سامي مهدي - ألف ليلة وليلة.. قراءة في تاريخ ‘ الأم القديمة ‘ وهويتها.

1

من حين إلى آخر أعود على سبيل المتعة إلى قراءة كتب كنت قرأتها من قبل، ومنها كتاب ‘ ألف ليلة وليلة ‘. ولكن كلما قرأت هذا الكتاب الجميل انبثقت عندي أسئلة قديمة جديدة. هي قديمة لأنها بدأت تثار منذ عُني المستشرقون بالكتاب ودراسته في القرن الثامن عشر، وهي جديدة لأنها لم تحظ بأجوبة حاسمة مقنعة، في رأيي في الأقل، وحدث مؤخراً أن قرأت مرة ثانية النسخة التي حققها الراحل الدكتور محسن مهدي من هذا الكتاب، ونظرت طويلاً في المقدمة التي كتبها لها (1) فعدت أتساءل مع نفسي مرة أخرى:
هل الكتاب الأم، أي الكتاب في أصله الأول، أجنبي مترجم إلى اللغة العربية، أم عربي مؤلف بلغة العرب؟ هل هو من السرود الشفهية المدونة، أم من السرود المؤلفة المكتوبة؟ وما هويته الأصلية: أهي عراقية، أم مصرية، أم شامية؟ وقبل أن نتلمس طريقنا للإجابة عن هذه الأسئلة لابد لي من أن أوضح أن (الأم القديمة) التي أقصدها في هذا البحث هي كتاب ألف ليلة وليلة الأصل، قبل أن يستنسخ وتهجّن لغته وتقحم عليه الزيادات. وقد يبدو لنا هذا الأصل الآن محض افتراض، ولكنه حقيقي في واقع الأمر، يمكن تصوره إذا ما وضعنا للنسخ الخطية التي وصلتنا تحت عنوان ( ألف ليلة وليلة ) شجرة نسب تعيد كلاً منها إلى عصرها، كتلك الشجرة التي تكفل الدكتور محسن مهدي بوضعها في مقدمة كتابه ‘ كتاب ألف ليلة وليلة، من أصوله العربية الأولى ‘. لهذا وجب التنويه أن بحثي هنا سيقتصر على ( الأم القديمة ) هذه، وستكون نسخة الكتاب التي حققها الدكتور مهدي ونشرها في ليدن عام 1984 هي مرجعي الأول والأخير في تصورها والحديث عنها، أي أنني سأستبعد كل الطبعات الأخرى التي سبقتها ، بما فيها طبعة بولاق في مصر، نظراً لما داخل هذه الطبعات من زيادات ابتعدت بها عن الأصل قليلاً أو كثيراً .

