نقوس المهدي
كاتب
تأثيرات ألف ليلة وليلة علي آداب العالم من الموضوعات التي لفتت نظر الكثير من الباحثين في العالمين الغربي والشرقي، بل وكان له سحره الخاص عليهم. والبحث في هذا التأثير ليس صعبا إذا تعلق بالأعمال الأدبية، والفنية الأخري مثل الموسيقي والباليه، التي ظهرت بعد القرن الثامن عشر، وهو القرن الذي بدأت منه سلسلة من الترجمات لا تنتهي لليالي العربية، حيث تتوافر كثير من الشهادات علي هذا التأثير. ولكن البحث في تأثيرها قبل القرن الثامن عشر يبدو صعبا جدا، رغم أنه كانت هناك قرائن واضحة علي تأثر كتاب أقدم بها مثل الإيطالي جوفاني بوكاتشو. وهذا الأديب عاش في القرن الرابع عشر، ولهذا فقد تباعد بعصره عنا وعن قدرتنا علي التقصي والحصول علي أدلة مؤكدة علي تأثره.
ورغم هذا فإن هناك العديد من الدلائل القوية التي يمكن أن تثبت هذا التأثير من خلال دراسة النسخ التي أمكن العثور عليها من ألف ليلة وليلة، سواء الكاملة أو المنقوصة، والتي تشكل فيما بينها "جسم" الليالي الذي يقع بين أيدينا اليوم.
ولعل النسخة المصرية، والتي أعادت الذخائر طبعها، هي الدليل الأكبر علي أن مصر هي التي كان المصدر الرئيسي لهذا التأثير علي الغرب بصفة عامة قبل ترجمة جالان التي اعتمد فيها علي حكايات شفهية أولا، رواها له تاجر سوري من حلب، ومن ثم علي مخطوطات ثبت بعد ذلك أنها تنتمي إلي النسخة الشعبية المصرية والتي كان لها أكبر الأثر في التأثير علي كتاب سبقوا ترجمة جالان ، وخاصة علي بوكاتشو في الديكاميرون وتشوسر في حكايات كانتبري.
هذا الوجود المهيمن لألف ليلة وليلة في العصر الحديث عنوانا علي مهارة السرد عند العرب، لا يعني أنها لم يكن لها وجود قديم، وإنما سبق وجودها علي نحو مؤكد الديكاميرون وهو العمل الذي وضعه بوكاتشو عام 1351، وإن اختلفت الدراسات حول تحديد تاريخ ميلاد الليالي العربية، فالأدلة متعارضة فيما بينها، وتضع تواريخ متباعدة.
وكما نعرف فإن ألف ليلة وليلة تنتمي إلي الأدب الشعبي، ومن ثم قد ساد الاعتقاد بأنها جنس أدني (وهو رأي ابن النديم في الفهرست والذي وصفه بأنه كتاب بارد غث الحديث" من الأدب التقليدي والذي يسميه بعض النقاد بالأدب الرسمي. بل إن بعض الفقهاء القدامي كانوا يحرمون هذا النوع من القصص وينسبونه إلي وسوسة الشيطان لمن يسمر بها حتي تلهيه عن ذكر الله. وهذا الموقف المتشدد هو موقف موجه لفن القصة بشكل عام، وهو المسئول عن تأخر العرب في الكتابة القصصية، مثلما كان موقف الفقهاء القدامي من الفنون التشكيلية، ولكن كان له تأثير سلبي آخر وهو عدم كفاءة سبل توثيق كنوز الأدب الشعبي، والذي أدي إلي ضياع الكثير منها، ولم يفلت من هذا المصير إلا ألف ليلة وليلة وقليل من الأعمال الشعبية الأخري. والملفت في نجاة ألف ليلة وليلة من هذا المصير هو أنها لم تكتف بالمقاومة والنجاة وإنما حازت شهرة كبيرة، أكسبها أهميتها وحصنها من الانقراض. هذا الازدهار يؤكده ابن النديم في الفهرست عندما يقول:
"(...) وهناك أيضا نوع من الأدب القصصي العابث للتسلية والمتعة له طابع شعبي ولا يستحق أن يسمي أدبا، وقد أدي ازدهاره الي الاعتراف به علي مضض."
ولكن المادة التي كانت تحتويها النسخة التي يتحدث عنها ابن النديم، علي الأقل من حيث الكم، ليست هي نفسها المادة التي نتحدث عنها اليوم. فالحقيقة أنها الليالي تعرض علي مر الزمن إلي العديد من الصياغات والإثراء والإضافات جعلت من العسير تحديد ما هو أصيل منها وما هو مضاف.
