نقوس المهدي
كاتب
حين تقرأ كتاب د. جمال شاكر البدري في كتابه («اليهود وألف ليلة وليلة» دار صفحات للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 2007) لابد أن تشعر بالاستفزاز لضياع المنهج العلمي، فهو يرى أن «ألف ليلة وليلة» كتبها يهود، ودليله على ذلك وجود قصص حول النبي سليمان إذ يعدّ، في رأيه، رمزا لليهودية السياسية في عصرها الذهبي، لكن ذلك لا يبرر، باعتقادنا، انتماء كتاب الليالي إلى اليهودية، فالنبي سليمان أسبغ عليه الموروث الديني سمات أقرب إلى الأسطورة، لا يملكها أحد من البشر، مما غذّى المخيال الشعبي، الذي يشغف عادة بكل ما هو معجز وخارق للمألوف، لهذا نسج منها في الليالي بعض القصص! ومما أكسبها مصداقية لدى المتلقي، باعتقادنا، ورود بعض أحداثها في القرآن الكريم.
وقد أضاف إلى هذا الرأي حججا واهية منها أن كتاب "ألف ليلة وليلة" ظهر في فترة ازدهار اليهود الثقافي والاقتصادي أي في بعض فترات العصر العباسي والفاطمي! ولكن ألم تزدهر المسيحية في الفترة نفسها أيضا؟
أما المبرر الثالث لانتمائها في نظره فهو أنها تشبه الكتب اليهودية، لكننا لاحظنا أن القصص مستمدة من القرآن الكريم، بل لاحظنا تناصاً قرآنياً يشكل جزءا أساسياً من البنية اللغوية لليالي، فمثلا حين تحدثت عن (خاتم النبي سليمان) استندت إلى ما ورد في القرآن الكريم عن النبي سليمان، لتؤكد أهمية الخاتم ومعجزته «قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، إنك أنت الوهّاب».
لم نجد في الليالي شيوع اللغة الدينية الإسلامية فقط، بل وجدنا طقوساً إسلامية أسبغها الراوي على الشخصية اليهودية (الوضوء، قيام الليل...)
وقد عزّز د. جمال شاكر البدري رأيه أيضا بشيوع لقب الملك في الليالي عوضا عن خليفة أو أمير، مع أن الليالي كتبت في عهد الخلافة العباسية والفاطمية، وهذا اللقب، باعتقاده، امتداد للفكر التلمودي الذي يرى حاكم إسرائيل أو الماشيح ملكا.
لا أدري لِمَ يخصص لقب (الملك) بالثقافة اليهودية فقط، مع أنه لقب يشمل كل الثقافات والأمم، ثم ألا يمكن أن يكون اختيار هذا اللقب جزءا من اللعبة الفنية، إذ يفيد التعميم، ويبتعد عن التخصيص، فيتيح للكاتب حرية التعبير بمعزل عن ضغط السلطة السياسية والدينية التي تمثلها الخلافة!؟ ومع ذلك لم نجد جميع الليالي تستخدم لقب (الملك) بل وجدناها أحيانا تستخدم لقب (الخليفة) أو (أمير المؤمنين).
ورغم أن د. البدري يلاحظ غياب المرأة اليهودية عن التشخيص المباشر في كل الحكايات، لكنه يعلل هذا الغياب بطريقة غير مقنعة، فيجعله "تساميا لها على غيرها من نساء الأمم الأخرى" ثم نجده ينتصف لها، بأن يجعل الشخصية الرئيسية في الليالي (شهرزاد) امرأة يهودية، والسبب في ذلك أن اليهود يرون في (المرأة) أساسا في الانتماء وتحديد الهوية اليهودية، وشهرزاد كانت أساس الليالي من البداية حتى الخاتمة، تنقذ بنات جنسها كما أنقذت أخت (زوربابيل بن ثلائيل بن يهوياكين يهوذا الأخير) زوجة كورش التي طلبت منه عودة بني إسرائيل إلى أورشليم! المدهش هنا أن المرأة المنقذة لا نعرف لها اسما، وإنما نجد تعريفا لها عبر ألفاظ تلحقها بالرجل (أخت ثائيل، زوجة كورش)!!!
