جلبير غرانغيـوم - قمر الزمان، أو عشق المثيـل.. ت: محمد أسليــم

أما الترجمة العربية، فصدرت في الملحق الثقافي لجريدة العلم، العدد 797، السبت 31 اكتوبر 1992، ثم في مجلة كتابات معاصرة، العدد 16، المجلد 4 (نونبر – دجنبر 1992)، صص. 70-73.

يعتبر زواج الأقارب نمطَ الزواج المفضل الذي حظي بقيمة في الثقافة العربية. فالزواج المثالي في هذا السياق ذي النسب الخطي الأبوي هو القران الذي يجمع بين ولدي أخوين: ابن أحدهما يتزوج بنت الآخر.

حتى وإن كان هذا الزواج لا يمَارَس بكثرة (وهو في تناقص متواصل بدون شك)، فهو يمثل نمط الزواج الذي فضلته الثقافة منذ قرون. وإذا كان البحث الأنثروبولوجي لم ينجح إلى اليوم في العثور على تفسير له في إطار نظرية القرابة[1]، فإنه من السهل استخلاص أساسه الاستيهامي من الحكايات: عالم قد تكون الآخَرية مقصاة منه تحت الشكل المزدوج الذي تأخذه، وهو اختلاف الجنسين واختلاف الأجيال. استيهام يُرمز إليه بالوحدة الوثيقة بين الأب والبنت والأم والابن. وسنعرض هنا مثالا على ذلك انطلاقا من حكاية من ألف ليلة وليلة. وكما يحدث كثيرا في نقل الحكايات، فإن ما هو أساسي في رسالتها يضيع في الترجمة. ولذلك سنعرض الحكاية هنا انطلاقا من روايات عربية بينها إجماع كاف[2].

حكاية قمـر الزمـان في ألف ليلة وليلة

المرحلة الأولى: لقاء العشيقين الشبيهين

للملك شاه زمان ولد يحبه محبة شديدة، ولأنه يخشى عليه فهو يريد أن يسلطنه في مملكته، غير أن وزيره ينصحه بأن يزوجه أولا، لكن قمر الزمان الذي كان إلى ذلك الحين ابنا طيعا سرعان ما أظهر إصرارا في معارضته لهذا المشروع. وكسبب لهذا الرفض ادعى قمر الزمان أن النساء كلهن مكر وفتنة وأنه لا يمكن وضع الثقة فيهن. لم يفض هذا الخلاف إلى أي نتيجة، وفي الأخير ضجر الأب من الإهانات التي ألحقها به الابن فحكم عليه بالحبس في أحد الأبراج إلى أن يعدل عن رأيه. وهناك، تكتشفه جنية[3] تندهش لجماله، فتتحدث عنه لجني أكد هو الآخر أنه رأى مخلوقة أجمل. يتعلق الأمر ببدور بنت الغيور ملك الصين. وبدور هذه هي الأخرى رفضت الزواج، ودخلت في صراع مع أبيها، فانتهى به الأمر إلى سجنها. ولكي يحسم الجنيان خلافهما (حول أي الاثنين أجمل من الآخر، قمر الزمان أم بدور؟)، فإنهما قاما بحمل بدور وهي نائمة، ثم وضعاها بجانب قمر الزمان وهو نائم. والنتيجة مفاجأة كبرى: فبين الاثنين شبه تام باستثناء اختلافهما من حيث الجنس. وأثناء المقارنة بينهما، ظهر اختلاف آخر: بدت المرأة أكثر عاطفة من الرجل، ولهذا السبب ستُعتَبَرُ دونه. بعد استيقاظ الاثنين، وله كل واحد منهما بالآخر، تبادلا خاتميهما، وبذلك سيعرف كلاهما، بعد استيقاظه وحيدا داخل سجنه، أن الأمر لم يتعلق بحلم. سيظن كلاهما أن الأمر تعلق بتثميلية أخرجها أبوه. غرق كلاهما في مرض عميق بسبب استحالة وصال محبوبه. وأخو الملكة من الرضاعة مرزوان هو الذي سيفلح في العثور على الأمير، وإقناعه باللحاق ببدور. وبما أن قمر الزمان قد شافى بدورا، فإنه سيتمكن من الزواج بها.

