نقوس المهدي
كاتب
تقول شهرزاد في حكاية تتعلق بالطيور في ( ألف ليلة وليلة) : بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان طاووس يأوي إلى جانب البحر مع زوجته . وكان ذلك الموضع كثير السباع وفيه من الوحوش الكثير أيضا .
غير أنه كان كثير الأشجار والأنهار . وفي ( حكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى ) تقول : إعلم أيها الملك أن ثعلبا وذئبا ألفا وكرا فكانا يأويان إليه مع بعضهما ، فلبثا على ذلك مدة من الزمان.. إلخ. ثم نقرأ في ( حكاية الغراب والسنور) على لسانها كذلك قولها : بلغني أيها الملك السعيد أن غرابا وسنورا كانا متآخيين . فبينما هما تحت شجرة على تلك الحالة ... إلخ. ثم نقرأ في (حكاية الثعلب والغراب ) : وحكي أن ثعلبا سكن في بيت في الجبل .
فما الذي نلاحظه بخصوص المكان في هذه الحكايات وفي سواها مما لا تختلف عنها في حكايات الطير والحيوان في ( الف ليلة وليلة) ؟
في الحكاية الاولى ليس ثمة سوى غابة على جانب بحر كثيرة السباع والأشجار والأنهار . وتكتفي الحكاية الثانية بالاشارة إلى وكر بدون أية ملامح أخرى للمكان . وفي الحكاية الثالثة ثمة شجرة يمكن للقارئ أن يتخيلها في أي مكان ، تنتصب في وسط غيرها من الأشجار، أو منفردة في جبل أو في صحراء. في حين لا يحتل المكان في الحكاية الرابعة أكثر من الاشارة إلى وجود بيت للثعلب في الجبل . أي أننا أمام حكايات لا تقدم توصيفا واسعا للمكان، بل إنها لا تعيره أدنى اهتمام يمكن التوقف أمامه . وفي اعتقادنا فإن هذا يرجع لسببين أساسيين أولهما يرتبط ببنية الحكاية ذاتها ، والآخر يرتبط بهدف الحكايات في ( ألف ليلة وليلة) ككل. فأما بالنسبة لبنية الحكاية، فإن هدف السرد فيها لا يتعامل مع المكان باعتباره واحدا من الغايات الفنية التي يجب التعامل معها بالمحسنات من التوصيف ذي الدلالات الذي يقود شهريار باعتباره هدف المتلقي الأول، إلى إجهاد الفكر لاكتشاف ما تهدف إليه شهرزاد من المسرود الذي تقرره. أي أن شهرزاد وهي تروي حكاياتها، كانت تقدم ما هو رديف للحكاية الشعبية، وهذه في العموم الغالب تهمها الحكمة وتقديم العبرة، بالاضافة إلى ما نلاحظه من اعتماد بالدرجة الأساس على الحوار، باعتباره غاية السرد ، ووسيلته لتوصيل هدف الحكايات الذي أشرنا إليه .
وبالاضافة إلى هذا، فإن الحكايات وهي تؤكد على أولوية الوقائع والأطر والشخصيات، كان لا بد أن تظهر بمعزل عن المكان، الذي لا يعتبر عنصرا من عناصر تفجير الدراما . فبنية السرد تهدف إلى تقديم أطروحات فكرية، من خلال أطر وأنماط وشخصيات لا ترى المكان كما تراه الشخصيات في القصص الحديثة . هذا من ناحية ، ويمكن القول من ناحية أخرى، أن عالم حكايات الطير والحيوان شأن عالم الأسطورة أو القصة البطولية أو حكايات الجن، تقع أحداثها في عالم معزول عن عالمنا من حيث عنصري الزمان والمكان على حد سواء ، والدليل على ذلك نراه في ابتداء الحكاية : كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان .. إلخ . أي أنه أقرب ما يكون إلى عالم خيالي، للقارئ وللمستمع أن يرياه كيفما يشاءان . فالغابة يشكلها هذا الشخص بطريقة تختلف عن تلك التي يشكلها بها غيره ، وكذلك وكر الذئب والثعلب وبيت الثعلب .. إلخ . وهنا نلاحظ انفصال الصورة المتخيلة عن النمط الذي تقدمه الحكايات، وهي سمة من سمات الفانطازيا على العموم. ولأن الفانطازيا تقارن بالخيال كما يرى الناقد (ت , ي. إبتر) ، فإن الصورة المتخيلة هي شأن من شؤون المتلقي ، يرسمها كيفما يشاء ، اذ ليس من هدف السرد تقديم صورة محددة حتى لو اختصت بالمكان ، وإنما هدفه شحذ العقل ، باعتباره الذي يقود إلى ما تسعى إليه الفانطازيا من إيجاد الحلول أقسى الهزائم ، بهدف إنقاذ شهريار وتحريره من قلقه، وإعطائه شحنة من الأمل في تجاوز إحباطاته بسبب خيانة زوجته له .
