محمد ألتونجي - شهرزاد وشهريار بَين الجُذور وَالفروع

لم تظفر أسماء أبطال القصص القديمة بمثل ما حظي به هذان الاسمان. فهما، كما نعلم، بطلا "ألف ليلة وليلة"، التي تضم مئتين وأربعاً وستين حكاية. وقد نبع هذان البطلان من تاريخ الفرس القديم، لكنهما غدوا أسطوريين تنسج عليهما الحكايات، وتنقل من عالم إلى عالم.

فيحكى أن ملكاً من ملوك الفرس الساسانيين مات وخلف على حكمه ولدين. كان الأكبر هو "شهريار"(1)، فحكم غربي البلاد. والأصغر هو "شاه زمان(2) فحكم شرقيها، وكانا ملكين عادلين.. أو هكذا أريد لهما في القصة. وشاءت الظروف أن ينكب الاثنان بمصيبة واحدة هي الخيانة الزوجية، ويحددها مؤلف القصة ببعض عبيد القصر السود. فحين أراد شاه زمان أن يسافر لزيارة أخيه أحس بأن زوجته تخونه، فقتلها مع عشيقها العبد في فراشه. كما خانت زوجة شهريار زوجها في عبد اسمه "مسعود" في حديقة القصر، وعلى ملأ من عيون الجواري والعبيد. غضب الأخوان لما أصابهما، ورحلا هرباً من واقعهما. فصادفا على الشاطئ مارداً يصعد من قاع البحر، يحمل بين يديه صندوقاً فيه جارية، كان قد خطفها ليلة عرسها. وحين نام المارد لمحت الجارية الأخوين، فأمرتهما بمضاجعتها، وإضفاء السرور عليها، وحين رفضا الإقدام هددتهما بإيقاظ المارد، وإخباره أنهما حاولا أن يغتصباها، وياويلهما آنئذٍ.. ثم أخبرتهما أنها خانت المارد مئات المرات، تشفياً لما فعل بها، فقد اختطفها ليلة عرسها، وحرمها من الحياة السعيدة مع زوجها. فهانت المصيبة على الأخوين لقاء مصيبة المارد، الذي هو رمز القوة التي تفوق قوتهما.. فعادا إلى بلادهما.

وتنتهي مهمة "شاه زمان" ليبدو شهريار رجلاً سفاكاً دموياً ـ على عكس ما عرف به من عدل ـ إذ يقرر الزواج كل ليلة من بكر، ثم يقتلها صباح اليوم التالي، تخلصاً من بقائها الذي قد يسبب له الخيانة ثانيةً، وانتقاماً من زوجه الأولى التي لم ترع حرمة قصره. وحين لا يجد وزيره بكراً يقدمها للملك عروساً تبرز شهرزاد(3) إلى ساحة القصة. فتتطوع لإنقاذ أبيها، بأن تكون زوجة لشهريار. وابنه الوزير تكون عادة ذات ثقافة واسعة. فيحكى أنها قرأت عديداً من الكتب التي ملأت بأفكارها عقلها، واتخذتها سلاحاً (علمياً) لإنقاذ نفسها من القتل، وإنقاذ الملك من الضياع والانتقام. وكما أن شاه زمان أعان أخاه شهريار، فان دنيا زاد(4) ستعين أختها الكبرى شهرزاد في مهمتها. فتستأذن الملك شهريار بأن تحكي لأختها دنيا زاد قصة ـ كعادتها ـ قبل نومها، فيسمح لها. في حين أن القصة كانت تلقى على مسامعه. وتستغل شهرزاد ذكاءها الوقاد بأن تنهي الليلة من غير أن تنجز القصة، فتسكت عندئذٍ عن الكلام المباح لأن الشمس أشرقت والديك صاح. ويقرر الملك حينئذٍ ـ في خلية نفسه ـ أن يقتل شهرزاد في الليلة التالية بعد أن تتم حكايتها لأختها، فقد شاقه أن يعرف نهايتها.. وهكذا تستمر ألف ليلة وليلة(5)، أي ثلاث سنوات إلا قليلاً.