المرحلة الثانية: الفراق واللقـاء

بعد انصرام وقت داخل هذه السعادة، رأى قمر الزمان أباه في حلم ولم يكن فارقه إلا بحيلة أوهمه عبرها بأنه لقي حتفه. أخذته آنذاك رغبة عارمة في الذهاب لرؤيته، فشد رحال السفر رفقة بدور. في المرحلة الأولى وجد قمر الزمان فصا في تكة لباس زوجته وهي نائمة، لكنه سرعان ما اختطفه منه طائر. لاحق قمر الزمان الطائر عدة أيام لاسترجاع الفص، فلم يفطن إلا وقد ابتعد كثيرا عن نقطة انطلاقه، وبالتالي استحال عليه الالتحاق بزوجته. وصل إلى مدينة، فآواه رجل مسلم في انتظار وصول المركب الذي سيقوده إلى بلاده. أما الأميرة بدور، فعند استيقاظها انتبهت إلى اختفاء زوجها، وحتى لا يطمع فيها رجال الحاشية فإنها عمدت إلى الحيلة، فلبست ملابس قمر الزمان، وتنكرت في هيأته. بعد مدة، وصلت إلى جزيرة الأبنوس، فاستقبلها الملك أرمانوس بصفتها أميرا. لم يكن لهذا الملك سوى بنت واحدة، ولذلك سرعان ما عرض على بدور الزواج بها. قبلت بدور ذلك رهبة، فتزوجت بحياة النفوس واعتلت عرش الجزيرة خلفا لصهرها. وبعد كشفها لحياة النفوس عن هويتها الحقيقية، أصبحت هذه الأخيرة متواطئة معها بكل معاني الكلمة. بعدما اجتاز قمر الزمان عدة مراحل، استعاد الفص ووصل إلى مدينة الأبنوس. لم يتعرف على بدور، لكنها عرفته، فدبرت مشاهد انتقالية أفضت إلى الغواية الجنسية-المثلية. وبعد إخبار الملك أرمانوس بالحقيقة، تزوج قمر الزمان حياة النفوس وصار ملكا على الجزيرة، وزرق من كلتي الأميرتين ولدا. هنا تنتهي الحكاية في الروايات العربية ذات المرحلتين.

المرحلة الثالثة: الأمهات وحب زنا المحارم

يبدو الملك قمر الزمان راض تماما عن ابنيه الأمجد (ولد بدور) وسعد (ولد حياة النفوس)، فيجلسهما في مجلس الحكم بالتعاقب. لنسجل أنهما أخوان متلازمان ولا يفترقان عن بعضيهما ولو لساعة واحدة من الساعات. لكن الملكتين تعشقان ربيبيهما، فتنتهز كلتاهما فرصة غياب الملك في الصيد، لبضعة أيام، ثم تعلن حبها لربيبها بواسطة رسالة. أبدى كلا الابنين موقفا غاضبا حانقا: كلاهما قتل الرسول ووضع الرسالة في جيبه، ثم حدث أمه بما جرى. إلا أن الأمَّين ستتواطآن على ابنيهما؛ بمجرد عودة الملك افترتا عليه قائلتين إنهما هما اللذان راوداهما. ودون أن يتحقق الملك من الأمر، قضى في سورة غضب بقتل الابنين، فاقترح عليه صهره أرمانوس إن يكلف أحد المماليك بقتلهما في الغابة، إلا أن هذا الأخير خلصهما وجاء لأبيهما بملابسهما ملطخة بالدماء زاعما أنه قد أعدمهما. ابتهج الملك لرؤية الثياب. لكنه، بعد ذلك، اكتشف في الجيبين الرسالتين اللتين تشهدان على أن الابنين قد قتلا ظلما وأن الزوجتين ماكرتان. ندم الملك كثيرا فقرر هجرهما نهائيا في الفراش. أما الأخوان، فبدآ رحلة تيه طويلة قادتهما إلى مدينة سحرة يعبدون النار. ألقي القبض على الأسعد، وبعد نجاته من الموت، إثر عزم السحرة على تقديمه قربانا للنار، انتهى به المطاف إلى الملكة مرجان التي ستتخذه زوجا لها. أما الأمجد، فسيعرف في المدينة نفسها مغامرات تسببت له فيها امرأة أخرى غاوية، ثم صار وزيرا للملك، وبذلك تأتى له أن يخلص أخاه. سافر الأخوان، إذن، بحثا عن أبيها قمر الزمان.

حل العقدة النهائـي

في الأفق، لاحت أربعة جيوش على التوالي، ووصلت إلى مدينة السحرة، حيث يوجد الأخوان. وصل أولا جيش الملكة مرجانة باحثا عن الأسعد، ثم تلاه جيش الملك الغيور الذي جاء ليبحث عن ابنته بدور. بعد ذلك حل جيش قمر الزمان الذي أتى باحثا عن ابنيه بعدما اعترف له مملوكه بأنه لم يقتلهما. وأخيرا وصل جيش رابع بقيادة الملك شاه زمان الذي يبحث عن ابنه قمر الزمان. وبذلك التقى الجميع في جو من البهجة والسرور. وبعد انصرام شهرين، حان وقت الفراق. وهذه هي النهاية كما ترويها إحدى الروايات العربية (م. 687-688):

