نقوس المهدي
كاتب
تدافع الدكتورة ماجدة حمود: في كتاب صادر حديثا عن الدار العربية للعلوم بعنوان «صورة الآخر في التراث العربي» عن عروبة كتاب الف ليلة وليلة الذي يرى آخرون انه مجرد ترجمة لكتاب «هزار افسان» الفارسي الاصل الذي فقد فيما بعد وبقيت ترجمته العربية!.
ترى الباحثة ان في هذا التشكيك بعروبة «الليالي» ما يشي بأن ابناء الحضارة الاسلامية لم يبدعوا قصص الف ليلة وليلة، مع اننا نجد في المقالة الثامنة (في كتاب الفهرست لابن النديم على لسان محمد ابن اسحق) ان محمد بن عبدوس الجهشياري حاول ان يؤلف كتابا فيه الف سر، فاختار له من اسماء العرب والعجم والروم وغيرهم، لكن وافته المنية ولم ينجز سوى 480 ليلة.
اذن من المرجح ان الاطار العام «لليالي» مأخوذ من «هزار افسان» لكن ابناء الحضارة العربية الاسلامية اشتركوا جميعا في تأليفها، وما يؤكد هذا القول ان الفضاء المكاني الذي تتحرك فيه الشخصيات كان في معظم الاحيان، حواضر عربية كالقاهرة وبغداد ودمشق.
هنا قد يعترض بعضهم قائلين: هل استخدام المهاجر لغة البلد الذي هاجر اليه، يعد انتسابا له؟ اي هل يمكن ان يعد ما كتبه الفارسي بالعربية ادباً عربياً؟.
الاجابة واضحة في الحضارة الاسلامية التي اعتمدت في تشريعاتها القرآن والحديث. في الحديث الشريف ليست العروبة من اب او ام وانما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي، وبذلك تلغى النظرة العرقية الضيقة، واثر ظهور الاسلام باتت العربية لغة الحياة الروحية ولغة الثقافة العالمية والتجارة ايضا، لهذا لن نستغرب شيوع اللغة الدينية على لسان شخصيات الف ليلة وليلة.
إغناء {الليالي}
تخلص الباحثة الى القول ان اغناء الليالي تم على يد عدة كتاب من ابناء الحضارة العربية الاسلامية تتابعوا في مراحل زمنية عدة، ولم يتوقفوا الا في فترة متأخرة من العصر المملوكي، خصوصا ان بناءها الحكائي كان مفتوحا، يستطيع استيعاب الكثير من القصص المتفرعة عن القصة الرئيسية (شهرزاد الرواية البطلة التي تلجأ الى القصص انقاذا لروحها من بطش شهريار) لهذا قد نجد في الليلة الواحدة اكثر من قصة فرعية تتداخل مع القصة الرئيسية من دون ان يؤدي ذلك الى خلخلة البناء.
من هنا يلاحظ اشتراك مؤثرات كثيرة في مد «الليالي» بالقصص، فقد اورد ابن النديم في «الفهرست» عناوين بعض كتب الاسماء الفارسية والهندية واليابانية التي شكلت معينا «لليالي»، وهي كتب تعاني قلق الانتماء: فهي تارة للفرس وتارة اخرى للهند، مثل كتاب «السندباد الحكيم».
على هذا الاساس يمكننا القول ان فكرة كتاب الف ليلة وليلة تنتمي للحضارات السابقة، لكن الروح التي منحته هويته الخاصة هي روح اسلامية، لهذا لا يمكن القبول برأي المشككين الذين استندوا في نفي هذا الانتماء الى بعض الافكار المتسرعة كاحتوائه على بعض الاسماء من الاشخاص او الامكنة، فباتت دليلا في نظرهم على انتماء «الليالي» لثقافة الآخر (الفارسي او الهندي) دون ان ينتبهوا الى السياق الحضاري الذي هو سياق اسلامي تحركت في فضاءاته معظم الشخصيات، لهذا فإن تغريب الاسم ليس بالضرورة تغريبا للدلالة، فمثلا نجد البطلة الرئيسية ذات الاسم الفارسي (شهرزاد) تقول لابيها في الصفحات الاولى قبل ان تبدأ «الليالي»: «يا ابتي زوجني هذا الملك فإما ان اعيش وإما ان اكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهن من بين يديه»، فهي تتبنى مفاهيم اسلامية تدفعها الى فكرة التضحية بنفسها من اجل بنات عقيدتها.
