نقوس المهدي
كاتب
لا تزال الكثير من روائع الأعمال الأدبية العالمية بما فيها الحكايات الشعبية والخرافية، تمارس سحرها وتأثيرها على أجيال متعدِّدة من البشر وفي فترات مختلفة من الزمن. وتبقى حكايات "ألف ليلة وليلة" على رأس هذه الأعمال العالمية التّي أثّرت ـ ولا تزال ـ في مختلف الأنواع الأدبية والفنّيّة من شعر وقصّة ورواية ومسرح وسينما. ولم يكن هذا التّأثير مقتصراً على الأدب العربي فحسب، بل اِمتدّ سريعاً ليشمل الآداب العالمية؛ إذ ما من شاعر أو روائي أو فنّان اِطّلع على ألف ليلة وليلة إلاَّ تسرّبت إلى لا شعوره وسكنت فيه مؤثِّرةً في إبداعه تأثيراً لا يمكن نسيانه أو طمسه. ومع كلّ الدراسات التّي كُتبت بمختلف لغات العالم حول اللّيالي إلاَّ أنّ ذلك لم يكن كافياً للكشف عن السّرّ الذّي يكفُل لها استمراريتها وشعبيتها، ويجعلها تمارس حضورها بفاعلية في الوعي الفكري والوجود البشري، بل جاءت هذه الأبحاث والدراسات ـ مع ما قدّمته من مقاربات قيّمة وتحليلات عميقة لبنية اللّيالي ومضامينها ـ لتزيد من وَلَعِنا بالبحث فيها ومحاولة الكشف عن بعض الغموض الذّي يكتنف حكاياتها، إذ لا تزال أرضاً بكراً للبحث والتّقصّي بالرّغم من آلاف الدّراسات التّي كُتبت حولها. وربّما هذا راجع بالدّرجة الأولى إلى أنّ حكايات ألف ليلة وليلة مكتوبة باللّغة الرّمزيّة نفسها التّي كُتب بها الأساطير والأحلام وحكايات الجنّيّات؛ فاللّغة الرّمزّية لغة تتعبّر بواسطتها الخبرات الحميمة والمشاعر والأفكار كما لو كانت خبرات معيشة في العالم الخارجي أو أحداثاً من أحداث هذا العالم. والمنطق بالنّسبة لهذه اللّغة يختلف عن المنطق المعروف الذّي يخضع لـه الكلام اليومي. فهي تخضع لمنطق خاصّ لا يعتبر الزّمان والمكان مقولتيّه الأساسيتين، بل التّرابط والشدّة. إنّها اللغة الجامعة الوحيدة الّتي اِستطاع الجنس البشري أن يُبلورها ويجعلها واحدة بالنّسبة لكلّ الحضارات وعلى مرِّ التّاريخ. ولهذه اللّغة، إن جاز القول، قواعدها ونحوها الخاصّات بها. فينبغي أن نفهمها إذا كنّا نتوخّى فهم معنى الأساطير والأحلام وحكايات الجِّنيّات([2]). ولعلّ بتحليلنا لإحدى حكايات اللّيالي (حكاية الصيّاد والعفريت) بالبحث عن تجلِّيات الاغتراب في شخصياتها ورمزيته، نحاول أن نفكِّك تلك اللّغة الرّمزيّة التّي كُتبت بها؛ وبالتَّالي نحاول اِستخراج تلك الآلية النفسية التّي تجعل هذا النوع من الحكايات دائم الجاذبية لعقولنا وذواتنا، وفي الوقت نفسه نحاول فكَّ سرِّ تشوُّفنا إلى الاستماع إليها مجدّداً دون مللٍ أو كللٍ.
تقديم عام:
تبتدئ حكاية الصيّاد والعفريت من الليلة الثالثة وتستمرّ إلى نصف الليلة التاسعة من المجلّد الأوّل من طبعة بولاق/القاهرة (سنة 1252 هـ/سنة 1824م) التّي اعتمدناها في هذه الدراسة.
تتحدّث الحكاية عن صياد فقير جدّاً يعيش مع عائلته بما يحصل عليه من الصيد. وكان من طبيعته أن يرمي شبكته أربع مرّات في اليوم فقط. وذات يوم، رمى شبكته ثلاث مرّات متتالية دون أن يحصل على شيء ذي بال؛ إذ أخرج أشياء غير عادية بالنّسبة لصيّاد مثله (حمار ميّت، جرّة مليئة بالرّمل، أوساخ...). لكنّه في المرّة الرّابعة، بعد أن توكّل على الله وتضرّع إليه، تمكّن من استخراج قمقم من نحاس أصفر مختوم.
فرح الصيّاد بذلك كثيراً وأراد أن يبيعه في سوق النّخاسين، لكنّ ثِقل هذا القمقم جعله يحجم عن بيعه وأغراه بفتحه؛ فعالجه بسكين إلى أن فتحه أخيراً. عند هذه اللّحظة، تسرّب دخان من القمقم وصعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الأرض، ليتحوّل إلى عفريت عملاق ضخم. كافأ العفريت الصيّاد على إنقاذه لـه بمحاولة قتله، ذلك لأنّه انتظر طويلاً داخل القمقم قبل إطلاق سراحه. وقد وعد ثلاث مرّات بمكافأة من يُخرجه من سجنه، ولكن دون جدوى؛ هذا ما جعل العفريت يغضب غضباً شديداً ويقسم بأن يُخيَّر منقذه الميتة التّي يريدها. وكان من سوء حظّ الصيّاد أنّه أنقذه في هذه المرّة الرّابعة.
تفاجأ الصّيّاد بهذا الموقف المخالف لكلّ النّظم والأخلاق المتعارف عليها؛ وحينما علم الصّيّاد بأنّه مقتول لا محالة، دبّر حيلة أوقع فيها العفريت وأعاده إلى سجنه داخل القمقم. عند ذلك اِعترف العفريت بذنبه وخطئه ووعد الصّيّاد بتمكينه من الثروة إن هو أطلق سراحه. ولقد برّ العفريت بوعده بعد أن أخرجه الصّيّاد ثانية من القمقم إذ قاده إلى بركة ماء وطلب منه أن يُلقي بشبكته في مائها، فاستخرج منها أربع سمكات مختلفة الألوان ونصحه بأن يُهديها إلى الملك الذّي سوف يكافئه مكافأة قيّمة. لكنّ الملك ـ بعدما حمل الصّيّاد إليه السمكات ـ فُوجئ بأشياء غير عادية تصدر عن السمكات؛ ممّا جعله يُحضره ويطلب منه أن يدلّه على مكان البركة التّي اصطاد منها تلك السمكات الغريبة.
تبيّن فيما بعد بأنّ هذه البركة ما هي إلاَّ مدينة مسحورة كان يحكمها سلطان شابّ، وحين اكتشف هذا السلطان خيانة زوجته له ـ وهي ابنة عمّه في الوقت ذاته ـ مع عبد أسود، حوّلته هذه الأخيرة إلى كائن نصفه الأعلى من بشر ونصفه الأسفل من حجر، ثمّ سحرت أهل مدينته ـ حسب ملّتهم ـ إلى أربعة أنواع من السمك: السمك الأبيض وهم المسلمون، السمك الأزرق وهم النّصارى، والسمك الأصفر وهم اليهود، بينما السمك الأحمر هم المجوس. وبمساعدة السلطان الأوّل زال السحر عن المدينة وعاد الأمير الشاب إلى هيئته الآدمية وكذلك أهل مملكته؛ بينما كان جزاء الزوجة الساحرة والعبد الأسود هو الموت. وتنتهي الحكاية بأن يتزوّج السلطانان من اِبنتي الصّيّاد.
ينبغي أوّلاً أن نشير إلى أنّ هذه الحكاية تضمّ مجموعة من القصص الفرعية متضمَّنَة فيها، وهي: قصّة "العفريت والنّبيّ سليمان" ـ قصّة "الملك يونان والحكيم دوبان" ـ قصة "الملك السندباد" ـ قصّة "الأمير والوزير" وقصّة "المدينة المسحورة". فمع وجود علاقة وثيقة وخفيّة يفرضها الجوار بين هذه القصص إلاَّ أنّني سأكتفي ـ في هذا التحليل ـ بالحكاية الأساسية، أي حكاية "الصّيّاد والعفريت" وحكاية "المدينة المسحورة" التّي ترتبط ارتباطاً يكاد يكون تامّاً بالحكاية الأساسية وتُعتبر مكمّلة لها.
تقدّم لنا القصّة منذ بدايتها، شخصيتين رئيسيتين هما "الصيّاد" و"العفريت". هاتان الشخصيتان تتلاقيان في لحظة مهمّة جدّاً؛ إذ كلٌّ منهما يعيش أزمة كبرى في حياته: أزمة وجود؛ كما أنَّ لكلٍّ منهما مجموعة أهداف وغايات يريد تحقيقها: فوجود الصيّاد (ومن ورائه عائلته المتكوّنة من الزوجة والعيال الثلاث) مهدّد بالفقر والحاجة؛ ولهذا، فغايته تكمن في الحصول على صيد وفير يضمن به قوت أسرته ويبعد عنه شبح العَوَز والفاقة إلى حين.
بينما نجد من الجهة الأخرى أنّ وجود العفريت كذلك، مهدّد بالفناء والموت، وذلك بوجوده مسجوناً داخل قمقم لمدّة طويلة بسبب غضب النبيّ "سليمان" عليه. فغاية العفريت المُلِحّة تتمثّل في الخروج من سجنه (القمقم) والحصول على الأمان بإظهار الطّاعة للنبيّ "سليمان" وطلب العفو منه.
ويأتي الصيّاد إلى البحر ويرمي شبكته؛ وبعد محاولات ثلاث فاشلة، ينجح في الرّابعة، حيث يصطاد قمقماً من النحاس عليه خاتم "سليمان". فيفرح كثيراً لأنّ القمقم من النحاس الأصفر ويساوي عشرة دنانير ذهباً في سوق النّخّاسين، ممّا يكفل له قوت عياله مدّة من الزمن. لكنّه يجده ثقيلاً حينما يحمله، هذا ما يزيد من فضوله ويدفعه إلى فتحه بإزالة الخاتم الموجود عليه. عند هذه اللّحظة "خرج دخان صعد إلى عنان السماء ومشى على الأرض... ثمّ انتفض فصار عفريتاً"([3]).
هذا العفريت بشّر الصّيّاد منقذَه بالموت قائلاً: "أَبشرْ يا صيّاد... بقتلك هذه السّاعة شرّ القتلات"([4]) مهدِّداً وجود الصيّاد بالفناء للمرّة الثانية (المرّة الأولى كانت عند إخفاقه في الصيد ثلاث مرّات متتالية).
إنّ مكافأة من ينقذ حياتك بأن تريد قتله، شيء يُخالف التّصوّرات العادية ويخالف في الوقت نفسه ما تواضع الناس عليه وألِفوه. ومن هنا يحقّ لنا أن نطرح السؤال التّالي، كما يمكن أن يطرحه أيُّ قارئٍ عادي يطَّلع على هذه الحكاية: لماذا يُجازي العفريتُ الصيّادَ مخلِّصَه بأن يريد قتله؟... ما سبب هذه المكافأة اللاّمعقولة؟..
وقبل أن نجيب على هذا التّساؤل، يجب علينا أوّلاً أن نأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العناصر تطرحها الحكاية ذاتها وهي:
ـ الصيّاد إنسيٌّ والعفريت جنّيٌّ (من الجنّ).
ـ الصيّاد مخلوق من لحم ودم وعظم، بينما العفريت من دخان.
ـ يختلف زمن الصيّاد عن زمن العفريت بألف وثمانمئة سنة.
ـ العفريت مسجون داخل قمقم بعيد عن العالم الخارجي جاهلٌ بما يحدث فيه، بينما الصيّاد خارج القمقم متّصل بالعالم الخارجي عالمٌ بما يجري فيه.
إنّ كلّ العناصر في تآلفها وتكاملها، تؤكّد على وجود اختلافات عميقة بين الشخصيتين، وذلك على المستوى الفيزيولوجي/البيولوجي وعلى المستوى الزّمكاني (الزمان والمكان). وهذا ما يجعلنا نستنتج بأنّ هاتين الشخصيتين تنتميان إلى عالمين مختلفين ومتناقضين في الوقت ذاته؛ ممّا يُمكِّننا من القول بأنّ كُلاًّ من الشخصيتين تعيش غريبة عن عالم الشخصية الأخرى. وعلى هذا الأساس، فإنّ سلوك الجنّي (القتل كمكافأة) لا يمكن أن يجد له تفسيراً إلاَّ ضمن علاقة الاغتراب الموجودة بين عالم العفريت وعالم الصيّاد. وبمعنى آخر، تُعتبر شخصية العفريت ـ بالمنظار النفسي ـ شخصية مغتربة عن عالم الإنس (الصيّاد) من حيث الوجود المادي (الزّمكاني)، ومغتربة في الوقت نفسه عن قيم عالم الإنس ومقاييسه وقوانينه.
ومع أنّ هذا الاغتراب يتجلّى في سلوك العفريت مع الصيّاد، إلاّ أنّنا نجد تجلِّيّاً آخر له داخل الحكاية يُدلِّل عليه بشكل واضح وجليٍّ، وهو:
ـ إنّ زمن العفريت غريب عن زمن عالم الصيّاد بنحو ألف وثمانمئة عام. فحين خرج العفريت من القمقم ظنّ أنّ النّبيّ "سليمان" لا يزال حيّاً يتحكّم في الجنّ، فقال في الحال: "لا إله إلاَّ الله سليمان نبيّ الله.. يا نبيّ الله لا تقتلني، فإنّي لا عُدتُ أُخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً، فقال له الصيّاد: أيُّها المارد أتقول سليمان نبيُّ الله، وسليمان مات من مدّة ألف وثمانمئة سنة ونحن في آخر الزمان"([5]).