أعود الآن إلى الأسئلة التي أثرتها في البداية فأقول: لقد عني بالإجابة عن هذه الأسئلة، أو عن بعضها، مستشرقون عديدون منهم: إدوارد وليام لين، ودنكان ماكدونالد، وسلفستر دو ساسي، وآدم ميتز، وفون هامر، ودير لاين، ناهيك عن الموسوعات العالمية. كما عني بها باحثون وكتاب كثيرون من شتى الأقطار العربية منهم: محمود تيمور، وسهير القلماوي، وبيومي السباعي، ومحمد مفيد الشوباشي، وفاروق خورشيد، ومنير بعلبكي، وصلاح الدين المنجد، وفاروق سعد، وهلال ناجي، وميخائيل عواد، ومحسن مهدي، وفريال غزول، وعبد الله إبراهيم، وأحمد الشحاذ، وعبد الملك مرتاض، ومحمود طرشونة، وغيرهم، ناهيك عن الموسوعات العربية. وحاول كل من هؤلاء وأولئك، أن يجيب عن هذه الأسئلة، بهذا القدر أو ذاك ، فيرفضها، أو يقبلها ، جزئياً أو كلياً ، ولكن قارئاً مثلي ما يزال يجد مسوغاً لوقفة يقفها ورأي يدلي به .ويبدو لي أن لهذا التعدد في الآراء والاجتهادات سببين أساسيين، الأول هو : أن المستشرقين والباحثين العرب المعاصرين ، على جلالة قدرهم جميعاً، لم يمعنوا النظر في النصوص العربية القديمة التي تحدثت عن الخرافات والأسمار إمعاناً كافياً يمكّنهم من قراءتها قراءة صحيحة ، والثاني هو : اكتفاؤهم ، عدا الدكتور محسن مهدي، بالنظر في صور النسخ التي وصلت إليهم من كتاب ألف ليلة وليلة دون التفكير بوجود أصل واحد قديم لها كانت قد انحدرت منه . ولذا سأحاول هنا إعادة استنطاق تلك النصوص وبناء تصور عن ( الأم القديمة ) للكتاب ، لعلنا نخرج باستنتاجات جديدة أطمح بكل تواضع إلى أن تكون أقرب إلى الدقة من غيرها .
إن أقدم ما وصلنا من تلك النصوص ثلاثة
أولها للمسعودي صاحب كتاب ‘ مروج الذهب ‘
وثانيها لابن النديم صاحب كتاب ‘ الفهرست ‘
وثالثها لأبي حيان التوحيدي صاحب كتاب ‘ الإمتاع والمؤانسة ‘ .

وأول ما تنبغي ملاحظته هنا أن هؤلاء الثلاثة قد عاصر بعضهم بعضاً، فجميعهم من رجال القرن الرابع الهجري .
فالمسعودي من أصل عراقي بابلي كما ذكر في مروجه. (2) وجاء في بعض المصادر أنه رحل إلى مصر وأقام بها. (3)
ولكن ابن النديم ذكر في ‘ الفهرست ‘ أنه من أهل المغرب.(4) وهو في أية حال رحالة زار أغلب بقاع العالم القديم ( من المغرب إلى الصين ) قبل ابن بطوطة، وكتب كتابه سنة (332هـ) كما أشار في متونه أكثر من مرة (5) وأتمه سنة (336هـ) كما جاء في آخر الكتاب، وكانت وفاته سنة (346هـ) .(6) أما ابن النديم فقد ولد حسب بعض المصادر عام (297هـ). ويرى محقق كتابه رضا تجدد المازندراني أنه شرع بتأليف كتابه عام (340هـ) وفرغ منه عام (377هـ) وتوفي كما يذكر الصفدي والذهبي والمقريزي عام (380هـ) .(7)
وأما التوحيدي فقد ولد عام (332هـ) أو(335هـ) ونشأ في بغداد ، وقصد الصاحب بن عباد في الري عام (367هـ) ثم انكفأ عائداً إلى بغداد عام (370هـ) وألف الإمتاع والمؤانسة عام (374هـ) وكانت وفاته في شيراز عام (414هـ) حسب محقق كتابه : الرسالة البغدادية.(8)

بناء على ذلك أفترض أن معلومات المسعودي وابن النديم والتوحيدي عن القرن الرابع الهجري صحيحة وموثوقة لأنهم أقرب إلى عصر كتاب ألف ليلة وليلة وزمن تأليفه من غيرهم . ويلاحظ مما كتبه كل من المسعودي وابن النديم عما له صلة بموضوعنا أن القرن الرابع الهجري قرن ازدهر فيه القص ازدهاراً واسعاً، وظهرت فيه كتب قصصية كثيرة، بعضها مؤلف، وبعضها مترجم . وقد ذكر ابن النديم في فهرسته أسماء العشرات منها، وصنفها حسب الأمم التي صدرت عنها وحسب موضوعاتها. وليس ثمة شك في أن بعض، وربما أغلب، ما ذكره ابن النديم من كتب القصص والأسمار كان قد ألف، أو ترجم، في القرنين الهجريين الثاني والثالث. ذلك أن الحفاوة بالقص والسمر عند العرب لم تتوقف منذ الجاهلية، على الرغم من جميع النواهي والتحذيرات الدينية والرسمية. وإذا كانت غاية القص قد تغيرت بعد ظهور الإسلام فتحولت إلى الوعظ والإرشاد، فإنها سرعان ما عادت إلى الإمتاع والمؤانسة ومعرفة أخبار الماضين كما كان شأنها في العصر الجاهلي، وصار هذا هو هدفها الأساس منذ العصر الأموي ، أي منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري في الأقل .

