جهاد فاضل - هزار أفسان

خلال الأشهر الأخيرة التقيت بعدة مستعربين أوروبيين سألوني عما إذا كان كتاب ألف ليلة وليلة لا يزال كتاباً عربياً مضطهداً، أم أن «سمعته» قد تحسنت عندنا.. وقد سمعتُ من هؤلاء المستعربين إشادة ما بعدها إشادة بهذا الكتاب الخالد الذي بثّ حساسية جديدة في آدابهم كانت عنده الآداب، عندما تُرجم إليها، في أمس الحاجة إليها. فقد وجدت أوروبا في ألف ليلة وليلة، كما ذكر هؤلاء المستعربون منهلاً للحداثة حين غاض في فرنسا، في بداية القرن الثامن عشر معين الأدب بين معركتين من معارك القدماء والمحدثين، فطلع عليها «جالان» GALLAND، اذ ذاك، كأول ترجمة لليالي.. كأن الجمهور الفرنسي، ومعه الأوروبي، قد سئم الاحتجاج باليونان والرومان ومقولاتهم التي اتخذها الكلاسيكيون مثلاً أعلى للإنسانية على اختلاف عهودها، يلغي الزمان والمكان، ويصب الناس في قالب واحد، ويسطح نوازعهم باستضعاف العاطفة أمام الواجب.. لذا أصبحوا يتوقون إلى الفرار، إلى الرحلات البعيدة أو إلى أحضان الطبيعة.. وإذا بالشرق تنفتح أبوابه أمامهم في تلك الترجمة، فيدخلون الدور والحدود والأسواق والقصور، حيث يضطرب الأمراء والأميرات، والوزراء والتجار والصناع والصيادون والفقراء ونساؤهم، تتشابك معاملاتهم وعلاقاتهم، وتدفعهم مغامراتهم البحرية والغرامية والمعاشية، الواقع المعقود إلى الخيال الطليق.

ويبدو أن «جالان» مترجم هذه القصص إلى الفرنسية كان سفيراً لبلاده في تركيا، يجيد اللغات الشرقية، وقد حصل في زيارة لمدينة حلب على مخطوطة عربية لألف ليلة وليلة ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي.. وأثناء ترجمته التي ستستغرق اثني عشر مجلداً، التقى براهب حلبي يُدعى حنا، امده بمخطوطة مختلفة من الليالي، بل وروى له حكايات شفوية فدوّنها عنه. وكان الفرنسيون أسبق الأوروبيين إلى اكتشاف نصوص ألف ليلة وليلة.. وسرعان ما استلهموها في كتاباتهم.. بعد ذلك صدرت عن ترجمة «جالان» ترجمات انكليزية والمانية وإيطالية وهولندية ودانمركية وروسية. ومن الغريب ان باريس طبعت بالفرنسية الف ليلة وليلة منذ عام ,1704. ولم تظهر أول طبعة بالعربية إلا في كلكتا بالهند سنة 1814. وأما في العالم العربي، فستتولى طباعتها سنة 1835 مطبعة بولاق بالقاهرة. وقد ينم هذا الفارق الزمني من احتفاء الغرب بألف ليلة وليلة على حين استهان بها العالم العربي. ولكن تأخر استخدام المطبعة في البلاد العربية يتستر على ذلك الاعتراض بظاهر أعم.

وقد سألني هؤلاء المستعربون عما إذا كان كتاب ألف ليلة وليلة لا يزال كتاباً مغضوباً عليه في المجتمعات العربية. قال لي أحدهم عما إذا كان هذا الكتاب يباع - على سبيل المثال - في مكتبات بيروت وسواها من العواصم العربية.. فلما أجبتُه بالإيجاب، وجدته على علم غزير بما حدث لهذا الكتاب، ولا يزال يحدث له من نكبات عندنا، هنا أو هناك. قال لي انه صدرت لهذا الكتاب طبعة في بيروت حُذفت منها فقرات وكلمات وقصص لأنها، بنظر من أشرفوا على هذه الطبعة، غير أخلاقية..

