نقوس المهدي
كاتب
لا أعرف لماذا بدأت رحلتي مع الكتّاب بالرواية على وجه الخصوص؟ مؤكد أنني كنت أعرف الشعر في صباي البعيد، وكنت أحفظ بعض قصائد الشعر التي كنت أدرسها في المدرسة، وكان الأستاذ أحمد شلبي أستاذ اللغة العربية، في مدرسة الأقباط، هو أول من جذبني إلى عالم الشعر، سواء بقراءته التي كنت أراها بالغة العذوبة، في ذلك الزمان، لقصائد الشعر وتعليقه عليها. وأظنه كان شاعراً ومتذوقاً للشعر، حفياً به، بارعاً في إنشاده، وتنغيم صوته، وقت الإنشاد. ومن المؤكد أن إنشاده كان يدفعني إلى التأثر بما ينشد، أو يقرأ، وكنت، في مطلع الصباح، أحفظ على الفور ما اهتز لسماعه، ومع ذلك لم يكن الشعر هو مجال إبحاري الأول في عالم القراءة، فقد سرقتني دنيا القص من الشعر، ودفعت بي إلى عوالمها الساحرة. وربما كان ذلك بتأثير ما قرأته منذ عهد باكر جداً، سواء القص الديني الذي طالعته في قصص الأنبياء للثعالبي، أو ألف ليلة وليلة، وكلاهما كتابان اشتريتهما من حر مالي، بعد أن ادخرت من مصروفي الخاص ما أتاح لي شراءهما، وكان من اليسير أن أفرغ من كتاب الثعالبي الذي أذكر أنه كان في جزء واحد، يسهل على من كان مثلي أن يلتهمه في يومين على وجه التقريب، مزيحاً كتب المدرسة جانباً، خصوصاً الكتب غير الأدبية التي لم تكن تغوي بالقراءة، شكلاً ومضموناً، وربما كان الحس الديني المبكر هو الذي دفعني إلى البدء بالثعالبي، والاتحاد الوجداني مع قصص الأنبياء، خصوصاً ما كانت تتضمنه من خوارق ومعجزات، وشخصيات نقية كالملائكة، مقابل شخصيات مناقضة كأنها الشياطين التي تتقمص صور البشر، وما إن انتهيت من الثعالبي حتى هرعت إلى ألف ليلة وليلة، بأجزائه الأربعة التي عرفت فيما بعد، وبعد أن تعمّقت في دراسة الطبعات القديمة لألف ليلة، أن طبعتها الأولى في المطبعة الأميرية التي أنشأها محمد علي في بولاق كانت في مجلدين فحسب، راجعهما وذيّل الجزء الثاني منهما الشيخ عبدالرحمن الصفتي الذي كان أحد علماء الأزهر البارزين، ومر أكثر من عقدين من الزمان نفدت فيهما طبعة الشيخ عبدالرحمن الصفتي، وكان لابد من طبعة جديدة تولاها وأشرف على تصحيحها الشيخ قطة العدوي الذي أخرج حكايات الليالي في أربعة أجزاء، هي الأجزاء التي لاتزال أكثر تداولاً إلى اليوم، والتي لاتزال تصدرها المطابع المتخصصة في هذا النوع من المأثور الشعبي الذي يجمع، إلى جانب الليالي، السير والملاحم المختلفة، وغيرها من السرديات التي نجدها في المطابع والمكتبات القديمة التي لاتزال قائمة في حي الحسين والأزهر، مثل مكتبة صبيح والحلبي وغيرهما من المكتبات الأحدث التي تعوّدت الذهاب إليها في المرحلة الجامعية، وكان في صحبتي، دائماً، الشيخ رمضان، رفيق مجموعة أصدقاء المحلة الكبرى التي وصلت بينها - إلى الآن - محبة الكتاب التي قادت إلى محبة الأدب.
مجلدات ألف ليلة وليلة
كل هذه أشياء متأخرة، ارتبطت بمعارف متأخرة، حين جاوزت مرحلة الصبا الباكر، لكن ما لا يمكن أن أنساه، في مرحلة الصبا، هو اقتناء الأجزاء الأربعة من ألف ليلة، ولاأزال أذكر أنني قرأت اسم الشيخ قطة العدوى على صفحة الغلاف بوصفه المراجع اللغوي والمشرف على الطباعة، وبالطبع لم تكن النسخة التي اشتريتها هي الطبعة التي صدرت عن مطبعة بولاق، وإنما إحدى الطبعات المستنسخة منها بفضل مطبعة أحدث، أخذت من إعادة طبع وبيع الطبعات المأخوذة عن طبعة الشيخ قطة القديمة مصدر رزق لها.