لكن المرأة الثانية التي تعد أصلا لشهرزاد، برأي د. البدري، نجد لها اسما (أستير) لكن وظيفتها مثل التي سبقتها وهي التوسط لدى الزوج (أحشويرش الأول) من أجل خلاص اليهود من القتل الجماعي! لهذا يرى أن (شهرزاد) هو الاسم الرمزي للبطلة اليهودية (أستير) وشهريار هو اسم (أحشويرش) لا أدري كيف اقتنع الباحث بأن هذه المرأة استثنائية لمجرد قيامها بدور الوساطة!!! وغفل عن لغة شهرزاد التي تعلن أنها تريد أن تفدي بنات المسلمين «يا أبتي زوّجني هذا الملك فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهن من بين يديه»
نسي د. البدري في زحمة حماسته للمرأة اليهودية أن للمرأة مكانة كبرى في العصر الأمومي، وأن الأنثى كانت هي الأصل، وهو ينسى أن الفكر اليهودي المستنبط من التوراة والتلمود يحمّل المرأة مسؤوليتها عن الخطيئة الأولى وبالتالي هي التي جلبت المتاعب للجنس البشري!
ثم ألا نجد المرأة الاستثنائية في كل العصور، وليست حكرا على الثقافة اليهودية! لو نظرنا فقط إلى العصر التي كتبت فيه (ألف ليلة) ألا نجد نساء وصلن إلى الذروة بفضل ما يمتلكن من صفات استثنائية (شجرة الدر، وست الملك) بل وجدنا أسماء بنت شهاب الصليحية تشارك زوجها في حكم اليمن، ويتردد اسمها في المساجد بعد اسم الخليفة الفاطمي واسم زوجها كما تذكر فاطمة المرنيسي في كتابها «سلطانات منسيات»
ويعزّز د. البدري رأيه بالوقوف عند بنية الليالي ونسخها، فيبين أنه تمّ تغيير النسخة العراقية والفاطمية واستبدالها بحكايات أيوبية ومملوكية بحتة، وهو ما يظهر حتى اليوم في عدم تناسق حجم الليالي وتباينها في الطول والقصر، وهو يرى أن من أسباب التغيير أيضا «إدخال حكايات ووقائع شعبية محددة إلى بعض الحكايات والليالي الأصلية، وهكذا تمت عمليتا (التزييف والتزوير) معا في مصر المملوكية، وأصبحت «ألف ليلة وليلة» أقل يهودية وأكثر إسلامية، برأيه، مما كانت عليه النسخة (العراقية) ومثيلتها النسخة الفاطمية وقد ساعد عدم وجود (اسم) مؤلف محدد لليالي على هذا التكييف»
من المعروف أن "ألف ليلة وليلة" كتاب أنجز عبر العصور، أضافت إليه المخيلة الشعبية قصصا من واقعها المعيش وهمومها، لهذا تباين حجم الليالي حسب الراوي وحسب الهم الذي تقدمه، لهذا لا نستطيع أن نقول بأن هذه الإضافة هي تغيير أو (تزييف) بلغة د. البدري!!!
لو كان المؤلف يهوديا، كما يدعي البدري، لعرّف باسمه، ولظهر انتماؤه عبر اللغة، وقد استقر رأي الباحثين في "ألف ليلة وليلة" على أن هناك عدة مؤلفين لها، وحين نحلل لغة الليالي نلاحظ سيطرة لغة الثقافة الإسلامية التي تشكل البنية الأساسية للنص، في حين توارت لغة الثقافة اليهودية، عدا ذكر اسم النبي سليمان، الذي ذكر في النص الديني الإسلامي أيضا! لهذا لا يمكننا قبول رأي د. البدري بأن هدف تأليف «ألف ليلة وليلة» «التخفيف من العداء ضد اليهود، وكسب المعتدلين لتقبل المقولات اليهودية، وبالتالي الفكر والسلوك اليهودي ضمنيا مادمنا لم نجد لغة الثقافة اليهودية تسيطر على لغة الليالي»! كما أن التراث الإسلامي الذي قمت بدراسة صورة الآخر لدى بعض أعلامه (الجاحظ، ابن قتيبة، أبو حيان، أسامة بن منقذ...) لم أجد فيه هذه اللغة العدائية لليهود أو لغيرهم!
لقد دفعت روح التسامح مع اليهود (في «ألف ليلة وليلة») د. البدري إلى الظن بأن مؤلفيها يهود، لكنه غاب عن ذهنه بأن أهم ميزة لهذا الكتاب، شأن أي كتاب عظيم، أنه أتاح لنا فرصة معايشة الأسطورة ونبض الحياة اليومية، فأطلعتنا على أساطير ووقائع تمس حياتهم اليومية مثل عاداتهم يوم السبت، إذ يمتنعون عن الإتيان بأي حركة، لكنهم مع ذلك يستقبلون ضيفهم!! فقد استطاع (جانشاه) في إحدى الليالي أن يدخل مدينة اليهود بسبب معجزة تحدث يوم السبت (يجف النهر) مما يذكرنا بالمعجزة التي حدثت للنبي موسى أثناء هروبه من فرعون التي حدثنا عنها القرآن الكريم.