ثقافة منفتحة
من هنا تبدو «الليالي» صورة لامتزاج ابناء الحضارات السابقة (الفارسية، الهندية، اليونانية، الرومانية) بالحضارة الاسلامية التي بدت لنا منفتحة على ثقافة الآخر، فلم ترفض الا ما يخالف، التعاليم الدينية.كيف تم هذا الاحتكاك بالآخر؟ لقد تم عن طريقين: الأول هجرة أجناس مختلفة إلى المراكز الحضارية العربية، والثاني هجرة معاكسة من المركز الأطراف، حيث يعود أبناء هذه الحضارة من الرحالة والتجار إلى بلادهم حاملين القصص الشفهية السائدة في المجتمعات التي سافروا إليها، كيف تضيء أسماؤهم في الليل. كما يجلبون الكتب المدونة كي تترجم إلى العربية.
وهكذا حدث اللقاء بين الأنا العربية الإسلامية والاخر في عالم لم يعرف الحدود، لما أسهم في غنى المخيلة والتجارب الإنسانية بالإضافة الى الغنى المعرفي. ويلاحظ ان معظم أبطال «الليالي» من التجار وأبنائهم الذين امتازوا بولعهم بالسفر، فكان السعي وراء الرزق وجها اخر للمغامرة والمعرفة ومعايشة الاخر المختلف. لهذا نجد السندباد في الليلة 550 بعد ان ملّ المقام في بغداد «يشتاق إلى مصاحبة الأجناس»!
على أن «الليالي» عانت ليس فقط التشكيك في انتمائها للثقافة الإسلامية، بل عانت أيضا نظرة الاحتقار لدى بعض التقليديين. فقد وصفها ابن النديم في «الفهرست» بانها «كتاب غث بارد الحديث»!
اهتمام متأخر
ولم يهتم بها العرب في العصر الحديث إلا بعد ان احتفى بها الغربيون. وقد كتب جبرا ابراهيم جبرا مرة يقول إن من أهم أسباب ذلك ان الكتاب يكاد يكون مكتوباً بلغة عامية الصيغ، ولكن جبرا يرى ان اللغة فيه قد لا تتوهج لفظاً، ولكنها تتوهج لما فيها من شعر ومحتوى. لم يلتفت البعض إلى جمال التركيب، وخطورة الفكر والصور المبثوثة في «الليالي». ومما يثير الدهشة أننا لم نلتفت إلا متأخرين إلى الجوانب النفسية والاجتماعية والجمالية. وإذا كان التقليديون يحتقرونها لكونها ادبا شعبياً، فإن المحدثين يعلون من قيمتها للسبب نفسه، فهي تمثل فوران المخيلة على نطاق الأمة، الذي هو فوران دون حدود، كما تمثل نبض الحياة بكل تفاصيلها اليومية.
«الليالي»، استناداً إلى ما تقوله الباحثة في كتابها وإلى ما يقوله جبرا ابراهيم جبر، ليس إذن كتاب تسلية فقط، بل هو كنز يزخر بمتع جمالية، وبحقائق تمس الوجود الإنساني في أي زمان وأي مكان مثل: الطموح لعالم المثل، والشوق للمغامرة والتجدد، الحلم بمقاومة الظلم والفقر، الرغبة في الانتصار على كل تحديات الحياة من كوارث وحروب والعيش بأمان.. فهي محصلة للإنسان الذي عاش عصراً مضطربا (العصر المملوكي والأيوبي). لهذا تشكل «الليالي» لوحة اسقاطية غنية بتعابيرها التي تعكس مختلف أبعاد العالم النفسي الشعبي الواعي واللاواعي، مما يتيح لنا معايشة حميمة للفضاء الشعبي بعيداً عن اطار السلطة وخطابها الرسمي. إنها باختصار تداعيات اللاوعي بأجلى وأغنى صورة.