فالصيّاد ينتمي إلى آخر الزمان، بينما العفريت ينتمي إلى زمن وُجد منذ ألف وثمانمئة عام، نظراً لبقائه مسجوناً في القمقم كلّ تلك المدّة. إنّ عالمين يختلفان من حيث الزّمن الذّي يُسيِّرهما ومن حيث المستويين الفيزيولوجي والبيولوجي لأفرادهما، لاشكّ أنّ هذين العالمين يختلفان كذلك من حيث القيم والمعايير والقوانين التّي تحكم كلاًّ منهما. ولعلّ هذا يعني بالضرورة أنّ ما قد يُعتبر مقبولاً من معايير وسلوكات عند أحدهما، قد يُعَدّ عند الآخر مخالفاً لقوانينه معارضاً لها. وحسب أخلاقيات عالم الصيّاد، كلّما كان الأسر أكثر طولاً كلّما كان الأسير أكثر اِعترافاً بفضل مطلقه عليه؛ ولكنّ هذا ليس ما يرويه الجنّيُّ([6])، فخلال القرن الأوّل لسجنه داخل القمقم أقسم: "... كلّ من خلّصني أغنيه للأبد. فمرّت المئة عام ولم يخلِّصني أحد ودخلت عليّ مئة عام أخرى فقلت كلّ من خلّصني فتحتُ له كنوز الأرض فلم يخلّصني أحد. فمرَّ عليَّ أربعمئة عام أخرى فقلتُ كلّ من خلّصني أقضي لـه ثلاث حاجات فلم يخلّصني أحد فغضبت غضباً شديداً وقلت في نفسي كلّ من خلّصني في هذه السّاعة قتلته ومنَّيته كيف يموت، وها أنت قد خلّصتني ومنّيتك كيف تموت"([7]). ولعلّ هذا ما يفسِّر سلوك الجنِّيّ تجاه الصيّاد ومكافأته بالموت؛ كما أنّ "هذا ما يشعر به الطفل الصّغير تماماً عندما يحسّ بأنّه "قد هُجِر" إنّه يُعزّي نفسه أوّل الأمر بتخيّل سعادته عندما تعود أمّه، أو إذا اِحتُجِزَ في غرفته يتخيّل سروره عندما يُعطَى الإذن بالخروج وكم يشكر أمّه. ولكن بقدر ما يمرّ الوقت، يتضاعف غضب الطفل ويبدأ بتخيّل الانتقام الرّهيب الذّي سيقوم به ضدّ أولئك الذّين حرموه أو عاملوه بخشونة. أن يكون سعيداً جدّاً في لحظة التّشجيع لا يمنع أفكاره من أن تذهب من مكافأة إلى معاقبة أولئك الأشخاص الذّين سبّبوا لـه الحزن. وهكذا تطوّر تفكير الجنّيّ الذّي يمثِّل للطفل الحقيقة النّفسية"([8]). فالسّيرورات اللاّشعورية لا تبدو للطفل أكثر وضوحاً إلاَّ عبر صور تتوجّه إلى لا شعوره رأساً. الصور التّي تستدعيها الحكايات الشعبية تلعب هذا الدّور أيضاً. كما أنّ الطفل لا يفكِّر: "عندما ترجع أمّي، سأكون سعيداً" ولكن "سأعطيها بعض الأشياء"، لذلك الجنّيّ يقول لنفسه: "سأجعل من يحرِّرني غنيّاً". الطفل لا يفكِّر "أنا غاضب إلى حدٍّ أنني قادر على قتل هذا الشخص" ولكن "عندما أراك سأقتلك" كذلك الجنّي يقول: "إذا أنقذني أحدهم سأقتله". إذا كان من المفترَض أنّ الشخص الحقيقي يفكّر أو يتصرّف بهذا الشكل، فإنّ الفكرة ستكون مقلقة جدّاً بحيث لا نفهمها. ولكن الطفل يعرف أنّ الجنّي شخص خيالي فيسمح لنفسه حينئذ أن يتماثل مع ما يعلِّله دون أن يكون مرغماً على اِستنتاجه مباشرة"([9]).
من هنا يمكننا فهم سبب وَلَعِنا بهذه الحكايات التّي لا نملُّ من الاستماع إليها سواء كنّا أطفالاً أو رجالاً بالغين (فبمنظار علم النفس، يبقى البالغ يحتفظ دائماً بالطفل في داخله)، لأنّها تحاول من النّاحية النّفسية أن تفسّر لنا مشكلاتنا النّفسية بطريقة مأمونة كما تقدّم لنا حلولاً لها. ولعلّ أهمّ ما قدّمته لنا هذه الحكاية هنا، هو تفسير الجانب العدواني فينا من خلال وصف السّيرورات النّفسية التّي مرّ بها العفريت في سجنه والتّي أدّت فيما بعد إلى عدوانيته غير المنطقية. وقد وصلت هذه الحكاية إلى النّتيجة نفسها التّي وصل إليها علم النّفس (وخصوصاً التحليل النّفسي) والمتمثِّلة في أنّ "كلّ توتّر عدواني ينتج عن الإحباط. شدّة العدوانية تتناسب مع شدّة الإحباط من ناحية وقوة الحاجة المحبَطَة من ناحية ثانية. تزداد العدوانية مع نموّ عناصر الإحباط"([10]). فالعفريت هنا يرمز إلى الجانب اللاّشعوري فينا (الهو ـ Le ca)([11]) الذّي يخضع إلى مبدأ اللّذة؛ وإذا لم تُحقّق رغبات [الهو] فإنّه يًصاب بالإحباط ممّا يدفع بشخصيتنا إلى اِنتهاج ردّ فعلٍ عدواني تجاه من كان سبباً في عدم تحقيق رغباته أو دوافعه. إنّ هذه الحكاية تتناول بطريقة رمزيّة مشكلات الفرد النفسية مقترِحة في كثير من الأحيان حلولاً لها؛ فهي تتناول مشكلات نفسية ثابتة وموحّدة عند جميع الناس مهما اختلفت أوطانهم أو أزمانهم، ومهما تعدّدت انتماءاتهم الطبقيّة أو السياسية أو العقائدية. هنا يكمن سرّ جاذبية هذه الحكايات وديمومتها وتأثيرها على عقول الكبار قبل الصّغار. ومع هذا، فإنّ هذا التّفسير لا يستثنى تفسيراً آخر لسلوك العفريت الشّاذ هذا:
تخبرنا الحكاية بأنّ الجنِّيّ لم يُوضع في القمقم بمحض إرادته، وإنّما سُجن في هذا القمقم من قِبل النَبيّ سليمان بعدما عصى أوامره. فهذا السجن يُعتبر فصلاً للعفريت عن عالم الواقع وقطعاً لكلِّ اتّصالٍ به؛ ممّا جعله يعيش في عزلة تامّة عن العالم الخارجي (الواقع) لمدّة طويلة. هذا الانفصال وهذه العزلة عن عالم الواقعِ اضطرّا العفريت إلى الاتّصال بعالم آخر والتّأقلم مع قيمه وقوانينه؛ هذا العالم الآخر هو عالم القمقم الضيّق (السجن). وبقدر ما تزيد مدّة العزلة والسّجن في القمقم بقدر ما يزيد غضب العفريت على من في العالم الخارجي الذّي كان السّبب في سجنه بهذه الطريقة القاسية. وتصف لنا الحكاية بشكل فريد وممتع تصاعد غضب العفريت كلّما طالت مدّة سجنه، وذلك بتصويرها لنا للسيّرورة النفسية للعفريت من خلال الدرجات الأربع لغضبه المتصاعد بحسب الدرجات الأربع لخيبته:
فخيبته الأولى بعد سجنه في القمقم دفعت به في المرّة الأولى إلى أن يكافئ الذّي ينقذه من سجنه بجعله غنيّاً للأبد؛ ومع أنّ المكافأة كانت عظيمة جداً (مكافأة أبدية)، لكن لا يأتي من ينقذه، فيُصاب بالخيبة الثّانية التّي لم يكن يتوقّعها. فتمرّ فترة أخرى من الزمن على سجنه ممّا يضاعف من اِمتعاضه ويزيد من غضبه على من في العالم الخارجي، فيُنقص من قيمة المكافأة لتُصبح غير أبدية على خلاف المرّة الأولى: "ودخلت عليَّ مئة عام أخرى فقلت كلُّ من خلَّصني فتحت لـه كنوز الأرض"([12]). ثمّ تمرّ على سجنه مدّة أطول من السابقة لكن لا منقذ لـه، فيُصاب بالخيبة الثالثة فيتضاعف غضبه فيقلّل بالضّرورة من قيمة المكافأة: "كلّ من خلّصني أقضي له ثلاث حاجات"([13]) ومع ذلك لم يأتِ أحد لإنقاذه وتخليصه. كانت خيبته الرّابعة هذه رهيبة وشديدة القسوة عليه، حيث ازدادت عزلته وازدادت مدّة سجنه وضيقه، ممّا جعله يصل إلى ذروة غضبه على من كان السبب في وضعه في هذا القمقم؛ فترجم ذلك بأن جعل المكافأة الرابعة ـ التّي توازي في قيمتها درجة إحباطه وخيبته الرّابعة الشديدة ـ الموت الزُّؤام لكلِّ من ينقذه.
إنّ هذه السيرورات النّفسية التّي صاحبت شخصية العفريت في سجنه، ما هي ـ على المستوى الدّلالي ـ إلاّ مجموعة القيم والمقاييس الجديدة للسلوك، ترسّخت في ذهنه واقتنع بنجاحها في تحقيق رغباته وأهدافه. إنّ انفصاله عن عالم الواقع (العالم الخارجي) وعزلته عنه، جعلاه ينفصل بالضرّورة عن مجموع القيم والقوانين التّي كانت تحكمه (عالم الواقع) شيئاً فشيئاً. هذا الانفصال عن القيم والمعايير يزداد اتِّساعاً وعمقاً كلّما زادت مدّة السجن أكثر وكلّما زادت عزلته عن العالم الخارجي أكثر؛ وهذا بدوره يجعل عالمه الجديد (عالم القمقم الضَيِّق) يفرض عليه قيَماً ومقاييس بديلة مخالفة للقيم القديمة (قيم العالم الخارجي)، تكفُل له تحقيق رغباته وأهدافه. وتبرز أهمّ قيمة من هذه القيم الجديدة في مكافأة من ينقذه من سجنه بالموت شرّ قتلة، لأنّها هي الحلّ الوحيد لتحقيق الإنقاذ (المكافأة بالموت)؛ فيقتنع بهذه القيم الجديدة التّي ستصبح بالنسبة إليه قانوناً يحدّد سلوكه ويوجِّه أفعاله القادمة.
وحتّى نستطيع أن نفهم هذه الاختلافات والتّناقضات الموجودة بين عالمي الصيّاد والعفريت، لابدّ لنا أوّلاًَ من أن نقابل بين صورتي العالم الخارجي الذّي يوجد فيه الصيّاد وعالم القمقم الذّي يوجد بداخله العفريت.
إنّ مقابلتنا بين صورتيهما تُمكِّننا من استنباط مجموعة من التّضادات المعنوية أو الدّلالية والتّي تُحيلنا عليها كلتا الصورتين. هذه التّضادات يمكننا تبيانها في الجدول التّالي:
العالم الخارجي (عالم الصياد)
عالم القمقم (عالم العفريت)
ـ متّسِع
ـ ضيِّق
ـ مفتوح
ـ مُغلَق (مختوم بخاتم سليمان)
ـ ممتدّ
ـ محدود
ـ متحرّك
ـ ساكن (انعدام الحركة)
ـ مضيء (يمكن الرؤية)
ـ مظلِم (انعدام الرؤية)
هذه التّضادات المعنوية من شأنها أن تكشف لنا الاختلافات الموجودة بين العالميْن وأن تفسِّر لنا التّضاد الموجود بين قيم عالم الصيّاد ـ والذّي كان هو نفسه عالم العفريت قبل سجنه ـ والقيم الجديدة التّي ترسّخت في ذهن العفريت أثناء وجوده في القمقم.
لقد أثبتت قيم العالم الخارجي المتعَارف عليها اجتماعياً وأخلاقياً (والمتمثِّلة هنا في مجازاة من ينقذ العفريت بالثّروة والإحسان)، فشلها لمرّات ثلاث متتالية، إذ لم تستطع تحقيق رغبة الجنّي وهدفه المتمثِّلين في الخروج من السجن الضيِّق والمظلم الذّي وُجد فيه قسراً مدّة طويلة من الزمن. أدّى هذا الفشل ـ مع ما صاحبه من إحباط شديد وخيبة فظيعة تكرّرت أربع مرّات ـ بشخصية العفريت إلى إلغاء قيمه القديمة واستبدالها بقيم جديدة فرضها واقعه الجديد المؤلم الذّي يعيش فيه (السجن في القمقم). فترسّخت قيمه الجديدة هذه، في ذهنه إلى درجة جعلته يشعر بأنّها هي الوحيدة الكفيلة بتلبية رغبته وتحقيق أهدافه. كلّ هذا يؤكّد على اغتراب العفريت؛ إذّ إنّ الفرد المغترب ـ في نظر مِلفِن سيمان (Melvin Seeman)([14]) ـ "غالباً ما يشعر بأنّه لو أراد تحقيق أهدافه فإنّه يجب عليه عدم التّصرف بموجب المقاييس المتعارف عليها اجتماعياً وأخلاقياً"([15]).
هناك عنصر آخر يُثبت اغتراب شخصية العفريت عن العالم الخارجي وقيمه؛ فهو بعد أن دلّ الصيّاد على البركة يعترف له بتيهه وحيرته في العالم الخارجي قائلاً: "اقبل عذري فإنّني في هذا الوقت لم أعرف طريقاً وأنا في هذا البحر مدّة ألف وثمانمائة عام ما رأيت ظاهر الدنيا إلاَّ في هذه السّاعة"([16])؛ كما ظنّ بأنّ النبيّ سليمان لا يزال حيّاً مع أنّ هذا الأخير قد مات منذ ألف وثمانمائة سنة.
ولعلّ هناك تفسيراً آخر لسؤالنا الأوّل: لماذا كافأ العفريت الصيّادَ بالموت؟... هذا التفسير قدّمه عبد الفتّاح كيليطو في كتابه "الحكاية والتّأويل":
ويتمثّل تفسيره في ربط بين كلمتي (جن) و(جنين) من حيث اللّغة والمعنى، إذ يقول في هذا الصدد: "وبالفعل بين الجنّي والجنين تماثل قويّ. كلاهما ملفوف في ظرف، في وعاء مائي. وداخل هذا الوعاء كلاهما بين الحياة والموت... كلاهما غارق في ماض سحيق وغائب عن الواقع، أي كلاهما مجنون، إذا اتّفقنا على أنّ الجنون هو فقْد الصّلة بالعالم الخارجي. الجنين لا يعي العالم الذّي يُطرَح فيه، والجنّي متأخِّر عن زمانه بألف وثمانمئة سنة([17]).