وذكرني بأنه في أواخر القرن العشرين، وعلى التحديد سنة 1985، أدانت محكمة آداب القاهرة ألف ليلة وليلة، لأنها كما جاء في حيثيات الحكم «تخدش الحياء، وتتضمن عبارات مخلة بالاداب، وتفسد أخلاق الشباب»، وقضت المحكمة بمصادرة النسخ، وبسجن الناشر والطابع.. وأُحرقت النسخ علنياً.. ولم ينج من غضب السلطة على المجون سوى مؤلفي تلك القصص الذين باتوا في ذمة التاريخ! ولم يكن أحد يتخيل يومها ان سنة قريبة مقبلة (1994) ستشهد خنجراً يغمده أحد المتعصبين في نحر روائي وقاص كبير من عصرنا اسمه نجيب محفوظ.

من الباحثين من يعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة ليس كله عربياً، أو أنه ليس عربياً البتة.. فقد جاءنا من الخارج، ولكنه لم يدخل صفوف النشر العربي كما دخلت مترجمات العلوم والفلسفة.. فتلك كتابات مهنية فنية.. أما كتاب ألف ليلة وليلة فيمس النفس الإنسانية، ويصوّر واقع البشر وعواطفهم، ويعبّر عن خبايا الخاطر ونوازع الحرية وهبات القدر.. إنه كتاب للعامة بأوسع معاني هذه الكلمة، لا لحفنة من المتخصصين، ولا لحصر الفكر في حيز محدود من المعرفة.

حاول هذا الكتاب الإنساني الجامع أن يندرج ضمن النصوص التي كان ينسخها الوراقون.. وتتضح المحاولة في شهادة الوراق ابن النديم، إذ يقول: «ونقلته العرب إلى اللغة العربية من الفارسية وتناوله الفصحاء والبلغاء وهذبوه ونمقّوه».. ولكن ترجمة «هزار أفسان» إلى ألف ليلة وليلة - وان نقحها ونمقها المراجعون - ظلت مهمشة بالقياس إلى تيار الأدب العربي التقليدي وتنطق تنحيتها لا بقصور الليالي من حيث الإبداع وصنعته الرواية، بل باسقاطها من مرتبة الشرق العريقة التي ميزت كلام العرب على كلام سواهم، وهي تلك الهالة التي ضيّقها أولياء الأمور إلى حد الحظر الذي ضربوه على المصنفات، أي ما نسميه اليوم بالرقابة.
ولعل السبب الحقيقي لنبذ ألف ليلة وليلة لم يكن اتهامها بالمجون.. فما أكثر ما عبث الشعراء ومجنوا غير أنهم ظلموا موضع الاعتزاز، ومرجع المعجميين والنحويين.. ووقر في الأذهان ان الشعر ديوان العرب.

ومن المدهش، بعد أن تطور الذوق اليوم، ان يقع ذلك عن التعميم على عمل كالليالي يمتاز بشكله الامتاعي الرائع وبمضمونه الحضاري.. ويبدو ان سطوة البعض لم تنقطع عن التدخل في التاريخ أو في كتابة تخفت حينما وتشتد أحياناً، ولو انها ظلت شبه مضمرة، فلا نكاد نجد تصريحاً بها في حوليات الدولة التي رسخت قواعدها، إلا إذا وفقنا عند فقرة كهذه من أخبار الخليفة العباسي الراضي بالله (329 هجرية) التي سجلها أبوبكر الصولي.. ومن المفارقات ان الراضي كان رجلاً وديعاً يحب الأدب ويقرض الشعر.. ولكنه بات أداة طيعة في ايدي وزرائه، بعد أن استشرى الحنابلة في عهده فكانوا يدهمون البيوت، يحطمون آلات الموسيقى ويعنفون بالقيان المغنيات، ويريقون الخمر، ويعتدون على الناس في الشوارع. يقول الصولي:
«واني لأذكر يوماً في امارته، وهو يقرأ علي شيئاً من شعر بشار وبين يديه كتب لغة وكتب أخبار إذ جاء خدم جدته السيدة، فأخذوا جميع ما بين يديه من الكتب فجعلوه في منديل دبيقي كان معهم، وما كلّمونا بشيء ومضوا. فرأيته وقد وجم لذلك واغتاظ فسكّنت منه وقلت له: ليس ينبغي أن ينكر الأمير هذا، فإنه يقال لهم: إن الأمير ينظر في كتب لا ينبغي أن ينظر في مثلها، فاحبّوا أن يمتحنوا ذلك. وقد سرّني هذا ليروا كل جميل حسن. ومضت ساعات أو نحو ذلك ثم أدّوا الكتب بحالها فقال لهم الراضي: قولوا لمن أمركم بهذا قد رأيتم هذه الكتب، وانما هي حديث وفقه وشعر ولغة وأخبار وكتب العلماء، ومن كمّله الله بالنظر في مثلها ينفعه بها، وليست من كتبكم التي تبالغون فيها مثل عجائب البحر وحديث سندباد و السنور والفأر.. وخفت أن يؤدي الخادم قوله، فيقال: من كان عنده؟ فيذكرني ويلحقني من ذلك ما أكره إلى مالي عندهم مما سأذكره والسبب فيه في موضعه، أخباره ان شاء الله، فقمت إلى الخدم فسألتهم ألا يعيدوا قوله فقالوا: والله ما نحفظه فكيف نعيده؟