لهذا ليس مستغربا ان تجسد «الليالي» الأنا العربية الإسلامية في لحظة قهر بسبب ما تعانيه من كوارث وغزو واستبداد، فتبدو مؤرقة بأمجادها الحضارية تسعى لاستردادها عبر الحلم ما دام الواقع محبطاً. لهذا كان عصر هارون الرشيد ابرز العصور التي شكلت الفضاء الزمني لحكايات ألف ليلة وليلة
ترى الباحثة ان في هذا التشكيك بعروبة «الليالي» ما يشي بأن ابناء الحضارة الاسلامية لم يبدعوا قصص الف ليلة وليلة، مع اننا نجد في المقالة الثامنة (في كتاب الفهرست لابن النديم على لسان محمد ابن اسحق) ان محمد بن عبدوس الجهشياري حاول ان يؤلف كتابا فيه الف سر، فاختار له من اسماء العرب والعجم والروم وغيرهم، لكن وافته المنية ولم ينجز سوى 480 ليلة.
اذن من المرجح ان الاطار العام «لليالي» مأخوذ من «هزار افسان» لكن ابناء الحضارة العربية الاسلامية اشتركوا جميعا في تأليفها، وما يؤكد هذا القول ان الفضاء المكاني الذي تتحرك فيه الشخصيات كان في معظم الاحيان، حواضر عربية كالقاهرة وبغداد ودمشق.
هنا قد يعترض بعضهم قائلين: هل استخدام المهاجر لغة البلد الذي هاجر اليه، يعد انتسابا له؟ اي هل يمكن ان يعد ما كتبه الفارسي بالعربية ادباً عربياً؟.
الاجابة واضحة في الحضارة الاسلامية التي اعتمدت في تشريعاتها القرآن والحديث. في الحديث الشريف ليست العروبة من اب او ام وانما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي، وبذلك تلغى النظرة العرقية الضيقة، واثر ظهور الاسلام باتت العربية لغة الحياة الروحية ولغة الثقافة العالمية والتجارة ايضا، لهذا لن نستغرب شيوع اللغة الدينية على لسان شخصيات الف ليلة وليلة.
إغناء {الليالي}
تخلص الباحثة الى القول ان اغناء الليالي تم على يد عدة كتاب من ابناء الحضارة العربية الاسلامية تتابعوا في مراحل زمنية عدة، ولم يتوقفوا الا في فترة متأخرة من العصر المملوكي، خصوصا ان بناءها الحكائي كان مفتوحا، يستطيع استيعاب الكثير من القصص المتفرعة عن القصة الرئيسية (شهرزاد الرواية البطلة التي تلجأ الى القصص انقاذا لروحها من بطش شهريار) لهذا قد نجد في الليلة الواحدة اكثر من قصة فرعية تتداخل مع القصة الرئيسية من دون ان يؤدي ذلك الى خلخلة البناء.
من هنا يلاحظ اشتراك مؤثرات كثيرة في مد «الليالي» بالقصص، فقد اورد ابن النديم في «الفهرست» عناوين بعض كتب الاسماء الفارسية والهندية واليابانية التي شكلت معينا «لليالي»، وهي كتب تعاني قلق الانتماء: فهي تارة للفرس وتارة اخرى للهند، مثل كتاب «السندباد الحكيم».
على هذا الاساس يمكننا القول ان فكرة كتاب الف ليلة وليلة تنتمي للحضارات السابقة، لكن الروح التي منحته هويته الخاصة هي روح اسلامية، لهذا لا يمكن القبول برأي المشككين الذين استندوا في نفي هذا الانتماء الى بعض الافكار المتسرعة كاحتوائه على بعض الاسماء من الاشخاص او الامكنة، فباتت دليلا في نظرهم على انتماء «الليالي» لثقافة الآخر (الفارسي او الهندي) دون ان ينتبهوا الى السياق الحضاري الذي هو سياق اسلامي تحركت في فضاءاته معظم الشخصيات، لهذا فإن تغريب الاسم ليس بالضرورة تغريبا للدلالة، فمثلا نجد البطلة الرئيسية ذات الاسم الفارسي (شهرزاد) تقول لابيها في الصفحات الاولى قبل ان تبدأ «الليالي»: «يا ابتي زوجني هذا الملك فإما ان اعيش وإما ان اكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهن من بين يديه»، فهي تتبنى مفاهيم اسلامية تدفعها الى فكرة التضحية بنفسها من اجل بنات عقيدتها.