ويصل الأستاذ "عبد الفتّاح كيليطو، إلى أنّ الجنّ مثل الجنين الذّي في بطن أمّه، كان يعيش حياة استقرار وطمأنينة وسعادة، وأنّ الخروج إلى الدّنيا بالنّسبة للجنين (خروج الجنّي من القمقم) هو خروج إلى الشّقاء والتّعاسة، وهذا ما جعل العفريت لا يرغب في الخروج من القمقم وكأنّه أُصيب بصدمة الولادة([18]). ويستشهد الأستاذ المغربي على ما ذهب إليه بمقطع يجيب فيه العفريت على سؤال الصيّاد عن سبب مكافأته بالموت على إنقاذه قائلاً: "ما أقتلكَ إلاَّ لأجل ما خلّصتني"([19]). فالجنّيُّ في قمقمه يرمز إلى الجنين في رحم أمّه.
ومع أنّني أذهب في تحليلي لهذه الحكاية إلى ما ذهب إليه كيليطو، إلاَّ أنّني أرى بعض الإضافات المهمّة التّي تكمّل تفسيره وتخدم ما أحاول تأكيده في هذه الدراسة (اغتراب شخصية الجنّي). لقد كان السجن في القمقم عقاباً للعفريت على عصيانه النبيّ سليمان بن داوود عليهما السّلام؛ وبمعنى آخر، تمثّل العقاب في فصل الجنّي عن العالم الخارجي وعزله عنه. وبمرور الزمن تأقلم الجنّي مع عالمه الصّغير الضيِّق (عالم القمقم) الذّي فُرض عليه دون رغبته. لكنّ هذا العالم الجديد ـ على ضيقه ومحدوديته ـ وفّر له الأمن والطمأنينة اللّذين افتقدهما في العالم الخارجي، حيث كان مُطارداً من جنود سليمان u أينما حلّ، إلى أن قُبض عليه وجيء به ذليلاً مُكرهاً. ولقد بلغ ارتياحه في هذا العالم الجديد وعدم رغبته في الخروج إلى العالم الخارجي حدّاً دفع به إلى معاقبة كلّ من يقوم بإخراجه من القمقم بالموت؛ فخروجه من القمقم يعني تهديد حياته من جديد.
وهذا ما حصل في الحكاية حيث تذكر أنّه أحسّ بالهلع والخوف بمجرّد ما خرج من القمقم. لقد وجد العفريت نفسه منذ اللّحظة الأولى لخروجه من سجنه، في عالم عدائي يريد به الشّرّ، بل الموت والفناء. ومن أجل هذا السبب صرخ متوسِّلاً: "يا نبيّ الله لا تقتلني فإنّي لا عُدت أخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً([20]). من هنا يتّضح لنا سبب مجازاة الصيّاد بالقتل.
ملاحظة أخرى تبدو لنا على جانب كبير من الأهميّة: إذا كان اغتراب شخصية العفريت عن معايير العالم الخارجي قد تجلّى في سلوكه العدواني تجاه الصيّاد الذّي أنقذه من سجنه، فإنّنا نستطيع القول ـ من جهة أخرى ـ بأنّ شخصية الصيّاد هي كذلك شخصية مغتربة؛ فبإنقاذها للعفريت وإخراجه من القمقم فإنّها قد اغتربت عن قيم عالم العفريت الجديد (القمقم) ومعاييره.
هذه القيم والمعايير تؤكّد على عدم وجوب إنقاذ الجنِّيِّ، وكلّ من يخالف ذلك سيموت: "ما أقتلكَ إلاَّ لأجل ما خلّصتني"([21]). فإذا ما نظرنا إلى الصيّاد من خلال معايير الجني وقيمه، لاحظنا اغتراب شخصية الأوّل من حيث أنّ لها قيمها الخاصّة المخالِفة لقيم عالم الجنّيّ والمعارضة لها، بل والغريبة عنها.
عناصر أخرى متعدّدة في الحكاية ذاتها تأتي لتؤكِّد على موضوع الاغتراب، وخصوصاً الاغتراب عن القيم والمقاييس المتعارف عليها. هذه العناصر نجدها في الحكاية المتضمَّنَة داخل قصّة "الصيّاد والعفريت"، أي حكاية المدينة المسحورة:
فأهل المدينة المسحورة مغتربون عن طبيعتهم البشرية الأصلية بتحوُّلهم إلى سمك ملوَّن، وأمير المدينة الشاب مغترب كذلك عن طبيعته الآدمية بتحوُّله إلى نصف بشري ونصف حجري.
كما يتجلّى لنا الاغتراب عن القيم والمعايير في أنّ السلطان الذّي دخل مع الصيّاد إلى المدينة المسحورة، ظنّ بأنّ المسافة التّي تفصلها عن مدينته هي مسافة يومين ونصف، بينما هي في الحقيقة مسافة سنة كاملة. فاختلاف تقدير السلطان للمسافة بين المدينتين (مدينته والمدينة المسحورة) ناتج في الأساس عن اختلافٍ في القيم والمعايير التّي تحكم كلتا المدينتين وتوجِّه سلوك أفرادهما وتنظِّم تفكيرهم وتقديرهم للزمن.
تخبرنا الحكاية عن اغتراب آخر تمثّل في سلوك ابنة عمّ السلطان الشاب وزوجته في الوقت نفسه تجاه العبد الأسود. هذا السلوك امتاز بالشذوذ عن القيم المتعارَف عليها والتّي تقول: إنّ العبد يأتمِر بأوامر السّادة والملوك ويخضع لهم. لكنّنا نجد ابنة عمّ السلطان في الحكاية، وهي الملكة، تتضرّع لعبد أسود من عبيدها وتطلب العفو منه؛ فهذه السلوكات مخالِفة لِما هو متواضعٌ عليه في المجتمع، ممّا يدلّ على اغتراب شخصية الملكة عن قيم المجتمع التّي نشأت فيها وحكمت بقوانينها.
وقبل الانتهاء من هذا التحليل، لابدّ لنا من الإشارة بأنّ في الحكاية عناصر تفرض علينا طرح بعض التّساؤلات المهمّة: لماذا يتكرّر العدد (أربعة) في هذه الحكاية ـ وفي معظم حكايات ألف ليلة وليلة بما فيها الحكاية الإطار (قصّة الملك شهريار وشهرزاد)([22]) بشكل مُلفتٍ للانتباه؟؟.
فيحقّ لنا أن نتساءل بعد ذلك عن سبب تكرار رمي الصيّاد لشبكته أربع مرّات في اليوم فقط، وأن نتساءل كذلك عن السّرّ في فشل المكافآت الثلاث التّي رصدها العفريت لمن ينقذه في تحقيق الهدف بينما تثمر المكافأة الرّابعة. كما نتساءل عن سبب وجود أربعة أنواع من السمك الملوّن في البركة في الحكاية المتضمَّنَة (حكاية المدينة المسحورة) داخل حكاية الصيّاد والعفريت. ولماذا توجد جبال أربعة محيطة بالمدينة المسحورة؟. ولماذا يدقّ السلطان أربع دقّات على باب قصر الملك المسحور قبل أن يفتحه ويقرّر الدّخول ولم ينتظر حتّى يدقّ دقّاً خامساً، أو يدخل قبل دقّته الرّابعة؟. ولماذا توجد في وسط القصر المسحور بِرْكَة عليها أربعة سباع تُلقي الماء من أفواهها؟. ما السّرّ في التّوقّف عند هذا العدد في الحكاية؟. إنّ هذا التّكرار غير الاعتباطي للعدد (أربعة) يدعو إلى التّساؤل عن ماهيته والبحث عن وظيفته الرّمزية في الحكاية.
والجواب يأتينا دون عناء من خلال استكناهنا للدّلالة الرّمزية للعدد (أربعة)، وخصوصاً إلى ما يرمز إليه هذا العدد في المعتقدات الإسلامية:
فبالإضافة إلى أنه يرمز إلى الشّمول (الكون يتكوّن من أربعة عناصر: الماء، النّار، الهواء، التّراب... السّنة تتكوّن من أربعة فصول.. في الإنسان أربعة أمزجة...)، فإنّ العدد أربعة يرمز ـ في الموروث الإسلامي ـ إلى الأبواب أو المراحل الأربعة التّي يجب على الصّوفي أن يمرّ بها ليصل إلى الحقيقة المطلقة، أي حتّى يصل إلى التّوحُّد بالذّات الإلهية. وهذه الأبواب بحسب ترتيبها هي: باب (الشريعة) ثمّ باب (الطّريقة)، ثمّ باب (المعرفة)، ثمّ باب (الحقيقة).
وإذا كان هذا العدد يرمز إلى المراحل الأربعة التّي يمرّ بها الصوّفي للوصول إلى الحقيقة المطلقة([23])، فممّا لاشكّ فيه، إنّه يرمز هنا في الحكاية، إلى المراحل الأربعة التّي يمرّ بها كلٌّ من الصيّاد والعفريت في عالميْهما المختلفين للوصول إلى حقيقة يؤمنان بها إيمان اليقين: فالصيّاد، أثناء تحصيله لقوت عياله اليومي، دأب على رمي شبكته في البحر أربع مرّات في اليوم ليقينه بأنّ رزقه اليومي يتحدّد عند المرّة الرّابعة من رمي الشبكة؛ ليصل إلى باب الحقيقة الذّي يقول له: الرّمية الرّابعة هي التّي تجعلك تتحقّق في تمام الحقيقة من وجود رزقك اليومي أو من عدم وجوده؛ إذن، فلا داعي للمحاولة بعد المرّة الرّابعة لأنّ كلّ جهدك سيذهب سدى، ولا شكّ أنّ الصيّاد قد تحقّق بنفسه من ذلك، حتّى تيقّن من عدم جدوى المحاولة بعد المرّة الرّابعة. ومع أنّ الحكاية لا تخبرنا عن المحاولات العديدة والمتعدّدة للصيّاد قبل وصوله إلى هذه الحقيقة المطلقة بالنّسبة إليه، لكنّنا يمكننا استنباطها بكلّ يُسر وسهولة من منطلق منطقي: فالحكاية تبتدئ من نقطة انتهاء الصيّاد عند هذه الحقيقة التّي لا تقبل النقاش عنده (رمي الشّبكة أربع مرّات في اليوم مهما كانت الظّروف).
بينما نجد في الجهة الأخرى أنّ العفريت قد مرّ ـ كما سبق وأن ذكرنا من قبل ـ بمراحل أربعة من الإحباط والخيبة ترجمتها مكافآته المتناقصة الأربعة (لمن ينقذه من سجنه) بحسب ازدياد درجة خيباته وغضبه في الوقت نفسه. وبعد خيبته الرّابعة إثر عدم مجيء من ينقذه من القمقم مع ما رصد له من مكافأة جزيلة والمتمثِّلة في تحقيق ثلاث رغبات، يصل غضبه درجةً من الشّدّة أن يجعل مكافأته الرّابعة لمن يخرجه من القمقم هي الموت وبأفظع طريقة: "أبشرْ يا صيّاد... بقتلك هذه السّاعة أشرّ القتلات([24]) ثمّ يزيد على ذلك، بعد أن اِستفهم منه الصيّاد عن الذنب الذّي اِرتكبه في حقّ العفريت أوجب مكافأته بهذه الطّريقة الفظيعة وطلب منه أن يعفو عنه إكراماً لما قام به من عتقه، أجابه العفريت قائلاً: "وأنا ما أقتلك إلاَّ لأجل ما خلّصتني"([25]).
لا يمكننا أن نفهم سلوك العفريت الغريب هذا والمخالف لكلّ ما هو متَعارف عليه إلاَّ إذا وضعنا أنفسنا مكانه واعتمدنا منطقه الذّي دفع به إلى هذا التّصرّف تجاه الصيّاد منقذه. فالعفريت بعدما سُجن في القمقم الضيّق اِنتابه الفزع والخوف وأحسّ بأوّل خيبة، فجعل مكافأة من ينقذه جزيلة وانتظر أن يتحقّق ذلك، لكن دون جدوى؛ إذ بمرور الوقت اِضمحلّ يقينه ونَقُص أملُه في وجود من ينقذه وينال المكافأة. لكنّه لم ييأس وأعاد الكرّة مرّة ثانية ثمّ مرّة ثالثة. ومع طول المدّة التّي استغرقها انتظاره الخلاص من السجن في كلّ مرّة من المرّات الثلاثة ـ مع ما رصد من مكافآت كبيرة ـ، إلاَّ أنّ الحقيقة الوحيدة التّي بقيت ماثلة أمام عيني هي مكوثه في السجن ولا وجود لمن ينقذه مهما رصد من مكافآت عظيمة. فدرجة الخيبة الرّابعة الفظيعة التّي مُنِيَ بها العفريت جعلته يترك المعايير المعروفة التّي لم تحقّق له الخلاص، ودفعت به إلى استبدالها بمعايير أخرى تمكّنه من تحقيق مراده؛ فجاءت مكافأته الرّابعة ترجمة فورية للمعايير الجديدة التّي تبنّاها: من ينقذني ستكون مكافأته ميتة شنيعة. فانتظر وهو على يقين تامّ بأنّ في هذه المرّة الرّابعة سيأتي من يخلّصه وسينال مكافأته المرصودة. وقد تحقّق يقينه فعلاً كما تخبرنا الحكاية، حيث جاء صيّاد وأنقذه من سجن القمقم. فالمكافأة الرّابعة هي التّي حقّقت له الخلاص في الوقت الذّي فشلت فيه المكافآت الثلاث. وبخروج العفريت من القمقم كان عليه تطبيق ما عزم عليه من مكافأة منقذه بالموت وإلاّ لن يتحرّر كلّيّاً من سجنه؛ فالمعيار الجديد الذّي آمن به لا يكفل له الخلاص إلاَّ إذا نفّذ الشرط المتضمّن فيه وهو قتل من ينقذه شرّ القتلات، ولهذا أجاب الصيّاد بعد استعطاف هذا الأخير لـه قائلاً: "لا تطمع فلابدّ من موتك"([26]). لكنّه لم ينفّذ الشروط فوراً بسبب حيلة الصيّاد ممّا استدعي بالضّرورة رجوعه إلى القمقم من جديد؛ فلو قتل الصيّاد في اللّحظة التّي خرج فيها أوّلاً من سجنه لما استطاع هذا الأخير أن يَمكُر به ويُعيده إلى القمقم ثانية.