«فلما أمر الملك الغيور أن يرجع بابنته بدور وابنها الأمجد إلى مدينتهم - وهي مدينة البحور والسفينة والسبعة قصور - وأن يسلطن ولد ابنته في المدينة، فقبل الملك الغيور ذلك وقال أنا شيخ كبير وولد ابنتي الأمجد أحق بالملك مني. ثم لبس الأمجد خلعة الملك وودع أباه قمر الزمان. ثم ودع أخاه وجده وأباه وساير الناس. ثم سافر هو وجده وأمه بدور وعسكرهم إلى أن وصلوا إلى الجزاير والبحور والسبعة قصور ودخل الأمجد وجلس سلطان عن جده وأقام ملكا بها. بعد انصراف الملك الغيور والأمجد وأمه بدور أمر قمر الزمان الأسعد أن يلبس خلعة الملك سلطانا في مدينة أرمانوس، فقال أرمانوس أنا راض به لأنني شيخ كبير وولد الأسعد أحق بالملك مني. فجلس سلطان، وأوصاه بجده وأمه حياة النفوس. وبعد ذلك تجهز الملك قمر الزمان مع والده الملك شاه زمان، وقال أنا لم أعد أريد زوجات ولا أولادا غير مشاهدة أبي. وودع ولده الأسعد وزوجته حياة النفوس وسار وهو ووالده إلى أو وصلوا إلى جزاير خالدان».

هكذا رجع قمر الزمان إلى وضعه الأول وحيدا مع أبيه، فيما رحلت زوجتاه. كلتاهما عادت مع أبيها مرفوقة بابنها. هذا الحفيد الذي سيضمن استمرارية الجد.

عشق المثيـل

تبدو الحكاية السابقة بمثابة تأمل طويل في مسألة المثيل (le même) والغير (l’autre). والمشكل المطروح، في هذه المسألة، حيث يتجلى في جذريته، مطروح في الاختلاف بين الجنسين واختلاف الأجيال. في الظاهر، تلعب الحكاية على هذا الاختلاف. إذن فماذا عن هذين الاختلافين اللذين يشكلان بنية القانون المؤسس، قانون منع غشيان المحارم؟ تبلغ كل هذه التغيرات أوجها في جدول نهائي يبين فيه نوعان من النسب:

أحدهما يضع الأب والابن داخل وجه لوجه أبدي مُقص للأنثوي، والآخر يفك التحالف. هذا العنصر المتنافر، داخل نسب قائم على غشيان محارم استيهامي.

أ – التمييز بين الجنسين:

يرتسم مجموع فكر الحكاية جانبيا حول شخصيتيها الأساسيتين، قمر الزمان وبدور. كلاهما الابن والبنت الوحيد(ة) للملك. وهما معا يوجدان في حالة أولية هي حالة رفض الزواج. لا شيء سيمكنهما من تخطي هذا الرفض سوى تشابههما المدهش.

الجن هم الذين سيرتبون للقاء العجيب بين هاتين الشخصيتين المتشابهتين كليا. وهذا التشابه يعتبر أحد السمات الأساسية في الحكاية. فهما «في قالب الحسن سواء» (هـ. 2، ص. 111)، وهما في الواقع من الشبه الكامل (بحيث استطاعت بدور، في تتمة الحكاية، أن تأخذ مكانة زوجها بمنتهى السهولة). الاختلاف الوحيد الموجود بينهما هو الجنس.

الجنسية المثلية: هل بالإمكان «تجاوز» الجنس نفسه؟ هل يوحي الشبه هنا بالجنسية المثلية؟[4]. مما لا شك فيه أن الجنسية المثلية حاضرة بقوة في الحكاية، خاصة فيما يتعلق بالروابط الـ «زوجية» بين بدور وحياة النفوس. لكن يبدو أيضا أن هذه المثلية تسند كل علاقة: بين الأب والابن، بين الأخوين، ثم بين قمر الزمان وبدور بوجه خاص. وهي تتضح في حكاية لقاء الزوجين العجيبة، في نهاية المرحلة الثانية، عندما تدبر دور دسيسة فتفرض على قمر الزمان – الذي لم يتعرف عليها وهي ترتدي لباس رجل – علاقات جنسية مثلية. لقد حذف كل من غالاند ولان هذا المشهد، وغيَّبّته طبعة محسن مهدي، فيما يعرضه مردروس بإسهاب (1، صص. 599-603). وتثبته طبعة بولاق العربية. ألا يرتبط هذا التردد الذي نحس بوجوده حول هذا المشهد بتفسير العلاقة بين قمر الزمان وبدور؟ إن تأكيد الجنسية المثلية هنا عنيف لا سيما وأنه منقول بخطاب امرأة.