المهم أنني حصلت على مجلدات ألف ليلة الأربعة، وأخذت ألتهمها واحداً بعد الآخر، وأحسبني تقمصت شخصية السلطان الجبار الذي سحرته شهرزاد، التي جمعت بين جمال الخلقة ورجاحة العقل، وتطوّعت أن تتزوج السلطان لكي تحمي بنات جنسها من بطشه، خصوصاً بعد أن جنّ جنون السلطان الذي ذهب ليسري عن أخيه الذي خانته زوجته، وعاد من عند أخيه دون إعلان ليفاجأ بالحقيقة الموجعة، وهي أن زوجه التي لم تكن تكف التظاهر بحبه، كانت تخونه بدورها، ومع عبد حبشي زنيم، كان لابد من قطع رأسه والتمثيل بجثته، عقاباً له على الجرم الذي ارتكبه في حق سيده، والجحود الذي بدا أنه فُطر عليه، والذي كان سواد وجهه وقبح خلقته علامة عليه. وأحسب أن ألف ليلة هي النص الأدبي الأول الذي كرّس في وعيي كراهية فطرية، ظلت مستقرة في اللاشعور طويلاً ناحية السود الذين كانت حكايات الليالي تصوّرهم دائماً، بوصفهم كائنات جاحدة، ناكرة للمعروف، مطبوعة على الشر والإثم والخيانة، لا أمان لها، ولا ينال مَن يثق فيها إلا أوخم العواقب، وأظن أن مصدر هذا الازدراء للسود الذي تقرنه ألف ليلة وليلة بالحضور المدان، سلفاً، للسود المتناثرين على صفحاتها، كان نوعاً من التجاوب مع الكتب التراثية التي ظلت تزرع وتروي وترعى بذور التمييز العرقي في الثقافة العربية القديمة التي انتسبت إليها ألف ليلة، أعني الثقافة العربية التي شاركت غيرها من الثقافات في التمييز نفسه ضد السود، ولنتذكر ما كنا قد أخذنا نعرفه من وقت بعيد عن عنترة بن زبيبة الحبشية الذي كان ينتسب إلى أمه تحقيراً له، وزراية به، على طريقة العرب التي تنسب الأدنى منها إلى أمهاتهم على سبيل التهوين من شأنهم، فمن لا يجوز نسبته إلى أبيه، فالنسبة إلى أمة علامة على هوان مكانته الاجتماعية ووضاعة أصله على السواء، يشبه عنترة في ذلك السُّليك بين السلكة، وقيس بن الحدادية من صعاليك العرب في الجاهلية.
ظهور شهرزاد
ولذلك لم يستغرب الصبي الذي كان، في داخلي خيانة العبد الزنيم الذي اعتدى على شرف سيده، ومولاه، شهريار، ولم نأبه كثيراً بقتل شهريار لزوجه الخائنة، بقدر ما انتبهنا لقراره الزواج كل يوم بامرأة جديدة، يتمتع بها طوال الليل، ويقتلها في الصباح، كي لا تتكرر جريمة الخيانة التي ظلت جرحاً دامياً لا يتوقف عن الإيلام والنزف. وعندما ضجت المدينة من كثرة قتل الملك للأبكار من فتياتها، ولم يكن هناك مَن يستطيع أن يوقف شهريار عن الاستمرار في انتقامه الرهيب، تقدمت شهرزاد، ابنة الوزير الحكيم التي ورثت حكمته، وجمعت بفضل حسن رعايته بين علوم الأوائل والأواخر، والعرب والعجم، قرأت ودرت كما تصفها الليالي، وأعلنت لوالدها أنها قررت أن تتزوج الملك لكي توقف استمرار النزعة الوحشية التي سيطرت عليه، وأن تعيده إلى صورته الإنسانية بفضل السحر الذي تمتلكه، وهو سر الحكايات العجيب الذي يوقظ الإنسان من أعماق الوحش، ويحرر الملك المتسامح من وحشية الملك المنتقم الجبار، ولا تفلح مقاومة الأب، فيخضع في النهاية لابنته التي طلبت أن تصحبها أختها دنيازاد لتؤدي دور البطل المساعد، ويتم الزواج، وتستهل شهرزاد حكاياتها التي تحثها على أدائها أختها دنيازاد، ويبدأ سحر الحكي مفعوله في السلطان الباطش، وتتوقف شهرزاد مع علامات الصباح عند نقطة حاسمة في الحكي، وتترك الملك نهب الفضول المتأجج في معرفة ما انتهى إليه الحكي؟ وتمهله شهرزاد إلى يوم آخر، فيتركها الملك تنام آمنة، وينام هو، أيضاً، ناسياً ما قطعه على نفسه من عهد بأنه لابد أن يقطع رأس امرأة (فتاة) جديدة، بعد نيل وطره منها كل يوم، وتتكرر حيلة شهرزاد، ويؤجل شهريار قراره كل يوم، إلى أن تمضي الليالي، وتعقب الليلة الأولى عشرات، بل مئات الليالي إلى أن نصل إلى الليلة الأولى بعد الألف، فيكون الملك قد برئ مما فيه، وفارقته رغبته الوحشية في الانتقام تدريجياً، إلى أن يستعيد أجمل الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الملك الصالح من حكمة وتسامح وغفران ونسيان لذكريات الشر التي يستبدل بها ذكريات الخير، وتكون شهرزاد في منجاة تامة