كما أنّ سمك البركة الملوّن ما هو في الحقيقة إلاَّ أهل المدينة المسحورة؛ وتمثّل ألوانه الأربعة الملل أو المعتقدات الأربعة التّي كان عليها أهل المدينة: فالسّمك الأبيض يمثّل المسلمين، والسّمك الأزرق يمثّل النّصارى، ويمثّل السّمك الأصفر اليهود، بينما يمثّل النّوع الرّابع من السّمك (وهو الأحمر) المجوس. فجاء هذا العدد (أربعة) هنا كذلك ليدلّل على حقيقة عالمية ويقين في المعتقد الإسلامي، وهو أنّ البشرية بأجناسها جميعها لا تخرج عن أربعة ملل عقائديّة لا غير: المسلمون: ثمّ أهل الكتاب (المسيحيون واليهود)، وأخيراً المجوس أي المشركون بالله من عبدة الأوثان. فالعدد أربعة هنا يرمز إلى يقين وحقيقة مطلقة في الموروث الإسلامي لا جدال فيها كما يرمز عند الأمم الأخرى إلى الشمول: وهي أنّ البشر ينقسمون إلى أربعة أنواع بحسب معتقداتهم الدّينية الأربعة. كما أنّ الجزائر الأربع التّي تحوّلت بفعل السّحر إلى جبال أربعة محيطة بالمدينة المسحورة، ما هي إلاَّ رمز للبيئات التّي يسكنها الأنواع الأربعة من البشر (الشرق ـ الغرب ـ الشمال ـ الجنوب).
في آخر هذا التحليل نخرج باستنتاج يبدو لنا على جانب كبير من الأهميّة:
إنّ نمط الاغتراب الذّي كانت تعاني منه شخصيّتا الصيّاد والعفريت وكذلك الشخصيات الأخرى في حكاية (المدينة المسحورة) والمتمثِّل في الاغتراب عن القيم والمقاييس السائدة في مجتمعاتهم، ما هو إلاَّ رمز لأشياء أخرى مستترة؛ وبمعنى آخر، ما كانت تعاني منه شخصيات الحكاية ما هو إلاَّ رسالة أخرى يريد أصحاب الحكاية ومنتجوها تبليغها لنا:
فالعفريت غُرِّب عن مجتمعه وواقعه وقيمه وعُزِل عنهم من قِبَل سلطة أقوى منه جسّدتها الحكاية في النّبيّ سليمان الذي يمثّل على صعيد رمزي السّلطة العليا (الله). فهذا العقاب القاسي والسّادي نالَهُ العفريت لأنّه قال "لا" للسلطة العليا، فخالف بذلك النّبيّ سليمان وعصى أوامره. والشّي نفسه حدث مع أهل المدينة المسحورة حيث غُرِّبوا عن طبيعتهم الآدمية (أسماك بيضاء وزرقاء وصفراء وحمراء بحسب ملّتهم ومعتقدهم الدّيني) وغُرِّبوا عن واقعهم المادّي (من المدينة إلى بركة ماء)؛ كلّ هذا حدث من طرف سلطة عليا كذلك لا قِبَل لهم بها، تجسّدت في سحر ملكتهم ابنة عمّ سلطان المدينة المسحورة وزوجته في الوقت نفسه، لا لشيء سوى لأنّها كانت تعلم بأنّ ما اقترفته في حقّ زوجها من خيانة لن يرضيَهم وقد يثوروا عليها من أجل ذلك.
من هذا كلَّه يتّضح لنا المضمون الرّمزي للرسالة الذّي مفاده:
إنّ الشعوب الإسلامية في تلك المرحلة (مرحلة إنتاج قصص اللّيالي) وكذلك أفرادها، غالباً ما كانوا يُغرَّبون قسراً عن واقعهم ومجتمعهم بقيمه وقوانينه، من قِبَل السّلطة. هذه السّلطة هي سلطة الخلفاء والسّلاطين والملوك، جسّدتها الحكاية في سلطة الأنبياء والسلاطين (الخليفة ظلّ الله في الأرض). "فقد كان الطّابع العامّ... للدولة، ما خلا بعض الاستثناءات القليلة، يتجلى في شكلٍ من الدولة المركزية القويّة التّي تحكم المجتمع، ولها الكلمة الأولى وأبسط معارضة لها تستثير ردّ فعلها الفوري والمباشر"([27]). فيكون هذا التّغريب للأفراد والجماعات بالنّفي عن الأوطان أو السجن لسنوات عديدة قد تصل إلى أن يموت المسجون في سجنه؛ كما يكون القتل والإعدام في حالات كثيرة هو ردّ فعل الدولة الفوريُّ والبشعُ لأيّة معارضة. كلّ هذا يحدث لأنّ بعض هؤلاء الأفراد قد تمكّن من قول كلمة حقٍّ أمام سلطان جائر أو صاحب نفوذ كبير في السّلطة؛ فيُعتَبر ذلك عصياناً وعدم إطاعة للأوامر.
عنصر آخر يُضاف إلى هذا، ويؤكِّد في الوقت ذاته ما ذهبنا إليه في هذا التّأويل الرّمزي للرّسالة المحمولة إلينا من طرف مبدعي هذه الحكاية. فحين غُرِّب العفريت عن عالمه الخارجي بالسّجن داخل قمقم من طرف سلطة عُليا (النّبيّ سليمان)، اِختلّت المعايير عنده وتغيّرت القيم التّي كانت تحكمه وتوجّه سلوكه وتنظِّم معاملته مع [الآخر]، حيث اِستبدلها بقيم أخرى جديدة وهدّامة للآخر (قتل من ينقذه شرّ القتل). كلّ هذا حدث بسبب الخيبة الشّديدة والألم العميق اللّذين كان يحملهما تجاه كلّ من لـه صلة بالعالم الخارجي، لأنّه تعرّض لعقاب قاسٍ جدّاً اِستمرَّ لقرون عديدة دونما أمل في الخلاص والمغفرة، فتضخّمت نقمته لتشمل جميع الذّين يوجدون في العالم الخارجي ولم يمدّوا لـه يد العون. من هنا جاء عقابه الشّرس، يمارسه بكلّ فظاعة على صيّادٍ كان ذنبه الوحيد أنّه ساعده على الخروج من سجنه الذّي لازمه لمدّة طويلة. فبمجرّد أن خرج حاول الانتقام، ليس من الظالم الذّي كان سبباً في حبسه، وإنّما من إنسان بريء كان السّبب في عتقه. فالتّغريب والاغتراب اللّذان مورِسا عليه من طرف السّلطة العليا لفترة طويلة من الزّمن، جعلا سلوكَه غير متّزنٍ ينِمُّ على قصورٍ فظيع في الرّؤية واِختلالٍ كبير في التّفكير؛ وهذا ما دفع بقيمه ومعاييره إلى أن تتغيّر إلى النّقيض فتصبح قيمَ هدم ومعايير فناءٍ. هذه الرؤية القاصرة وهذا التّفكير المختلّ، دفعا به إلى أن يأخذ المظلوم بالظالم، سواء بسواء، فيُصبحان عنده في كفّة واحدة، ويسري العقاب عليهما معاً دون تمييز. وهذا هو التّطرف والغلوّ بعينهما، لأنّ أحكامه هذه ليس هدفها الاقتصاص من الظالم فقط وإنّما الاقتصاص من [الآخر] حتّى وإن كان مظلوماً. فبدلاً من أن تقوم العلاقة بين العفريت المغترِب و[الآخر] على أساس العدل (معاقبة الظالم فقط ومكافأة منقذه "المظلوم")، وبالتّالي تؤدّي إلى البناء واستمرارية الحياة؛ نجدها هنا في الحكاية قائمة على أساس "اللاّ عدل" (العقاب يشمل الظالم والمظلوم معاً)، وبالتّالي فهي تؤدّي إلى الهدم والفناء، مع أنّ منطلقها في البداية كان البحث عن العدل والبناء (فالعفريت كان يريد الخروج من القمقم بعد أن أحسّ بأنّه اِستنفذ مدّة عقوبته وكان سيقدّم مكافأة جزيلة لمن يقوم بإخراجه ويطيع أوامر النّبيّ سليمان). وهذا ما يحيلنا إلى التأكيد على أنّ طول مدّة سجن العفريت بعيداً عن وسطه البيئي الأوّل، كان له أكبر الأثر في اغترابه عن المعايير والقيم التّي تحكم العالم الخارجي والقائمة على البناء لا الهدم، وعلى الحياة لا الفناء. وكلّما تكرّر السّبب في تغريب فرد أو جماعة من الأفراد بعزلهم عن وسطهم الاجتماعي (عن طريق النّفي أو السّجن أو المطاردة...) الذّي نبتوا فيه واستمدّوا منه قيمه التّي تحكم سلوكهم ومعاييرهم التّي تنظِّم أفعالهم داخل المجتمع، كلّما تكرّرت بالضّرورة النّتيجة نفسها؛ أي تكرّر التّطرّف في الأحكام والسّلوك والغلوّ فيهما، ممّا يؤدّي إلى نشوء قيم جديدة ومعايير عند الفرد أو الجماعة المغتربة تناقض قيم المجتمع كلّه وتعمل على تهديم الآخر وفنائه؛ وهذا ما ترمز إليه الحكاية وما تريد أن توصله إلينا بشكل ذكيّ وبطريقة فنّيّة جمالية عالية قلّما نجد لها مثيلاً في الحكايات الشّعبية العالمية الأخرى:
إنّ السّلطة في فترة إنتاج هذه الحكايات ـ بتجبُّرها واستبدادها وظلمها لرعيّتها ـ كانت السّبب الأوّل والرّئيس في تغريب كثير من الأفراد والجماعات عن واقعهم وديارهم ووسطهم الاجتماعي وذلك بسجنهم لسنوات عديدة أو نفيِهم أو مطاردتهم؛ لا لذنبٍ اِقترفوه سوى أنّهم طالبوا بالعدل والمساواة ورفضوا أوامر الذّلّ (كما رفض العفريت)؛ فكان جزاءهم هذه العزلة في غياهب السّجون وهذا التّغريب عن الأوطان والأهل لمدّة طويلة من الزّمن. وقد أدّى بهم ذلك إلى كره السّلطة التّي يتوقون إلى هزمها، والنِّقمة على المجتمع بجميع طبقاته الاجتماعية لأنّها بقيت خاضعة لهذه السّلطة، فعمِلت بذلك ـ من دون أن تدري ـ على تمديد فترة سجن هذه الجماعات غير الخاضعة وإطالة مدّة الجور في حقّها. وحينما تسنح لها الفرصة للخروج من السّجن أو الفرار منه أو التّحصُّن في مناطق جبلية بعيدة عن أعين السّلطة، تجد نفسها وقد تحوّلت إلى عصابات قطّاع طرق أو طائفة دينيّة تمتهن تكفير السّلطة وعامّة الرّعيّة حيث تتغيّر قيمها ومعاييرها إلى درجة التّطرّف والغلوّ الشّديدين، فتحارب الأمّة كلّها دون تمييز بين الظّالم والمظلوم، فالكلّ عندها سواء. ولنا في التّاريخ الإسلامي خير الأمثلة على ظهور هذه الجماعات والفرق المتطرّفة؛ فلا أحد ينكر ما فعله الخوارج من تفكير للأمّة ومحاربتها، كما لا يمكننا أن ننسى ما فعلته فرقة الحشّاشين ـ التّي أسّسها الحسن الصَبّاح ـ من قتل واغتيال بطريقة تبعث الرّعب في المسلمين حيث يقوم أتباعها باغتيال من يريدون من الحكام والوزراء وأعيان الدولة وهم بين جنودهم وحرّاسهم. وغالباً ما تتمّ هذه الاغتيالات أمام الملأ، خصوصاً في المساجد ودواوين الحكم حتّى يكون لها الأثر الرّهيب في نفوس النّاس والسّلاطين، وكان أوّل ضحاياها الوزير السلجوقي نظام الملك. كما أنّ هذه الفرقة الضّالّة التّي استمرّت زهاء قرنين من الزّمان ساعدت الصّليبيين ضدّ بني جلدتها دون اعتبار لوحدة المعتقد الإسلامي ولا لوحدة الوطن([28]).
ولعلّنا بهذا التّحليل لإحدى حكايات ألف ليلة وليلة ومحاولة الكشف عمّا ترمز إليه، قد اقتربنا من فهم السّبب لهذه الديمومة السِّحرية والجاذبية المغناطيسية التّي تمارسها علينا الحكايات باستمرار على مرّ الأزمان وعلى اختلاف الأعمار والبيئات والشعوب. وقد يكمن هذا السبب في أنّها ليست نتاج فرد واحد مرتبط بالزّمن الذّي يعيش فيه والمكان الذّي يتجوّل فيه والرّؤية الأحادية التّي ينظر منها إلى كلّ ما يحيط به (مهما أُوتيَ من علم ومعرفة وبُعد نظر)، وإنّما هي نتاج جماعات وشعوب وثقافات مختلفة، مارست هذا الإبداع على مدار أربعة قرون متتالية بالحذف والإضافة والتّغيير والتّنقيح. وقد حاولت هذه الشعوب في هذه الحكايات أن تبثّ لنا آمالها وأحلامها وإخفاقاتها، كما حاولت في الوقت ذاته أن ترسل لنا رسائل رمزية ـ بعيداً عن أعين السّلطة ـ تكشف الواقع البائس والمُزري الذّي تعيشه وتفضح استبداد السّلطة وظلمها وتبذيرها وابتعادها عن الرّعيّة واغترابها عنها بالتّخفّي في القصور الضّخمة، في ظلّ جلسات اللّهو والتّبذير والمجون مع الجواري والغلمان، غير عابئة بآلام رعيّتها واحتياجاتها الأوّلية للبقاء من غذاء وأمن وعدل ومساواة. بل إنّ كلّ من ينادي بذلك يكون مصيره التّغريب عن مجتمعه سواء بالسّجن أو النّفي أو القتل. فهذا الجانب النّفسي والاجتماعي للفرد وللجماعة الذّي تكشف عنه هذه الحكايات وترمز إليه، والمتمثّل في عدم تلبية السّلطة للاحتياجات الأوّلية للأفراد والجماعات من رعيّتها، هو نفسه ما يطمح إليه أيّ فرد وأيّة جماعة وأيّ شعب في أيّة بقعة من بقاع الأرض. إنّها تخاطب فينا الذّاكرة الجماعية القابعة في لا شعورنا الجمعي([29]) والتّي لا تتغيّر بتغيّر الأزمان أو الأمكنة؛ تلك الذّاكرة التّي تنادي بالحرِّية والعدل والمساواة، وتنبذ الظلم والاستبداد والتّعسّف في استعمال السّلطة والنّفوذ. ولعلّ هذا ما يكفل للّيالي ذلك السّحر الأبدي الذّي تمارسه منذ قرون عديدة على أجيال من النّاس بمختلف انتماءاتهم البيئيّة والعقائدية والجنسية والثّقافية؛ ويكفل في الوقت ذاته تلك الديمومة لها في عقول الناس ونفوسهم مهما مرّ عليها من الزّمن.
