أحمد علي هلال - رواية «الديكاميرون» لـ بوكاشيو

مع صدور النص الكامل في العربية -للمرة الأولى- للديكاميرون رائعة الكاتب الايطالي جيوفاني بوكاشيو, يحسم المزيد من الجدل حول سلسلة الترجمات الناقصة والمنزاحة لمزاج المترجمين وتأويلهم للنصوص الأصلية والتي ظهرت في النصف الأول من القرن الماضي وتبعتها في سلسلة أخرى في خمسينيات القرن, ولعل أشهرها (مختار القصص) نشرته مكتبة الوفد بترجمة لكامل كيلاني, ومن ثم (روائع من قصص الغرب) نشرته مطبعة عيسى الحلبي, الى أن ظهر الكتاب الثالث عشر من سلسلة كتابي بعنوان (الديكاميرون/ألف ليلة وليلة الايطالية) بترجمة اسماعيل كامل. واللافت أن القصص ظهرت بعناوين مختلفة كلاسيكية يغلب عليها التبسيط والسعي (لأرضنة) النص الأصلي. مثل (أكلة الفراريج) و(كل النساء سواء)!
وما يميز الترجمة الراهنة للمترجم صالح علماني, هي وضع النص كاملاً أمام المتلقي دون تجاوز منطق القصص وسلاستها وعذوبتها, ليحقق ليس فعل النقل عبرالترجمة, وإنما فعل ثقافي بامتياز يحيل الى المدونة السردية العربية الأولى -ألف ليلة وليلة- بمعنى سلطة الراوي, وتعدد الرواة, وتواتر الحكايات, بل النزوع الحكائي المحدد في استراتيجيته وخطابه وبعيداً عن (ثقل المقاربات التاريخية) فإن العودة الى عصر بوكاشيو وأعماله السابقة ستبدو لازمة ضرورية للوقوف على تيمات قصصه كما التأثير المتبادل الذي وسم عصر بوكاشيو ورموزه الأدبية الخالدة من أمثال بترارك دانتي اليجري صاحب الكوميديا الالهية وأحد الآباء الروحيين للقصة الانكليزية غودو فريد شوسر. والتأسيس لنهضة أدبية لاسيما في حقل القصة, وهنا يلاحظ بوضوح مهاد القصة الايطالية المعاصرة, فالديكاميرون أو (الأيام العشرة, أو الأمير غاليوتو) يحوي مئة قصة يحكيها في عشرة أيام سبع سيدات وثلاثة شبان, على خلفية وباء الطاعون الذي عصف بمدينة فلورنسا (1348) سنة صدور الديكاميرون. قصص تمور بالتخييل وتمزج الواقع بالحلم والتاريخ بالأسطورة, بتلقائية المخيلة الشعبية.
إذ تبدو كل قصة أو حكاية مكتفية بذاتها, بمعنى أنها نسيج وحدها تفيض بسعة المتخيل وبجدلية المعنى -كما سيلاحظ القارىء- القائمة داخل الحكاية, حيث الطرافة, أوالمفارقة والواقعية المتهكمة, المترعة بالميل (الايروتيكي) المحرض على التأمل والحلم, فللحكاية وظيفتها داخل ثقافة لا تعني الطبقات الأرستقراطية وحدها بل تمتد (بلحظة الطاعون) التاريخية لتتوجه باستراتيجية خطابها الى العامة لإنشاء خطاب قصصي خفيف مضاد في تهكمه للواقع, حيث النكبات والآلام, ومراسم الدفن, الوباء وصوره الفظيعة, القاتلة! بوكاشيو يروي للنساء مبدداً الكآبة, وليشيع البهجة في النفوس, مستنبتاً (حديقة ملذات دنيوية) ومع ذلك فلا يمكن قراءة الديكاميرون على أنها محاكاة لنزوات وأهواء, بل قراءتها بمنطق (كيمياء الرغبة) دون تجاوز المسعى (التطهيري) حسب المفهوم الأرسطي, وبمعنى آخر التوفيق بين الأنا الفردية والجوهرالالهي, فالرواة العشرة الذين يلتقون في كنيسة سانتا ماريا ويتفقون على الهرب من هلع وباء الطاعون ويذهبون للعيش في قصر فخم في الريف, هم عماد الديكاميرون في قصصه المسلية, حيث الأسطورة أوالأمثولة أوالحكاية, فهل هي لتسلية النساء الحزينات, كما يعترف بذلك بوكاشيو » !
