعلا من الرغبة في اللامنتهى ، من شهوة السلطة ومن غريزتها مراتبا ملزمة.
ليكن لا أحد مصّدقا بأن تقييم هذه الرومانسية بصورة صاحية أمر ممكن . لغاية اليوم يصعب العثور على إنسان قادرعلى القيام بمثل هذا التقييم. فكل واحد يعيش ، اليوم، أمرا واحدا لاغير: أن يسيطر ، أن يسيطر!. وعلى اي شيء؟. ولماذا؟. ليس هذا بالأمر المهم . فكل الأمور سواء. السيطرة . لم يكن ممكنا الصمود وليس أمام البطل بل أمام الصيغة البطولية الحية. وشيللي لم يكن إستثناءا ، شأن فكتورهيغو، أو ليكونت دي ليل أو أي واحد آخر. في الجوهر ماهو المقصود: صيغة جديدة للبطولة ، ففيها وجد الجميع اللامحدود واللامنتهى والكمال والآلوهية. ويسهل اليوم الإنتباه الى أن المرء لم يكن هذا ولا ذاك ، لكن كان من الواجب حينها أن تكون هذا أو ذاك من أجل أن تفقه الأمر. كان بايرون وشيللي وكيتس وهيغو أناس عصرهم البارزين رغم كل شيء. وإذا كانوا قد عرفوا وحتى دوار الرأس فهل كان من المتوقع إنتظار صحو أكبر من همبولدت وهيغل أو فيخته ؟.
خيل للمرء أن من الصعب مواصلة السير. فكل المشاعر الكبيرة قد تحررت وكل الكلمات الكبيرة قد قيلت. وعلى غرار نابليون وستندال بدأت ولادة الإنسان الذي أفلح ، لكن في لحظات أكبر جهد فقط ، في أن يفهم جلية الأمر. فمشاعر الناس المتأججة التي كانت قد أطلقت من عقالها قد خلقت مثل هذا الجو ، وكانت قد أنتقيت الكلمات الكبيرة للحياة التي لم تكن آنذاك. فقد مكثت هي في جزيرة القديسة هيلين. بهذه الصورة صار كل هذا الزخم أدبا وأخذ يسلي رجل المدينة ، فلا أحد كان قادراعلى القيام بالخطوة التالية إذ أن النابليونات غزت الصالونات البييدرماييرية "2" وقامت بأعمال بطولية في البورصة ، في التجمعات السياسية ، في المخادع ، بايرون أخذ يتفرغ للإقتصاد ، وستندال كان يغازل عاملات الخياطة. وقمة التبعية ومحاكاة السلف كانتا حين يكتب البطل مقالة الى الصحيفة. هكذا كانت الأمور تجري في الأربعينات حين دعوا الى الأسلوب البطولي في الحياة. لكن لم يكن هناك أبطال. فهؤلاء كانوا قد إختفوا قبلها.
إنه كلام كاذب. كانوا موجودين لكن بمعزل عن العالم ، قطنوا غرف السطوح. ونابليون هذه الغرف من الأربعينات، هذا المعزول المليء بالمرارة ، الغانم البائس للعالم ، السيّد الشحاذي للامنتهى، القديس ذو الأسمال ، قديس الرغبة الوقحة في الشهرة قد عاش في ضواحي باريس وكوبنهاغن ، لكنه لم يخن أي واحد من مثله العليا.
كان أحدها بودلير : ( أن تكون قديسا وبطلا لنفسك ). كان فضيحة عصره وشخصية من المجلات الهزلية. العصر أيقظ فيه الحياء والكراهية. وعندما يبحث الكل عن الكلمات الكبيرة لوجود صغير يعثر هوعلى الصغيرة منها من أجل تحديد أكبر. والغانم الذي لايستخف حتى بالجمع الثرثار والضاج يكون متسامحا معه لاغير ، فهو عبء عليه.