ب – نمطان من الأبوة، سلسلتان من النسب:

يعرض حل العقدة النهائي - كما أشرنا إليه أعلاه - نفسه على شكل نموذج نسابة مزدوج. فمن جهة، هناك أب مع ابنه، ومن جهة أخرى، وعلى شكل استنساخ للسابق، يوجد أب وابنته وابن هذه. وما يفاجئ في هذه النهاية هو إقصاء الغيرية (altérité)، إقصاء المرأة باعتبارها آخر، إقصاء امرأة التحالف.

في النموذج الأول، بما أن الأب وابنته قد نبذا كل امرأة، فإنهما يعودان إلى جزر الخالدان (أي الأبدية). تقصى المرأة، والعاطفة، والحركة. إنه استيهام تحقيق «نسب دون المرور عبر النساء» - الذي لاحظته نيكول لورو[5] وفصلته مونيك شنايدر[6] - كنوع من النسابة يشيد على نموذج «السيد - التابع». ليس الابن سوى استنساخ ثان للأب. إنه سند تمثاله كما في أشجار الأنساب العربية التي لا تظهر فيها أي امرأة، حيث يحكم على الأسلاف بتعظيم الجد الذي يمنحهم بدوره قيمة.

في النموذج الثاني، تم إقصاء الغيرية مع رجل التحالف، أي زوج البنت. ففي الاستيهام، أبو ولد هذه الأخيرة هو أبو أمه (أبو الابن هو جده من أمه). وهذه السلطة القائمة على غشيان المحارم تتمفصل على الرابط المزدوج القائم بين الأم وابنها، وبين الأب وابنته، تفضل الثقافة الرابط الأول بقوة (لدرجة أنها لا تترك مكانة للزوجة)، وتحرم الثاني رسميا. إلا أن صرامة المحرم مرتبطة بعنف الرغبة التي يجب عليه (= المحرم) أن يقطع عليها الطريق[7].

دون أن نقول الخلاصات ما قد لا تقوله، من المفيد أن نلاحظ - لكي نختم - التماثل القائم بين «رسالة (message)» هذه الحكاية وبين ممارسة زواج الأقارب الذي تمثل فيه المرأة القرابة أكثر مما تمثل الغير، وهو تماثل مركز على رفض الغيرية أو بالأحرى على عشق المثيل.

الهـوامــش

[1] التفسيرات التي مُنحت لهذا الـ «لغز» هي عموما تفسيرات ذات طبيعة سياسية، أي خارجة عن النظرية الأنثروبولوجية القرابة حول هذه المسألة:
Jacques Berque (Entretiens interdisciplinaires du Collège de France, E.P.H.E. ; 1959) et Pierre Bourdieu (Esquisse d’une théorie de la pratique, Droz, 1972).
[2] لقد تتبعنا الحكاية المعروضة هنا في مختلف رواياتها:
· النسخ العربية:
· نص طبعة بولاق (القاهرة). وقد أحلنا عليه حسب طبعة لدار الهدى (رمزنا إليها بالحرف هـ.).
· نص طبعة حسين مهدي (بريل، ليدن، 1984) (حرف م).
· نص المطبعة الكاثوليكية ببيروت، ج3، 1957
· النسخ الفرنسية:
· Les traductuctions Galland (1704-1917), Milles et Une Nuits, Garnier Flammarion, T. II, pp. 144-215.

· Les traductions Mardrus (1899-1904), Milles et Une Nuits, Robert Laffont, Coll. «Boucquins», T. I , pp. 547-605.
· Deux traductions récentes de R. Khawam chez Albin Michel (1967, t. IV, pp. 285-381 et 1987, t. III. Pp. 195-386)
· نسخة أنجليزية:
· استشرنا الترجمة التي قام بها Lane سنة 1840.
[3] «جني» ومؤنثه «جنية» هما شخصيتان معروفتان جيدا في التقليد العربي، ولا يوجد لهما أي معادل دقيق في اللغة الفرنسية.

[4] انظر في هذا المعنى المقال الذي خصصه Christian David لهذه الحكاية:
- «Les belles différences», Nouvelle revue de la psychanalyse, «Bisexualité et différence des sexes», 7, 1973, pp. 231-251.

إلا أن تحليله يرتكز على حكاية ذات مرحلتين.
[5] Nicole Loraux, Les enfants d’Athéna, Maspéro, 1981, p. 13.
[6] Monique Scheider, «Père, ne vois-tu pas… ?», Denoël, 1985.
[7] تطرقت إلى هذه العلاقة المزدوجة في مقالي:

- «Langue maternelle et emergence du père» in P. Fedida et J. Guyota édit., Transferts ? Mémoire

* صدرت هذه الدراسة بلغتها الأصلية في:
- Psychiatrie Française, N° 5.88, oct.-nov. 1988, pp. 109-116.




* aslimnet
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...