نقوس المهدي
كاتب
وقد ظهرت شخصية السندباد في الليلة الثانية والستين بعد الخمسمئة من ليالي " ألف ليلة وليلة " ؛يبدأ السندباد البحري في قص أولى سفراته على سماره وجلسائه وعلى السندباد البري بقوله: " اعلموا يا سادة يا كرام أنه كان لي أب تاجر وكان من أكابر الناس والتجار وكان عنده مال كثير, ونوال جزيل, وقد مات وأنا ولد صغير, وخلف لي مالا وعقارا وضياعا, فلما كبرت وضعت يدي على الجميع, وقد أكلت أكلا مليحا, وشربت شربا مليحا, وعاشرت الشباب, وتجملت بلبس الثياب, واعتقدت أن ذلك يودم لي ..
ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمن , ثم اني رجعت الى عقلي , وأفقت من غفلتي , فوجدت مالي قد مال وحالي قد حال , وقد ذهب جميع ما كان معي .. وقد خطر لي السفر الى بلاد الناس. وتذكرت كلام بعض الشعراء:
"بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
يغوص البحر من طلب اللالئ ويحظى بالسيادة والنوال
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال"
ثم يتجهز السندباد للرحلة الاولى , ثم تتوالى رحلاته بعد ذلك لينتهي منها في الليلة التاسعة والتسعين بعد الخمسمئة قائلا: " ...ثم دخلت حارتي وجئت داري وقابلت أهلي وأصحابي وأحبائي , وخزنت جميع ما كان معي من البضائع وخواصلي , وقد حسب أهلي مدة غيابي عنهم في السفرة السابعة فوجدوها سبعا وعشرين سنة حتى قطعوا الرجاء مني , فلما جئتهم وأخبرتهم بجميع ما ما كان من أمري وما جرى لي صاروا كلهم يتعجبون من ذلك الأمر عجبا كبيرا وهنؤوني بالسلامة, ثم اني تبت الى الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات وقاطعة الشهوات, وشكرت الله سبحانه وتعالى وحمدته وأثنيت عليه حيث أعادني الى أهلي وبلادي وأوطاني " فقد بهرته عجائب الدنيا واشتد توقه الى المعرفة حتى أصبح جواب افاق لا يستقر له حال في بلاد , فاذا جلس من رحلاته كان في جعبته طرائف السمر التي لا تنفد وأحاديث العجائب التي لا تنتهي.
وكان الدافع وراء رحلاته التجارة والمغامرة والفضول , يؤكد ذلك قوله: " فاشتاقت نفسي الى الفرجة في البلاد والى ركوب البحر وعشرة التجار وسماع الأخبار،بالاضافة الى الطمع الذي تؤكده القصةذاتها في قوله : " وهذا الذي أقاسيه من طمعي "
والسندباد كما تصوره " ألف ليلة وليلة " هو ذلك البطل الأسطوري المغامر الذي لا يهدأ له بال , لا يكاد ينتهي من رحلة حتى يشرع في أخرى , لذا فهو يمتاز عن غيره من الابطال برحلاته الطويلة عبر البحار والجزر وارتياده أفاقا غريبة وعوالم مجهولة وعلى الرغم من تلك الأخطار والمخاوف المهلكة التي كانت تسد طريقه وتدفع به الى الموت بالغرق أو الاختطاف أو الأسر في الجزر النايئة فانه كان يعود دائما من رحلاته ظافرا منتصرا محملا بالأموا والكنوز العجيبة.
وقد استهوت هذه الشخصية بما فيها من قلق وتطلع شعراء العصر الحديث ووجدوا في مخاطرات السندباد " معنى الانعتاق من الواقع والتمرد عليه , والرغبة في تنفس هواء جديد , وتلك روح الشاعرالعظيم الذي تحفزه الرغبة على الكشف واستكناه الوجود ويلهبه توق دائم الى تغيير الواقع وتجاوز الممكن الى ما يجب أن يكون فيضرب بتجربته الشعرية في أكباد الحقيقة لأنه رحالة أبدي المغامرة.
ولقد كان نموذجا للتطلع الى المعرفة والتشوق الى اختراق المجهول أراد أن يجوب العام , وأن يتخطى واقعه الاجتماعي بكل عوائقه المستعصية.
