خيري عبد الجواد - من أمهات كتب التراث... ألف ليلة وليلة

أذكر المرة الأولي التي قرأت فيها ألف ليلة وليلة، حدث ذلك منذ ثلاثين عاماً، كان عندي وقتها خمس عشرة سنة، وكنت أقلب في سحارة الكنبة الاسطنبولي التي كانت لدينا، حين عثرت علي كتاب ضاعت صفحته الأولي والتي عليها العنوان، ووقعت عيني علي السطور الأولي فإذا بما ورد من الجن يخطفني ويطير بي في طبقات الجو العليا فأري مدناً ملونة وبلاد واق الواق، وطاف بي أرجاء المعمورة حتي جبال قاف.

منذ تلك اللحظة وقعت في غواية شهرزاد وشجرة الحكي التي لا تكاد تنتهي حتي تبدأ من جديد، وشكلت الليالي العربية كل وعي ومخيلة كل كتاب العالم تقريباً باعتبارها أعظم نص قصصي وروائي أنتجته المخيلة البشرية ولا أقول العربية- مؤقتاً علي الأقل- لأن الأصل كما قيل ترجم عن الهندية القديمة.

لألف ليلة وليلة طبعات كثيرة مختلفة، بعضها نادر الحصول عليه، وبعضها متداول كطبعة الكتبي الشهير محمد علي صبيح التي تمت محاكمتها في منتصف الثمانينيات وتم علي أساسها غلق مكتبة ومطبعة أشهر طابع كتب تراث في مصر، إلا أن طبعته التي صدرت في أربعة مجلدات ما زالت تباع في الأسواق، وقد شاء حظي أن أعثر علي طبعتين نادرتين هما طبعة بر سلاو بهولندا والتي قام بها هابشت سنة 1824 وهي طبعة كاملة بعد أن أكملها بعده فلشر علي أساس نسخة من تونس، وقد قمت بإعادة طبعها في دار الكتب وصدرت في اثنتي عشر مجلداً.

والنسخة الثانية التي عثرت عليها هي طبعة مدينة كلكتا بالهند، وهي نسخة أحضرها إلي الهند من مصر الميجر ما كان، وقام بها وليم حي مكناطن سنة 1832 وهي أيضاً كاملة قمت بإعادة إصدارها في سلسلة الذخائر فصدرت في ثمانية مجلدات من الحجم الكبير، وهناك طبعات كثيرة لهذا الأثر الخالد لعل أشهرها طبعة بولاق سنة 1835 والمعتمدة علي نسخة كلكتا الثانية والتي صححها الشيخ قطة العدوي وصدرت جزءين كبيرين، كما أن هناك الطبعة العراقية من ألف ليلة وليلة، وهي طبعة غير كاملة.

وأول من لفت الغربيين إلي ألف ليلة وليلة هو أنطوان جالان بترجمته التي قام بها، وهو أستاذ فرنسي تخصص في العلوم الشرقية في فرنسا وله ترجمة للقرآن الكريم محفوظة في المكتبة الأهلية في باريس واشتغل أنطوان جالان بجمع تحف تاريخية ومخطوطات شرقية نادرة حين عين في سفارة فرنسا باسطنبول، وقد اهتم بترجمة الليالي، وبدأ بقصص السندباد، وأرسلت إليه من حلب أربعة مجلدات ضخمة من الليالي فبدأ في الترجمة سنة 1704 وانتهي منها سنة ،1717 والنسخة التي ترجم منها ما زالت ثلاثة مجلدات من أربعة محفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس.

لم تكن ترجمة جالان أمينة للأصل الذي ترجم عنه، كما أنها كانت ناقصة، وكثير من النقاد الذين اهتموا بألف ليلة وليلة أمثال المستشرق ماكدونالد يرجعون جزءاً كبيراً من النجاح الذي لاقته الليالي في الغرب إلي جالان نفسه، فقد كان قاصاً وروائياً بطبعه، ولم يقم جالان بترجمة كل الليالي، فالمجلدات الأربعة التي استعان بها لا تمثل إلا نحو الربع من مجموع الليالي، وقد زاد بين المجلد الثاني والثالث قصص السندباد التي عثر عليها وحدها أول الأمر، كذلك نجد في الترجمة كثيراً من القصص التي لا توجد في الطبعات العربية، ويقول ماكدونالد في مقاله عن ألف ليلة وليلة في ملحق دائرة المعارف الإسلامية مؤيداً قوله بما وجده في مذكرات جالان نفسه، إنه استعان بأحد المارونيين واسمه حنا من حلب أتي به بول لوكا الرحالة إلي باريس، فكان يقص عليه قصصاً من الليالي شفاهاً، ثم يأخذ جالان الخطوط العريضة لهذه القصص ثم يقوم بإعادة كتابتها فيما بعد.

وتقول الدكتورة سهير القلماوي في رسالتها للدكتوراة عن ألف ليلة وليلة انه حين توفي جالان وجدت بين أوراقه قصة علاء الدين والمصباح السحري التي نشرها زوتنبرج في باريس سنة ،1888 كما وجدت قصة علي بابا والأربعين حرامي وقد نشرها ماكدونالد سنة 1910.

تصرف جالان في ترجمته كثيراً فأضاف وحذف وغير حتي يلائم الذوق الأوروبي، وقد ألف بعض القصص علي أساس ما سمع كقصة علاء الدين، وقصة علي بابا، وبعض القصص الأخري، والتي لن نجدها في كل طبعات الليالي، إلا طبعة جالان نفسه، وكما تقول د. سهير القلماوي انه كان يؤلف الأجزاء في القصة المكتوبة تأليفاً صرفاً، فالنهاية مثلاً التي ختم بها قصة المقدمة والتي تبين ما انتهي إليه أمر شهرزاد مع شهرياد من تأليفه، وهي لا تتفق مع ما هو معروف من ختام هذه القصة.

ظلت ترجمة جالان طوال القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر هي الترجمة الأهم في أوروبا كلها، وعنها ترجمت إلي الإنجليزية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية والهولندية والدانماركية والألمانية واليونانية والسويدية والروسية والبولاندية والهنجارية، ولاقت هذه الترجمات نجاحاً عظيماً بفضل ترجمة جالان الفرنسية، وبفضل قريحته وخياله العبقري الذي استطاع أن ينسج علي نفس المنوال بعض القصص ويضيفها إلي ألف ليلة وليلة، والغريب أن القصص التي ألفها أنطوان جالان نالت من الشهرة والانتشار ما لم تنله القصص الأصلية الموجودة في ألف ليلة وليلة، فقصة علي بابا تناولتها السينما العالمية في أكثر من فيلم، كذلك قصة علاء الدين والمصباح السحري .

وأصبح المثقف العربي يعرف هذه القصص باعتبارها ضمن ألف ليلة وليلة وإن لم يقرأها فهي غير موجودة في كل الطبعات العربية.

ألف ليلة وليلة، هذا الأثر الأدبي الخالد، نجح في أن يوقع في دائرة سحره هذا المستشرق العبقري انطوان جالان والذي استطاع أن ينسج قصصاً من صنع خياله، لتضاف كآخر إضافة لكتاب العجائب والغرائب، ألف ليلة وليلة.

** منشور بجريدة "الراية" القطرية بتاريخ 18 اغسطس 2007
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...