وتغدو شخصية شهرزاد عالمية، ويصبح كل ما أحيط بها من حوادث ينبوعاً يفجر الخيال الخصب في الآداب العالمية. فقد جاء في مقدمة الطبعة الفرنسية لألف ليلة وليلة التي نشرت عام 1822 أن "هوميروس وأوسيان وألف ليلة وليلة قد فتنت شعوبنا المتحضرة بطريقة واحدة، بالرغم من اختلاف مضامينها. كما عد "جان باول" هذا الكتاب واحداً من الأعمال المحببة لدى "مونتسكيو" بل "إنه من الأعمال المحببة لدى كل محب للأدب الرومانتيكي. ورأى "بورداخ" أن جزءاً مميزاً من تقاليد الفروسية وثقافتها وأدبها في العصر الوسيط يعود في أصله إلى الصيغة العربية الفارسية للتأثيرات الهلنستية كذلك أشار "س. سينغر" إلى أن قصة "أيسولده وايسهاند" التي وضعها "كريستيان" أخذت عن ألف ليلة وليلة. كما أن "ليوجوردان" أثبت أن ألف ليلة وليلة قدمت النموذج الأصلي لقصة الحب الفرنسية القديمة "أوكاسان ونيكولت" سواء من حيث المحتوى أو من حيث الشكل. وذكر "هلموت دي بور" أن الحكاية "الملك روتر" غنية بنغمات ألف ليلة وليلة(6).

أما غوتيه الألماني فقد برز تأثره بالأدب العربي والأدب الفارسي، ولاسيما في قصة ألف ليلة وليلة، بشكل لا نرى مثيلاً له من العرب أو من الغرب تأثر بمثل تأثره. حتى ألفت كتب عديدة تبين تأثر غوتيه العميق بهذه القصة. من ذلك كتاب "نشوء وتطور ألف ليلة وليلة في أعمال غوتيه" تأليف "كاترينا موسن". (7). يحكى أن أم غوتيه كانت تروي له بعض أقاصيص ألف ليلة وليلة حين كان طفلاً. وحين شب ودرج في الكتابة النثرية والشعرية كانت شهرزاد نصب عينيه. ولقد كتبت "هنرييتة فون كينبل" رسالة إلى أخيها عام 1807 تبين مدى تأثر غوتيه بألف ليلة وليلة، فقالت: "أصبح للمطالعة المفيدة قيمة كبيرة، لأنها تصرفنا قليلاً عن الواقع. وقد سرني جداً اعتراف غوتيه لنا عندما قابلناه حديثاً في إحدى النزهات، بأن قراءة ألف ليلة وليلة أحب شيء إلى قلبه الآن. وهذا ما أفعله بالضبط". بل إن غوتيه أدخل جديداً على القصة، فقد كتب عن الليلة الثانية بعد الألف، إذ تأتي شهرزاد لزيارة الكاتب، طالبة منه إنقاذها بقصة جديدة، لأن الملك لم يعف عنها.

وهذا "آلان بو" الأمريكي يتأثر بالسخرية التي أثارها كتاب فرانسة، فيؤلف قصة قصيرة على طريقته، عن الليلة الثانية بعد الألف، حين يقتل الملك شهريار شهرزاد في تلك الليلة، لأنها استمرت تقص عليه. وقد اشتاق بعد كل هذا الليالي إلى أن ينام مطمئناً بعد أن سئم الاستماع وكل. ويأتي في العصر الحديث الكاتب الفرنسي "دو رونييه" فيؤلف قصة حول شهرزاد بعد ألف ليلة وليلة، فيصور لنا مقتل شهريار، وتفرد شهرزاد بالحكم بعده، وسأمها من القصر والبستان والبذخ الذي تعيش فيه، فتطلب هي بدورها قاصاً يسليها، وعقاب من لا يسليها صلم أذنيه. فيتصدى لها كثيرون دون أن يحظوا برضائها، ويعودون بلا آذان مخذولين. ولكنها تظفر آخر الأمر بفتى جميل يأتيها في قافلة غريبة فتحبه، وتتزوج به.. وتهدأ الثورة.

ويظهر بعد ذلك كتاب يرون ـ في قصصهم ـ أن حبيبها خانها، فأتت إلى شهرزاد فتاة فرنسية، خانها حبيبها ـ هي أيضاً ـ على متن طائرة من باريس إلى بغداد، فتتشاكيان وتتحابان. وهكذا تستعيض كل منهما بالأخرى عمن فقدت. وهكذا غدت شخصية شهرزاد في نظر الأدباء والنقاد رمزاً للعاطفة الصادقة والتضحية التي لا حدود لها، والتفاني في سبيل الآخرين كما بدت رمزاً للتسامح والغفران.. ولم تحاول شهرزاد أن تنتقم لبنات جنسها من المجرم شهريار، فتدس له السم مثلاً في الطعام، وهي الداهية القادرة. أو تغرس في قلبه خنجراً حين يغفو، وهي الشجاعة المقدامة.