توّجه الغانم عند ستندال الى الداخل ولأن نابليون قد أشعل ، في الخارج ، حريق العالم. وتحولت الرغبة النابليونية في الشهرة الى بسيكولوجيا. فالمهمة كفت عن أن تكون الإستحواذ على الروسيا بل الإمبراطوريات التي لاتملك أسماء ولاحدود. أن تكون بطلا في البسيكولوجيا هو شيء مختلف تماما عن أن تكونه في ساحة المعركة. فهذا أمر أكثر خطرا. كذلك إنتقل الوجود البطولي تماما الى مستو آخر. فأمام الإمكانيات التي لاتحدّ إنفتح عالم جديد ، ولأن العالم الذي غنمه نابليون صار كومة قاذورات ، والناس المعتبرون مرّوا من هناك سادين أنوفهم. وخضع ذلك الجوهر الرباني للحياة الى حالة النكوص: بحث وعثر على منطقة تليق لدرجة أكبر بالتوسع . كانت منطقة لم تخطر أبدا ببال المحتالين الصاخبين. وبالمقارنة معه كان نابليون مجرد طفل صغير. وأصبح السوبرمان بطلا وحيدا وجد في البسيكولوجيا إمكانيات للحياة لاتحد ، وأشعل الحريق الذي يلتهم كل شيء ، ومن ثم قاده الى الداخل.
الا أن المنتصر الحقيقي ، وبصورة أدق : المهزوم الحقيقي ، لم يكن بودلير بل سورين أوبي كيركيغارد. ينبغي التأكيد بقوة على أن ثمن هذا الإنتصار الجديد ، الداخلي ، كان الهزيمة المكبّدة في الخارج . فهذا العالم لايمكن أن يغنمه إنسان واحد فقط ، الإنسان الذي أنغرزت سفينته في مياه ضحلة. والنصر قد يكون من نصيب الإنسان المنهار حسب . كيركيغارد هو الحلم الثالث ، الغنم الذي كفّ عن أن يكون فعلا دنيويا مؤقتا ، وأفضل مكان للقيام به هو غرف السطوح فعلا.
قام كيركيغارد بإكتشاف كبير تكون معركة ( فاغرام) "3" عند المقارنة ، مجرد مباراة كرة قدم. كان يقول إن الحياة لاتعتمد على الظواهر والصور المرئية التي يمكن تحسسّها ولا على التصورات والشخوص ، كلا أبدا. ولايقرر الحياة ما يلمسه الإنسان في الخارج. فهي تعتمد على العزم ، على الحيوية الداخلية ، على النشاط البسيكولوجي الذي هو مستقل عن العالم الخارجي. والوجود لايتألف من الظواهر بل من أحوال العزم. والشي الوحيد المهم هو في أي شيء يحيا الكائن البشري بالصورة المباشرة. إن مركز الوجود ليس الظواهر بل أحوال العزم.
واليوم هناك الكثيرون الذين مازالوا على إعتقاد بأن البطل هو أولا دور مسرحي مؤثر يخلب الألباب. كلا. البطل هوحلم محقق وفكرة لاغير. فالحياة تستمد نسغها وليس من الصيت الفارغ بل من الحلم. والإنسان الجديد لايكفيه القيصر. إنه بفضل قاطن غرفة السطح عليه ديون في دكان الخضراوات لكنه يعرف كيف يجّرب الغنائية التي تتحقق في عيش فعل بطولي .
عندما وصلوا ساحل أحد الموانيء الصقلية إستأجر سكنا. غيّر ثيابه وخرج الى المدينة.
كان وجع المعدة مستمرا وحتى عندما تجنب الروائح الكريهة المنبعثة من أفواههم. قبل كل شيء إستحم في البحر وبعدها أراد الجلوس في مكان لكي يستريح . وبين البيوت إنتشرت حرارة خانقة ونتنة كأنها عملاق بدين كبير الكرش. بحث عن شجرة يحتمي في ظلها لكنه لم يعثر الا على أجمات لم تعط أغصانها التي أيبسها القيظ ظلا. الا أنه جلس هناك وطفق يحدق الى الماء. كانت تسبح فيه الطحالب. أثار منظرها الإشمئزاز. في القعررقدت بين الصخور أوان محطمة.
مضى أبعد كي يعثر على مكان افضل. سار بمحاذاة الساحل بخطوات مترنحة. من جهة الجبال حملت الريح رائحة ثقيلة خانقة هدّت قواه. وجلس ثانية. كان هو هناك بدون اي شيء، بدون كتاب ، بدون أفكار ن بدون رغبات ، بدون مزاج ، بدون حبور.