- د. ماجدة حمود
اليهود وتزوير ألف ليلة وليلة
** منشور بصحيفة "تشرين" السورية 13 سبتمبر
وقد أضاف إلى هذا الرأي حججا واهية منها أن كتاب "ألف ليلة وليلة" ظهر في فترة ازدهار اليهود الثقافي والاقتصادي أي في بعض فترات العصر العباسي والفاطمي! ولكن ألم تزدهر المسيحية في الفترة نفسها أيضا؟
أما المبرر الثالث لانتمائها في نظره فهو أنها تشبه الكتب اليهودية، لكننا لاحظنا أن القصص مستمدة من القرآن الكريم، بل لاحظنا تناصاً قرآنياً يشكل جزءا أساسياً من البنية اللغوية لليالي، فمثلا حين تحدثت عن (خاتم النبي سليمان) استندت إلى ما ورد في القرآن الكريم عن النبي سليمان، لتؤكد أهمية الخاتم ومعجزته «قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، إنك أنت الوهّاب».
لم نجد في الليالي شيوع اللغة الدينية الإسلامية فقط، بل وجدنا طقوساً إسلامية أسبغها الراوي على الشخصية اليهودية (الوضوء، قيام الليل...)
وقد عزّز د. جمال شاكر البدري رأيه أيضا بشيوع لقب الملك في الليالي عوضا عن خليفة أو أمير، مع أن الليالي كتبت في عهد الخلافة العباسية والفاطمية، وهذا اللقب، باعتقاده، امتداد للفكر التلمودي الذي يرى حاكم إسرائيل أو الماشيح ملكا.
لا أدري لِمَ يخصص لقب (الملك) بالثقافة اليهودية فقط، مع أنه لقب يشمل كل الثقافات والأمم، ثم ألا يمكن أن يكون اختيار هذا اللقب جزءا من اللعبة الفنية، إذ يفيد التعميم، ويبتعد عن التخصيص، فيتيح للكاتب حرية التعبير بمعزل عن ضغط السلطة السياسية والدينية التي تمثلها الخلافة!؟ ومع ذلك لم نجد جميع الليالي تستخدم لقب (الملك) بل وجدناها أحيانا تستخدم لقب (الخليفة) أو (أمير المؤمنين).
ورغم أن د. البدري يلاحظ غياب المرأة اليهودية عن التشخيص المباشر في كل الحكايات، لكنه يعلل هذا الغياب بطريقة غير مقنعة، فيجعله "تساميا لها على غيرها من نساء الأمم الأخرى" ثم نجده ينتصف لها، بأن يجعل الشخصية الرئيسية في الليالي (شهرزاد) امرأة يهودية، والسبب في ذلك أن اليهود يرون في (المرأة) أساسا في الانتماء وتحديد الهوية اليهودية، وشهرزاد كانت أساس الليالي من البداية حتى الخاتمة، تنقذ بنات جنسها كما أنقذت أخت (زوربابيل بن ثلائيل بن يهوياكين يهوذا الأخير) زوجة كورش التي طلبت منه عودة بني إسرائيل إلى أورشليم! المدهش هنا أن المرأة المنقذة لا نعرف لها اسما، وإنما نجد تعريفا لها عبر ألفاظ تلحقها بالرجل (أخت ثائيل، زوجة كورش)!!!
لكن المرأة الثانية التي تعد أصلا لشهرزاد، برأي د. البدري، نجد لها اسما (أستير) لكن وظيفتها مثل التي سبقتها وهي التوسط لدى الزوج (أحشويرش الأول) من أجل خلاص اليهود من القتل الجماعي! لهذا يرى أن (شهرزاد) هو الاسم الرمزي للبطلة اليهودية (أستير) وشهريار هو اسم (أحشويرش) لا أدري كيف اقتنع الباحث بأن هذه المرأة استثنائية لمجرد قيامها بدور الوساطة!!! وغفل عن لغة شهرزاد التي تعلن أنها تريد أن تفدي بنات المسلمين «يا أبتي زوّجني هذا الملك فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهن من بين يديه»
نسي د. البدري في زحمة حماسته للمرأة اليهودية أن للمرأة مكانة كبرى في العصر الأمومي، وأن الأنثى كانت هي الأصل، وهو ينسى أن الفكر اليهودي المستنبط من التوراة والتلمود يحمّل المرأة مسؤوليتها عن الخطيئة الأولى وبالتالي هي التي جلبت المتاعب للجنس البشري!