لا أريد هنا أن أؤرخ للقص عند العرب، فهو ليس هدفي في هذا المقام، ولكن حسبي أن أشير إشارة عابرة إلى أن كتاب ألف ليلة وليلة ظهر في حقبة كان القص فيها يستأثر باهتمام عامة الناس وسائر طبقاتهم الاجتماعية . وسيتجلى لنا من النصوص التي سأتناولها احتمال طالما أغفله الباحثون ولم يتعاملوا معه بإمعان ومثابرة ، برغم ما له من مغزى كبير ، وأعني احتمال وجود أكثر من كتاب يحمل عنوان ‘ ألف ليلة وليلة ‘ أو أي عنوان آخر مشابه له أو يؤدي معناه . ذلك أن الحديث في هذه النصوص عن ‘ ألف خرافة ‘ و ‘ ألف ليلة ‘ و ‘ ألف سمر ‘ قد كتب بأساليب لابد أن تقود الباحث المدقق إلى هذا الاحتمال . فالمسعودي يتحدث عن كتاب اسمه ‘ هزار أفسانة ‘ ويقول إن الناس يسمونه ‘ ألف ليلة وليلة ‘. أما ابن النديم فيتحدث هو الآخر عن كتاب سماه ‘ هزار أفسان‘ ومعناه ‘ ألف خرافة‘. وينبئنا بأن ابن عبدوس الجهشياري عزم على تأليف كتاب يضم ‘ ألف سمر ‘ من أسمار العرب والعجم والروم. ولكن المنية عاجلته فلم يجمع له سوى أربع مئة وثمانين ليلة كل ليلة من لياليه سمر تام. وعدا ذلك عثرت الباحثة نبيهة عبود على بقايا ورقة تحمل عنوان ‘ كتاب فيه حديث ألف ليلة وليلة ‘ وما في أصل الورقة مما له علاقة بهذا الكتاب تعود كتابته إلى أوائل القرن الثالث الهجري .(9)

إن هذه الأحاديث تدل عندي بوضوح على أن هناك أكثر من كتاب واحد في هذا الضرب من التأليف والترجمة يحمل اسم ‘ ألف ليلة وليلة ‘ أو ما هو قريب منه. ولكن لم يصلنا منها جميعاً سوى نسخ خطية مختلفة منحدرة من كتاب واحد يحمل هذا الاسم هو ( الأم القديمة ) لهذه النسخ . فالاختلاف في تلك الأحاديث لا يقع في عنوان الكتاب فحسب ، بل كذلك في وصفه . وأنا أفهم مما قاله المسعودي أن الناس كانت تسمي كل كتاب من هذا النوع باسم ‘ ألف ليلة وليلة ‘ . فالحديث عن الليالي والأسمار لا يحلو لها إلا بهذا الرقم ، أعني رقم ‘ الألف ‘ . يؤكد ذلك العنوان الذي عثرت عليه الباحثة نبيهة عبود بما فيه من روح ‘ الإعلان ‘ . فهو ‘ كتاب فيه حديث ألف ليلة وليلة ‘ . ومع ذلك أقدم هذا على سبيل الاحتمال ، ولكنه احتمال قوي في رأيي ، يستحق أن نتأمله ونبني عليه ، وهذا يقودني من جديد إلى النصوص الثلاثة ، وأعني نصوص : المسعودي وابن النديم والتوحيدي .