المصادر والمراجع المعتمدة في هذا البحث:
1 ـ ألف ليلة وليلة ـ الجزء الأوّل ـ مطبعة بولاق ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى �
مجلة ال
* د. عبد القادر شريف بموسى
قراءة جديدة في حكايات ألف ليلة وليلة:
الاغتراب ورمزيته في حكاية "الصيّاد والعفريت"
تقديم عام:
تبتدئ حكاية الصيّاد والعفريت من الليلة الثالثة وتستمرّ إلى نصف الليلة التاسعة من المجلّد الأوّل من طبعة بولاق/القاهرة (سنة 1252 هـ/سنة 1824م) التّي اعتمدناها في هذه الدراسة.
تتحدّث الحكاية عن صياد فقير جدّاً يعيش مع عائلته بما يحصل عليه من الصيد. وكان من طبيعته أن يرمي شبكته أربع مرّات في اليوم فقط. وذات يوم، رمى شبكته ثلاث مرّات متتالية دون أن يحصل على شيء ذي بال؛ إذ أخرج أشياء غير عادية بالنّسبة لصيّاد مثله (حمار ميّت، جرّة مليئة بالرّمل، أوساخ...). لكنّه في المرّة الرّابعة، بعد أن توكّل على الله وتضرّع إليه، تمكّن من استخراج قمقم من نحاس أصفر مختوم.
فرح الصيّاد بذلك كثيراً وأراد أن يبيعه في سوق النّخاسين، لكنّ ثِقل هذا القمقم جعله يحجم عن بيعه وأغراه بفتحه؛ فعالجه بسكين إلى أن فتحه أخيراً. عند هذه اللّحظة، تسرّب دخان من القمقم وصعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الأرض، ليتحوّل إلى عفريت عملاق ضخم. كافأ العفريت الصيّاد على إنقاذه لـه بمحاولة قتله، ذلك لأنّه انتظر طويلاً داخل القمقم قبل إطلاق سراحه. وقد وعد ثلاث مرّات بمكافأة من يُخرجه من سجنه، ولكن دون جدوى؛ هذا ما جعل العفريت يغضب غضباً شديداً ويقسم بأن يُخيَّر منقذه الميتة التّي يريدها. وكان من سوء حظّ الصيّاد أنّه أنقذه في هذه المرّة الرّابعة.
تفاجأ الصّيّاد بهذا الموقف المخالف لكلّ النّظم والأخلاق المتعارف عليها؛ وحينما علم الصّيّاد بأنّه مقتول لا محالة، دبّر حيلة أوقع فيها العفريت وأعاده إلى سجنه داخل القمقم. عند ذلك اِعترف العفريت بذنبه وخطئه ووعد الصّيّاد بتمكينه من الثروة إن هو أطلق سراحه. ولقد برّ العفريت بوعده بعد أن أخرجه الصّيّاد ثانية من القمقم إذ قاده إلى بركة ماء وطلب منه أن يُلقي بشبكته في مائها، فاستخرج منها أربع سمكات مختلفة الألوان ونصحه بأن يُهديها إلى الملك الذّي سوف يكافئه مكافأة قيّمة. لكنّ الملك ـ بعدما حمل الصّيّاد إليه السمكات ـ فُوجئ بأشياء غير عادية تصدر عن السمكات؛ ممّا جعله يُحضره ويطلب منه أن يدلّه على مكان البركة التّي اصطاد منها تلك السمكات الغريبة.
تبيّن فيما بعد بأنّ هذه البركة ما هي إلاَّ مدينة مسحورة كان يحكمها سلطان شابّ، وحين اكتشف هذا السلطان خيانة زوجته له ـ وهي ابنة عمّه في الوقت ذاته ـ مع عبد أسود، حوّلته هذه الأخيرة إلى كائن نصفه الأعلى من بشر ونصفه الأسفل من حجر، ثمّ سحرت أهل مدينته ـ حسب ملّتهم ـ إلى أربعة أنواع من السمك: السمك الأبيض وهم المسلمون، السمك الأزرق وهم النّصارى، والسمك الأصفر وهم اليهود، بينما السمك الأحمر هم المجوس. وبمساعدة السلطان الأوّل زال السحر عن المدينة وعاد الأمير الشاب إلى هيئته الآدمية وكذلك أهل مملكته؛ بينما كان جزاء الزوجة الساحرة والعبد الأسود هو الموت. وتنتهي الحكاية بأن يتزوّج السلطانان من اِبنتي الصّيّاد.
ينبغي أوّلاً أن نشير إلى أنّ هذه الحكاية تضمّ مجموعة من القصص الفرعية متضمَّنَة فيها، وهي: قصّة "العفريت والنّبيّ سليمان" ـ قصّة "الملك يونان والحكيم دوبان" ـ قصة "الملك السندباد" ـ قصّة "الأمير والوزير" وقصّة "المدينة المسحورة". فمع وجود علاقة وثيقة وخفيّة يفرضها الجوار بين هذه القصص إلاَّ أنّني سأكتفي ـ في هذا التحليل ـ بالحكاية الأساسية، أي حكاية "الصّيّاد والعفريت" وحكاية "المدينة المسحورة" التّي ترتبط ارتباطاً يكاد يكون تامّاً بالحكاية الأساسية وتُعتبر مكمّلة لها.
تقدّم لنا القصّة منذ بدايتها، شخصيتين رئيسيتين هما "الصيّاد" و"العفريت". هاتان الشخصيتان تتلاقيان في لحظة مهمّة جدّاً؛ إذ كلٌّ منهما يعيش أزمة كبرى في حياته: أزمة وجود؛ كما أنَّ لكلٍّ منهما مجموعة أهداف وغايات يريد تحقيقها: فوجود الصيّاد (ومن ورائه عائلته المتكوّنة من الزوجة والعيال الثلاث) مهدّد بالفقر والحاجة؛ ولهذا، فغايته تكمن في الحصول على صيد وفير يضمن به قوت أسرته ويبعد عنه شبح العَوَز والفاقة إلى حين.
بينما نجد من الجهة الأخرى أنّ وجود العفريت كذلك، مهدّد بالفناء والموت، وذلك بوجوده مسجوناً داخل قمقم لمدّة طويلة بسبب غضب النبيّ "سليمان" عليه. فغاية العفريت المُلِحّة تتمثّل في الخروج من سجنه (القمقم) والحصول على الأمان بإظهار الطّاعة للنبيّ "سليمان" وطلب العفو منه.
ويأتي الصيّاد إلى البحر ويرمي شبكته؛ وبعد محاولات ثلاث فاشلة، ينجح في الرّابعة، حيث يصطاد قمقماً من النحاس عليه خاتم "سليمان". فيفرح كثيراً لأنّ القمقم من النحاس الأصفر ويساوي عشرة دنانير ذهباً في سوق النّخّاسين، ممّا يكفل له قوت عياله مدّة من الزمن. لكنّه يجده ثقيلاً حينما يحمله، هذا ما يزيد من فضوله ويدفعه إلى فتحه بإزالة الخاتم الموجود عليه. عند هذه اللّحظة "خرج دخان صعد إلى عنان السماء ومشى على الأرض... ثمّ انتفض فصار عفريتاً"([3]).
هذا العفريت بشّر الصّيّاد منقذَه بالموت قائلاً: "أَبشرْ يا صيّاد... بقتلك هذه السّاعة شرّ القتلات"([4]) مهدِّداً وجود الصيّاد بالفناء للمرّة الثانية (المرّة الأولى كانت عند إخفاقه في الصيد ثلاث مرّات متتالية).
إنّ مكافأة من ينقذ حياتك بأن تريد قتله، شيء يُخالف التّصوّرات العادية ويخالف في الوقت نفسه ما تواضع الناس عليه وألِفوه. ومن هنا يحقّ لنا أن نطرح السؤال التّالي، كما يمكن أن يطرحه أيُّ قارئٍ عادي يطَّلع على هذه الحكاية: لماذا يُجازي العفريتُ الصيّادَ مخلِّصَه بأن يريد قتله؟... ما سبب هذه المكافأة اللاّمعقولة؟..
وقبل أن نجيب على هذا التّساؤل، يجب علينا أوّلاً أن نأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العناصر تطرحها الحكاية ذاتها وهي:
ـ الصيّاد إنسيٌّ والعفريت جنّيٌّ (من الجنّ).
ـ الصيّاد مخلوق من لحم ودم وعظم، بينما العفريت من دخان.
ـ يختلف زمن الصيّاد عن زمن العفريت بألف وثمانمئة سنة.
ـ العفريت مسجون داخل قمقم بعيد عن العالم الخارجي جاهلٌ بما يحدث فيه، بينما الصيّاد خارج القمقم متّصل بالعالم الخارجي عالمٌ بما يجري فيه.
إنّ كلّ العناصر في تآلفها وتكاملها، تؤكّد على وجود اختلافات عميقة بين الشخصيتين، وذلك على المستوى الفيزيولوجي/البيولوجي وعلى المستوى الزّمكاني (الزمان والمكان). وهذا ما يجعلنا نستنتج بأنّ هاتين الشخصيتين تنتميان إلى عالمين مختلفين ومتناقضين في الوقت ذاته؛ ممّا يُمكِّننا من القول بأنّ كُلاًّ من الشخصيتين تعيش غريبة عن عالم الشخصية الأخرى. وعلى هذا الأساس، فإنّ سلوك الجنّي (القتل كمكافأة) لا يمكن أن يجد له تفسيراً إلاَّ ضمن علاقة الاغتراب الموجودة بين عالم العفريت وعالم الصيّاد. وبمعنى آخر، تُعتبر شخصية العفريت ـ بالمنظار النفسي ـ شخصية مغتربة عن عالم الإنس (الصيّاد) من حيث الوجود المادي (الزّمكاني)، ومغتربة في الوقت نفسه عن قيم عالم الإنس ومقاييسه وقوانينه.
ومع أنّ هذا الاغتراب يتجلّى في سلوك العفريت مع الصيّاد، إلاّ أنّنا نجد تجلِّيّاً آخر له داخل الحكاية يُدلِّل عليه بشكل واضح وجليٍّ، وهو:
ـ إنّ زمن العفريت غريب عن زمن عالم الصيّاد بنحو ألف وثمانمئة عام. فحين خرج العفريت من القمقم ظنّ أنّ النّبيّ "سليمان" لا يزال حيّاً يتحكّم في الجنّ، فقال في الحال: "لا إله إلاَّ الله سليمان نبيّ الله.. يا نبيّ الله لا تقتلني، فإنّي لا عُدتُ أُخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً، فقال له الصيّاد: أيُّها المارد أتقول سليمان نبيُّ الله، وسليمان مات من مدّة ألف وثمانمئة سنة ونحن في آخر الزمان"([5]).
فالصيّاد ينتمي إلى آخر الزمان، بينما العفريت ينتمي إلى زمن وُجد منذ ألف وثمانمئة عام، نظراً لبقائه مسجوناً في القمقم كلّ تلك المدّة. إنّ عالمين يختلفان من حيث الزّمن الذّي يُسيِّرهما ومن حيث المستويين الفيزيولوجي والبيولوجي لأفرادهما، لاشكّ أنّ هذين العالمين يختلفان كذلك من حيث القيم والمعايير والقوانين التّي تحكم كلاًّ منهما. ولعلّ هذا يعني بالضرورة أنّ ما قد يُعتبر مقبولاً من معايير وسلوكات عند أحدهما، قد يُعَدّ عند الآخر مخالفاً لقوانينه معارضاً لها. وحسب أخلاقيات عالم الصيّاد، كلّما كان الأسر أكثر طولاً كلّما كان الأسير أكثر اِعترافاً بفضل مطلقه عليه؛ ولكنّ هذا ليس ما يرويه الجنّيُّ([6])، فخلال القرن الأوّل لسجنه داخل القمقم أقسم: "... كلّ من خلّصني أغنيه للأبد. فمرّت المئة عام ولم يخلِّصني أحد ودخلت عليّ مئة عام أخرى فقلت كلّ من خلّصني فتحتُ له كنوز الأرض فلم يخلّصني أحد. فمرَّ عليَّ أربعمئة عام أخرى فقلتُ كلّ من خلّصني أقضي لـه ثلاث حاجات فلم يخلّصني أحد فغضبت غضباً شديداً وقلت في نفسي كلّ من خلّصني في هذه السّاعة قتلته ومنَّيته كيف يموت، وها أنت قد خلّصتني ومنّيتك كيف تموت"([7]). ولعلّ هذا ما يفسِّر سلوك الجنِّيّ تجاه الصيّاد ومكافأته بالموت؛ كما أنّ "هذا ما يشعر به الطفل الصّغير تماماً عندما يحسّ بأنّه "قد هُجِر" إنّه يُعزّي نفسه أوّل الأمر بتخيّل سعادته عندما تعود أمّه، أو إذا اِحتُجِزَ في غرفته يتخيّل سروره عندما يُعطَى الإذن بالخروج وكم يشكر أمّه. ولكن بقدر ما يمرّ الوقت، يتضاعف غضب الطفل ويبدأ بتخيّل الانتقام الرّهيب الذّي سيقوم به ضدّ أولئك الذّين حرموه أو عاملوه بخشونة. أن يكون سعيداً جدّاً في لحظة التّشجيع لا يمنع أفكاره من أن تذهب من مكافأة إلى معاقبة أولئك الأشخاص الذّين سبّبوا لـه الحزن. وهكذا تطوّر تفكير الجنّيّ الذّي يمثِّل للطفل الحقيقة النّفسية"([8]). فالسّيرورات اللاّشعورية لا تبدو للطفل أكثر وضوحاً إلاَّ عبر صور تتوجّه إلى لا شعوره رأساً. الصور التّي تستدعيها الحكايات الشعبية تلعب هذا الدّور أيضاً. كما أنّ الطفل لا يفكِّر: "عندما ترجع أمّي، سأكون سعيداً" ولكن "سأعطيها بعض الأشياء"، لذلك الجنّيّ يقول لنفسه: "سأجعل من يحرِّرني غنيّاً". الطفل لا يفكِّر "أنا غاضب إلى حدٍّ أنني قادر على قتل هذا الشخص" ولكن "عندما أراك سأقتلك" كذلك الجنّي يقول: "إذا أنقذني أحدهم سأقتله". إذا كان من المفترَض أنّ الشخص الحقيقي يفكّر أو يتصرّف بهذا الشكل، فإنّ الفكرة ستكون مقلقة جدّاً بحيث لا نفهمها. ولكن الطفل يعرف أنّ الجنّي شخص خيالي فيسمح لنفسه حينئذ أن يتماثل مع ما يعلِّله دون أن يكون مرغماً على اِستنتاجه مباشرة"([9]).