من بطش الملك الذي استعاد إنسانيته ورحمته، بفضل القص الذي أصبح يرادف الحياة التي تنتزع حضورها من الموت وفي الوقت نفسه يتأكد دور القص، من حيث هو إشارة إلى غيره من أنواع الفن، بوصفه السحر البشري الذي يحيل العدم إلى وجود، والنزعة الحيوانية إلى نزعة إنسانية ترتقي بالكائن إلى ذرى التسامي النبيل والإيثار الكريم. وليس القص - من هذا المنظور - سوى القدرة على تحرير الوجود، والارتقاء به من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، وتحرير الوعي من العوامل التي تعكّر عليه صفو الرؤية، كي يرى أوسع مما اعتادت حدقتاه على الرؤية، فيرى الجمال في النظام، ويفرض النظام على الفوضى. أما شهرزاد التي تحولت إلى رمز للمبدعة فقد نالت مكافأتها، فحررت بنات جنسها. ونقلت حياة الملك من جدب العقم، كي تشارك في غنى الخصب، فتحمل من الملك ما يضمن له استمرار ملكه، وتواصل قيمه الجديدة، ويقر الملك بفضل شهرزاد، فيمنحها الحق المقدس في الحياة ويبقيها إلى جانبه، حرصا على حضور الحكمة المقترنة بالعدل، والمعرفة النافية للشر المرتبط بالجهل، والنزعة الإنسانية النافية للنزعة الحيوانية.
المرأة والتعصّب
وبالطبع لم أنتبه إلى كل هذه الدلالات وأنا قابع في ركن صغير من البيت، ألتهم ألف ليلة بعيني مراهق يثيره مشهد الأجساد العارية، ويستثيره تتابع الأحداث كأنه يشاهد أفلام مغامرات لا تنتهي، ولا يريدها المشاهد أن تنتهي. ومن يدري؟! لعلي كنت أستجيب لا شعوريا، إلى الميراث الثقافي الذي انطويت عليه، والذي كان معاديا للمرأة إلى أبعد حد، ولاأزال أذكر من مرويات هذا التراث ما يقول: النساء شر كلهن، لا تثق بامرأة، ذلّ من أسند أمره إلى امرأة، من علامات اقتراب الساعة طاعة النساء، لا تطلعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال، كرامة النساء دفنهن. وهل يمكن أن أنسى الأبيات التحذيرية التي تستهل بها ألف ليلة حكاياتها بقولها:
لا تأمنن إلى النساء = ولا تثق بعهودهن
يبدين ودا كاذبا = والغدر حشو ثيابهن
بحديث يوسف فاعتبر = متحذراً من كيدهن
أو ما ترى إبليس أخـ = ـرج آدما من أجلهن
وأغلب الظن أن هذا الميراث القائم على التمييز ضد المرأة لايزال يمارس تأثيره في الأجيال المتلاحقة، خصوصا تلك الأجيال التي لم تنل قدراً كافيا من التعليم القائم على المساواة بين الرجل والمرأة، أو - على الأقل - تحرير المرأة من هذه النظرة المزدرية لها، ويبدو أن مثل هذا الموروث انسرب إلى «الليالي». وظهر، مثلا، في حكاية المرأة التي خطفها جني،ظن أنه يستطيع ترويضها لرغباته، والهيمنة المطلقة عليها، لكن المرأة التي خطفها استطاعت بما فطر عليه جنسها من دهاء ومكر أن تتغلب عليه، وأن تخونه كلما نام وغفل عنها، ويظهر ذلك عندما تلتقي بعابريّ سبيل، إن لم تخني الذاكرة، فتغويهما كي يأثما معها، وبعد أن يفعلا ما أرادت تأخذ خاتميهما، وتضعهما في خيط، يضم عشرات الخواتم التي تدل على عدد المرات التي استغفلت فيها الجني الذي رأى نفسه قادرا على حجزها لنفسه دون شريك، إن المرأة الأولى هي التي أخرجت آدم من الجنة، وإن امرأة العزيز هي التي دبرت ليوسف الذي لم يستجب لغوايتها أمر المكيدة التي ألقت به في السجن. ولكي تؤكد الليالي هذه الترابطات الدلالية التي تسجن المرأة في دائرتها، في مدى الخيانة والغدر، فإنها تضيف حكايات كثيرة لخيانة المرأة التي يتسم جنسها كله بصفات السلب. ويبدو أنني بقدر استجابتي لهذه الصورة السلبية للمرأة في ألف ليلة، دون أن أنتبه إلى أن جنس المرأة هذا يشمل أمي وأختي وقريباتي اللائي لم أر فيهن هذه الصفات السلبية، مضيت على ما أكدته النظرة السلبية إلى المرأة في ظاهر نص ألف ليلة، فقد كنت أصغر من أن أضع أفكاري موضع المساءلة، أو أزن الموروث الذي يؤكده ظاهر الليالي بميزان العقل، إلى أن تعاقبت السنوات، وتركت سنوات المراهقة، إلى سنوات المعرفة الناضجة، والقراءات الواسعة، فأخذت أنتبه إلى أن «ألف ليلة» - ككل نص يشبهها - له ظاهر وباطن، وأن ألف ليلة، من هذا المنظور، تشبه «كليلة ودمنة».