ثم ألا نجد المرأة الاستثنائية في كل العصور، وليست حكرا على الثقافة اليهودية! لو نظرنا فقط إلى العصر التي كتبت فيه (ألف ليلة) ألا نجد نساء وصلن إلى الذروة بفضل ما يمتلكن من صفات استثنائية (شجرة الدر، وست الملك) بل وجدنا أسماء بنت شهاب الصليحية تشارك زوجها في حكم اليمن، ويتردد اسمها في المساجد بعد اسم الخليفة الفاطمي واسم زوجها كما تذكر فاطمة المرنيسي في كتابها «سلطانات منسيات»
ويعزّز د. البدري رأيه بالوقوف عند بنية الليالي ونسخها، فيبين أنه تمّ تغيير النسخة العراقية والفاطمية واستبدالها بحكايات أيوبية ومملوكية بحتة، وهو ما يظهر حتى اليوم في عدم تناسق حجم الليالي وتباينها في الطول والقصر، وهو يرى أن من أسباب التغيير أيضا «إدخال حكايات ووقائع شعبية محددة إلى بعض الحكايات والليالي الأصلية، وهكذا تمت عمليتا (التزييف والتزوير) معا في مصر المملوكية، وأصبحت «ألف ليلة وليلة» أقل يهودية وأكثر إسلامية، برأيه، مما كانت عليه النسخة (العراقية) ومثيلتها النسخة الفاطمية وقد ساعد عدم وجود (اسم) مؤلف محدد لليالي على هذا التكييف»
من المعروف أن "ألف ليلة وليلة" كتاب أنجز عبر العصور، أضافت إليه المخيلة الشعبية قصصا من واقعها المعيش وهمومها، لهذا تباين حجم الليالي حسب الراوي وحسب الهم الذي تقدمه، لهذا لا نستطيع أن نقول بأن هذه الإضافة هي تغيير أو (تزييف) بلغة د. البدري!!!
لو كان المؤلف يهوديا، كما يدعي البدري، لعرّف باسمه، ولظهر انتماؤه عبر اللغة، وقد استقر رأي الباحثين في "ألف ليلة وليلة" على أن هناك عدة مؤلفين لها، وحين نحلل لغة الليالي نلاحظ سيطرة لغة الثقافة الإسلامية التي تشكل البنية الأساسية للنص، في حين توارت لغة الثقافة اليهودية، عدا ذكر اسم النبي سليمان، الذي ذكر في النص الديني الإسلامي أيضا! لهذا لا يمكننا قبول رأي د. البدري بأن هدف تأليف «ألف ليلة وليلة» «التخفيف من العداء ضد اليهود، وكسب المعتدلين لتقبل المقولات اليهودية، وبالتالي الفكر والسلوك اليهودي ضمنيا مادمنا لم نجد لغة الثقافة اليهودية تسيطر على لغة الليالي»! كما أن التراث الإسلامي الذي قمت بدراسة صورة الآخر لدى بعض أعلامه (الجاحظ، ابن قتيبة، أبو حيان، أسامة بن منقذ...) لم أجد فيه هذه اللغة العدائية لليهود أو لغيرهم!
لقد دفعت روح التسامح مع اليهود (في «ألف ليلة وليلة») د. البدري إلى الظن بأن مؤلفيها يهود، لكنه غاب عن ذهنه بأن أهم ميزة لهذا الكتاب، شأن أي كتاب عظيم، أنه أتاح لنا فرصة معايشة الأسطورة ونبض الحياة اليومية، فأطلعتنا على أساطير ووقائع تمس حياتهم اليومية مثل عاداتهم يوم السبت، إذ يمتنعون عن الإتيان بأي حركة، لكنهم مع ذلك يستقبلون ضيفهم!! فقد استطاع (جانشاه) في إحدى الليالي أن يدخل مدينة اليهود بسبب معجزة تحدث يوم السبت (يجف النهر) مما يذكرنا بالمعجزة التي حدثت للنبي موسى أثناء هروبه من فرعون التي حدثنا عنها القرآن الكريم.
- د. ماجدة حمود
اليهود وتزوير ألف ليلة وليلة
** منشور بصحيفة "تشرين" السورية 13 سبتمبر