يشير رشدي صالح في تقديمه للحكايات في طبعتها المصرية إلى قلق شهريار فيقول : ولكن انفراج قلقه ، لم يكن فيما نظن ، استسلاما للخيال الجامح فحسب ، بل كان استقبالا لمعارف جديدة عليه . وهذه المعارف التي تتدفق من شهرزاد هي خلاصة عقلها الناضج ، ومعرفتها الكلية بكل شؤون الحياة . ولأنها تعيش سباقا بين الرغبة بالحياة وبين الخشية من قتل شهريار لها إن هي أنهت القصة ، فإن هذا السباق سيحتم عليها عدم الاهتمام بالمكان وتوصيفاته ، خشية الوقوع في المحذور من الاطالة والتكرار لتوصيفات قد تبدو مملة، وهذه ايضا لا تنسجم مع قلق شهريار الذي تريد شهرزاد أن تنمي فيه كما يقول رشدي صالح شخصية طالب المعرفة، لتطرد من أعماقه شخصية ذلك الانسان المتوتر القلق الذي كان يسفك دماء العذارى. ومن المهم أن نشير هنا إلى أن حكايات الطير والحيوان هي من نوع الحكايات الشارحة، وهذا النوع من الحكايات تهمه الغاية المعرفية التي تجيب عن الأسئلة التي تبعثها الحكايات الأصلية في عقل شهريار، وهي أقرب ما تكون إلى التداعيات المزاجية . لذا نلاحظ فيها التشظي – حكاية او أكثر داخل الحكاية الأساسية – الذي وضع غايته الأساسية في محاكاة حلم العقل والبنية المتمخضة عنها تمنحان الامكانية باستقراء الحكايات وتحليلها من خلال مقاييس ومعايير علم النفس . وهي سمة من سمات الفانطازيا التي لا تهدف فقط على مستوى حكايات الطير إلى إمتاع شهريار وتسليته ، إنما لتزرع عنده الرغبة في تجاوز ما أشرنا إليه من قلق . وإذا أردنا أن نشبه الحكايات بلون فني ، فإنها اقرب ما تكون إلى الحواريات ، التي تتحدث عن الانسان في هذه الحياة ، حتى من خلال حكايات الطير والحيوان التي نفهمها بربطها بمعادلاتها الرمزية . ولعل رشدي صالح قد اصاب كبد الحقيقة عند حديثه عن أسباب خلود ( ألف ليلة وليلة ) فقال : ويبدو لي أن أحد الأسباب الكامنة في مادة الف ليلة والتي أقدرتها على أن تعيش قرونا ، وتعبر الأجيال الكثيرة ، وأن تخاطب الانسان في أوربا وأمريكا، حيث بلغت الحضارة الصناعية غايتها ، ثم تخاطبنا نحن، وقد اجتزنا منتصف القرن العشرين، أقول أن أحد هذه السباب هو أن في مادة ألف ليلة ، خيطا دائبا ، يتصل بالحوار حول مكانة الانسان من الحياة، وبالتالي يتصل بمصيره .
وإذا كنا نعتبر المكان وتوصيفه هدفا من أهداف النص الحديث، فإننا لا نشترط هذا في الحكايات ، وهي التي تقترن بالفطازيا ، أو بأحلام اليقظة، التي تتوسم بالحلول السهلة كما تشير نظريات علم النفس. لذا فليس من الغرابة أن تقلب الحكايات ظهر المجن للمكان ، فتركيبها يقوم على تدفق المعلومة فحسب .