كما أن التغير الذي طرأ عليها كان من أسبابه أيضا جعل هذه المادة (وتشمل الأقصوصة والقصة والرواية وبعض الشعر) أكثر ملاءمة لعادات وأذواق المتلقي العربي. ولا يخفي أن هناك "تغييرات أخري تعود إلي الرواية الشفهية من جانب المنشدين الذين كانوا يغيرون فيها حسب طلب الجمهور المنصت إليهم وحسب الموقف الاجتماعي والسياسي والأحداث التاريخية التي كان يشهدها عصر هؤلاء المنشدين" وهو ما يؤكده عبد الحميد يونس في دراسته للأدب الشعبي. والليالي مثلها مثل سائر القصص الشعبي تتسم بهذه المرونة الفنية التي تسمح بإدخال مثل هذا النوع من التغييرات".
وعلي أي حال فإن الحديث عن ميلاد "ألف ليلة وليلة" ينبغي أن يميز بين ظهورها لأول مرة في اللغة العربية واكتمالها. أما فيما يتعلق بالظهور الأول لها فنورد شهادة المستشرق الإيطالي فرانشيسكو جبراييلي التي أقر فيها بأن الليالي ظهرت في اللغة العربية ما بين عامي 754 و755، أي بعد أن بني المنصور مدينة بغداد. بيد أن هناك دارسون آخرون نسبوا مولدها إلي ما قبل هذا التاريخ، ومنهم من أرجعها إلي القرن السادس الميلادي.
أما عن النسخة الكاملة فقد كان من المعتقد أن عملا بعنوان ألف ليلة وليلة لم يظهر قبل القرن الثامن عشر. ولكن وليام لين أكد أن ألف ليلة نشرت كاملة ما بين 1475 و1525، ويحيلها أحمد حسن الزيات إلي تاريخ مختلف ما بين 1517 و1525. وهناك دراسات أحدث نسبيا تثبت أن تاريخ نشر الليالي كاملة أقدم من فكر هؤلاء، وأنها نشرت في زمن أقدم كثيرا. وتعتمد هذه الدراسات علي مخطوطات تم العثور عليها في أماكن متفرقة من العالم.
ومن المستندات التاريخية هناك عملان ينتميان إلي تاريخ الأدب العربي في القرن العاشر، الأولي هي للمسعودي المتوفي عام 957 والأخري لابن النديم المتوفي عام 996. فقد قال عنها المسعودي في مروج الذهب
»إن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب إلي الملوك بروايتها، وان سبيلها سبيل الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية مثل كتاب هزار افسانة، وتفسير ذلك بالفارسية ألف خرافة ويقال لها افسانة. والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها شهرزاد ودنيا زاد«
أما ابن النديم فيقول في الفهرست:
"أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن وجعل بعض ذلك علي ألسنة الحيوان، الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب الي اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء، فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه، فأول( عمل) في هذا المعني كتاب هزار افسانة، ومعناه "ألف خرافة" وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك لها عقل ودراية يقال لها شهرزاد، فلما حلت معه ابتدأت تخرفه واتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك علي استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلي أن أتي عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطأها إلي أن رزقت منه ولدا أظهرته، وأوقفته علي حيلتها عليه فاستعقلها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها دنيازاد، فكانت موافقة لها علي ذلك، وقد قيل ان هذا الكتاب ألف لهماي ( حميا) ابنة بهمن. (...) والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك الملوك بعده كتاب هزار افسانة ويحتوي علي ألف ليلة وعلي دون المائتي سمر، لأن السمر ربما حدث به عدة ليال، وقد رأيته بتمامه، دفعات."
والواضح من هاتين الشهادتين أن الليالي هي مجموعة من الخرافات لها قصة إطارية شخصياتها الرئيسية هم شهريار وشهرزاد. والشخصية الرئيسية عند المسعودي وابن النديم هي الملك. والشخصية النسائية التي يتحدث عنها المؤرخان الأدبيان هي شهرزاد، التي اختلف الاثنان في وصفها، فجعلها المسعودي "ابنة الوزير" بينما جعلها ابن النديم "ابنة أحد الملوك". والشخصية الثالثة التي يتحدثان عنها هي دنيا زاد، والتي هي جارية شهرزاد عند المسعودي وجارية الملك عند ابن النديم.
ولكن المؤكد أن المجموعة الحالية تتضمن هذه الشخصيات، وإن اختلف التوصيف، وأن هذه الشخصيات تؤدي الوظيفة السردية نفسها.
من جهة أخري فإن العدد الذي يذكره الكاتبان يشمل الجزء الأعظم من الحكايات المعروفة حاليا، لأنه يقل عن مائتي حكاية طبقا لما جاء في الفهرست بينما المجموعة الحالية تزيد قليلا عن المائتي حكاية، وبنفس البنية، أي أن الحكاية الواحدة تستمر لعدة ليالي. وهذا يعني أن الحكايات التي أضيفت فيما بعد أقل من المتصور بكثير.