بل غفرت له آثامه الجائرة، فراحت بتسامح الأم الحنون تمسح بيدها الناعمة العطوف على جبهته المتعبة، وتداري نفسه المريضة لترده إلى صوابه، فتقص عليه الحكايات المشوقة المسلية. وتظل شهرزاد ثلاث سنوات تحكي الحكايات. تفعل هذا كله، وهي المهددة بالقتل صباح كل يوم، فلا نراها تبالي بنفسها بل تظل مثابرة على خطة اختطتها حتى تروض بقدرتها الخارقة الوحش الكامن في "الرجل" شهريار. فمن الطبيعي أن توج شخصية ملكية فارسية مثل شهريار وشخصية تاريخية في حاشيته مثل شهرزاد. لكن الأسطورة واكبت هاتين الشخصيتين حتى غدا من غير المعقول تصديق وجودها. وقد ربط علماء التاريخ المقارن شخصيتها بشخصية "استر"(8) الواردة في التوراة.

والذين ذكرنا أنهم اقتبسوا من شخصيتي شهرزاد وشهريار من الغربيين، إنما كان ذلك إثر ترجمة القصة. فقد ترجمها إلى الفرنسية "انطوان جالان" (عاش بين 1646 ـ 1715) ولكنه لم يتمها. وعلى الرغم من نقصها فقد كانت نواة للترجمات الأخرى إلى سائر اللغات الأوروبية، قبل أن تترجم عن النص العربي الكامل، وتطبع طبعات آية في الأناقة والفن. واستلهم عدد من أدباء العرب قصتها، فكتب طه حسين قصتيه الرمزيتين "أحلام شهرزاد" و"القصر المسحور" وكتب توفيق الحكيم وعزيز أباظة وعلي أحمد باكثير وغيرهم مسرحيات عن شهرزاد.

نشر توفيق الحكيم مسرحيته عام 1934، ثم أعاد طبعها عام 1944. وكانت بعنوان "شهرزاد". وقد ساير الحكيم قصة شك شهريار بزوجته الخائنة، فكشف جلاده الأمر بقوله: "فقد فاجأ يوماً امرأته الأولى بين ذراعي عبد خسيس. فلم يزد على أن قتلها وقتله، ثم أقسم أن تكون له في كل ليلة عذراء". لكنه خالف القصة في نهايتها، ففصل بين شهرزاد وشهريار، لأنها لم تنجح في إزاحة القلق عن نفسه حين قالت: "أنت إنسان معلق بين الأرض والسماء، ينخر فيك القلق. ولقد حاولت أن أعيدك إلى الأرض، فلم تفلح التجربة". ويفترقان ـ عنده ـ عن بعضهما بعضاً بكل بساطة. لكن الدراما تضطر الكاتب إلى أن يقتل وزيره "قمر" حسماً لسفك الدماء.

وقد ترجمت مسرحية الحكيم إلى الفرنسية عام 1936. ترجمها "جورج ليكونت" عضو الأكاديمية الفرنسية. كما ترجمت إلى لغات غربية أخرى. وتبقى أسطورة "شهرزاد وشهريار" نبعاً ثراً يستلهمه الأدباء والمفكرون على مدى العصور، وتظل شخصية الأنثى "شهرزاد" المعطاء والوجه المشرق في الحياة رمزاً خالداً للمرأة المنشودة أبد الدهر(9).

الحواشي والمراجع:
1 ـ شهريار: معناها صاحب البلد.
2 ـ شاه زمان: ملك الزمان. 3 ـ شهرزاد: ابنة البلد.
4 ـ دنيا زاد: ابنة الدنيا. 5 ـ من مقدمة "ألف ليلة وليلة".
"ألف ليلة وليلة" ـ سهير القلماوي: 72. 6 ـ غوتيه وألف ليلة وليلة ترجمة: أحمد الحمو : من المقدمة.
7 ـ نشرته وزارة التعليم العالي بدمشق عام 1980. 8 ـ مصادر الدراسة الأدبية : 326.
9 ـ ألف ليلة وليلة ـ ألفة الإدلبي: 65. ـ مجلة الفيصل العدد: 30.
ـ الديوان الشرقي الغربي لغوتيه.
ـ شهرزاد لتوفيق الحكيم.

* مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 127 تشرين الثاني 1981


* د. محمد ألتونجي
شهرزاد وشهريار بَين الجُذور وَالفروع
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...