شهرزاد وبيدبا
أعني أن شهرزاد هي الصورة الأنثوية للحكيم بيدبا، كلاهما قرأ ودرى، وجمع بين علوم العرب والعجم، وأتقن معارف الأوائل والأواخر. وكلاهما يواجه بسحر القص سلطانا باطشا، ينتهي الأمر بكليهما إلى ترويضه بما يؤكد انتصار العقل على عنف القوة الجسدية، وكما يحدث في حكايات «كليلة ودمنة» حين تنتظر هاتان الثعلبتان الصغيرتان على أكبر الحيوانات وأضخمها وأكثرها بطشا وفتكا، فإن العقل الذي يمثله بيدبا ينصره على السلطان دبشليم الذي يعنو لحكمة الحكيم في آخر الأمر، ويتخذه مرشداً له ودليلا يقوده إلى الحق والخير والجمال، فإن العقل نفسه الذي تمثله شهرزاد ينتهي إلى النتائج نفسها، فتقوم الحكايات بتقليم أظفار شهريار الوحشية، وقص هذه الأظفار تماما في النهاية، ويكتمل سحر الحكايات بتحويل شهريار من صورته الوحشية إلى صورته الإنسانية مستبدلا - أي سحر الحكايات - بسفاح النساء عاشق الجمال البريء، صاعدا منه إلى المحب الحاني الذي يتخذ من شهرزاد زوجا وحبيبة وأماً لأولاده على السواء.
ولكي تؤكد ألف ليلة هذا المعنى، كما تفعل كليلة ودمنة، فإنها تخلق لممثلي العقل معادلين موضوعيين من جنس الحكي، فتضع حضور كليلة ودمنة في موازاة بيدبا، بينما تضع شخصيات الأسد والثور في موازاة دبشليم، ويحدث الأمر نفسه في ألف ليلة وليلة، حين يضع السرد الجارية تودد في موازاة شهرزاد، وتجعل الكثير من قصص الحب تنتهي بالانتصار على العقبات التي ما كان أحد يتوقع الانتصار عليها، بل تعاقب الآثمين الذين يخرجون على قيم الشرائع، كما حدث في حكاية الأخ والأخت اللذين يقعان في المحظور، ويتعلق كلاهما بالآخر، ويبنيان لهما سردابا تحت الأرض، بعيدا عن رقابة الناس ووالدهما الملك، لكنهما ما كادا يهما بارتكاب زنا المحارم حتى تهب عليهما نار تحرقهما معا، فلا تترك منهما سوى عظام متفحمة، وتحيل كل ما في السرداب إلى رماد، يشهد بأن عين الله لا تنام حتى لو نامت أعين البشر. هكذا ينتصر الخير على الشر دائما،في الليالي، والعدل على الظلم، وذلك في عالم تسقط فيه حدود الزمان والمكان، ويتعايش الإنسان مع غيره من الكائنات التي يعرفها ولا يعرفها، فندخل - نحن القراء - إلى فضاءات تجاوز الواقعية السحرية، كي نجد أنفسنا في مواجهة السحر ورقاه التي تخرج الكائن من صورته الإنسية إلى صورة حيوانية، بفعل ساحرة عجوز، أو ساحر شرير. وتحمل الطيور الضخمة، (ومن ينسى الرخ في ألف ليلة وليلة) الإنسان من مكان إلى مكان آخر بالغ البعد، أو من قمم الجبال إلى الأرض. ويتنكر الشيطان في هيئات كثيرة، منها هيئة الشيخ العجوز الذي خدع سندباد في إحدى رحلاته، وحمله السندباد على كتفيه فأطبق قدميه على رقبة السندباد، ولم يتركه إلا بعد أن احتال عليه السندباد بالشراب من أعناب مسكرة، حتى إذا تعتعه السكر ألقاه السندباد، ضاربا رأسه - أي الشيطان - بحجر، كي ينقذ غيره من شره، وكما نرى تعدد صور الشيطان وتحولات العفاريت، ما بين الخير والشر، نرى حوريات البحر، والبنات اللائي يرتدين الأجنحة، إذا خنّ من ائتمنهن على السر، فالحفاظ على السر كالوفاء على العهد من القيم التي تضرب لها الليالي المثل بعد المثل. ودائما، يتكرر الرقم الثلاثي والسباعي، ابتداء من تعدد السكك أمام المرتحل سكة السلامة، وسكة الندامة. وسكة اللي يروح ما يرجعش. ويبقى الغدر كأنه طبيعة إنسانية مثل بقاء السحر والساحرات. وينطوي الأبطال على رغبة المعرفة التي لا تهدأ، وأوضح ما يكون ذلك في رحلات السندباد، فالسندباد كالإعصار إن يهدأ يمت، وكل رحلة للسندباد اكتشاف لأفق جديد، ولا بد من دفع ثمن رغبة الاكتشاف التي تدني بالسندباد، دائما، من حافة الهلاك، ولكن عناية الله تنجيه، فيما يشبه المكافأة على تأجج رغبة المعرفة في الإنسان، ابتداء من البحث عن التركيب الكيميائي الذي يحيل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، وانتهاء بالأسفار التي تجوب الأرض والبحر لتعرف كل ما تزخر به المعمورة الفاضلة من نفائس المعادن والمعارف والحكايات التي تكتب بالإبر على آماق البصر.