وينطبق الأمر علي العنوان الذي ورد "ألف ليلة" حتي وإن خلا من الليلة المضافة علي الألف والتي ربما أضيفت فيما بعد أو تجاهلها الكاتبان، مثلما نقول اليوم "الليالي العربية" أو "ألف ليلة" وحسب، بدلا من ذكر العنوان كاملا.
ويعزز كلام ابن النديم والمسعودي بعض المخطوطات التي تم العثور عليها خلال القرنين الماضيين. وأحد أهم هذه المخطوطات ما عثرت عليه نابيا ابوت (ربما كان اسمها نبيهة عبود) Nabia Abott والمحفوظ حاليا بالمعهد الشرقي بشيكاغو.
وهذا المخطوط هو أقدم برهان مادي علي وجود الليالي وتحمل تاريخ شهر صفر عام 226 لهجرة وهو ما يوافق أكتوبر 879 ميلادية.
ويتضمن هذا المخطوط صفحتين فقط من ألف ليلة وليلة: الصفحة الأولي تحتوي علي العنوان "كتاب فيه حديث ألف ليلة".
وفي الصحفة الثانية ستة عشر سطرا من نص الليالي
(1) بسم الله الرحمن الرحيم
(2) ليلة
(3) فلما كانت تلك اللي(ل)ة القابلة
(4) قالت دينا زاد يا م(ل)ذتي ان كنت
(5) غير نايمة تحدثيني بالحديث
(6) بالحديث الذي أوعدتيني به واضربي (المثل) عن ا
(7) لفضل والنقص والحول والجهل
(8) والسخا والبخل والشجاعة والجبن
(9) "ي"كون في الانسان غريزة او طريفة
(10) "او" يخص معلمه او ادب سامي
(11) "او اع"رابي
(12) "فحدثتها شيرازاد بحد"يث فيه حسن ظريف
(13) "عن فلان ال ? وذ"كره
(14) "فت"نصر احق من لم
(15) " " الا امكر منهم
(16) السطر السادس عشر غير مقروء بها حروف متآكلة.
هذه السطور القليلة هي دليل لا يرقي إليه الشك في وجود كتاب بعنوان "ألف ليلة" في ذلك التاريخ، وأنه علي الأقل كان يحتوي علي الحكاية الإطارية المشهورة والحيلة التي شاركت فيها دنيا زاد لكي تمكن شهرزاد من رواية حكاياتها، فضلا عن الموضوعات الأخري التي تعالجها المجموعة الحالية مثل حكايات عن: الفضل والنقص والحول والجهل والسخاء والبخل والشجاعة والجبن.
وهناك أيضا المخطوطة التي عثر عليها هيتر في تركيا ونشرها رينيه خوام ونشرها في باريس عام 1975، وأوردها جابرييلي في مقال نشرته صحيفة "لاستامبا" عام 1989 وتحتوي علي أربعة حكايات من المجموعة الحالية، وهي تعود إلي القرن الثالث عشر.
وأهم هذه المخطوطات علي الإطلاق هي المخطوطة التي اعتمد عليها أنطوان جالان وهو مخطوط من أربعة أجزاء منها واحد مفقود ومحفوظ حاليا بالمكتبة الوطنية بباريس. وكان مكدونالد أول من أشار إلي أنه أقدم من عام 1592 العام الذي عثر عليها فيه ، وأشار إلي أنه كتب في مصر. أما محسن مهدي الذي حقق هذا المخطوط بوسائل علمية حديثة فقد عاد بالمخطوط إلي القرن الثامن للهجرة الرابع عشر للميلاد.
والخلاصة أن ألف ليلة وليلة كانت موجودة نصا مكتوبا، فضلا عن وجودها علي ألسنة الناس، بما فيها الحكايات الأصلية والحكايات المضافة، منذ القرن الثامن، وهو الرأي نفسه الذي تدعمه سهير القلماوي في أن أصل هذا المؤلف مأخوذ عن الهزار افسان واقدم قصصه مثل السندباد والسبع وزراء وجلعاد يمكن إرجاعها الي عصر المنصور ثم إن بعض القصص
المشتركة في كل النسخ ترجع إلي القرن العاشر وبعض قصصه حديثة أضيفت فيما بعد يرجع عهدها إلي القرن السادس عشر، أما المؤلف نفسه فقد اتخذ شكله النهائي في القرن الثالث عشر.