وكا ن قد تصوّر أنه سيقوم بنزهات طويلة ممتعة على ساحل البحر. لكن لم تكن هناك أي طرق بل شعاب سوّتها أرجل الحمير بين صخور متحركة عبر أجمات شوكية. وفي البحر غير الودود تماما كانت تعوم الحشائش والطحالب الطويلة. أما الشمس فكانت تصب حممها بلا رحمة حتى أنه شعر بنارها على جلده عندما توقف لحظة واحدة.
في طريق العودة سمع ضجة تنبعث من بين الصخور. على مبعدة خطوتين تسللت افعى ببطء ثم كفت عن الحركة وأدارت رأسها مطلقة الفحيح. كما يبدو قد تكون أفعى سامة. قد يدوسها أو يقعد عليها وتلدغه آنذاك. وقف بلاحراك. الأفعى كانت قد إختفت منذ أمد بعيد لكنه لم يجرؤ على الحراك. بعد وقت طويل إنحنى بحذر ورفع حجرا ثم رماه في المكان الذي إختفت فيه الأفعى. رمى حجرا آخر. لاشيء. واصل سيره الا أنه كان ينظر خائفا الى الأحجار. أراد التأكد من ان الأفعى لاترقد تحتها . اخذ العرق يتصبب منه الآن و ليس بسبب القيظ فقط. منذها إمتلك الجرأة على السير قرب البيوت فقط..
إستمر وجع المعدة. الحرّ إستمر بدون توقف وجاءت ريح خاملة من الجبال بروائح حريفة. شعر بقدر كبير من الرطوبة. كانت كل الأشياء في سكنه دبقة. لمرات عديدة كان يجيل بصره في صخور الساحل القريبة وخيّل إليه بأنه وجد فيها أماكن ظليلة ، وقد يعثر هناك على مكان أرحب. لكنه تذكر الأفعى. بهذه الصورة فضّل البقاء بين الجدران الساخنة والنظر في الأواني المهشمة الملقاة في الماء.
كان أمرا مثيرا للفضول أن هذه الميلانخوليا الثقيلة تستمر منذ أسبوع . كانت قد بدأت مع منطلق الرحلة. كان نومه سيئا، يعرق ويستيقظ منهكا. الفطور ذو مذاق رديء ، وكله إشمئزاز عندما يفكر بالخروج من البيت الى الشمس والإستحمام في البحر. لكنه يخرج ، فروائح الزيت الكريهة والقمامة المتفسخة لاتطاق.
كان قد ‘عتاد على الإستحمام قرب آخر البيوت . يصل الى المكان سائرا بمحاذاة الشاطيء لكن في الماء. فالأفعى لاتجرؤ على الإقتراب منه هناك. ولربما كان طول الطريق مائة متر أو مائة وخمسبن على الأكثر. لم يكن الذباب قد أزعجه بعد. ركض صوب الماء . في البدء مشى فوق الأحجار الفاقعة اللون. كان حذرا ينظر الى موقع قدميه . سبح بضعة أمتارمبتعداعن الساحل. بعدها عاد فجأة.
في صباح اليوم السادس من الإقامة إنتبه أثناء السباحة الى سمكة كبيرة كانت تتقافز على مبعدة ثلاثة أميال من الساحل. كانت تسبح بسرعة كبيرة ، ومن وقت الى آخر كانت تهز ذنبها. كانت تلهو. وفكر بأنها كوسج. فهذا وليس غيره من أسماك البحر معتاد على الإنقضاض لوحده. تسارعت دقات قلبه شأن الحال عندما رأى الأفعى . والآن جاء همّ آخر.
أضطر الى البحث عن مكان آخر للإستحمام. فهذا المكان خطر لحد كاف: الكوسج قد يقترب منه ويهاجمه. عثر على مبعدة بضعة أمتار على مكان آخر مياهه ضحلة وتحيطه الصخور ويبدو كأنه حوض. كان مأمونا حقا. الا أنه لم يقدر على الإستحمام في هذه المياه الضحلة الدافئة والعفنة. وفكر : أيّ فارق هناك. ففي البيت يغتسل في طاسة ، وهنا في طاسة أيضا. وهذه ليست أكبر من طاسة البيت. الفارق هو أن الشمس تحرقه هنا ويقرصه الذباب.