السحر يتواصل
ولا أنسى الحضور اللانهائي لصور المرأة الذي كان يسحر عيني الصبي الذي كنته ملتهما الأسطر والصفحات، كأنني واقع في أسر سحر من ذلك الذي وقع على شهريار وعلى دبشليم فتحولا إلى كائنات أغنى وأكمل، وأكثر رغبة في معرفة المزيد من القص، والتحليق أكثر وأكثر في عوالمه التي لم تنته إلا بالنضج، لكن بما يجعل أثر السحر باقيا لا يبلى مع الأيام. وأحسب أن «ألف ليلة» لم تكن غوايتي الأولى فحسب، بل الجسر الذي انتهى إلى اكتشاف الرواية، والمضي في اكتشافها إلى أن أدركت أننا نعيش «زمن الرواية». وهو عنوان الكتاب الذي أثار، ولايزال يثير، الجدال حوله منذ أن صدر سنة 1999.
* مجلة العربى
مجلدات ألف ليلة وليلة
كل هذه أشياء متأخرة، ارتبطت بمعارف متأخرة، حين جاوزت مرحلة الصبا الباكر، لكن ما لا يمكن أن أنساه، في مرحلة الصبا، هو اقتناء الأجزاء الأربعة من ألف ليلة، ولاأزال أذكر أنني قرأت اسم الشيخ قطة العدوى على صفحة الغلاف بوصفه المراجع اللغوي والمشرف على الطباعة، وبالطبع لم تكن النسخة التي اشتريتها هي الطبعة التي صدرت عن مطبعة بولاق، وإنما إحدى الطبعات المستنسخة منها بفضل مطبعة أحدث، أخذت من إعادة طبع وبيع الطبعات المأخوذة عن طبعة الشيخ قطة القديمة مصدر رزق لها.
المهم أنني حصلت على مجلدات ألف ليلة الأربعة، وأخذت ألتهمها واحداً بعد الآخر، وأحسبني تقمصت شخصية السلطان الجبار الذي سحرته شهرزاد، التي جمعت بين جمال الخلقة ورجاحة العقل، وتطوّعت أن تتزوج السلطان لكي تحمي بنات جنسها من بطشه، خصوصاً بعد أن جنّ جنون السلطان الذي ذهب ليسري عن أخيه الذي خانته زوجته، وعاد من عند أخيه دون إعلان ليفاجأ بالحقيقة الموجعة، وهي أن زوجه التي لم تكن تكف التظاهر بحبه، كانت تخونه بدورها، ومع عبد حبشي زنيم، كان لابد من قطع رأسه والتمثيل بجثته، عقاباً له على الجرم الذي ارتكبه في حق سيده، والجحود الذي بدا أنه فُطر عليه، والذي كان سواد وجهه وقبح خلقته علامة عليه. وأحسب أن ألف ليلة هي النص الأدبي الأول الذي كرّس في وعيي كراهية فطرية، ظلت مستقرة في اللاشعور طويلاً ناحية السود الذين كانت حكايات الليالي تصوّرهم دائماً، بوصفهم كائنات جاحدة، ناكرة للمعروف، مطبوعة على الشر والإثم والخيانة، لا أمان لها، ولا ينال مَن يثق فيها إلا أوخم العواقب، وأظن أن مصدر هذا الازدراء للسود الذي تقرنه ألف ليلة وليلة بالحضور المدان، سلفاً، للسود المتناثرين على صفحاتها، كان نوعاً من التجاوب مع الكتب التراثية التي ظلت تزرع وتروي وترعى بذور التمييز العرقي في الثقافة العربية القديمة التي انتسبت إليها ألف ليلة، أعني الثقافة العربية التي شاركت غيرها من الثقافات في التمييز نفسه ضد السود، ولنتذكر ما كنا قد أخذنا نعرفه من وقت بعيد عن عنترة بن زبيبة الحبشية الذي كان ينتسب إلى أمه تحقيراً له، وزراية به، على طريقة العرب التي تنسب الأدنى منها إلى أمهاتهم على سبيل التهوين من شأنهم، فمن لا يجوز نسبته إلى أبيه، فالنسبة إلى أمة علامة على هوان مكانته الاجتماعية ووضاعة أصله على السواء، يشبه عنترة في ذلك السُّليك بين السلكة، وقيس بن الحدادية من صعاليك العرب في الجاهلية.