انتقلت الليالي إلي الغرب عن طريق طرق الاتصال المعروفة بين الشرق والغرب، والتي يمكن تلخيصها في حركة الترجمة الكثيفة في العصور الوسطي وبدايات عصر النهضة من العربية إلي اللاتينية واللغات الأوروبية المشتقة منها، وطرق التجارة التي لم تنقطع بين الشرق والغرب، والرحلات ، بما في ذلك الحج إلي بيت المقدس والهجرات، وما تبعها من أدب رحلات كان ينقل قصص الشعوب من مكان لآخر، والوجود العربي في صقلية والأندلس، الذي جعل الأوروبيين يتحدثون العربية أفضل من تحدثهم باللاتينية، طبقا لشهادة كاتب غربي من ذلك العصر (بول الفاروس)، والوجود الأوروبي في العالم العربي أثناء الحروب الصليبية التي جعلت الغرب يقترب من الشرق اقترابا حثيثا لم يقتصر علي أعمال الحرب ولكن كان له أيضا أثر ثقافي ملحوظ نلحظه في الأعمال المكتوبة في عصور الحروب الصليبية والعلاقات الجدلية بين مفكري العالمين الغربي والشرقي التي رافقت هذه الحروب، وهو ما يؤكد أنه حتي في أيام الصدام لم تنعدم العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، يكفي أن تقرأ أسامة بن منقذ الذي عاش وكتب أيام الحروب الصليبية وكانت له علاقات "سلمية" ثقافية مع الصليبيين. بل إن بن جبير في رحلته وصف الأمر كما يلي: "اختلاف القوافل من مصر الي دمشق علي بلاد الافرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق الي عكا كذلك، وتجار النصاري أيضا لا يمنع أحد منهم أو يعترض، (...) والاتفاق بينهم والاعتدال في جمبع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية." ومن ثم فإن الجدران الدينية والفقهية لم تحل قط بين التأثير الفكري الذي يمارسه الأدب علي كافة الشعوب.
ومن أهم الكتب التي ترجمت إلي اللاتينية وإلي اللهجات الأخري كتاب كليلة ودمنة، وكتاب السندباد، وفي كليلة ودمنة بعض الحكايات المكررة من ألف ليلة وليلة. ومن ثم يعود إليها الفضل أيضا في تعريف الغرب ببعض قصص ألف ليلة. أما كتاب السندباد فله أثر كبير في التأثير علي الأعمال القصصية الغربية حتي قبل بوكاتشو، فهناك بعض القصص المتأثر به في أعمال مثل "تهذيب العلماء" لبطرس ألفونسو، وفي كتاب "النوفيللينو".
وكتاب السندباد الذي نعنيه والذي ترجم أكثر من مرة إلي اللاتينية والقشتالية واليونانية، وبعناوين مختلفة، مثل "كتاب الوزراء السبعة"، وكان منتشرا في قصور الملوك في ذلك العصر، هو الفصل الخاص في المجموعة الحالية والتي جاءت بعنوان "حكايات في مكر النساء وأن كيدهن عظيم"، وفيه قصة الأمير سندباد التي تتهمه زوجة أبيه بمراودتها عن نفسها فيحكم أبوه الملك عليه بالموت، ولكن الوزراء الحكماء يقصون علي الملك ولسبعة أيام قصصا تدل علي مكر النساء، بينما تحكي له زوجة أبيه في نفس الأيام حكايات عن مكر الرجال. وهذه المجموعة من الحكايات تستخدم الحكاية الإطارية، ذريعة لرواية حكايات أخري، كما أنها تستخدم الرقم بنية لتراتب السرد، وهي في هذا تشبه الديكاميرون " الأيام العشرة " لبوكاتشو، الذي لم يقتصر فقط علي الاستفادة من بنية الحكايات وإنما نقل بعضا من هذه الحكايات، مثل حكاية المحظيات التسعين للسلطان اللاتي شبهتهن الليالي بأنهن مثل أطباق الطعام المتشابهة، ونقلها بوكاتشو في حكاية كونتيسة مونفيراتو وملك فرنسا.
كما ترجمت في تلك الفترة أيضا حكاية شهيرة من ألف ليلة هي "حكاية الجارية تودد" التي ترجمها الفونسو أراجونيس والذي يقال إنه كان مسلما وعاش في القرن الرابع عشر، أي أنه كان معاصرا لبوكاتشو. وقد أثرت بالفعل علي رؤية بوكاتشو للنساء المخالفة لرؤية العصور الوسطي لهم، فهي في القصة العربية تتمتع بالموهبة والذكاء والحيوية، وهكذا عالجها بوكاتشو في حكايات مثل "نونا مونا دي بولتشي" و"مادونا فليبا".
وفي صقلية ترجم كتاب "مختار الحكم في محاسن الكلم" لمؤلفه المصري ابن فاتك، وفيه بعض حكايات ألف ليلة.
ولابد من الإشارة هنا أيضا إلي حكايات "مصانع الأكاذيب" التي تأثرت كثيرا بالمقامة العربية، ولكن الأهم من هذا هي أنها أخذت الكثير من حكايات المناصف التي وردت في الليالي في حكايات دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة، وبعض الحيل الروائية الموجودة في هذه الحكايات استخدمها أيضا بوكاتشو وخاصة في حكاية اندروتشو دا بيروجا الذي كان يعمل سمسارا للخيول ولكنه يتعرض للنصب من شخصية تقترب قربا شديدا من شخصية دليلة المحتالة، وخاصة في حادث البئر المتطابق تقريبا في الحكايتين.