ويضيف أنه للنساء الرقيقات القلوب!!,. لذلك يبدأ الحدث بصباح الثلاثاء حيث اجتماع الرواة, ويلجأ بوكاشيو الى تورية جميلة حينما يورد أسماء النساء (الراويات) فأكبرهن سناً بامبيديا تليها فياميتا, وفيلومينا, الى أن يسمي الأخيرة إليسا, أما الشبان (الرواة) فهم بانفيلو, وفيلوستراتو, وديويو. ويستهل بوكاشيو قصصه المئة بملخص ويغلب على معظمها الانتهاء بالغناء, ربما مرد ذلك الى تأملاته الشعرية التي يرصع بها خواتيم قصصه, أقرب الى (سونيتة) غنائية تدور حول الجمال والموت والحب والكآبة...
قصص متروكة دون عناوين بقصدية واضحة هي إلغاء المسافة مع قارىء محتمل, متنوعة في موضوعاتها, ولا مفاجآت في لغتها السهلة, متباينة في مساحاتها ثمة قصة طويلة نسبياً وأخرى متوسطة, فبوكاشيو الراوي العليم يروي (ما هو أكثر متعة) لاسيما في قصص يحمل مضمونها البخل والخطايا, والذكاء والحذر, والشجاعة, والسخرية, مغلباً العامل الأخلاقي كما في قصة يدور مضمونها حول سلطان بابل وابنته التي يرسلها زوجة لملك البرتغال فتتداولها خلال أربع سنوات بفعل النكبات المتعددة, أيدي تسعة رجال في أماكن مختلفة وأخيراً تعاد الى أبيها على أنها عذراء, فيعيدها بدوره الى ملك البرتغال, كزوجة مثلما ذهبت أول الأمر حسب ملخص بوكاشيو.. ثمة قصص تتحدث عن النكبات والنهايات السعيدة, والنزوات الدنيوية, أوالغراميات ذات النهايات الحزينة, أو الحيل التي تمارسها النساء على الرجال, أوالرجال فيما بينهم! وبوسع القارىء المعاصر أن يقف عند سؤال هو: ما هي علاقة فياميتا التي أحبها بوكاشيو وهجرته ب (بامبينيا), من هي شهرزاد حارسة المكان (اليوتوبي) في الديكاميرون » !
يغلب بوكاشيو في قصصه سلطة لسان طليق, يقابل ذكورية الوباء بأنوثة الحكاية بالمعنى المجازي, بل إنه يذهب أبعد من مجرد تسلية النساء وإضحاكهن, فهو يتساءل في خاتمته (هل بالامكان رواية تلك القصص بطريقة أخرى, دون خيانة طبيعتها). ولطالما أنها كتبت بطريقة مستقلة, فمن المؤكد إذن أنها ستحظى بقارىء مختلف. لقد قارب بوكاشيو المسكوت عنه, مواربة أو تصريحاً في جمله القصصية الرشيقة, حينما جعل الحرية في التعبير أوالتفكير أو هجاء منظومات أخلاقية واجتماعية وفكرية, بطلاً إضافياً, مؤسساً للقارىء مساحته للتأويل, ومانحاً إياه لذة نص طيّع اللغة خالد بأنفاس عاشق كبير هو جيوفاني بوكاشيو, يجيد المزاح بخفة تحتمل..

ــ أحمد علي هلال



* kassioun
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...