وقد اتخذت شخصية السندباد من الناحية الرمزية بعدين : بعدا فرديا يجلي الشاعر من خلاله فرادته الشخصية , وبعدا جماعيا تتفرع قيمته في حقل التجربة الانسانية التي تتمثل في رحابةحضورها عبر الزمان والمكان.
ويذهب أنس داود الى أن الشاعر صلاح عبد الصبور يعد أول من استخدم هذا الرمز وتقمصه وتحدث من خلاله , وان كان الشاعر علي محمود طه قد أشار اليه دون أن يفصح برمز السندباد في ديوانه " الملاح التائه " الذي يجوب بحار الفكر والمعاناة بحثا عن رؤية شعرية.اذ يقول الشاعر علي محمود طه:
"يا فتية الفولجا تحية شاعر رقت له في شدوه الأشعار
ملاح وادي النيل الا أنه أغرته بالتيه السيق بحار
أبدا يطوف حائرا بشراعه يرمي به أفق ةتقذف دار".
الا أن السندباد دخل كنموذج فني الى عالم الشعر على يدي الشاعرين : صلاح عبد الصبور وخليل حاوي , ففي قصيدة صلاح عبد الصبور " رحلة في الليل " من ديوانه الاول " الناس في بلادي " يجعل السندباد البؤرة الأساسية التي تحكم جميع خيوط القصيدة دلاليا وبنائيا فالسندباد هو الشاعر وتبدأ القصيدة بعنوان فرعي يحمل اسم " بحر الحداد " وكلمة بحر تلازم السندباد بشكل لا يمكن الفصل بينهما لأنه المجال الذي كان السندباد يصنع من خلاله مغامراته , واذا كان السندباد مصدر الغنى والمال فان بحر عبد الصبور هو بحر الحداد والضياع والعدم والظلمة قد مات فيه الرخ , سبيل النجاة والخلاص , بهذه المفارقة , ومن داخل اسطورة السندباد نفسها يبدأ صلاح عبد الصبور بنسج خيوط أسطورة جديدة تنسجم مع تجربته وتطلعه الى غد تولد فيه نفسه من جديد.
"في اخر المساء يمتلى الوساد بالورق
كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط
وينضح الجبين بالعرق
ويلتوي الدخان أخطبوط
في اخر المساء عاد السندباد
ليرسي السفين
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم
السندباد :
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم
السندباد :
"لا تحك للرفيق عن مخاطر الطريق " " ان قلت للصاحي انتشيت قال : كيف ؟
" السندباد كالاعصار ان يهدأ يمت"
الندامى :
هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد
انا هنا نضاجع النساء
ونغرس الكروم
ونعصر النبيذ للشتاء
ونقرأ " الكتاب " في الصباح والمساء
وحينما تعود نعدو نحو مجلس الندم
تحكي لنا حكاية الضياع في بحر العدم ".
والسندباد هنا ليس ذاك البطل الذي تحركه الأشواق الى ركوب البحر انه هنا شخصية تروي للندامى حكاية السندباد البحري علها تحرك فيهم رغبة التمرد والانعتاق من القيود ولكن هيهات انهم قاعدون عاجوزن لم يستطع السندباد أن يبث فيهم الرغبة في التغيير من جديد وفي ذلك اشارة من الشاعر الى الواقع المهزوم الذي اثر الاستقرار وألف الثبات واكتفى أفراده بالسماع عن الابطال والشخصيات دون محاكاتهم أو التأثر بهم .ويشير انس داود الى ان الشاعرهنا استخدم قناع السندباد ليناظر بين رحلة السندباد ورحلة الشاعر وجسد الخلق الفني باعتباره رحيلا عبر المجهول واكتشافا للجديد من حقائق النفس والحياة, لقد وجد صلاح عبد الصبور في أسطورة السندباد التي اتخذ منها قناعا لبسط أفكاره وتأملاته الفلسفية على مدى تطور حياته الشعرية التي يمكن تقسيمها الى ثلاث مراحل , كان السندباد في كل مرحلة يظهر بوجه معين.
تبدأ المرحلة الأولى بديوانه الأول " الناس في بلادي " يتجلى السندباد في رحلة الشاعر في سبيل الابداع الشعري الذي يرحل كما رحل السندباد رغبة في الكشف عن عوالم شعرية أخرى تمكنه من الانفلات من قبضة التقليد واعادة ما أبدعه القدماء:
"صنعت مركبا من الدخان والمداد والورق
ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم
وفوق قمة السفين يخفق العلم
وجه حبيبي خيمة من نور
وجه حبيبي بيرقي المنشور
جبت الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة
سيدتي اليك قلبي واغفري لي أبيض كاللؤلؤة".