إن التفاصيل كثيرة في رحلة ألف ليلة وليلة التي انطلقت من أطراف آسيا البعيدة، إلي أطراف أوروبا القصية، مرورا بالعرب، وبفضلهم، وبعمل قريحة عربية جماعية مزجت بين النقل والإبداع، وحفظت للإنسانية مثل هذا العمل المبدع الرائد.
* أخبار الأدب : 08 - 05 - 2010
ورغم هذا فإن هناك العديد من الدلائل القوية التي يمكن أن تثبت هذا التأثير من خلال دراسة النسخ التي أمكن العثور عليها من ألف ليلة وليلة، سواء الكاملة أو المنقوصة، والتي تشكل فيما بينها "جسم" الليالي الذي يقع بين أيدينا اليوم.
ولعل النسخة المصرية، والتي أعادت الذخائر طبعها، هي الدليل الأكبر علي أن مصر هي التي كان المصدر الرئيسي لهذا التأثير علي الغرب بصفة عامة قبل ترجمة جالان التي اعتمد فيها علي حكايات شفهية أولا، رواها له تاجر سوري من حلب، ومن ثم علي مخطوطات ثبت بعد ذلك أنها تنتمي إلي النسخة الشعبية المصرية والتي كان لها أكبر الأثر في التأثير علي كتاب سبقوا ترجمة جالان ، وخاصة علي بوكاتشو في الديكاميرون وتشوسر في حكايات كانتبري.
هذا الوجود المهيمن لألف ليلة وليلة في العصر الحديث عنوانا علي مهارة السرد عند العرب، لا يعني أنها لم يكن لها وجود قديم، وإنما سبق وجودها علي نحو مؤكد الديكاميرون وهو العمل الذي وضعه بوكاتشو عام 1351، وإن اختلفت الدراسات حول تحديد تاريخ ميلاد الليالي العربية، فالأدلة متعارضة فيما بينها، وتضع تواريخ متباعدة.
وكما نعرف فإن ألف ليلة وليلة تنتمي إلي الأدب الشعبي، ومن ثم قد ساد الاعتقاد بأنها جنس أدني (وهو رأي ابن النديم في الفهرست والذي وصفه بأنه كتاب بارد غث الحديث" من الأدب التقليدي والذي يسميه بعض النقاد بالأدب الرسمي. بل إن بعض الفقهاء القدامي كانوا يحرمون هذا النوع من القصص وينسبونه إلي وسوسة الشيطان لمن يسمر بها حتي تلهيه عن ذكر الله. وهذا الموقف المتشدد هو موقف موجه لفن القصة بشكل عام، وهو المسئول عن تأخر العرب في الكتابة القصصية، مثلما كان موقف الفقهاء القدامي من الفنون التشكيلية، ولكن كان له تأثير سلبي آخر وهو عدم كفاءة سبل توثيق كنوز الأدب الشعبي، والذي أدي إلي ضياع الكثير منها، ولم يفلت من هذا المصير إلا ألف ليلة وليلة وقليل من الأعمال الشعبية الأخري. والملفت في نجاة ألف ليلة وليلة من هذا المصير هو أنها لم تكتف بالمقاومة والنجاة وإنما حازت شهرة كبيرة، أكسبها أهميتها وحصنها من الانقراض. هذا الازدهار يؤكده ابن النديم في الفهرست عندما يقول:
"(...) وهناك أيضا نوع من الأدب القصصي العابث للتسلية والمتعة له طابع شعبي ولا يستحق أن يسمي أدبا، وقد أدي ازدهاره الي الاعتراف به علي مضض."
ولكن المادة التي كانت تحتويها النسخة التي يتحدث عنها ابن النديم، علي الأقل من حيث الكم، ليست هي نفسها المادة التي نتحدث عنها اليوم. فالحقيقة أنها الليالي تعرض علي مر الزمن إلي العديد من الصياغات والإثراء والإضافات جعلت من العسير تحديد ما هو أصيل منها وما هو مضاف.
كما أن التغير الذي طرأ عليها كان من أسبابه أيضا جعل هذه المادة (وتشمل الأقصوصة والقصة والرواية وبعض الشعر) أكثر ملاءمة لعادات وأذواق المتلقي العربي. ولا يخفي أن هناك "تغييرات أخري تعود إلي الرواية الشفهية من جانب المنشدين الذين كانوا يغيرون فيها حسب طلب الجمهور المنصت إليهم وحسب الموقف الاجتماعي والسياسي والأحداث التاريخية التي كان يشهدها عصر هؤلاء المنشدين" وهو ما يؤكده عبد الحميد يونس في دراسته للأدب الشعبي. والليالي مثلها مثل سائر القصص الشعبي تتسم بهذه المرونة الفنية التي تسمح بإدخال مثل هذا النوع من التغييرات".