في اليوم العاشر قرر أن يستحم بعد غروب الشمس. في الصباح كان يجلس على سلالم الكنيسة في مكان ظليل وبارد نسبيا وهو يطرد الذباب عنه. عندما هبّت ريح شمالية أو شرقية كان الزمن خفيف الوطأة الا أن الريح الجنوبية كانت تحمل معها كل الروائح الكريهة المنتشرة بين البيوت. حوالي الظهر كان يفكر مهموما بالغداء. لم يكن جائعا، وها أن تحقيق الذات توقف منذ أسبوعين في معدته كأنه إسفنجة أو قطعة من الورق الرقيق قد إلتصقت بها. تناول طعامه بمزاج سيء. لم يستمريء النبيذ لكنه جاءه بالخدرعلى الأقل. عند العصر سار ثانية صوب الكنيسة ومرق محني الجذع بمحاذاة الجدران كي لاتصله الشمس. تحت جدار الكنيسة جلس لغاية الساعة السادسة والنصف. في هذا الوقت تميل الشمس صوب الغروب الى الحد الذي يمكنه من الذهاب الى تلك الطاسة. إغتسل وراقب ، بقلق ، البحر. فالكوسج قد يقترب منه.
تبين أن الرحلة فاشلة تماما. عندما رحل كان مقتنعا بأن الإمكانيات تنفتح في كل الجهات ، أما الآن فبات واضحا بأنها أنغلقت، ولم يشعر قبلها بأنه سجين مثلما الآن. بدل النزهات الطويلة خمسون خطوة من البيت الى الكنيسة ومنها الى البيت. بدل أطايب الطعام هذا الغثيان المستمر في المعدة ، بدل أشعة الشمس الرائعة هذا الجلوس الإرغامي في الظل، بدل الإستحمام الحبور المنعش هذه الطاسة الصغيرة. وبهذه الصورة كان على العالم المنفتح أن يضيق. حين يفكر بأنه يختنق بالأبخرة العفنة وأن الذباب يقرصه وأن عنقه ويديه مغطاة بالجروح والبثور وأن الريح الرطبة الخفيفة تسحق مخه، يكون مقتنعا بأن كل ما كان يتوقعه قد عاشه بصورة سلبية، أي حصل بالضبط عكس ما كان يتوقعه. كان السؤال لماذا قررالقيام بالرحلة ثم التورط في هذا الأمر ، يبدو هكذا: قرر أن يخوض التجربة ، وهل يا ترى أن الجمال الذي تصوّره قائم في العالم حقا، وهل هو قادر على أن يجرّه من ديره، وهل يملك القدر الكافي من القوة لصد إغراء الطبيعة الرائعة؟. نعم كان قوّيا بمافيه الكفاية . لم يجرّ الأنا من وجارها أيّ شيء. فهي قد تسترت عميقا وعانت. وعانت.
كان واثقا من أن وجهه ينظر إليه. فالأنا كانت مختبأة في الداخل ، ولم تر شيئا عداها . عندما نزل الى الماء كانت تغطي جسمه رواسب لزجة ، وكان الذباب الكريه يزعجه ، وكان يختنق بالأبخرة الحارة، وفي الليل كان يتقلب في الفراش ، كان يعرق ، ولايغفو له جفن تماما كما لو أنه ألقي في فرن ساخن. حين تسافر تتعرف على نفسك .(هل أنا هو تلك الأنا؟) أهو الحلم الثالث؟ هذه الدودة البائسة؟.إنه لايذكر بالأول ولا بالثانية.
كان يفضل المواقف التي يشعر فيها بالحرج وأنه مقيّد. كان الحزم الزهدي سلاحه عند عقد السلام مع العالم. كلا!. ليس العالم ! ، الأنا ! أي شيء تريده؟ أن تدحر الأنا؟ لقد منيت هي الآن بالهزيمة النكراء. وليس هناك من هزيمة أكبر .
