ديب علي حسن - محنة ألــف ليلــة وليلــة !!

محنة ألف ليلة وليلة تبدأ من جديد كما محن التراث العربي..نقول محنة لأن الكثيرين ممن يظنون أن القدر قد أرسلهم لتعقيم التراث وتطهيره وإعادة صياغته من جديد..

تطبع ألف ليلة وليلة في أكثر من مكان وقد اختصرت وبترت وشوهت وعلى ذمة الناشر فإن الطبعة كما جاء على الغلاف: مهذبة ومنقحة..نعم منقحة أي أن ثمة يداً قد طالتها حذفاً وتشذيباً حتى لم يبق من حكاياها إلا الميت، كسر الجناح وتيبس الخيال ومأساة تراثنا مع الذين يدعون أنهم حراسه تبدأ ولا تنتهي. هذا محقق تطال يده كتاباً تراثياً فيعيد طباعته وقد قضم نصف صفحاته وأضاف وعلق وقدم مواعظ بلاحدود، وذاك متابع ينبري للبحث في القيم والمواعظ ويخترع ما يراه مناسباً ليضيفه الى نصوص لم تعرفه. حراس التراث الذين يعقمونه أكثر خطراً عليه من أولئك الذين يعملون فيه استغلالاً ونشراً تجارياً..