وعلي أي حال فإن الحديث عن ميلاد "ألف ليلة وليلة" ينبغي أن يميز بين ظهورها لأول مرة في اللغة العربية واكتمالها. أما فيما يتعلق بالظهور الأول لها فنورد شهادة المستشرق الإيطالي فرانشيسكو جبراييلي التي أقر فيها بأن الليالي ظهرت في اللغة العربية ما بين عامي 754 و755، أي بعد أن بني المنصور مدينة بغداد. بيد أن هناك دارسون آخرون نسبوا مولدها إلي ما قبل هذا التاريخ، ومنهم من أرجعها إلي القرن السادس الميلادي.
أما عن النسخة الكاملة فقد كان من المعتقد أن عملا بعنوان ألف ليلة وليلة لم يظهر قبل القرن الثامن عشر. ولكن وليام لين أكد أن ألف ليلة نشرت كاملة ما بين 1475 و1525، ويحيلها أحمد حسن الزيات إلي تاريخ مختلف ما بين 1517 و1525. وهناك دراسات أحدث نسبيا تثبت أن تاريخ نشر الليالي كاملة أقدم من فكر هؤلاء، وأنها نشرت في زمن أقدم كثيرا. وتعتمد هذه الدراسات علي مخطوطات تم العثور عليها في أماكن متفرقة من العالم.
ومن المستندات التاريخية هناك عملان ينتميان إلي تاريخ الأدب العربي في القرن العاشر، الأولي هي للمسعودي المتوفي عام 957 والأخري لابن النديم المتوفي عام 996. فقد قال عنها المسعودي في مروج الذهب
»إن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب إلي الملوك بروايتها، وان سبيلها سبيل الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية مثل كتاب هزار افسانة، وتفسير ذلك بالفارسية ألف خرافة ويقال لها افسانة. والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها شهرزاد ودنيا زاد«
أما ابن النديم فيقول في الفهرست:
"أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن وجعل بعض ذلك علي ألسنة الحيوان، الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب الي اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء، فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه، فأول( عمل) في هذا المعني كتاب هزار افسانة، ومعناه "ألف خرافة" وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك لها عقل ودراية يقال لها شهرزاد، فلما حلت معه ابتدأت تخرفه واتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك علي استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلي أن أتي عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطأها إلي أن رزقت منه ولدا أظهرته، وأوقفته علي حيلتها عليه فاستعقلها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها دنيازاد، فكانت موافقة لها علي ذلك، وقد قيل ان هذا الكتاب ألف لهماي ( حميا) ابنة بهمن. (...) والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك الملوك بعده كتاب هزار افسانة ويحتوي علي ألف ليلة وعلي دون المائتي سمر، لأن السمر ربما حدث به عدة ليال، وقد رأيته بتمامه، دفعات."
والواضح من هاتين الشهادتين أن الليالي هي مجموعة من الخرافات لها قصة إطارية شخصياتها الرئيسية هم شهريار وشهرزاد. والشخصية الرئيسية عند المسعودي وابن النديم هي الملك. والشخصية النسائية التي يتحدث عنها المؤرخان الأدبيان هي شهرزاد، التي اختلف الاثنان في وصفها، فجعلها المسعودي "ابنة الوزير" بينما جعلها ابن النديم "ابنة أحد الملوك". والشخصية الثالثة التي يتحدثان عنها هي دنيا زاد، والتي هي جارية شهرزاد عند المسعودي وجارية الملك عند ابن النديم.
ولكن المؤكد أن المجموعة الحالية تتضمن هذه الشخصيات، وإن اختلف التوصيف، وأن هذه الشخصيات تؤدي الوظيفة السردية نفسها.
من جهة أخري فإن العدد الذي يذكره الكاتبان يشمل الجزء الأعظم من الحكايات المعروفة حاليا، لأنه يقل عن مائتي حكاية طبقا لما جاء في الفهرست بينما المجموعة الحالية تزيد قليلا عن المائتي حكاية، وبنفس البنية، أي أن الحكاية الواحدة تستمر لعدة ليالي. وهذا يعني أن الحكايات التي أضيفت فيما بعد أقل من المتصور بكثير.
وينطبق الأمر علي العنوان الذي ورد "ألف ليلة" حتي وإن خلا من الليلة المضافة علي الألف والتي ربما أضيفت فيما بعد أو تجاهلها الكاتبان، مثلما نقول اليوم "الليالي العربية" أو "ألف ليلة" وحسب، بدلا من ذكر العنوان كاملا.
ويعزز كلام ابن النديم والمسعودي بعض المخطوطات التي تم العثور عليها خلال القرنين الماضيين. وأحد أهم هذه المخطوطات ما عثرت عليه نابيا ابوت (ربما كان اسمها نبيهة عبود) Nabia Abott والمحفوظ حاليا بالمعهد الشرقي بشيكاغو.