فالشاعر يمزج بين عناصر الرحلة عند ه وعند السندباد: كاللؤلؤ والسفين والمحار والليالي ونحوها دون أن يصرح بالأسطورة أو الشخصية , وجملة القول أن رحلة السندباد هي رمز لرحلة الشاعر في سبيل المعرفة والابداع ... رحلة البحث عن الحرف المضئ والكلمة النابضة بالحياة بصورة لا يمكن الاستغناء عنها:
"السندباد كالاعصار ان يهدأ يمت "
وفي المرحلة الثانية كان الشاعر / السندباد مهزوما ضعيفا تبددت مغامراته وانتهت طموحاته , فلا شيء في حياة انسان هذا العصر غير السأم , ذلك أن الانسان في المجتمع المعاصر حينما يريد أن يكون له شخصيته المستقلة وفكره المتميز عن فكر المجتمع الذي تسيطر عليه السلطة الغشوم يودي بنفسه الى المحن وقد يودي بها الى الموت ولا طاقة للانسان المعاصر على أن يواجه محنة الاستشهاد:
"ملاحنا هوى الى قاع السفين , واستكان
وجاش بالبكا بلا دمع ... بلا لسان
ملاحنا مات قبيل الموت , حين ودع الأصجاب
...والأحباب والزمان والمكان."
ولعل الهرب من محنة الاستشهاد – كما يشير أنس داود – هي المأساة الحقيقية لسندباد عصرنا لكل مفك وفنان لأنه يريد العيش في سلام دون أن يريق قطرة دم فتكون النتيجة الموت دون مصارعة التيار. وفي ذلك يقول صلاح عبد الصبور:
"يا شيخنا الملاح قلبك الجريء كان ثابتا
فما له استطير
أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد
ثم قال :
هذي جبال الملح والقصدير
فكل مركب تجيئها تدور
تحطمها الصخور
..................
ملاح هذا العصر سيد البحار
لأنه يعيش دون أن يريق نقطة من دم
لانه يموت قبل أن يصارع التيار".
"ان روح الهزيمة والانكسار اللتين ركز عليهما الشاعر ليست من سمات سندباد ألف ليلة وليلة , وانما هي من سمات الانسان العربي المعاصر الممزق بين الحضارات فاقدا بطولته ونخوته وطموحه ".
أما السندباد في مرحلته الثالثة عند عبد الصبور فاننا نجدها في قصيدته " الخروج " في ديوانه " أحلام الفارس القديم " التي يحاول فيها الشاعر أن يشق طريقه الى عالمه النفسي ويرحل في أغوار ذاته , متخذا من هجرة الرسول عليه السلام اطارا تاريخيا مناسبا يتحرك داخل معالمه ذلك السندباد الجديد الخارج من ماضيه المتجه نحو عالم اخر , انه يتحول من الرحيل في العالم الخارجي الى الرحيل في عالمه النفسي ... فكان ما في الهجرة من دلالة على التحول أقدر النظائر على الايحاء لنا بمدلول تجربة صلاح الجديدة:
"سوخي اذن في الرمل سيقان الندم
لا تتبعيني نحو مهجري ..نشدتك الجحيم
وانطفئي مصابيح السماء
كي لا ترى سوانح الالم
ثيابي السوداء
ان عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثي المقيم ".
لقد قدم صلاح عبد الصبور في قصيدته " الخروج " نموذجه الاسطوري الاثير " السندباد " وهو يتحول عن الرحلة في الخارج الى الرحلة في الداخل .... من المجتمع الى الانسان.
أما خليل حاوي فقد اتخذ السندباد علما على تجربته الشعرية منذ مطلع ديوانه الأول" نهر الرماد " في قصيدته " البحار والدرويش ":
" بعد أن عانى دوار البحر ,
والضوء المداجي , عبر عتمات الطريق
ومدى المجهول ينشق عن المجهول , عن موت محيق
بعد أن راوغه الريح رماه
الريح للشرق العريق
حط في أرض حكى عنها الرواة."
واعتبر نفسه راحلا أبديا في سبيل المعرفة, وقد أفصح أحيانا عن اسم " السندباد " واكتفى أحيانا أخرى بالحديث عن الرحلة والمغامرة ومشقات التطلع والبحث, وقد حاول -عبر هذا الرحيل – أن يعثر على اللغة الفطرية البكر.