من هنا يمكننا فهم سبب وَلَعِنا بهذه الحكايات التّي لا نملُّ من الاستماع إليها سواء كنّا أطفالاً أو رجالاً بالغين (فبمنظار علم النفس، يبقى البالغ يحتفظ دائماً بالطفل في داخله)، لأنّها تحاول من النّاحية النّفسية أن تفسّر لنا مشكلاتنا النّفسية بطريقة مأمونة كما تقدّم لنا حلولاً لها. ولعلّ أهمّ ما قدّمته لنا هذه الحكاية هنا، هو تفسير الجانب العدواني فينا من خلال وصف السّيرورات النّفسية التّي مرّ بها العفريت في سجنه والتّي أدّت فيما بعد إلى عدوانيته غير المنطقية. وقد وصلت هذه الحكاية إلى النّتيجة نفسها التّي وصل إليها علم النّفس (وخصوصاً التحليل النّفسي) والمتمثِّلة في أنّ "كلّ توتّر عدواني ينتج عن الإحباط. شدّة العدوانية تتناسب مع شدّة الإحباط من ناحية وقوة الحاجة المحبَطَة من ناحية ثانية. تزداد العدوانية مع نموّ عناصر الإحباط"([10]). فالعفريت هنا يرمز إلى الجانب اللاّشعوري فينا (الهو ـ Le ca)([11]) الذّي يخضع إلى مبدأ اللّذة؛ وإذا لم تُحقّق رغبات [الهو] فإنّه يًصاب بالإحباط ممّا يدفع بشخصيتنا إلى اِنتهاج ردّ فعلٍ عدواني تجاه من كان سبباً في عدم تحقيق رغباته أو دوافعه. إنّ هذه الحكاية تتناول بطريقة رمزيّة مشكلات الفرد النفسية مقترِحة في كثير من الأحيان حلولاً لها؛ فهي تتناول مشكلات نفسية ثابتة وموحّدة عند جميع الناس مهما اختلفت أوطانهم أو أزمانهم، ومهما تعدّدت انتماءاتهم الطبقيّة أو السياسية أو العقائدية. هنا يكمن سرّ جاذبية هذه الحكايات وديمومتها وتأثيرها على عقول الكبار قبل الصّغار. ومع هذا، فإنّ هذا التّفسير لا يستثنى تفسيراً آخر لسلوك العفريت الشّاذ هذا:
تخبرنا الحكاية بأنّ الجنِّيّ لم يُوضع في القمقم بمحض إرادته، وإنّما سُجن في هذا القمقم من قِبل النَبيّ سليمان بعدما عصى أوامره. فهذا السجن يُعتبر فصلاً للعفريت عن عالم الواقع وقطعاً لكلِّ اتّصالٍ به؛ ممّا جعله يعيش في عزلة تامّة عن العالم الخارجي (الواقع) لمدّة طويلة. هذا الانفصال وهذه العزلة عن عالم الواقعِ اضطرّا العفريت إلى الاتّصال بعالم آخر والتّأقلم مع قيمه وقوانينه؛ هذا العالم الآخر هو عالم القمقم الضيّق (السجن). وبقدر ما تزيد مدّة العزلة والسّجن في القمقم بقدر ما يزيد غضب العفريت على من في العالم الخارجي الذّي كان السّبب في سجنه بهذه الطريقة القاسية. وتصف لنا الحكاية بشكل فريد وممتع تصاعد غضب العفريت كلّما طالت مدّة سجنه، وذلك بتصويرها لنا للسيّرورة النفسية للعفريت من خلال الدرجات الأربع لغضبه المتصاعد بحسب الدرجات الأربع لخيبته:
فخيبته الأولى بعد سجنه في القمقم دفعت به في المرّة الأولى إلى أن يكافئ الذّي ينقذه من سجنه بجعله غنيّاً للأبد؛ ومع أنّ المكافأة كانت عظيمة جداً (مكافأة أبدية)، لكن لا يأتي من ينقذه، فيُصاب بالخيبة الثّانية التّي لم يكن يتوقّعها. فتمرّ فترة أخرى من الزمن على سجنه ممّا يضاعف من اِمتعاضه ويزيد من غضبه على من في العالم الخارجي، فيُنقص من قيمة المكافأة لتُصبح غير أبدية على خلاف المرّة الأولى: "ودخلت عليَّ مئة عام أخرى فقلت كلُّ من خلَّصني فتحت لـه كنوز الأرض"([12]). ثمّ تمرّ على سجنه مدّة أطول من السابقة لكن لا منقذ لـه، فيُصاب بالخيبة الثالثة فيتضاعف غضبه فيقلّل بالضّرورة من قيمة المكافأة: "كلّ من خلّصني أقضي له ثلاث حاجات"([13]) ومع ذلك لم يأتِ أحد لإنقاذه وتخليصه. كانت خيبته الرّابعة هذه رهيبة وشديدة القسوة عليه، حيث ازدادت عزلته وازدادت مدّة سجنه وضيقه، ممّا جعله يصل إلى ذروة غضبه على من كان السبب في وضعه في هذا القمقم؛ فترجم ذلك بأن جعل المكافأة الرابعة ـ التّي توازي في قيمتها درجة إحباطه وخيبته الرّابعة الشديدة ـ الموت الزُّؤام لكلِّ من ينقذه.
إنّ هذه السيرورات النّفسية التّي صاحبت شخصية العفريت في سجنه، ما هي ـ على المستوى الدّلالي ـ إلاّ مجموعة القيم والمقاييس الجديدة للسلوك، ترسّخت في ذهنه واقتنع بنجاحها في تحقيق رغباته وأهدافه. إنّ انفصاله عن عالم الواقع (العالم الخارجي) وعزلته عنه، جعلاه ينفصل بالضرّورة عن مجموع القيم والقوانين التّي كانت تحكمه (عالم الواقع) شيئاً فشيئاً. هذا الانفصال عن القيم والمعايير يزداد اتِّساعاً وعمقاً كلّما زادت مدّة السجن أكثر وكلّما زادت عزلته عن العالم الخارجي أكثر؛ وهذا بدوره يجعل عالمه الجديد (عالم القمقم الضَيِّق) يفرض عليه قيَماً ومقاييس بديلة مخالفة للقيم القديمة (قيم العالم الخارجي)، تكفُل له تحقيق رغباته وأهدافه. وتبرز أهمّ قيمة من هذه القيم الجديدة في مكافأة من ينقذه من سجنه بالموت شرّ قتلة، لأنّها هي الحلّ الوحيد لتحقيق الإنقاذ (المكافأة بالموت)؛ فيقتنع بهذه القيم الجديدة التّي ستصبح بالنسبة إليه قانوناً يحدّد سلوكه ويوجِّه أفعاله القادمة.
وحتّى نستطيع أن نفهم هذه الاختلافات والتّناقضات الموجودة بين عالمي الصيّاد والعفريت، لابدّ لنا أوّلاًَ من أن نقابل بين صورتي العالم الخارجي الذّي يوجد فيه الصيّاد وعالم القمقم الذّي يوجد بداخله العفريت.
إنّ مقابلتنا بين صورتيهما تُمكِّننا من استنباط مجموعة من التّضادات المعنوية أو الدّلالية والتّي تُحيلنا عليها كلتا الصورتين. هذه التّضادات يمكننا تبيانها في الجدول التّالي:
العالم الخارجي (عالم الصياد)
عالم القمقم (عالم العفريت)
ـ متّسِع
ـ ضيِّق
ـ مفتوح
ـ مُغلَق (مختوم بخاتم سليمان)
ـ ممتدّ
ـ محدود
ـ متحرّك
ـ ساكن (انعدام الحركة)
ـ مضيء (يمكن الرؤية)
ـ مظلِم (انعدام الرؤية)
هذه التّضادات المعنوية من شأنها أن تكشف لنا الاختلافات الموجودة بين العالميْن وأن تفسِّر لنا التّضاد الموجود بين قيم عالم الصيّاد ـ والذّي كان هو نفسه عالم العفريت قبل سجنه ـ والقيم الجديدة التّي ترسّخت في ذهن العفريت أثناء وجوده في القمقم.
لقد أثبتت قيم العالم الخارجي المتعَارف عليها اجتماعياً وأخلاقياً (والمتمثِّلة هنا في مجازاة من ينقذ العفريت بالثّروة والإحسان)، فشلها لمرّات ثلاث متتالية، إذ لم تستطع تحقيق رغبة الجنّي وهدفه المتمثِّلين في الخروج من السجن الضيِّق والمظلم الذّي وُجد فيه قسراً مدّة طويلة من الزمن. أدّى هذا الفشل ـ مع ما صاحبه من إحباط شديد وخيبة فظيعة تكرّرت أربع مرّات ـ بشخصية العفريت إلى إلغاء قيمه القديمة واستبدالها بقيم جديدة فرضها واقعه الجديد المؤلم الذّي يعيش فيه (السجن في القمقم). فترسّخت قيمه الجديدة هذه، في ذهنه إلى درجة جعلته يشعر بأنّها هي الوحيدة الكفيلة بتلبية رغبته وتحقيق أهدافه. كلّ هذا يؤكّد على اغتراب العفريت؛ إذّ إنّ الفرد المغترب ـ في نظر مِلفِن سيمان (Melvin Seeman)([14]) ـ "غالباً ما يشعر بأنّه لو أراد تحقيق أهدافه فإنّه يجب عليه عدم التّصرف بموجب المقاييس المتعارف عليها اجتماعياً وأخلاقياً"([15]).
هناك عنصر آخر يُثبت اغتراب شخصية العفريت عن العالم الخارجي وقيمه؛ فهو بعد أن دلّ الصيّاد على البركة يعترف له بتيهه وحيرته في العالم الخارجي قائلاً: "اقبل عذري فإنّني في هذا الوقت لم أعرف طريقاً وأنا في هذا البحر مدّة ألف وثمانمائة عام ما رأيت ظاهر الدنيا إلاَّ في هذه السّاعة"([16])؛ كما ظنّ بأنّ النبيّ سليمان لا يزال حيّاً مع أنّ هذا الأخير قد مات منذ ألف وثمانمائة سنة.
ولعلّ هناك تفسيراً آخر لسؤالنا الأوّل: لماذا كافأ العفريت الصيّادَ بالموت؟... هذا التفسير قدّمه عبد الفتّاح كيليطو في كتابه "الحكاية والتّأويل":
ويتمثّل تفسيره في ربط بين كلمتي (جن) و(جنين) من حيث اللّغة والمعنى، إذ يقول في هذا الصدد: "وبالفعل بين الجنّي والجنين تماثل قويّ. كلاهما ملفوف في ظرف، في وعاء مائي. وداخل هذا الوعاء كلاهما بين الحياة والموت... كلاهما غارق في ماض سحيق وغائب عن الواقع، أي كلاهما مجنون، إذا اتّفقنا على أنّ الجنون هو فقْد الصّلة بالعالم الخارجي. الجنين لا يعي العالم الذّي يُطرَح فيه، والجنّي متأخِّر عن زمانه بألف وثمانمئة سنة([17]).
ويصل الأستاذ "عبد الفتّاح كيليطو، إلى أنّ الجنّ مثل الجنين الذّي في بطن أمّه، كان يعيش حياة استقرار وطمأنينة وسعادة، وأنّ الخروج إلى الدّنيا بالنّسبة للجنين (خروج الجنّي من القمقم) هو خروج إلى الشّقاء والتّعاسة، وهذا ما جعل العفريت لا يرغب في الخروج من القمقم وكأنّه أُصيب بصدمة الولادة([18]). ويستشهد الأستاذ المغربي على ما ذهب إليه بمقطع يجيب فيه العفريت على سؤال الصيّاد عن سبب مكافأته بالموت على إنقاذه قائلاً: "ما أقتلكَ إلاَّ لأجل ما خلّصتني"([19]). فالجنّيُّ في قمقمه يرمز إلى الجنين في رحم أمّه.