وهذا المخطوط هو أقدم برهان مادي علي وجود الليالي وتحمل تاريخ شهر صفر عام 226 لهجرة وهو ما يوافق أكتوبر 879 ميلادية.
ويتضمن هذا المخطوط صفحتين فقط من ألف ليلة وليلة: الصفحة الأولي تحتوي علي العنوان "كتاب فيه حديث ألف ليلة".
وفي الصحفة الثانية ستة عشر سطرا من نص الليالي
(1) بسم الله الرحمن الرحيم
(2) ليلة
(3) فلما كانت تلك اللي(ل)ة القابلة
(4) قالت دينا زاد يا م(ل)ذتي ان كنت
(5) غير نايمة تحدثيني بالحديث
(6) بالحديث الذي أوعدتيني به واضربي (المثل) عن ا
(7) لفضل والنقص والحول والجهل
(8) والسخا والبخل والشجاعة والجبن
(9) "ي"كون في الانسان غريزة او طريفة
(10) "او" يخص معلمه او ادب سامي
(11) "او اع"رابي
(12) "فحدثتها شيرازاد بحد"يث فيه حسن ظريف
(13) "عن فلان ال ? وذ"كره
(14) "فت"نصر احق من لم
(15) " " الا امكر منهم
(16) السطر السادس عشر غير مقروء بها حروف متآكلة.
هذه السطور القليلة هي دليل لا يرقي إليه الشك في وجود كتاب بعنوان "ألف ليلة" في ذلك التاريخ، وأنه علي الأقل كان يحتوي علي الحكاية الإطارية المشهورة والحيلة التي شاركت فيها دنيا زاد لكي تمكن شهرزاد من رواية حكاياتها، فضلا عن الموضوعات الأخري التي تعالجها المجموعة الحالية مثل حكايات عن: الفضل والنقص والحول والجهل والسخاء والبخل والشجاعة والجبن.
وهناك أيضا المخطوطة التي عثر عليها هيتر في تركيا ونشرها رينيه خوام ونشرها في باريس عام 1975، وأوردها جابرييلي في مقال نشرته صحيفة "لاستامبا" عام 1989 وتحتوي علي أربعة حكايات من المجموعة الحالية، وهي تعود إلي القرن الثالث عشر.
وأهم هذه المخطوطات علي الإطلاق هي المخطوطة التي اعتمد عليها أنطوان جالان وهو مخطوط من أربعة أجزاء منها واحد مفقود ومحفوظ حاليا بالمكتبة الوطنية بباريس. وكان مكدونالد أول من أشار إلي أنه أقدم من عام 1592 العام الذي عثر عليها فيه ، وأشار إلي أنه كتب في مصر. أما محسن مهدي الذي حقق هذا المخطوط بوسائل علمية حديثة فقد عاد بالمخطوط إلي القرن الثامن للهجرة الرابع عشر للميلاد.
والخلاصة أن ألف ليلة وليلة كانت موجودة نصا مكتوبا، فضلا عن وجودها علي ألسنة الناس، بما فيها الحكايات الأصلية والحكايات المضافة، منذ القرن الثامن، وهو الرأي نفسه الذي تدعمه سهير القلماوي في أن أصل هذا المؤلف مأخوذ عن الهزار افسان واقدم قصصه مثل السندباد والسبع وزراء وجلعاد يمكن إرجاعها الي عصر المنصور ثم إن بعض القصص
المشتركة في كل النسخ ترجع إلي القرن العاشر وبعض قصصه حديثة أضيفت فيما بعد يرجع عهدها إلي القرن السادس عشر، أما المؤلف نفسه فقد اتخذ شكله النهائي في القرن الثالث عشر.
انتقلت الليالي إلي الغرب عن طريق طرق الاتصال المعروفة بين الشرق والغرب، والتي يمكن تلخيصها في حركة الترجمة الكثيفة في العصور الوسطي وبدايات عصر النهضة من العربية إلي اللاتينية واللغات الأوروبية المشتقة منها، وطرق التجارة التي لم تنقطع بين الشرق والغرب، والرحلات ، بما في ذلك الحج إلي بيت المقدس والهجرات، وما تبعها من أدب رحلات كان ينقل قصص الشعوب من مكان لآخر، والوجود العربي في صقلية والأندلس، الذي جعل الأوروبيين يتحدثون العربية أفضل من تحدثهم باللاتينية، طبقا لشهادة كاتب غربي من ذلك العصر (بول الفاروس)، والوجود الأوروبي في العالم العربي أثناء الحروب الصليبية التي جعلت الغرب يقترب من الشرق اقترابا حثيثا لم يقتصر علي أعمال الحرب ولكن كان له أيضا أثر ثقافي ملحوظ نلحظه في الأعمال المكتوبة في عصور الحروب الصليبية والعلاقات الجدلية بين مفكري العالمين الغربي والشرقي التي رافقت هذه الحروب، وهو ما يؤكد أنه حتي في أيام الصدام لم تنعدم العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، يكفي أن تقرأ أسامة بن منقذ الذي عاش وكتب أيام الحروب الصليبية وكانت له علاقات "سلمية" ثقافية مع الصليبيين. بل إن بن جبير في رحلته وصف الأمر كما يلي: "اختلاف القوافل من مصر الي دمشق علي بلاد الافرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق الي عكا كذلك، وتجار النصاري أيضا لا يمنع أحد منهم أو يعترض، (...) والاتفاق بينهم والاعتدال في جمبع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية." ومن ثم فإن الجدران الدينية والفقهية لم تحل قط بين التأثير الفكري الذي يمارسه الأدب علي كافة الشعوب.