ففي قصيدته " الناي والريح " من ديوانه الثاني بيحث خليل حاوي عن لغة الانسان الاولى التي تحمل كل أثار الاحساس المفعم بمشاهد الوجود وطريقه الى تلك اللغة طريق صعب:
"دربي الى البدوية السمراء
واحات العجين البكر
والفجوات أودية الهجير
وزوابع الرمل المرير
تعصى وليس يروضها
غير الذي يتقمص الجمل الصبور
وبقلبه طفل يكور جنة
غير الذي يقتات من ثمر عجيب
نصف من الجنات يسقط في السلال
يأتي بلا تعب حلال
نصف من العرق الصبيب
الشوك ينبت في شقوق أظافري
الشوق في شفتي يمرج باللهيب ."
فالشاعر خليل حاوي قد بدأ بالرحيل من أجل المعرفة والبحث عن ماهية الوجود وانتهى بذوبانه في نهر الجوع والتطلع الى ازدهار الحياة ونضارتها عبر جيل عربي جديد:
"يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق , من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد ."
وفي ديوانه الثاني" الناي والريح " واصل خليل حاوي الايمان بالبعث العربي المبشر بالعودة الى الماضي الحلم :
"داري التي تحطمت ..
تنهض من أنقاضها
نختلج الأخشاب , تلتم وتحيا قبة خضراء في الربيع
***
ما كان لي أن أحتفي بالشمس ..
لو لم أركم تغتسلون – بالصبح – في النيل , وفي الأردن ,
والفرات من دمغة الخطيئة ".
أما في ديوانه الأخير " بيادر الجوع " فقد بدا كسير القلب والروح , يائسا من الانبعاث الذاتي العربي:
"ماذا سوى كهف يجوع
فم يبور
ويد مجوفة تخط وتمسح الخط المجوف في فتور
هذي العقارب لا تدور
رباه كيف تمط أرجلها الدقائق , تستحيل الى عصور."
ثم اتخذ من السندباد نموذجا يتبناه الشاعر في قصيدته " السندباد في رحلته الثامنة " حتى عد من أكثر الشعراء توظيفا لشخصية سندباد , لانه وجد فيها قيما ورموزا صالحة للتعبير عن شتى أبعاد تجربته الروحية والشعرية , لا سيما تلك الفترة الحاسمة من فترات تطوره الفكري , وهي فترة البحث عن الذات عبر مجموعة من المغامرات الوجودية فمغامرة الشاعر الفنية تحمل طابع مغامرات السندباد , وتتقمص شخصيته,
فالشاعر يتوحد بالمجتمع رافضا التقوقع الاقليمي , ويتجلى هذا التوحد في قصيدته " السندباد في رحلته الثامنة " من ديوانه " الناي والريح " لترسم هذه الرحلة من بدايتها الى نهايتها وتختصر المسافة وكأنها القصيدة التي اكتملت عندها الرؤية.
يقدم الشاعر لقصيدته هذه باستهلال يشير فيه الى الاسطورة المحورية الموظفة فيها وهي أسطورة السندباد , حيث أن السندباد عندما عاد الى بغداد في " ألف ليلة وليلة " بعد رحلته السابعة , ابتنى دارا فسيحة واشترى عبدانا وجواري وراقت له الأحوال أزمع ألا يجيب ذلك الهاتف الملح الذي يدوي في أعماقه بالرحيل, وخلد الى السكينة مستعيدا مع سماره طرائف رحلته.
غير أن السندباد عند خليل حاوي عصف به الحنين الى الابحار مرة ثانية فراح يبحر في دنيا ذاته , يستجلي معالمها العميقة بشفافية واضحة أظهرت ملامج ذلك البحار المجهول فاذا به السندباد البحري بكل ما يحمله هذا المغامر في التراث الشعبي من ملامح وسمات , فقد استطاع الشاعر أن يعثر في هذه الشخصية على الصوت التراثي الذي سينهض بعبء التعبير عن كل ما حاولت شخصية البحار أن تعبر عنه في نهر الرماد , بعد أن اكتسب أبعادا وأعماقا فكرية ووجودية.