ظهور شهرزاد
ولذلك لم يستغرب الصبي الذي كان، في داخلي خيانة العبد الزنيم الذي اعتدى على شرف سيده، ومولاه، شهريار، ولم نأبه كثيراً بقتل شهريار لزوجه الخائنة، بقدر ما انتبهنا لقراره الزواج كل يوم بامرأة جديدة، يتمتع بها طوال الليل، ويقتلها في الصباح، كي لا تتكرر جريمة الخيانة التي ظلت جرحاً دامياً لا يتوقف عن الإيلام والنزف. وعندما ضجت المدينة من كثرة قتل الملك للأبكار من فتياتها، ولم يكن هناك مَن يستطيع أن يوقف شهريار عن الاستمرار في انتقامه الرهيب، تقدمت شهرزاد، ابنة الوزير الحكيم التي ورثت حكمته، وجمعت بفضل حسن رعايته بين علوم الأوائل والأواخر، والعرب والعجم، قرأت ودرت كما تصفها الليالي، وأعلنت لوالدها أنها قررت أن تتزوج الملك لكي توقف استمرار النزعة الوحشية التي سيطرت عليه، وأن تعيده إلى صورته الإنسانية بفضل السحر الذي تمتلكه، وهو سر الحكايات العجيب الذي يوقظ الإنسان من أعماق الوحش، ويحرر الملك المتسامح من وحشية الملك المنتقم الجبار، ولا تفلح مقاومة الأب، فيخضع في النهاية لابنته التي طلبت أن تصحبها أختها دنيازاد لتؤدي دور البطل المساعد، ويتم الزواج، وتستهل شهرزاد حكاياتها التي تحثها على أدائها أختها دنيازاد، ويبدأ سحر الحكي مفعوله في السلطان الباطش، وتتوقف شهرزاد مع علامات الصباح عند نقطة حاسمة في الحكي، وتترك الملك نهب الفضول المتأجج في معرفة ما انتهى إليه الحكي؟ وتمهله شهرزاد إلى يوم آخر، فيتركها الملك تنام آمنة، وينام هو، أيضاً، ناسياً ما قطعه على نفسه من عهد بأنه لابد أن يقطع رأس امرأة (فتاة) جديدة، بعد نيل وطره منها كل يوم، وتتكرر حيلة شهرزاد، ويؤجل شهريار قراره كل يوم، إلى أن تمضي الليالي، وتعقب الليلة الأولى عشرات، بل مئات الليالي إلى أن نصل إلى الليلة الأولى بعد الألف، فيكون الملك قد برئ مما فيه، وفارقته رغبته الوحشية في الانتقام تدريجياً، إلى أن يستعيد أجمل الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الملك الصالح من حكمة وتسامح وغفران ونسيان لذكريات الشر التي يستبدل بها ذكريات الخير، وتكون شهرزاد في منجاة تامة من بطش الملك الذي استعاد إنسانيته ورحمته، بفضل القص الذي أصبح يرادف الحياة التي تنتزع حضورها من الموت وفي الوقت نفسه يتأكد دور القص، من حيث هو إشارة إلى غيره من أنواع الفن، بوصفه السحر البشري الذي يحيل العدم إلى وجود، والنزعة الحيوانية إلى نزعة إنسانية ترتقي بالكائن إلى ذرى التسامي النبيل والإيثار الكريم. وليس القص - من هذا المنظور - سوى القدرة على تحرير الوجود، والارتقاء به من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، وتحرير الوعي من العوامل التي تعكّر عليه صفو الرؤية، كي يرى أوسع مما اعتادت حدقتاه على الرؤية، فيرى الجمال في النظام، ويفرض النظام على الفوضى. أما شهرزاد التي تحولت إلى رمز للمبدعة فقد نالت مكافأتها، فحررت بنات جنسها. ونقلت حياة الملك من جدب العقم، كي تشارك في غنى الخصب، فتحمل من الملك ما يضمن له استمرار ملكه، وتواصل قيمه الجديدة، ويقر الملك بفضل شهرزاد، فيمنحها الحق المقدس في الحياة ويبقيها إلى جانبه، حرصا على حضور الحكمة المقترنة بالعدل، والمعرفة النافية للشر المرتبط بالجهل، والنزعة الإنسانية النافية للنزعة الحيوانية.