بل ما أجمل الطبعات الشعبية التي حافظت على عفوية بعض السير والملاحم الشعبية وصانتها كما هي دون تحريف أو تزوير أو إعادة صيانة أخلاقية. وربما سيأتينا يوم من الزمن ينبري فيه باحث ليقول إن أشعار الملك الضليل فاحشة ويجب أن تمنع وأن عمر بن أبي ربيعة تجاوز المألوف وأن شعرنا العربي يحتاج الى إعادة تهذيب سيأتي ذلك اليوم دون شك ولكننا لم نكن نظن أن ادعاء مجانياً سوف يصدر ليصدر ألف ليلة وليلة الى مكان آخر وجهة أخرى لم يعرف التاريخ لها صفحة إبداعية أصيلة، بل كانت أساطيرها إن وجدت منحولة ومسلوبة من الآخر. ادعاء وتضليل د.جمال شاكر البدري الباحث العراقي المعروف خرج علينا ببحث أصدره في كتاب أثار جدلاً واسعاً بين المتابعين والباحثين وها هو يعيد طباعته ثانية في دمشق ويصدر عن دار صفحات الكتاب بعنوان: اليهود وألف ليلة وليلة. وتقوم دراسته على فرضية تقول: - إن ألف ليلة وليلة نتاج فكري -أدبي- سياسي تاريخي اجتماعي له أهمية قصوى بين نتاجات الآداب العالمية. - إن مؤلف الليالي ليس فرداً واحداً، بل هي مؤسسة لها صفة الديمومة والاستمرارية بغض النظر عن الأشكال والتطورات التاريخية والسياسية والثقافية المحيطة بها. - إن «مؤلف» الليالي وإن كان زمن تأليفها مؤكداً في العصر العباسي ليس عربياً ولا مسلماً، بل اتخذ العروبة والإسلام والآداب الشرقية وسيلة لغاية أبعد وإن كان مقيماً آنذاك في ديار العروبة والإسلام وتحت خلافة بني العباس. إن المقتربات غير المباشرة هي الأوسع في أسلوب الليالي ترتبت عليها قرون من الزمن نتائج تقترب بنا من الموروث اليهودي أكثر ما تقترب بنا من غيره. إن ألف ليلة وليلة في نسختها الأصلية العراقية الأولى استغدت الى جميع نتاجات الفكر والأدب والدين في المشرق العربي والإسلامي، ولكنها تعاملت مع ذلك النتاج وفق رؤيتها الخاصة، حذفاً وإضافة وتعديلاً وتشويشاً وإبرازاً لحقائق وطمساً لأخرى والانتساب لواقع ورفض لآخر عن طريق الرمز والأسطورة والخيال وأن النسخ اللاحقة للنسخة البغدادية الأصلية هي التي دخل عليها المزيد من التحريف والإضافة بما جعلها تبدو مؤلفاً عربياً إسلامياً مفتوحاً لغاية عصر المماليك. إن هناك أحداثاً جساماً سجلتها ألف ليلة وليلة لم تعط حقها في تقييم هذا العمل الكبير ودلالاته الأبعد، مما دفعنا الى الاشارة الى أن مؤلف ألف ليلة وليلة قد نجح في تحقيق النتائج الأولية لمهمته غير المنظورة عبر العصور فكان بالتالي باختفاء اسمه فاق من حيث التأثير على إعلانه صراحة، وهذه ميزة لم نجدها لغير اليهود في الكتابة والتأليف والتحريف والطمس وربما هي الأساس لانطلاق الحرب النفسية الحديثة عبر عمليات غسل الدماغ وتوجيه العقول والتأثير على توجهات الرأي العام لتحقيق متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية محددة سلفاً وفق حسابات خيالية استيعابية لمجريات الأمور. بعد هذه الفرضيات التي تقتضي تقديم الأدلة والبراهين وأدلته وبراهينه ما في الحكايا من قصص وخيال وما الى ذلك..وكأن العرب لم يعرفوا الحكايا ولم يعرفوا المغامرات النسائية ولم يعيشوا في القصور وكأنهم عبر العصور لم يروا وجه حسناء ليلهم ونهارهم سارحون في الصحارى، كأنهم ما بنوا مدينة وحضارة في العصر العباسي انصهرت في بوتقتها ثقافات وحضارات العالم كله آنئذ وكانت العبقرية العربية في استيعاب ذلك. لم ير الباحث في ألف ليلة وليلة الخيال العلمي الأصيل في اختراع وسائل التجوال /الحصان الطائر/المرآة السحرية/ حتى شهرزاد الطبيبة المداوية التي عالجت شهريار بالقصص والحكايا لم ير فيها إلا متعة، ولكي يعقم الليالي ويعيدها بيضاء طاهرة دون ذنب يريد أن يحدد حجم الاسرائيليات فيها كما يقول. أفيون الشرق يخلص الباحث الى القول: إن ألف ليلة وليلة في الألف سنة الأخيرة من التاريخ العربي الإسلامي كانت «أفيون الشرق» الثقافي والفكري والسلوكي الذي استنشقه (الخاصة) ليعمم مفعوله بين جميع العامة وإن استمرار تأثيرات (ألف ليلة وليلة) يعني استمرار (الميثولوجيا) على عموم الشرق بكل مظاهر التخلف التي تؤدي إليها سياسياً واجتماعياً ونفسياً وثقافياً وفي النسق القيمي للإسلام وفي تشويه صورة الشخصية العربية-الإسلامية لدى الرأي العام العالمي إعلامياً ونفسياً..لقد اقترب الشاعر العربي الراحل نزار قباني كثيراً من الحقيقة عندما دعا الى اسقاط ألف ليلة وليلة من حياة العرب حتى يستفيقوا من هزيمتهم بعد حرب حزيران عام 196٧. القلماوي وألف ليلة وليلة من أمتع الدراسات الأدبية والنقدية التي تناولت ألف ليلة وليلة تأتي دراسة د.سهيل القلماوي وهي رسالة أكاديمية رصينة أشرف عليها د.طه حسين وصدرت في كتاب عن دار المعارف بمصر بعنوان: «ألف ليلة وليلة» وفيها دراسات واقعية نقدية للكثير من القضايا وهي على الطرف الآخر مما يذهب إليه جمال البدري في ادعائه. ادعاء مجاني ما يذهب إليه البدري ربما لا يقوى أمام البحث الدقيق لا سيما إن الدراسات دلت على أن الذين ينسب إليهم هذا السفر الإبداعي الكبير قد سطوا على تراث الشعوب وأخذوه وقدموه للآخر الغرب تحديداً على أنه تراثهم، سرقوا التراث الشعبي أزياء وغناء وطعاماً وقالوا إنه إبداع لهم..ووصل الأمر بأحد سياسييهم الى حد القول إنهم بنوا الاهرامات.. واليوم يأتي باحث يقدم زهوة تراثنا لهم بحجة أنها مليئة بالليالي الملاح والخيال..الأمر يحتاج الى الهدوء والروية والبحث العميق، فهكذا خيال وأجواء كان لابد أن تكون في حضارة نزدهي بها..والروح الجماعية أضافت وحذفت وعدلت وتراكمت حتى غابت ملامح كثيرة وترسخت صور صارت نهاية المطاف.



* thawraalwehdagovsy
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...