( 2 )

واضح أن أقدم هذه النصوص هو نص المسعودي صاحب كتاب ‘ مروج الذهب ‘. فقد ألف هذا الكتاب عام (332هـ). أما كتاب ابن النديم فيأتي بعده لأنه بدأ بجمع مادته عام (340هـ) وفرغ منه عام (377هـ). وأما كتاب التوحيدي فهو آخرها، وإن يكن قد ألفه عام (374هـ). يتناول المسعودي موضوع هذا النوع من المؤلفات في فقرة عابرة جاءت في معرض حديثه عن هياكل العبادات الوثنية التي عثر عليها في بلاد الشام، ومنها الهيكل المعروف باسم ‘ جيرون ‘ في مدينة دمشق، ويشير إلى حيرة معاوية بن أبي سفيان في أمر هذا المعبد. (10) فقد قيل لمعاوية إنه من بقايا مدينة ‘ إرم ذات العماد ‘ التي ذكرت في القرآن الكريم، ورويت له الأسطورة التي تقول: إن رجلاً من العرب يدخلها سعياً وراء جملين تاها من جماله. فيسأل معاوية كعب الأحبار عن ذلك، فيؤكد له كعب الأحبار ما يقال في الأسطورة، ويشير إلى أعرابي كان في مجلسه، زاعماً له أن هذا الأعرابي هو من دخلها .(11)

غير أن المسعودي لا يصدق هذا الخبر فيصفه بأنه ‘ خبر يدخله الفساد من جهات النقل وغيره ، وهو من صنعة القصاص ‘. ثم يقول ‘ وقد تنازع الناس في هذه المدينة ( إرم ) وأين هي ، ولم يصح عند كثير من الأخباريين ممن وفد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين فيها ، إلا خبر عبيد بن شريّة وإخباره إياه عما سلف من الأيام، وما كان فيها من الكوائن والحوادث وتشعب الأنساب، وكتاب عبيد بن شريّة متداول في أيدي الناس مشهور ‘ .

إلى هنا وحديث المسعودي مقتصر على ما روي من أخبار عن مدينة ‘ إرم ‘ وأسطورة الأعرابي الذي قيل إنه دخلها، ثم يواصل طعنه فيها فيقول : ‘ وقد ذكر كثير من الناس ممن له معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها ، وأن سبيلها سبيل الكتب المنقولة لنا من الفارسية والهندية والرومية ، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب هزار أفسانة ، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة ، والخرافة بالفارسية يقال لها أفسانة .

والناس يسمون هذا الكتاب : ألف ليلة وليلة ، وهو خبر الملك والوزير وابنته شهرزاد وجاريتها دنيازاد .

ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء .ومثل كتاب السندباد .وغيرها من الكتب في هذا المعنى ‘ (12)يتضح مما تقدم أن إشارة المسعودي إلى كتاب ‘ هزار أفسانة ‘ جاءت في معرض تشبيه أسطورة الأعرابي الذي دخل مدينة ‘ إرم ‘ بالخرافات التي جاءت في ذلك الكتاب ، ولا علاقة لهذه الإشارة بكتاب ألف ليلة وليلة. فالمسعودي لم يقل إن كتاب هزار أفسانة هو نفسه كتاب ألف ليلة وليلة، بل قال إن الناس تسميه بهذا الاسم، والفرق دقيق بين هذا وذاك . فالناس قد تغلط ويشيع غلطها ويجري تداوله كما لو كان هو الحقيقة. والدليل القريب والملموس على ذلك أن اسم كتاب هزار أفسانة ينبغي أن يكون باللغة العربية ‘ ألف خرافة ‘، ولكن الناس لم تكن تسميه بهذا الاسم، بل تسميه: ألف ليلة وليلة. والظاهر أن الناس كانت تسمي عدداً من كتب الأسمار بهذا الاسم. فالحديث عن هذه الكتب يختلط بعضه ببعض إلى حد يصعب معه التحديد إلا بوجود الكتاب بمتنه وعنوانه المثبت عليه. بل أن العنوان نفسه يثير اللبس إذا ما وجد وحده، على غرار العنوان الذي عثرت عليه الباحثة نبيهة عبود ونصه ‘ كتاب فيه حديث ألف ليلة وليلة ‘ . فهل هذا هو عنوان كتاب ‘ ألف ليلة وليلة ‘ الأم، أم عنوان كتاب آخر ؟.