ومن أهم الكتب التي ترجمت إلي اللاتينية وإلي اللهجات الأخري كتاب كليلة ودمنة، وكتاب السندباد، وفي كليلة ودمنة بعض الحكايات المكررة من ألف ليلة وليلة. ومن ثم يعود إليها الفضل أيضا في تعريف الغرب ببعض قصص ألف ليلة. أما كتاب السندباد فله أثر كبير في التأثير علي الأعمال القصصية الغربية حتي قبل بوكاتشو، فهناك بعض القصص المتأثر به في أعمال مثل "تهذيب العلماء" لبطرس ألفونسو، وفي كتاب "النوفيللينو".
وكتاب السندباد الذي نعنيه والذي ترجم أكثر من مرة إلي اللاتينية والقشتالية واليونانية، وبعناوين مختلفة، مثل "كتاب الوزراء السبعة"، وكان منتشرا في قصور الملوك في ذلك العصر، هو الفصل الخاص في المجموعة الحالية والتي جاءت بعنوان "حكايات في مكر النساء وأن كيدهن عظيم"، وفيه قصة الأمير سندباد التي تتهمه زوجة أبيه بمراودتها عن نفسها فيحكم أبوه الملك عليه بالموت، ولكن الوزراء الحكماء يقصون علي الملك ولسبعة أيام قصصا تدل علي مكر النساء، بينما تحكي له زوجة أبيه في نفس الأيام حكايات عن مكر الرجال. وهذه المجموعة من الحكايات تستخدم الحكاية الإطارية، ذريعة لرواية حكايات أخري، كما أنها تستخدم الرقم بنية لتراتب السرد، وهي في هذا تشبه الديكاميرون " الأيام العشرة " لبوكاتشو، الذي لم يقتصر فقط علي الاستفادة من بنية الحكايات وإنما نقل بعضا من هذه الحكايات، مثل حكاية المحظيات التسعين للسلطان اللاتي شبهتهن الليالي بأنهن مثل أطباق الطعام المتشابهة، ونقلها بوكاتشو في حكاية كونتيسة مونفيراتو وملك فرنسا.
كما ترجمت في تلك الفترة أيضا حكاية شهيرة من ألف ليلة هي "حكاية الجارية تودد" التي ترجمها الفونسو أراجونيس والذي يقال إنه كان مسلما وعاش في القرن الرابع عشر، أي أنه كان معاصرا لبوكاتشو. وقد أثرت بالفعل علي رؤية بوكاتشو للنساء المخالفة لرؤية العصور الوسطي لهم، فهي في القصة العربية تتمتع بالموهبة والذكاء والحيوية، وهكذا عالجها بوكاتشو في حكايات مثل "نونا مونا دي بولتشي" و"مادونا فليبا".
وفي صقلية ترجم كتاب "مختار الحكم في محاسن الكلم" لمؤلفه المصري ابن فاتك، وفيه بعض حكايات ألف ليلة.
ولابد من الإشارة هنا أيضا إلي حكايات "مصانع الأكاذيب" التي تأثرت كثيرا بالمقامة العربية، ولكن الأهم من هذا هي أنها أخذت الكثير من حكايات المناصف التي وردت في الليالي في حكايات دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة، وبعض الحيل الروائية الموجودة في هذه الحكايات استخدمها أيضا بوكاتشو وخاصة في حكاية اندروتشو دا بيروجا الذي كان يعمل سمسارا للخيول ولكنه يتعرض للنصب من شخصية تقترب قربا شديدا من شخصية دليلة المحتالة، وخاصة في حادث البئر المتطابق تقريبا في الحكايتين.
إن التفاصيل كثيرة في رحلة ألف ليلة وليلة التي انطلقت من أطراف آسيا البعيدة، إلي أطراف أوروبا القصية، مرورا بالعرب، وبفضلهم، وبعمل قريحة عربية جماعية مزجت بين النقل والإبداع، وحفظت للإنسانية مثل هذا العمل المبدع الرائد.
* أخبار الأدب : 08 - 05 - 2010