يخيم على هذه الفقرة جو من الريبة والتوتر والقمع والغيظ، لا ينفرج إلا بتأثيم الفن والإبداع الأدبي. ونجد في العبارات الأخيرة وطأة الإرهاب على المثقف الذي لا يني عن الممالأة لينجو بنفسه. والمقابلة في احتجاج الخليفة واضحة بين موضوعات الكتب التي يليق به أن يقرأها من ناحية، وبين كتب «عجائب البحر وحديث سندباد» من ناحية أخرى، أي قصص ألف ليلة وليلة. وبالحرص نفسه ينفي الخليفة قراءة ألف ليلة وليلة وينسجها إلى خصومه بضمير المخاطب التحقيري، وكأن ترذيل أدب المشاعر الإنسانية الجياشة من شيم العلماء. فالإمام الشافعي افتخر بمقاومة سليقته الشعرية قائلاً بيته المشهور:
ولولا الشعر بالعلماء يزري = لكنت اليوم أشعر من لبيد

ونحن اذا نقبنا في تاريخ الأدب العربي وجدنا أن أول اشارة الى كتاب ألف ليلة وليلة كانت في «مروج الزهد» للمسعودي، أي في منتصف القرن الرابع الهجري، وهو يسميه باسمه الفارسي «هزار افسان» ويلخصه بأنه «خبر الملك، والوزير وابنته، وجاريتها، وهما شيرازاد ودينار زاد». حتى إذا جاء المقريزي مؤلف «الخطط» في القرن التاسع الهجري، ذكر ألف ليلة وليلة بوصفها أقاويل خيالية، وأحاديث عجيبة.. ونفهم من عبارات المسعودي والمقرزي ان الف ليلة وليلة ظلت شائعة في أحاديث الناس وأذهانهم على حين لم يكن لها وجود في مدونات، الأدب العربي، كان يرويها الرواة شفاهة ويسمعها الناس بشغف ويتناقلونه، ويتمثلون بمغزى القصص وأبطالها ومواقفهم بل وأقوالهم. وقد تنامت هذه الحكايات مع الوقت وتفرعت وتعددت، وادخل فيها كل عصر أحداثه وأشخاصه وخيالاته، أي أن حياة هذا العمل السردي الكبير تواصلت وازدهرت بموازاة الصمت عنها الى حد انكارها في فصول الأدب العربي الجدير بهذا الاسم، أي المكتوب المتواتر. وهذه الازدواجية أي الرواج الشعبي من ناحية والانكار الرسمي من ناحية أخرى، تطرح مشكلة الانفصام. وهو داء بلغ أشده في بطش محكمة القاهرة سنة 1985 بنسخ هذا الكتاب وناشرها وطابعها..

وكل هذا وسط اهتمام الآداب العالمية الفائق الحد لهذا الكتاب، واعتباره أحد أثمن ما جاءت به المخيلة الشرقية من روائع على مدى العصور.


sauress
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...