أعتقد، على أية حال، أن كتاب ‘ ألف ليلة وليلة ‘ كتاب آخر غير كتاب ‘ هزار أفسانة ‘. إذ لو كان هو نفسه لقال لنا المسعودي وغيره بوضوح إنه هو، ولاحتوى الكتاب نفسه على قصص يعود زمنها إلى عهود قديمة سبقت ظهور الإسلام بكثير، ولكان أبطال هذه القصص الأساسيون من غير المسلمين، ولكانت المدن الإيرانية، وليس بغداد والبصرة والموصل والقاهرة ودمشق وحلب ، هي مسرحه، ولغدت بيئته غير البيئة العباسية، ولوردت فيه أسماء الملوك الفرس ولم يرد اسم الخليفة هارون الرشيد وزوجه زبيدة ووزيره جعفر وخادمه مسرور . ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، الأمر الذي يزيدني قناعة بأن كتاب ‘ هزار أفسانة ‘ شيء ، وكتاب ‘ ألف ليلة وليلة ‘ شيء آخر .ولرب سائل يسأل : وماذا عن حكاية شهرزاد ودنيا زاد التي وردت في وصف المسعودي لكتاب ‘ هزار أفسانة ‘ ؟ ألا يكفي وجودها في كتاب ‘ ألف ليلة وليلة ‘ دليلاً على أنه هو نفسه ذلك الكتاب ؟ غير أنني سأرجيء الجواب عن هذا السؤال الآن إلى أن يرد في سياقه من هذا البحث ، وذلك حين أتحدث عن حقيقة كتاب ‘ هزار أفسانة ‘ .

( 3 )

على الرغم من الاهتمام الذي أبديته بنص المسعودي ، يبقى هذا النص محض إشارة عابرة في سياق حديث آخر غير حديث كتاب ‘ ألف ليلة وليلة ‘ . ولذا فإن التعويل عليه في تحديد هوية هذا الكتاب والتعرف على ماهيته ضرب من التعجل والاستسهال . وهذا ما وقع فيه كثير من الباحثين .

إنني أفضل على هذا النص نص ابن النديم الذي ورد في كتابه الفهرست لثلاثة أسباب
أولها: أن ابن النديم وراق مختص عارف بالكتب ومؤلفيها وليس مؤرخاً رحالة كالمسعودي.
وثانيها: أن كتاب الفهرست متخصص بفهرسة الكتب وليس كتاباً تاريخياً عاماً كمروج الذهب. وثالثها: أن ابن النديم قد خصص لكتب الخرافات والأسمار مقالة خاصة واسعة من كتابه وخص كتاب هزار أفسانة بمبحث منها. وهذا كله يعني أن معلومات ابن النديم عن هذه الكتب، وعن الكتاب نفسه، أغزر وربما أدق. ففي المقالة الثامنة من كتاب الفهرست يتحدث ابن النديم عن ‘ أخبار المسامرين والمخرّفين وأسماء الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ‘ فيقول:
‘ أول من صنف الخرافات وجعل لها كتباً وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوانات، الفرسُ الأوَل، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس. ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء ، فهذبوه ونمقوه ، وصنفوا في معناه ما يشبهه . فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب هزار أفسان، ومعناه ألف خرافة . وكان السبب في ذلك أن ملكاً من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد . فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها شهرزاد . فلما حصلت معه ابتدأت تخرّفه ، وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها ومسألتها في الليلة الثانية عن تمام الحديث ، إلى أن أتى عليها ألف ليلة ، وهو مع ذلك يطأها، إلى أن رزقت منه ولداً أظهرته، وأوقفته على حيلتها عليه ، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها. وكان للملك قهرمانة يقال لها دنيا زاد، فكانت موافقة لها على ذلك . وقد قيل أن هذا الكتاب ألف لحمانى ، ابنة بهمن، وجاءوا بخبر غير هذا . والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الاسكندر ، وكان له قوم يضحكونه ويخرّفونه . لا يريد بذلك لذة ، وإنما كان يريد الحفظ والحرس . واستعمل لذلك بعده الملوك هزار أفسان يحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر ، لأن السمر ربما حُدّث به في عدة ليال . وقد رأيته بتمامه دفعات ، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث ‘ . (13)