غير أنه كان كثير الأشجار والأنهار . وفي ( حكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى ) تقول : إعلم أيها الملك أن ثعلبا وذئبا ألفا وكرا فكانا يأويان إليه مع بعضهما ، فلبثا على ذلك مدة من الزمان.. إلخ. ثم نقرأ في ( حكاية الغراب والسنور) على لسانها كذلك قولها : بلغني أيها الملك السعيد أن غرابا وسنورا كانا متآخيين . فبينما هما تحت شجرة على تلك الحالة ... إلخ. ثم نقرأ في (حكاية الثعلب والغراب ) : وحكي أن ثعلبا سكن في بيت في الجبل .
فما الذي نلاحظه بخصوص المكان في هذه الحكايات وفي سواها مما لا تختلف عنها في حكايات الطير والحيوان في ( الف ليلة وليلة) ؟
في الحكاية الاولى ليس ثمة سوى غابة على جانب بحر كثيرة السباع والأشجار والأنهار . وتكتفي الحكاية الثانية بالاشارة إلى وكر بدون أية ملامح أخرى للمكان . وفي الحكاية الثالثة ثمة شجرة يمكن للقارئ أن يتخيلها في أي مكان ، تنتصب في وسط غيرها من الأشجار، أو منفردة في جبل أو في صحراء. في حين لا يحتل المكان في الحكاية الرابعة أكثر من الاشارة إلى وجود بيت للثعلب في الجبل . أي أننا أمام حكايات لا تقدم توصيفا واسعا للمكان، بل إنها لا تعيره أدنى اهتمام يمكن التوقف أمامه . وفي اعتقادنا فإن هذا يرجع لسببين أساسيين أولهما يرتبط ببنية الحكاية ذاتها ، والآخر يرتبط بهدف الحكايات في ( ألف ليلة وليلة) ككل. فأما بالنسبة لبنية الحكاية، فإن هدف السرد فيها لا يتعامل مع المكان باعتباره واحدا من الغايات الفنية التي يجب التعامل معها بالمحسنات من التوصيف ذي الدلالات الذي يقود شهريار باعتباره هدف المتلقي الأول، إلى إجهاد الفكر لاكتشاف ما تهدف إليه شهرزاد من المسرود الذي تقرره. أي أن شهرزاد وهي تروي حكاياتها، كانت تقدم ما هو رديف للحكاية الشعبية، وهذه في العموم الغالب تهمها الحكمة وتقديم العبرة، بالاضافة إلى ما نلاحظه من اعتماد بالدرجة الأساس على الحوار، باعتباره غاية السرد ، ووسيلته لتوصيل هدف الحكايات الذي أشرنا إليه .
وبالاضافة إلى هذا، فإن الحكايات وهي تؤكد على أولوية الوقائع والأطر والشخصيات، كان لا بد أن تظهر بمعزل عن المكان، الذي لا يعتبر عنصرا من عناصر تفجير الدراما . فبنية السرد تهدف إلى تقديم أطروحات فكرية، من خلال أطر وأنماط وشخصيات لا ترى المكان كما تراه الشخصيات في القصص الحديثة . هذا من ناحية ، ويمكن القول من ناحية أخرى، أن عالم حكايات الطير والحيوان شأن عالم الأسطورة أو القصة البطولية أو حكايات الجن، تقع أحداثها في عالم معزول عن عالمنا من حيث عنصري الزمان والمكان على حد سواء ، والدليل على ذلك نراه في ابتداء الحكاية : كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان .. إلخ . أي أنه أقرب ما يكون إلى عالم خيالي، للقارئ وللمستمع أن يرياه كيفما يشاءان . فالغابة يشكلها هذا الشخص بطريقة تختلف عن تلك التي يشكلها بها غيره ، وكذلك وكر الذئب والثعلب وبيت الثعلب .. إلخ . وهنا نلاحظ انفصال الصورة المتخيلة عن النمط الذي تقدمه الحكايات، وهي سمة من سمات الفانطازيا على العموم. ولأن الفانطازيا تقارن بالخيال كما يرى الناقد (ت , ي. إبتر) ، فإن الصورة المتخيلة هي شأن من شؤون المتلقي ، يرسمها كيفما يشاء ، اذ ليس من هدف السرد تقديم صورة محددة حتى لو اختصت بالمكان ، وإنما هدفه شحذ العقل ، باعتباره الذي يقود إلى ما تسعى إليه الفانطازيا من إيجاد الحلول أقسى الهزائم ، بهدف إنقاذ شهريار وتحريره من قلقه، وإعطائه شحنة من الأمل في تجاوز إحباطاته بسبب خيانة زوجته له .