المرأة والتعصّب
وبالطبع لم أنتبه إلى كل هذه الدلالات وأنا قابع في ركن صغير من البيت، ألتهم ألف ليلة بعيني مراهق يثيره مشهد الأجساد العارية، ويستثيره تتابع الأحداث كأنه يشاهد أفلام مغامرات لا تنتهي، ولا يريدها المشاهد أن تنتهي. ومن يدري؟! لعلي كنت أستجيب لا شعوريا، إلى الميراث الثقافي الذي انطويت عليه، والذي كان معاديا للمرأة إلى أبعد حد، ولاأزال أذكر من مرويات هذا التراث ما يقول: النساء شر كلهن، لا تثق بامرأة، ذلّ من أسند أمره إلى امرأة، من علامات اقتراب الساعة طاعة النساء، لا تطلعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال، كرامة النساء دفنهن. وهل يمكن أن أنسى الأبيات التحذيرية التي تستهل بها ألف ليلة حكاياتها بقولها:
لا تأمنن إلى النساء = ولا تثق بعهودهن
يبدين ودا كاذبا = والغدر حشو ثيابهن
بحديث يوسف فاعتبر = متحذراً من كيدهن
أو ما ترى إبليس أخـ = ـرج آدما من أجلهن
وأغلب الظن أن هذا الميراث القائم على التمييز ضد المرأة لايزال يمارس تأثيره في الأجيال المتلاحقة، خصوصا تلك الأجيال التي لم تنل قدراً كافيا من التعليم القائم على المساواة بين الرجل والمرأة، أو - على الأقل - تحرير المرأة من هذه النظرة المزدرية لها، ويبدو أن مثل هذا الموروث انسرب إلى «الليالي». وظهر، مثلا، في حكاية المرأة التي خطفها جني،ظن أنه يستطيع ترويضها لرغباته، والهيمنة المطلقة عليها، لكن المرأة التي خطفها استطاعت بما فطر عليه جنسها من دهاء ومكر أن تتغلب عليه، وأن تخونه كلما نام وغفل عنها، ويظهر ذلك عندما تلتقي بعابريّ سبيل، إن لم تخني الذاكرة، فتغويهما كي يأثما معها، وبعد أن يفعلا ما أرادت تأخذ خاتميهما، وتضعهما في خيط، يضم عشرات الخواتم التي تدل على عدد المرات التي استغفلت فيها الجني الذي رأى نفسه قادرا على حجزها لنفسه دون شريك، إن المرأة الأولى هي التي أخرجت آدم من الجنة، وإن امرأة العزيز هي التي دبرت ليوسف الذي لم يستجب لغوايتها أمر المكيدة التي ألقت به في السجن. ولكي تؤكد الليالي هذه الترابطات الدلالية التي تسجن المرأة في دائرتها، في مدى الخيانة والغدر، فإنها تضيف حكايات كثيرة لخيانة المرأة التي يتسم جنسها كله بصفات السلب. ويبدو أنني بقدر استجابتي لهذه الصورة السلبية للمرأة في ألف ليلة، دون أن أنتبه إلى أن جنس المرأة هذا يشمل أمي وأختي وقريباتي اللائي لم أر فيهن هذه الصفات السلبية، مضيت على ما أكدته النظرة السلبية إلى المرأة في ظاهر نص ألف ليلة، فقد كنت أصغر من أن أضع أفكاري موضع المساءلة، أو أزن الموروث الذي يؤكده ظاهر الليالي بميزان العقل، إلى أن تعاقبت السنوات، وتركت سنوات المراهقة، إلى سنوات المعرفة الناضجة، والقراءات الواسعة، فأخذت أنتبه إلى أن «ألف ليلة» - ككل نص يشبهها - له ظاهر وباطن، وأن ألف ليلة، من هذا المنظور، تشبه «كليلة ودمنة».
شهرزاد وبيدبا
أعني أن شهرزاد هي الصورة الأنثوية للحكيم بيدبا، كلاهما قرأ ودرى، وجمع بين علوم العرب والعجم، وأتقن معارف الأوائل والأواخر. وكلاهما يواجه بسحر القص سلطانا باطشا، ينتهي الأمر بكليهما إلى ترويضه بما يؤكد انتصار العقل على عنف القوة الجسدية، وكما يحدث في حكايات «كليلة ودمنة» حين تنتظر هاتان الثعلبتان الصغيرتان على أكبر الحيوانات وأضخمها وأكثرها بطشا وفتكا، فإن العقل الذي يمثله بيدبا ينصره على السلطان دبشليم الذي يعنو لحكمة الحكيم في آخر الأمر، ويتخذه مرشداً له ودليلا يقوده إلى الحق والخير والجمال، فإن العقل نفسه الذي تمثله شهرزاد ينتهي إلى النتائج نفسها، فتقوم الحكايات بتقليم أظفار شهريار الوحشية، وقص هذه الأظفار تماما في النهاية، ويكتمل سحر الحكايات بتحويل شهريار من صورته الوحشية إلى صورته الإنسانية مستبدلا - أي سحر الحكايات - بسفاح النساء عاشق الجمال البريء، صاعدا منه إلى المحب الحاني الذي يتخذ من شهرزاد زوجا وحبيبة وأماً لأولاده على السواء.