هذا جانب مما كتبه ابن النديم في موضوع هذا البحث ، ولي عليه الملاحظات الآتية :
1- لو أمعنا النظر في قراءة هذه الفقرة لوجدنا أن ابن النديم لم يتحدث بأية كلمة عن كتاب ألف ليلة وليلة .

2- فلقد اقتصر حديثه على شيئين منفصلين أولهما : تصنيف الأسمار والخرافات ، وثانيهما : أول كتاب صنف في هذا الباب ، وهو كما قال كتاب ‘ هزار أفسان ‘ .

3- أما قوله ‘ نقلته العرب إلى اللغة العربية ‘ فواضح من سياقه أنه يقصد به : أن العرب نقلت فن تصنيف الخرافات ، ولا يقصد أنها نقلت كتاباً بعينه .

4- وقد أوضح أن هذا الفن الذي نقلته العرب إلى لغتها ‘ تناوله الفصحاء والبلغاء ، فهذبوه ونمقوه ، وألفوا في معناه ما يشبهه ‘ . وهذا يوضح ثلاثة أمور :

أ _ أن العرب لم يكتفوا بنقل هذا الفن في إلى لغتهم ، بل هم ‘ هذبوه ونمقوه ‘ ، وهذه ملاحظة مهمة ينبغي أن ننتبه إليها .
ب _ وأنهم لم يكتفوا بتهذيبه وتنميقه، بل ‘ ألفوا في معناه ما يشبهه ‘، وهذه ملاحظة جديرة هي الأخرى بالانتباه ج _ أن الذين ألفوا في هذا الفن من العرب لم يكونوا من الرواة الشعبيين ، بل كانوا من ‘ الفصحاء والبلغاء ‘ .

5 - توهم ابن النديم أن الفرس الأول هم أول من صنف في هذا الفن ، وأن كتاب ‘
هزار أفسان ‘ أول ما صنف فيه، وفاتته الأصول الهندية لهذا الكتاب .

6- أن ابن النديم لم يكن راضياً عن كتاب ‘ هزار أفسان ‘ ولذا وصفه بأنه ‘ كتاب غث بارد الحديث ‘ .

7- وذكر أنه رأى هذا الكتاب بتمامه دفعات، ولكنه لم يوضح ما إذا كان رآه بالعربية أم بالفارسية، وهذا يدعو إلى الانتباه أيضاً .

نخلص مما تقدم أن ابن النديم لم يتحدث في قليل أو كثير عن كتاب ألف ليلة وليلة . فقد قصر حديثه على فن تصنيف الخرافات ، وكتاب هزار أفسان . وهذا يدعونا إلى أن نستنتج أن ألف ليلة وليلة كتاب آخر مستقل ، وأن الذين ظنوا أن هذا الكتاب ترجمة لكتاب هزار أفسان واهمون . وسبب هذا الوهم ، في ما يبدو ، وجود الإشارة إلى حكاية شهرزاد في كلا الكتابين ، مع أن هذا لا يسوغ الوقوع في مثل هذا الوهم ، كما سنرى .