ومع أنّني أذهب في تحليلي لهذه الحكاية إلى ما ذهب إليه كيليطو، إلاَّ أنّني أرى بعض الإضافات المهمّة التّي تكمّل تفسيره وتخدم ما أحاول تأكيده في هذه الدراسة (اغتراب شخصية الجنّي). لقد كان السجن في القمقم عقاباً للعفريت على عصيانه النبيّ سليمان بن داوود عليهما السّلام؛ وبمعنى آخر، تمثّل العقاب في فصل الجنّي عن العالم الخارجي وعزله عنه. وبمرور الزمن تأقلم الجنّي مع عالمه الصّغير الضيِّق (عالم القمقم) الذّي فُرض عليه دون رغبته. لكنّ هذا العالم الجديد ـ على ضيقه ومحدوديته ـ وفّر له الأمن والطمأنينة اللّذين افتقدهما في العالم الخارجي، حيث كان مُطارداً من جنود سليمان u أينما حلّ، إلى أن قُبض عليه وجيء به ذليلاً مُكرهاً. ولقد بلغ ارتياحه في هذا العالم الجديد وعدم رغبته في الخروج إلى العالم الخارجي حدّاً دفع به إلى معاقبة كلّ من يقوم بإخراجه من القمقم بالموت؛ فخروجه من القمقم يعني تهديد حياته من جديد.
وهذا ما حصل في الحكاية حيث تذكر أنّه أحسّ بالهلع والخوف بمجرّد ما خرج من القمقم. لقد وجد العفريت نفسه منذ اللّحظة الأولى لخروجه من سجنه، في عالم عدائي يريد به الشّرّ، بل الموت والفناء. ومن أجل هذا السبب صرخ متوسِّلاً: "يا نبيّ الله لا تقتلني فإنّي لا عُدت أخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً([20]). من هنا يتّضح لنا سبب مجازاة الصيّاد بالقتل.
ملاحظة أخرى تبدو لنا على جانب كبير من الأهميّة: إذا كان اغتراب شخصية العفريت عن معايير العالم الخارجي قد تجلّى في سلوكه العدواني تجاه الصيّاد الذّي أنقذه من سجنه، فإنّنا نستطيع القول ـ من جهة أخرى ـ بأنّ شخصية الصيّاد هي كذلك شخصية مغتربة؛ فبإنقاذها للعفريت وإخراجه من القمقم فإنّها قد اغتربت عن قيم عالم العفريت الجديد (القمقم) ومعاييره.
هذه القيم والمعايير تؤكّد على عدم وجوب إنقاذ الجنِّيِّ، وكلّ من يخالف ذلك سيموت: "ما أقتلكَ إلاَّ لأجل ما خلّصتني"([21]). فإذا ما نظرنا إلى الصيّاد من خلال معايير الجني وقيمه، لاحظنا اغتراب شخصية الأوّل من حيث أنّ لها قيمها الخاصّة المخالِفة لقيم عالم الجنّيّ والمعارضة لها، بل والغريبة عنها.
عناصر أخرى متعدّدة في الحكاية ذاتها تأتي لتؤكِّد على موضوع الاغتراب، وخصوصاً الاغتراب عن القيم والمقاييس المتعارف عليها. هذه العناصر نجدها في الحكاية المتضمَّنَة داخل قصّة "الصيّاد والعفريت"، أي حكاية المدينة المسحورة:
فأهل المدينة المسحورة مغتربون عن طبيعتهم البشرية الأصلية بتحوُّلهم إلى سمك ملوَّن، وأمير المدينة الشاب مغترب كذلك عن طبيعته الآدمية بتحوُّله إلى نصف بشري ونصف حجري.
كما يتجلّى لنا الاغتراب عن القيم والمعايير في أنّ السلطان الذّي دخل مع الصيّاد إلى المدينة المسحورة، ظنّ بأنّ المسافة التّي تفصلها عن مدينته هي مسافة يومين ونصف، بينما هي في الحقيقة مسافة سنة كاملة. فاختلاف تقدير السلطان للمسافة بين المدينتين (مدينته والمدينة المسحورة) ناتج في الأساس عن اختلافٍ في القيم والمعايير التّي تحكم كلتا المدينتين وتوجِّه سلوك أفرادهما وتنظِّم تفكيرهم وتقديرهم للزمن.
تخبرنا الحكاية عن اغتراب آخر تمثّل في سلوك ابنة عمّ السلطان الشاب وزوجته في الوقت نفسه تجاه العبد الأسود. هذا السلوك امتاز بالشذوذ عن القيم المتعارَف عليها والتّي تقول: إنّ العبد يأتمِر بأوامر السّادة والملوك ويخضع لهم. لكنّنا نجد ابنة عمّ السلطان في الحكاية، وهي الملكة، تتضرّع لعبد أسود من عبيدها وتطلب العفو منه؛ فهذه السلوكات مخالِفة لِما هو متواضعٌ عليه في المجتمع، ممّا يدلّ على اغتراب شخصية الملكة عن قيم المجتمع التّي نشأت فيها وحكمت بقوانينها.
وقبل الانتهاء من هذا التحليل، لابدّ لنا من الإشارة بأنّ في الحكاية عناصر تفرض علينا طرح بعض التّساؤلات المهمّة: لماذا يتكرّر العدد (أربعة) في هذه الحكاية ـ وفي معظم حكايات ألف ليلة وليلة بما فيها الحكاية الإطار (قصّة الملك شهريار وشهرزاد)([22]) بشكل مُلفتٍ للانتباه؟؟.
فيحقّ لنا أن نتساءل بعد ذلك عن سبب تكرار رمي الصيّاد لشبكته أربع مرّات في اليوم فقط، وأن نتساءل كذلك عن السّرّ في فشل المكافآت الثلاث التّي رصدها العفريت لمن ينقذه في تحقيق الهدف بينما تثمر المكافأة الرّابعة. كما نتساءل عن سبب وجود أربعة أنواع من السمك الملوّن في البركة في الحكاية المتضمَّنَة (حكاية المدينة المسحورة) داخل حكاية الصيّاد والعفريت. ولماذا توجد جبال أربعة محيطة بالمدينة المسحورة؟. ولماذا يدقّ السلطان أربع دقّات على باب قصر الملك المسحور قبل أن يفتحه ويقرّر الدّخول ولم ينتظر حتّى يدقّ دقّاً خامساً، أو يدخل قبل دقّته الرّابعة؟. ولماذا توجد في وسط القصر المسحور بِرْكَة عليها أربعة سباع تُلقي الماء من أفواهها؟. ما السّرّ في التّوقّف عند هذا العدد في الحكاية؟. إنّ هذا التّكرار غير الاعتباطي للعدد (أربعة) يدعو إلى التّساؤل عن ماهيته والبحث عن وظيفته الرّمزية في الحكاية.
والجواب يأتينا دون عناء من خلال استكناهنا للدّلالة الرّمزية للعدد (أربعة)، وخصوصاً إلى ما يرمز إليه هذا العدد في المعتقدات الإسلامية:
فبالإضافة إلى أنه يرمز إلى الشّمول (الكون يتكوّن من أربعة عناصر: الماء، النّار، الهواء، التّراب... السّنة تتكوّن من أربعة فصول.. في الإنسان أربعة أمزجة...)، فإنّ العدد أربعة يرمز ـ في الموروث الإسلامي ـ إلى الأبواب أو المراحل الأربعة التّي يجب على الصّوفي أن يمرّ بها ليصل إلى الحقيقة المطلقة، أي حتّى يصل إلى التّوحُّد بالذّات الإلهية. وهذه الأبواب بحسب ترتيبها هي: باب (الشريعة) ثمّ باب (الطّريقة)، ثمّ باب (المعرفة)، ثمّ باب (الحقيقة).
وإذا كان هذا العدد يرمز إلى المراحل الأربعة التّي يمرّ بها الصوّفي للوصول إلى الحقيقة المطلقة([23])، فممّا لاشكّ فيه، إنّه يرمز هنا في الحكاية، إلى المراحل الأربعة التّي يمرّ بها كلٌّ من الصيّاد والعفريت في عالميْهما المختلفين للوصول إلى حقيقة يؤمنان بها إيمان اليقين: فالصيّاد، أثناء تحصيله لقوت عياله اليومي، دأب على رمي شبكته في البحر أربع مرّات في اليوم ليقينه بأنّ رزقه اليومي يتحدّد عند المرّة الرّابعة من رمي الشبكة؛ ليصل إلى باب الحقيقة الذّي يقول له: الرّمية الرّابعة هي التّي تجعلك تتحقّق في تمام الحقيقة من وجود رزقك اليومي أو من عدم وجوده؛ إذن، فلا داعي للمحاولة بعد المرّة الرّابعة لأنّ كلّ جهدك سيذهب سدى، ولا شكّ أنّ الصيّاد قد تحقّق بنفسه من ذلك، حتّى تيقّن من عدم جدوى المحاولة بعد المرّة الرّابعة. ومع أنّ الحكاية لا تخبرنا عن المحاولات العديدة والمتعدّدة للصيّاد قبل وصوله إلى هذه الحقيقة المطلقة بالنّسبة إليه، لكنّنا يمكننا استنباطها بكلّ يُسر وسهولة من منطلق منطقي: فالحكاية تبتدئ من نقطة انتهاء الصيّاد عند هذه الحقيقة التّي لا تقبل النقاش عنده (رمي الشّبكة أربع مرّات في اليوم مهما كانت الظّروف).
بينما نجد في الجهة الأخرى أنّ العفريت قد مرّ ـ كما سبق وأن ذكرنا من قبل ـ بمراحل أربعة من الإحباط والخيبة ترجمتها مكافآته المتناقصة الأربعة (لمن ينقذه من سجنه) بحسب ازدياد درجة خيباته وغضبه في الوقت نفسه. وبعد خيبته الرّابعة إثر عدم مجيء من ينقذه من القمقم مع ما رصد له من مكافأة جزيلة والمتمثِّلة في تحقيق ثلاث رغبات، يصل غضبه درجةً من الشّدّة أن يجعل مكافأته الرّابعة لمن يخرجه من القمقم هي الموت وبأفظع طريقة: "أبشرْ يا صيّاد... بقتلك هذه السّاعة أشرّ القتلات([24]) ثمّ يزيد على ذلك، بعد أن اِستفهم منه الصيّاد عن الذنب الذّي اِرتكبه في حقّ العفريت أوجب مكافأته بهذه الطّريقة الفظيعة وطلب منه أن يعفو عنه إكراماً لما قام به من عتقه، أجابه العفريت قائلاً: "وأنا ما أقتلك إلاَّ لأجل ما خلّصتني"([25]).
لا يمكننا أن نفهم سلوك العفريت الغريب هذا والمخالف لكلّ ما هو متَعارف عليه إلاَّ إذا وضعنا أنفسنا مكانه واعتمدنا منطقه الذّي دفع به إلى هذا التّصرّف تجاه الصيّاد منقذه. فالعفريت بعدما سُجن في القمقم الضيّق اِنتابه الفزع والخوف وأحسّ بأوّل خيبة، فجعل مكافأة من ينقذه جزيلة وانتظر أن يتحقّق ذلك، لكن دون جدوى؛ إذ بمرور الوقت اِضمحلّ يقينه ونَقُص أملُه في وجود من ينقذه وينال المكافأة. لكنّه لم ييأس وأعاد الكرّة مرّة ثانية ثمّ مرّة ثالثة. ومع طول المدّة التّي استغرقها انتظاره الخلاص من السجن في كلّ مرّة من المرّات الثلاثة ـ مع ما رصد من مكافآت كبيرة ـ، إلاَّ أنّ الحقيقة الوحيدة التّي بقيت ماثلة أمام عيني هي مكوثه في السجن ولا وجود لمن ينقذه مهما رصد من مكافآت عظيمة. فدرجة الخيبة الرّابعة الفظيعة التّي مُنِيَ بها العفريت جعلته يترك المعايير المعروفة التّي لم تحقّق له الخلاص، ودفعت به إلى استبدالها بمعايير أخرى تمكّنه من تحقيق مراده؛ فجاءت مكافأته الرّابعة ترجمة فورية للمعايير الجديدة التّي تبنّاها: من ينقذني ستكون مكافأته ميتة شنيعة. فانتظر وهو على يقين تامّ بأنّ في هذه المرّة الرّابعة سيأتي من يخلّصه وسينال مكافأته المرصودة. وقد تحقّق يقينه فعلاً كما تخبرنا الحكاية، حيث جاء صيّاد وأنقذه من سجن القمقم. فالمكافأة الرّابعة هي التّي حقّقت له الخلاص في الوقت الذّي فشلت فيه المكافآت الثلاث. وبخروج العفريت من القمقم كان عليه تطبيق ما عزم عليه من مكافأة منقذه بالموت وإلاّ لن يتحرّر كلّيّاً من سجنه؛ فالمعيار الجديد الذّي آمن به لا يكفل له الخلاص إلاَّ إذا نفّذ الشرط المتضمّن فيه وهو قتل من ينقذه شرّ القتلات، ولهذا أجاب الصيّاد بعد استعطاف هذا الأخير لـه قائلاً: "لا تطمع فلابدّ من موتك"([26]). لكنّه لم ينفّذ الشروط فوراً بسبب حيلة الصيّاد ممّا استدعي بالضّرورة رجوعه إلى القمقم من جديد؛ فلو قتل الصيّاد في اللّحظة التّي خرج فيها أوّلاً من سجنه لما استطاع هذا الأخير أن يَمكُر به ويُعيده إلى القمقم ثانية.
كما أنّ سمك البركة الملوّن ما هو في الحقيقة إلاَّ أهل المدينة المسحورة؛ وتمثّل ألوانه الأربعة الملل أو المعتقدات الأربعة التّي كان عليها أهل المدينة: فالسّمك الأبيض يمثّل المسلمين، والسّمك الأزرق يمثّل النّصارى، ويمثّل السّمك الأصفر اليهود، بينما يمثّل النّوع الرّابع من السّمك (وهو الأحمر) المجوس. فجاء هذا العدد (أربعة) هنا كذلك ليدلّل على حقيقة عالمية ويقين في المعتقد الإسلامي، وهو أنّ البشرية بأجناسها جميعها لا تخرج عن أربعة ملل عقائديّة لا غير: المسلمون: ثمّ أهل الكتاب (المسيحيون واليهود)، وأخيراً المجوس أي المشركون بالله من عبدة الأوثان. فالعدد أربعة هنا يرمز إلى يقين وحقيقة مطلقة في الموروث الإسلامي لا جدال فيها كما يرمز عند الأمم الأخرى إلى الشمول: وهي أنّ البشر ينقسمون إلى أربعة أنواع بحسب معتقداتهم الدّينية الأربعة. كما أنّ الجزائر الأربع التّي تحوّلت بفعل السّحر إلى جبال أربعة محيطة بالمدينة المسحورة، ما هي إلاَّ رمز للبيئات التّي يسكنها الأنواع الأربعة من البشر (الشرق ـ الغرب ـ الشمال ـ الجنوب).