ولكي تؤكد ألف ليلة هذا المعنى، كما تفعل كليلة ودمنة، فإنها تخلق لممثلي العقل معادلين موضوعيين من جنس الحكي، فتضع حضور كليلة ودمنة في موازاة بيدبا، بينما تضع شخصيات الأسد والثور في موازاة دبشليم، ويحدث الأمر نفسه في ألف ليلة وليلة، حين يضع السرد الجارية تودد في موازاة شهرزاد، وتجعل الكثير من قصص الحب تنتهي بالانتصار على العقبات التي ما كان أحد يتوقع الانتصار عليها، بل تعاقب الآثمين الذين يخرجون على قيم الشرائع، كما حدث في حكاية الأخ والأخت اللذين يقعان في المحظور، ويتعلق كلاهما بالآخر، ويبنيان لهما سردابا تحت الأرض، بعيدا عن رقابة الناس ووالدهما الملك، لكنهما ما كادا يهما بارتكاب زنا المحارم حتى تهب عليهما نار تحرقهما معا، فلا تترك منهما سوى عظام متفحمة، وتحيل كل ما في السرداب إلى رماد، يشهد بأن عين الله لا تنام حتى لو نامت أعين البشر. هكذا ينتصر الخير على الشر دائما،في الليالي، والعدل على الظلم، وذلك في عالم تسقط فيه حدود الزمان والمكان، ويتعايش الإنسان مع غيره من الكائنات التي يعرفها ولا يعرفها، فندخل - نحن القراء - إلى فضاءات تجاوز الواقعية السحرية، كي نجد أنفسنا في مواجهة السحر ورقاه التي تخرج الكائن من صورته الإنسية إلى صورة حيوانية، بفعل ساحرة عجوز، أو ساحر شرير. وتحمل الطيور الضخمة، (ومن ينسى الرخ في ألف ليلة وليلة) الإنسان من مكان إلى مكان آخر بالغ البعد، أو من قمم الجبال إلى الأرض. ويتنكر الشيطان في هيئات كثيرة، منها هيئة الشيخ العجوز الذي خدع سندباد في إحدى رحلاته، وحمله السندباد على كتفيه فأطبق قدميه على رقبة السندباد، ولم يتركه إلا بعد أن احتال عليه السندباد بالشراب من أعناب مسكرة، حتى إذا تعتعه السكر ألقاه السندباد، ضاربا رأسه - أي الشيطان - بحجر، كي ينقذ غيره من شره، وكما نرى تعدد صور الشيطان وتحولات العفاريت، ما بين الخير والشر، نرى حوريات البحر، والبنات اللائي يرتدين الأجنحة، إذا خنّ من ائتمنهن على السر، فالحفاظ على السر كالوفاء على العهد من القيم التي تضرب لها الليالي المثل بعد المثل. ودائما، يتكرر الرقم الثلاثي والسباعي، ابتداء من تعدد السكك أمام المرتحل سكة السلامة، وسكة الندامة. وسكة اللي يروح ما يرجعش. ويبقى الغدر كأنه طبيعة إنسانية مثل بقاء السحر والساحرات. وينطوي الأبطال على رغبة المعرفة التي لا تهدأ، وأوضح ما يكون ذلك في رحلات السندباد، فالسندباد كالإعصار إن يهدأ يمت، وكل رحلة للسندباد اكتشاف لأفق جديد، ولا بد من دفع ثمن رغبة الاكتشاف التي تدني بالسندباد، دائما، من حافة الهلاك، ولكن عناية الله تنجيه، فيما يشبه المكافأة على تأجج رغبة المعرفة في الإنسان، ابتداء من البحث عن التركيب الكيميائي الذي يحيل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، وانتهاء بالأسفار التي تجوب الأرض والبحر لتعرف كل ما تزخر به المعمورة الفاضلة من نفائس المعادن والمعارف والحكايات التي تكتب بالإبر على آماق البصر.
السحر يتواصل
ولا أنسى الحضور اللانهائي لصور المرأة الذي كان يسحر عيني الصبي الذي كنته ملتهما الأسطر والصفحات، كأنني واقع في أسر سحر من ذلك الذي وقع على شهريار وعلى دبشليم فتحولا إلى كائنات أغنى وأكمل، وأكثر رغبة في معرفة المزيد من القص، والتحليق أكثر وأكثر في عوالمه التي لم تنته إلا بالنضج، لكن بما يجعل أثر السحر باقيا لا يبلى مع الأيام. وأحسب أن «ألف ليلة» لم تكن غوايتي الأولى فحسب، بل الجسر الذي انتهى إلى اكتشاف الرواية، والمضي في اكتشافها إلى أن أدركت أننا نعيش «زمن الرواية». وهو عنوان الكتاب الذي أثار، ولايزال يثير، الجدال حوله منذ أن صدر سنة 1999.
* مجلة العربى