على أن ابن النديم بالغ، كما نحسب، في قوله إن العرب نقلت فن تصنيف الأسمار والخرافات عن الفرس، وآية ذلك أن القص والتخريف ليس طارئاً على العرب. فقد كانت لهم أخبارهم وأوابدهم وقصصهم وأساطيرهم وخرافاتهم ، وكانوا يروونها في جاهليتهم وإسلامهم، حتى إذا حل النصف الثاني من القرن الهجري بدأوا بتدوينها. وقد بدأ تدوين القصص على عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد كان له ‘ غرام خاص بالقصص ‘ (14) وأول من صنف فيها من العرب هو عبيد بن شريّة، وقد قال المسعودي ، كما مر بنا ، إن كتاب عبيد في هذا الشأن كان متداولاً في أيدي الناس ومشهوراً في عصره . وذكر ابن النديم نفسه أنه رآه. وهذا يعني أن العرب صنفوا في الخرافات والأسمار، قبل أن يترجم كتاب هزار أفسان إلى اللغة العربية . ولسنا نريد بهذا أن ننكر ما تعلمه العرب من غيرهم في هذا المجال ، ولكن نريد الحد من المبالغة والتهويل في تقدير أهمية ما تعلموه .

لهذا كله أشعر بالأسف حين أجد عدداً من الباحثين العرب الذين كتبوا عن هذا الكتاب، أعني كتاب ‘ ألف ليلة وليلة ‘ الأم، قد توهموا فحسبوه كتاباً مترجماً. وبدلاً من أن يتحققوا من هذا الأمر ويدققوا في هوية الأم القديمة للكتاب، تشاغلوا بالدفاع عن صوره المتأخرة التي وصل بها إلينا، وراحوا يدافعون عن عروبة هذه الصور، بدلاً من الدفاع عن عروبة الكتاب الأم نفسه، بسبب قراءة نصي المسعودي وابن النديم قراءة سريعة. فهذا ما وقع فيه الأساتذة الفضلاء: محمود تيمور وأحمد أمين وسهير القلماوي وبيومي السباعي ومحمد مفيد الشوباشي وأحمد الشحاذ وغيرهم. بل أن باحثاً فاضلاً مثل الراحل جمال الدين بن الشيخ عد كتاب ألف ليلة وليلة في الموسوعة العالمية تراثاً إنسانياً ‘ اشترك في تأليفه كل الأمم القديمة وتضافرت على إبداعه مجتمعة، فهو ثمرة من ثمرات التعاون الإنساني الذي لا نستطيع الظفر بمثله اليوم ‘ (15) هذا ما قاله الراحل ابن الشيخ وكأننا بإزاء ملك مشاع ، أو تركة موقوفة لا ينبغي لأحد أن يبحث عن نصيبه فيها .

على أن باحثاً فاضلاً آخر هو الدكتور عبد الملك مرتاض توهم ، وهو يحاول إثبات عروبة الكتاب ، أن كتاب ألف ليلة وليلة الأم هو الكتاب الذي جمع قصصه ابن عبدوس الجهشياري ، استناداً إلى فقرة أخرى وردت في فهرست ابن النديم .(16) فصاحب الفهرست يقول إتماماً لنصه السابق ، ولكن في فقرة مستقلة :’ ابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري ، صاحب كتاب الوزراء ، بتأليف ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم ، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره ، وأحضر المسامرين ، فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون ، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما حلا بنفسه ، وكان فاضلاً ، فاجتمع له من ذلك أربع مئة ليلة وثمانون ليلة ، كل ليلة سمر تام ، يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر ، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر ، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي ‘ .(17)