ثقافة منفتحة
من هنا تبدو «الليالي» صورة لامتزاج ابناء الحضارات السابقة (الفارسية، الهندية، اليونانية، الرومانية) بالحضارة الاسلامية التي بدت لنا منفتحة على ثقافة الآخر، فلم ترفض الا ما يخالف، التعاليم الدينية.كيف تم هذا الاحتكاك بالآخر؟ لقد تم عن طريقين: الأول هجرة أجناس مختلفة إلى المراكز الحضارية العربية، والثاني هجرة معاكسة من المركز الأطراف، حيث يعود أبناء هذه الحضارة من الرحالة والتجار إلى بلادهم حاملين القصص الشفهية السائدة في المجتمعات التي سافروا إليها، كيف تضيء أسماؤهم في الليل. كما يجلبون الكتب المدونة كي تترجم إلى العربية.
وهكذا حدث اللقاء بين الأنا العربية الإسلامية والاخر في عالم لم يعرف الحدود، لما أسهم في غنى المخيلة والتجارب الإنسانية بالإضافة الى الغنى المعرفي. ويلاحظ ان معظم أبطال «الليالي» من التجار وأبنائهم الذين امتازوا بولعهم بالسفر، فكان السعي وراء الرزق وجها اخر للمغامرة والمعرفة ومعايشة الاخر المختلف. لهذا نجد السندباد في الليلة 550 بعد ان ملّ المقام في بغداد «يشتاق إلى مصاحبة الأجناس»!
على أن «الليالي» عانت ليس فقط التشكيك في انتمائها للثقافة الإسلامية، بل عانت أيضا نظرة الاحتقار لدى بعض التقليديين. فقد وصفها ابن النديم في «الفهرست» بانها «كتاب غث بارد الحديث»!
اهتمام متأخر
ولم يهتم بها العرب في العصر الحديث إلا بعد ان احتفى بها الغربيون. وقد كتب جبرا ابراهيم جبرا مرة يقول إن من أهم أسباب ذلك ان الكتاب يكاد يكون مكتوباً بلغة عامية الصيغ، ولكن جبرا يرى ان اللغة فيه قد لا تتوهج لفظاً، ولكنها تتوهج لما فيها من شعر ومحتوى. لم يلتفت البعض إلى جمال التركيب، وخطورة الفكر والصور المبثوثة في «الليالي». ومما يثير الدهشة أننا لم نلتفت إلا متأخرين إلى الجوانب النفسية والاجتماعية والجمالية. وإذا كان التقليديون يحتقرونها لكونها ادبا شعبياً، فإن المحدثين يعلون من قيمتها للسبب نفسه، فهي تمثل فوران المخيلة على نطاق الأمة، الذي هو فوران دون حدود، كما تمثل نبض الحياة بكل تفاصيلها اليومية.
«الليالي»، استناداً إلى ما تقوله الباحثة في كتابها وإلى ما يقوله جبرا ابراهيم جبر، ليس إذن كتاب تسلية فقط، بل هو كنز يزخر بمتع جمالية، وبحقائق تمس الوجود الإنساني في أي زمان وأي مكان مثل: الطموح لعالم المثل، والشوق للمغامرة والتجدد، الحلم بمقاومة الظلم والفقر، الرغبة في الانتصار على كل تحديات الحياة من كوارث وحروب والعيش بأمان.. فهي محصلة للإنسان الذي عاش عصراً مضطربا (العصر المملوكي والأيوبي). لهذا تشكل «الليالي» لوحة اسقاطية غنية بتعابيرها التي تعكس مختلف أبعاد العالم النفسي الشعبي الواعي واللاواعي، مما يتيح لنا معايشة حميمة للفضاء الشعبي بعيداً عن اطار السلطة وخطابها الرسمي. إنها باختصار تداعيات اللاوعي بأجلى وأغنى صورة.
لهذا ليس مستغربا ان تجسد «الليالي» الأنا العربية الإسلامية في لحظة قهر بسبب ما تعانيه من كوارث وغزو واستبداد، فتبدو مؤرقة بأمجادها الحضارية تسعى لاستردادها عبر الحلم ما دام الواقع محبطاً. لهذا كان عصر هارون الرشيد ابرز العصور التي شكلت الفضاء الزمني لحكايات ألف ليلة وليلة