في آخر هذا التحليل نخرج باستنتاج يبدو لنا على جانب كبير من الأهميّة:
إنّ نمط الاغتراب الذّي كانت تعاني منه شخصيّتا الصيّاد والعفريت وكذلك الشخصيات الأخرى في حكاية (المدينة المسحورة) والمتمثِّل في الاغتراب عن القيم والمقاييس السائدة في مجتمعاتهم، ما هو إلاَّ رمز لأشياء أخرى مستترة؛ وبمعنى آخر، ما كانت تعاني منه شخصيات الحكاية ما هو إلاَّ رسالة أخرى يريد أصحاب الحكاية ومنتجوها تبليغها لنا:
فالعفريت غُرِّب عن مجتمعه وواقعه وقيمه وعُزِل عنهم من قِبَل سلطة أقوى منه جسّدتها الحكاية في النّبيّ سليمان الذي يمثّل على صعيد رمزي السّلطة العليا (الله). فهذا العقاب القاسي والسّادي نالَهُ العفريت لأنّه قال "لا" للسلطة العليا، فخالف بذلك النّبيّ سليمان وعصى أوامره. والشّي نفسه حدث مع أهل المدينة المسحورة حيث غُرِّبوا عن طبيعتهم الآدمية (أسماك بيضاء وزرقاء وصفراء وحمراء بحسب ملّتهم ومعتقدهم الدّيني) وغُرِّبوا عن واقعهم المادّي (من المدينة إلى بركة ماء)؛ كلّ هذا حدث من طرف سلطة عليا كذلك لا قِبَل لهم بها، تجسّدت في سحر ملكتهم ابنة عمّ سلطان المدينة المسحورة وزوجته في الوقت نفسه، لا لشيء سوى لأنّها كانت تعلم بأنّ ما اقترفته في حقّ زوجها من خيانة لن يرضيَهم وقد يثوروا عليها من أجل ذلك.
من هذا كلَّه يتّضح لنا المضمون الرّمزي للرسالة الذّي مفاده:
إنّ الشعوب الإسلامية في تلك المرحلة (مرحلة إنتاج قصص اللّيالي) وكذلك أفرادها، غالباً ما كانوا يُغرَّبون قسراً عن واقعهم ومجتمعهم بقيمه وقوانينه، من قِبَل السّلطة. هذه السّلطة هي سلطة الخلفاء والسّلاطين والملوك، جسّدتها الحكاية في سلطة الأنبياء والسلاطين (الخليفة ظلّ الله في الأرض). "فقد كان الطّابع العامّ... للدولة، ما خلا بعض الاستثناءات القليلة، يتجلى في شكلٍ من الدولة المركزية القويّة التّي تحكم المجتمع، ولها الكلمة الأولى وأبسط معارضة لها تستثير ردّ فعلها الفوري والمباشر"([27]). فيكون هذا التّغريب للأفراد والجماعات بالنّفي عن الأوطان أو السجن لسنوات عديدة قد تصل إلى أن يموت المسجون في سجنه؛ كما يكون القتل والإعدام في حالات كثيرة هو ردّ فعل الدولة الفوريُّ والبشعُ لأيّة معارضة. كلّ هذا يحدث لأنّ بعض هؤلاء الأفراد قد تمكّن من قول كلمة حقٍّ أمام سلطان جائر أو صاحب نفوذ كبير في السّلطة؛ فيُعتَبر ذلك عصياناً وعدم إطاعة للأوامر.
عنصر آخر يُضاف إلى هذا، ويؤكِّد في الوقت ذاته ما ذهبنا إليه في هذا التّأويل الرّمزي للرّسالة المحمولة إلينا من طرف مبدعي هذه الحكاية. فحين غُرِّب العفريت عن عالمه الخارجي بالسّجن داخل قمقم من طرف سلطة عُليا (النّبيّ سليمان)، اِختلّت المعايير عنده وتغيّرت القيم التّي كانت تحكمه وتوجّه سلوكه وتنظِّم معاملته مع [الآخر]، حيث اِستبدلها بقيم أخرى جديدة وهدّامة للآخر (قتل من ينقذه شرّ القتل). كلّ هذا حدث بسبب الخيبة الشّديدة والألم العميق اللّذين كان يحملهما تجاه كلّ من لـه صلة بالعالم الخارجي، لأنّه تعرّض لعقاب قاسٍ جدّاً اِستمرَّ لقرون عديدة دونما أمل في الخلاص والمغفرة، فتضخّمت نقمته لتشمل جميع الذّين يوجدون في العالم الخارجي ولم يمدّوا لـه يد العون. من هنا جاء عقابه الشّرس، يمارسه بكلّ فظاعة على صيّادٍ كان ذنبه الوحيد أنّه ساعده على الخروج من سجنه الذّي لازمه لمدّة طويلة. فبمجرّد أن خرج حاول الانتقام، ليس من الظالم الذّي كان سبباً في حبسه، وإنّما من إنسان بريء كان السّبب في عتقه. فالتّغريب والاغتراب اللّذان مورِسا عليه من طرف السّلطة العليا لفترة طويلة من الزّمن، جعلا سلوكَه غير متّزنٍ ينِمُّ على قصورٍ فظيع في الرّؤية واِختلالٍ كبير في التّفكير؛ وهذا ما دفع بقيمه ومعاييره إلى أن تتغيّر إلى النّقيض فتصبح قيمَ هدم ومعايير فناءٍ. هذه الرؤية القاصرة وهذا التّفكير المختلّ، دفعا به إلى أن يأخذ المظلوم بالظالم، سواء بسواء، فيُصبحان عنده في كفّة واحدة، ويسري العقاب عليهما معاً دون تمييز. وهذا هو التّطرف والغلوّ بعينهما، لأنّ أحكامه هذه ليس هدفها الاقتصاص من الظالم فقط وإنّما الاقتصاص من [الآخر] حتّى وإن كان مظلوماً. فبدلاً من أن تقوم العلاقة بين العفريت المغترِب و[الآخر] على أساس العدل (معاقبة الظالم فقط ومكافأة منقذه "المظلوم")، وبالتّالي تؤدّي إلى البناء واستمرارية الحياة؛ نجدها هنا في الحكاية قائمة على أساس "اللاّ عدل" (العقاب يشمل الظالم والمظلوم معاً)، وبالتّالي فهي تؤدّي إلى الهدم والفناء، مع أنّ منطلقها في البداية كان البحث عن العدل والبناء (فالعفريت كان يريد الخروج من القمقم بعد أن أحسّ بأنّه اِستنفذ مدّة عقوبته وكان سيقدّم مكافأة جزيلة لمن يقوم بإخراجه ويطيع أوامر النّبيّ سليمان). وهذا ما يحيلنا إلى التأكيد على أنّ طول مدّة سجن العفريت بعيداً عن وسطه البيئي الأوّل، كان له أكبر الأثر في اغترابه عن المعايير والقيم التّي تحكم العالم الخارجي والقائمة على البناء لا الهدم، وعلى الحياة لا الفناء. وكلّما تكرّر السّبب في تغريب فرد أو جماعة من الأفراد بعزلهم عن وسطهم الاجتماعي (عن طريق النّفي أو السّجن أو المطاردة...) الذّي نبتوا فيه واستمدّوا منه قيمه التّي تحكم سلوكهم ومعاييرهم التّي تنظِّم أفعالهم داخل المجتمع، كلّما تكرّرت بالضّرورة النّتيجة نفسها؛ أي تكرّر التّطرّف في الأحكام والسّلوك والغلوّ فيهما، ممّا يؤدّي إلى نشوء قيم جديدة ومعايير عند الفرد أو الجماعة المغتربة تناقض قيم المجتمع كلّه وتعمل على تهديم الآخر وفنائه؛ وهذا ما ترمز إليه الحكاية وما تريد أن توصله إلينا بشكل ذكيّ وبطريقة فنّيّة جمالية عالية قلّما نجد لها مثيلاً في الحكايات الشّعبية العالمية الأخرى:
إنّ السّلطة في فترة إنتاج هذه الحكايات ـ بتجبُّرها واستبدادها وظلمها لرعيّتها ـ كانت السّبب الأوّل والرّئيس في تغريب كثير من الأفراد والجماعات عن واقعهم وديارهم ووسطهم الاجتماعي وذلك بسجنهم لسنوات عديدة أو نفيِهم أو مطاردتهم؛ لا لذنبٍ اِقترفوه سوى أنّهم طالبوا بالعدل والمساواة ورفضوا أوامر الذّلّ (كما رفض العفريت)؛ فكان جزاءهم هذه العزلة في غياهب السّجون وهذا التّغريب عن الأوطان والأهل لمدّة طويلة من الزّمن. وقد أدّى بهم ذلك إلى كره السّلطة التّي يتوقون إلى هزمها، والنِّقمة على المجتمع بجميع طبقاته الاجتماعية لأنّها بقيت خاضعة لهذه السّلطة، فعمِلت بذلك ـ من دون أن تدري ـ على تمديد فترة سجن هذه الجماعات غير الخاضعة وإطالة مدّة الجور في حقّها. وحينما تسنح لها الفرصة للخروج من السّجن أو الفرار منه أو التّحصُّن في مناطق جبلية بعيدة عن أعين السّلطة، تجد نفسها وقد تحوّلت إلى عصابات قطّاع طرق أو طائفة دينيّة تمتهن تكفير السّلطة وعامّة الرّعيّة حيث تتغيّر قيمها ومعاييرها إلى درجة التّطرّف والغلوّ الشّديدين، فتحارب الأمّة كلّها دون تمييز بين الظّالم والمظلوم، فالكلّ عندها سواء. ولنا في التّاريخ الإسلامي خير الأمثلة على ظهور هذه الجماعات والفرق المتطرّفة؛ فلا أحد ينكر ما فعله الخوارج من تفكير للأمّة ومحاربتها، كما لا يمكننا أن ننسى ما فعلته فرقة الحشّاشين ـ التّي أسّسها الحسن الصَبّاح ـ من قتل واغتيال بطريقة تبعث الرّعب في المسلمين حيث يقوم أتباعها باغتيال من يريدون من الحكام والوزراء وأعيان الدولة وهم بين جنودهم وحرّاسهم. وغالباً ما تتمّ هذه الاغتيالات أمام الملأ، خصوصاً في المساجد ودواوين الحكم حتّى يكون لها الأثر الرّهيب في نفوس النّاس والسّلاطين، وكان أوّل ضحاياها الوزير السلجوقي نظام الملك. كما أنّ هذه الفرقة الضّالّة التّي استمرّت زهاء قرنين من الزّمان ساعدت الصّليبيين ضدّ بني جلدتها دون اعتبار لوحدة المعتقد الإسلامي ولا لوحدة الوطن([28]).
ولعلّنا بهذا التّحليل لإحدى حكايات ألف ليلة وليلة ومحاولة الكشف عمّا ترمز إليه، قد اقتربنا من فهم السّبب لهذه الديمومة السِّحرية والجاذبية المغناطيسية التّي تمارسها علينا الحكايات باستمرار على مرّ الأزمان وعلى اختلاف الأعمار والبيئات والشعوب. وقد يكمن هذا السبب في أنّها ليست نتاج فرد واحد مرتبط بالزّمن الذّي يعيش فيه والمكان الذّي يتجوّل فيه والرّؤية الأحادية التّي ينظر منها إلى كلّ ما يحيط به (مهما أُوتيَ من علم ومعرفة وبُعد نظر)، وإنّما هي نتاج جماعات وشعوب وثقافات مختلفة، مارست هذا الإبداع على مدار أربعة قرون متتالية بالحذف والإضافة والتّغيير والتّنقيح. وقد حاولت هذه الشعوب في هذه الحكايات أن تبثّ لنا آمالها وأحلامها وإخفاقاتها، كما حاولت في الوقت ذاته أن ترسل لنا رسائل رمزية ـ بعيداً عن أعين السّلطة ـ تكشف الواقع البائس والمُزري الذّي تعيشه وتفضح استبداد السّلطة وظلمها وتبذيرها وابتعادها عن الرّعيّة واغترابها عنها بالتّخفّي في القصور الضّخمة، في ظلّ جلسات اللّهو والتّبذير والمجون مع الجواري والغلمان، غير عابئة بآلام رعيّتها واحتياجاتها الأوّلية للبقاء من غذاء وأمن وعدل ومساواة. بل إنّ كلّ من ينادي بذلك يكون مصيره التّغريب عن مجتمعه سواء بالسّجن أو النّفي أو القتل. فهذا الجانب النّفسي والاجتماعي للفرد وللجماعة الذّي تكشف عنه هذه الحكايات وترمز إليه، والمتمثّل في عدم تلبية السّلطة للاحتياجات الأوّلية للأفراد والجماعات من رعيّتها، هو نفسه ما يطمح إليه أيّ فرد وأيّة جماعة وأيّ شعب في أيّة بقعة من بقاع الأرض. إنّها تخاطب فينا الذّاكرة الجماعية القابعة في لا شعورنا الجمعي([29]) والتّي لا تتغيّر بتغيّر الأزمان أو الأمكنة؛ تلك الذّاكرة التّي تنادي بالحرِّية والعدل والمساواة، وتنبذ الظلم والاستبداد والتّعسّف في استعمال السّلطة والنّفوذ. ولعلّ هذا ما يكفل للّيالي ذلك السّحر الأبدي الذّي تمارسه منذ قرون عديدة على أجيال من النّاس بمختلف انتماءاتهم البيئيّة والعقائدية والجنسية والثّقافية؛ ويكفل في الوقت ذاته تلك الديمومة لها في عقول الناس ونفوسهم مهما مرّ عليها من الزّمن.
المصادر والمراجع المعتمدة في هذا البحث:
1 ـ ألف ليلة وليلة ـ الجزء الأوّل ـ مطبعة بولاق ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى �
مجلة ال
* د. عبد القادر شريف بموسى
قراءة جديدة في حكايات ألف ليلة وليلة:
الاغتراب ورمزيته في حكاية "الصيّاد والعفريت"