وأنا ألاحظ أن هذه الفقرة تتحدث عن كتاب آخر، هو غير كتاب هزار أفسان، وغير كتاب ألف ليلة وليلة، كتاب لا هو بالمترجم ، ولا هو بالمؤلف، بل مدون، جمع الجهشياري مادته من ألسنة المسامرين ومن بطون الكتب المصنفة، آخذاً من هذه المصادر أحسن ما عندها. وهذا يعني بوضوح أنه كتاب آخر تماماً، غير كتاب ألف ليلة وليلة، ولكن مؤلفه كان مأخوذاً هو الآخر بسحر رقم ‘ الألف ‘، فقد أراد جمع ألف سمر، تروى في ألف ليلة، لأن ‘ كل ليلة من لياليه سمر تام ‘. ويبدو أن الدكتور عبد الملك مرتاض بنى وهمه على حساب خاطيء لعدد أوراق ما أنجزه الجهشياري من كتابه. فقد ظن أن عدد هذه الأوراق يبلغ (2440) ورقة بينما العدد الصحيح هو (24000) ورقة، فهذا الرقم هو حاصل ضرب عدد أوراق كل سمر (50 ورقة ) في عدد ما أنجزه الجهشياري من الأسمار (480 سمراً ). ( 50 480 = 24000 ) . وعدا ذلك فات الدكتور مرتاض أن الجهشياري اختار طريقة للسرد غير طريقة السرد المتداخل التي قام عليها كتاب ألف ليلة وليلة. فقد جعل كتابه في أجزاء ‘ كل جزء منها قائم بذاته لا يعلق بغيره ‘، وجعل من كل ليلة سمراً تاماً لا يقطعه بغتة صياح ديك الصباح .

أخلص مما تقدم من تفكيك نص المسعودي ونص ابن النديم إلى أن كتاب ألف ليلة وليلة كتاب آخر غير الذي تحدثا عنه في نصيهما، كتاب لم يترجم عن كتاب "هزار أفسان". وأبسط دليل على ذلك أن كتاب "هزار أفسان"، الذي رآه ابن النديم، يحتوي على ألف ليلة ودون المائتي سمر ، في حين أن كتاب ألف ليلة وليلة لا يحتوي على هذا العدد من الليالي حتى بعد ما أقحم عليه من زيادات . بل يبدو أن نقص عدد لياليه عن الألف كان أحد أسباب إقحام هذه الزيادات عليه في الحقب اللاحقة .

(4)

والآن إذا لم يكن كتاب ألف ليلة وليلة هو كتاب هزار أفسان نفسه ، فما هو إذن ؟

قبل أن أجيب عن هذا السؤال يحسن بنا أن نقع على حقيقة كتاب ‘ هزار أفسان ‘ كما وعدت من قبل. وأول ما ألاحظه أن المسعودي وصفه بأنه كتاب يحتوي على خبر الملك والوزير وابنته شهرزاد وجاريتها دنيا زاد، وأوضح أن معنى اسم الكتاب باللغة العربية هو ‘ ألف خرافة ‘، وذكر أن الناس تسمي هذا الكتاب : ألف ليلة وليلة.(18)
أما ابن النديم فذكر، وهو يتحدث عن فن تصنيف الأسمار والخرافات، أن كتاب هزار أفسان ( ولم يقل هزار أفسانة كالمسعودي ) هو أول كتاب عمل في هذا المعنى. ثم أعطى بعض التفاصيل عن حكاية شهرزاد، وراح يوضح ما بلغه حول تأليفه فقال ‘ قيل إن هذا الكتاب ألف لحمانى بنت بهمن ‘ ثم تحوط وقال ‘ وجاءوا بخبر غير هذا ‘ ولكنه لم يذكر الخبر. (19) وذكر في وصف الكتاب أنه ‘ يحتوي على ألف ليلة ودون المائتي سمر، لأن السمر ربما حدث به في عدة ليال ‘ . وأكد أنه رأى الكتاب بتمامه ، ولكن على دفعات، غير أنه وصفه بأنه ‘ كتاب غث بارد الحديث ‘ .(20)
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...