هل هذه هي صورتي حقا؟ أخاف على شهيتي، كذلك فيّ مثل هذا النفور الكبير من الإستحمام في البحر بعيدا عن الشاطيء وأهرب من حيوان زاحف صغير قد لايكون ساما أبدا؟ الى هذا الحد ينتابني الهلع من الشمس والذباب ، هذه الطفيليات؟ هل أنا حقا هو هذا؟ وهل رحل هو من هناك؟ كلا. لم يغادر البيت إطلاقا ، فهو لم يقدر على الخروج من الأنا. وهذه الإندفاعة السحرية التي هي السفر لم تفلح في طرد الأنا من الدير الداخلي الذي ترتجف فيه مصطكة الأسنان خائفة على شيء ما. التشنج . المعدة. الإستحمام . الشمس. وكا مالقيه / الطعام ، النبيذ ، الفاكهة ، النزهات ، الماء ، الصخر ، الزهور ، الروائح ، لقد أدار ظهره لكل شيء وهو يغصّ بالمرارة والإحباط إذ لم يعثر على وشيجة مع كل هذه الأشياء ، لم يفلح في غنم اي شيء من العالم. وليست الأنا ما صار رحبا وطلق الهواء كالعالم بل العالم هو ما صار خانقا ومظلما وصغيرا بهذا الشكل البائس ومثل الأنا. رمز الإستحمام : أليس هو بالأمر الفظيع أن يسبح في بركة الوحل الكريهة هذه وليس في المحيط؟ نعم إنه شيء فظيع. ان يكون قرب البحر ويغتسل في طاسة؟ لماذا؟ إنه يخاف الطحالب والكواسج وسرطان البحر. أهو من يخاف حقا؟ الأنا تخاف، وايّ شيء يريد ان يحميه؟ النفس ، لكي لا يؤذيه أحد ، لكي لايهينه أحد ، لكي يكون منقذا، وماذا كانت النتيجة؟ أوجاع المعدة ، العرق المنهك، السيرخلسة بمحاذاة الجدران ، الضجر ، قرص الذباب.
بدل هذا كله يقوم بأمور محظورة ويخوض في القذارة. اهكذا تبدو البطولة الداخلية ؟ أن تبصر ، أن تمنح الشهادة، أن تتعذب ، أن تمتهن ، أن تعترف . إنه الإنفعال الزهدي في تحليل الشخصية . الولوج الى الداخل وإكتشاف النفس . ويالها من مشقة!. كفى!.
كلا ليست هي الكفاية. إذا كنت موجودا هنا ، وفي تهويمة الغنائية البسيكولوجية ، عليك الإعتراف بأن نظرية الإستدراج لاتستحق كلها خداع النفس. أنت تكاد القول إن هذا العالم يريد : كل ، إشرب ، إستحم ، تنزّه ، قدّر المجازفة ، الحرية ، الأخطار ، الشمس ، بالطبع إعشق شيئا غير ذاتك ، إلا أنك تحول ، بعناد، دون ذلك ، ولأنك تريد ان تواصل البقاء. وهذه الممارسة تليق بالتمجيد. هل يخيل إليك أنه إذا لم تحب أي شيء فإنك قادرعلى حب النفس ؟ إن الطريق الى النفس لا يمر عبر العالم ، وليس بإمكانك أن تحب نفسك إذا لم تحب الآخرين. ألا يعني إختباؤك امام العالم أنك تختبيء امام النفس ؟ لست بحاجة الى الشمس ، بعبارة أخرى : أنت لست بحاجة الى نفسك ، وماذا يعني هذا الشيء؟. أنت تخاف من كل شيء ؟ لماذا؟ وهل أن كل شيء ضدك؟ الأسماك ؟. النبيذ؟ الأفعى؟ الروائح ؟ الريح؟ هل كل شيء يعذبك ، انت ايها البائس؟ بالأحرى ما يعذبك هو الأنا يا أحمق!.
إن الواقع يحيط بنا لحد أكبر مما بد لك. القضية هي بمنتهى البساطة: أنت لاتعرف الخروج من النفس. والأنا ليست ديرا على الإطلاق. ولنبق على الأوهام الدينية. الكلام لايخص الدين، ولا أحد يريد أن يدفعك صوب الغواية. أنت دخلت بنفسك التجربة، أم أنك لم تفلح في التحرر من الخورالإنساني في هذا التحليل الذاتي الخانق الذي تكون نتيجته أسئلة تعذب النفس. إنك تختفي عند الجدران حين تظهر الشمس.