يشير رشدي صالح في تقديمه للحكايات في طبعتها المصرية إلى قلق شهريار فيقول : ولكن انفراج قلقه ، لم يكن فيما نظن ، استسلاما للخيال الجامح فحسب ، بل كان استقبالا لمعارف جديدة عليه . وهذه المعارف التي تتدفق من شهرزاد هي خلاصة عقلها الناضج ، ومعرفتها الكلية بكل شؤون الحياة . ولأنها تعيش سباقا بين الرغبة بالحياة وبين الخشية من قتل شهريار لها إن هي أنهت القصة ، فإن هذا السباق سيحتم عليها عدم الاهتمام بالمكان وتوصيفاته ، خشية الوقوع في المحذور من الاطالة والتكرار لتوصيفات قد تبدو مملة، وهذه ايضا لا تنسجم مع قلق شهريار الذي تريد شهرزاد أن تنمي فيه كما يقول رشدي صالح شخصية طالب المعرفة، لتطرد من أعماقه شخصية ذلك الانسان المتوتر القلق الذي كان يسفك دماء العذارى. ومن المهم أن نشير هنا إلى أن حكايات الطير والحيوان هي من نوع الحكايات الشارحة، وهذا النوع من الحكايات تهمه الغاية المعرفية التي تجيب عن الأسئلة التي تبعثها الحكايات الأصلية في عقل شهريار، وهي أقرب ما تكون إلى التداعيات المزاجية . لذا نلاحظ فيها التشظي – حكاية او أكثر داخل الحكاية الأساسية – الذي وضع غايته الأساسية في محاكاة حلم العقل والبنية المتمخضة عنها تمنحان الامكانية باستقراء الحكايات وتحليلها من خلال مقاييس ومعايير علم النفس . وهي سمة من سمات الفانطازيا التي لا تهدف فقط على مستوى حكايات الطير إلى إمتاع شهريار وتسليته ، إنما لتزرع عنده الرغبة في تجاوز ما أشرنا إليه من قلق . وإذا أردنا أن نشبه الحكايات بلون فني ، فإنها اقرب ما تكون إلى الحواريات ، التي تتحدث عن الانسان في هذه الحياة ، حتى من خلال حكايات الطير والحيوان التي نفهمها بربطها بمعادلاتها الرمزية . ولعل رشدي صالح قد اصاب كبد الحقيقة عند حديثه عن أسباب خلود ( ألف ليلة وليلة ) فقال : ويبدو لي أن أحد الأسباب الكامنة في مادة الف ليلة والتي أقدرتها على أن تعيش قرونا ، وتعبر الأجيال الكثيرة ، وأن تخاطب الانسان في أوربا وأمريكا، حيث بلغت الحضارة الصناعية غايتها ، ثم تخاطبنا نحن، وقد اجتزنا منتصف القرن العشرين، أقول أن أحد هذه السباب هو أن في مادة ألف ليلة ، خيطا دائبا ، يتصل بالحوار حول مكانة الانسان من الحياة، وبالتالي يتصل بمصيره .
وإذا كنا نعتبر المكان وتوصيفه هدفا من أهداف النص الحديث، فإننا لا نشترط هذا في الحكايات ، وهي التي تقترن بالفطازيا ، أو بأحلام اليقظة، التي تتوسم بالحلول السهلة كما تشير نظريات علم النفس. لذا فليس من الغرابة أن تقلب الحكايات ظهر المجن للمكان ، فتركيبها يقوم على تدفق المعلومة فحسب .