لقد خسرت ايها التعيس . وأنت أردت الخسارة. تحمّل العاقبة الآن. وأنت أيها العاطفي الساخر لاتعرف كيف تحب العالم. يا قديسا لم يفتدى. أنت لاتقدر على خيانة النفس. إنك مغلق في أناك. وهاهو يطبق دائما المباديء التقشفية عندما تحين فرصة التعرف على المتعة، إنه يختبيء أمام السعادة، فهي تبدو له جريمة ، الجريمة ايها الصديق هي أن تبقى في المركز. أن تبقى الأنا ، وفي هذا التحول السحري للسفر، غير قادرة هي ان تصبح بحرا ، شمسا، نبيذا، ريحا. أن لاتقدر على الأكل ويصيبك الغثيان بين روائح بساتين البرتقال. حاول أن تعيش العالم وليس بإسمك ، بل بإسم العالم عش ذاتك. حاول أن تعيش الذات كالقيثارة التي تعزف عليها عناصر الطبيعة . ومن يطلب منك أن تبصق على وجهك قبل أن تلحظ شيئا جميلا؟ وأنت تجد في هذا دينا؟ أن ترمي العالم كالفضلات لكي تبقى الأنا بدون مساس؟ هذا ليس دينا أيها الصديق بل مزاج سيء.
هل عليك أن تخون ما أردت إنقاذه. لقد ورثت حياة بطولية الا أن الحلم الأول قد إختفى ، وبعده الثاني. عليك أن تترك الإنفعال البطولي. وما يتوقع منك ليس أداءا دقيقا لدور مدروس. عليك أن تكف عن أن تكون بطلا. تعلم العيش كما لوكنت وحيدا ، كما لو أن أي أحد لم يرقبك. كما لو أنك كنت في اليبت. أي شيء تريده؟ إنك تقوم بالدورالذي أداه أسلافك. الدور نفسه. كانوا هم يؤدونه من الخارج، أما أنت فإلى الداخل. صدّقني، في الإتجاه صوب المركز ليس ثمة هناك دور بطولي ، كذلك ليس هناك من بطل. إنه شيء حسن أن تكون إنسانا ، حاول أن تكون صادقا وبدون بسيكولوجيا ، أن تعشق بدون الأنا، أن تبصرالله بدون دين ، كما هو بالفعل ، من القلب بهذه الصورة أو تلك ، وبحبور . الدودة ليست هي الحقيقة : إنها الوجه الثاني للبطل. البطل ليس بالحقيقة أيضا: إنه الوجه الثاني للدود. كلاهما دون سند. ليس من وجود للأنا: إنها الوجه الثاني للعالم. هناك الرب وحده. إنه من يوجد هنا فوق البحر والأفعى والكوسج والنبيذ.، ولاتضع في الحساب أي حلم ، بل بالأحرى عليك أن تحلم.
* هوامش المترجم :
"1" جاءت في النص ( دايمونيون ) وتعني باليونانية الروح الراعية أيضا. لدى سقراط هي الصوت الداخلي ( الرباني ) أي الضمير الذي يحذر الإنسان من السوء. وعلى الأرجح قصد المؤلف المعنى الأصلي للكلمة .
"2" بييديرميير أسلوب الماني في معمار الداخل والأثاث بشكل خاص . وكان رد فعل ضدأسلوب الأمبير المفخم البارد. ويتمييز هذا1لأسلوب بالبساطة والرخص ومراعاة عناصر الراحة.
"3" معركة إنتصر فيها نابليون على الجيش النمساوي في عام 1809.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بيلا هامفاش (1897 / 1968 ) كاتب وروائي مجري كبير. أصبحت روايته ( الكرنفال ) من أبرز أعمال الأدب المجري في القرن العشرين. وكان في فترة ما بين الحربين من أكبر دعاة التجديد في الأدب. وفي عام 1948 تعرّض مؤلفه ( ثورة في الفن ) الى هجوم عنيف من قبل جورج لوكاش منظر الحزب الشيوعي المجري مما إنسحب على أوضاعه المعاشية والإبداعية أيضا. وكان مذهب هامفاش هو الخلق الأدبي كمواصلة للتقاليد في البعدين القومي والشمولي. وفي أعماله نلقى تأثيرات قوية لفلسفة نيتشه ( إرادة القوة) وكيركيغارد ( نقد الزمن ). وكان هامفاش على معرفة واسعة بالفلسفات الوجودية في أوربا. المترجم
* منقول عن موقع القصة العراقية