تنقسم القصيدة الى محورين رئيسيين مختلفين في الاتجاه , الاول تمثله دار السندباد القديمة الممتلئة بالسموم والشرور والاتجاه الثاني تمثله دار السندباد الجديدة , أما الدار القديمة فيقول فيها:
"وكان في الدار رواق
رصعت جدرانه الرسوم
موسى يرى
ازميل نار صاعق الشرر يحفر في الصخر وصايا ربه العشر:
الزفت والكبريت والملح على سدوم
هذا على الجدار
علىجدار اخر اطار
وكاهن في هيكل البعل
يربي افعوان فاجرا وبوم
يفتض سر الخصب في البراري السكارى
يهلل السكارى
وتخصب الارحام والكروم
تفور الخمرة في الجرار
على جدار اخر اطار."
في هذه الدار قضى السندباد طفولته يرضع من تلك السموم حتى سرت في عروقه , وفي ذلك يقول : "رحلاتي السبع وما كنزته /من نعمة الرحمن والتجارة / يوم صرعت الغول والشيطان / يوم انشقت الأكفان عن جسمي / ولاح الشق في المغارة
بلوت ذاك الرواق
طفلا جرت في دمه الغازات والسموم
وانطبعت في صدره الرسوم
وكنت فيه والصحاب العتاق "
ثم يستفيق السندباد من غفلته فيلجأ الى داره يزيل عنها فجورها:
سلخت ذاك الرواق
خليته مأوى عتيقا للصحاب العتاق
طهرت داري من صدى أشباحهم
في الليل والنهار
من غل نفسي خنجري
ليني ولين الحية الرشيقة ,
عشت على انتظار
لعله ان مر أغويه
فما مر
وما أرسل صوبي رعده , وبروقه ."
وعلى الرغم من هذا ظلت الدارمختنقة بالصمت والغبار كأنها صحراء كلس مالح بوار لأن ما كان ينتظره السندباد لما يأتي بعد , وأصبح الانبعاث أمرا يتطلب التضحيات الجسام فيرفع السندباد يديه الى السماء يشكو الضيق ويطلب الصبح والامطار لكن هيهات:
"طلبت صحو الصبح والامطار , ربي
فلماذا اعتكرت داري
لما اختنقت بالصمت والغبار
صحراء كلس بوار
..........................
وكأن في داري التقت
وانسكبت أفنية الأوساخ في المدينة
تفور في الليل والنهار
يعود طعم الكلس والبوار."
الا أن السندباد لم يستسلم بل راح يهدم الدار, لأنه مسكون برغبة التغيير والاندفاع نحو الامام:
وذات ليل أرغت العتمة
واجترت ضلوع السقف والجدار
كيف انطوى السقف وانطوى الجدار
كالخرقة المبتلة العتيقة
وكالشراع المرتمي
على بحار العتمة السحيقة
حف الرياح السود يحفيه
وموج أسود يعلكه يرميه للرياح."
في المقطع الرابع يدخل السندباد حلما يرى فيه أن الرؤية بالتغيير قد تحققت , فأصبحت الدار جنة تموج بالثلج والزهر والثمار :
"صحراء كلس مالح , بوار
تمرج بالثلج وبالزهر وبالثمار
داري التي تحطمت
تنهض من أنقاضها
تختلج الأخشاب
تلتم تحت قبة خضراء في الربيع."
وعندما يصحو من الحلم , يصمم على تحقيقه فعليا ليخرج من زمن الانتظار الى زمن الفعل الحقيقي , فيتحقق بعضه:
"أفرغت داري مرة ثانية
أحيا على جمر طري طيب وجوع
كأن أعضائي طيور عبرت بحار
وحدي على انتظار
.......
واليوم والرؤيا تغني في دمي
برعشة البرق صحو الصباح
وفطرة الطير التي تشتم
ما في نية الغابات والرياح
تحس ما في رحم الفصل
ترته قبل أن يولد في الفصول ."
وفي المقطع التاسع تتحقق البشارة ويطل السندباد على داره الجديدة التي تشكل المحور الرئيسي الثاني في القصيدة:
"تحتل عيني بروج مدخنات
واله بعضه بعل خصيب
بعضه جبار فحم ونار
مليون دار مثل داري ودار
تزهو باطفال غصون الكروم
والزيتون جمر الربيع."
لقد وصل السندباد أخيرا الى الانبعاث لكنه تلقى من العذاب ما تلقى , واذا كان سندباد" ألف ليلة وليلة " قد عاد الى بغداد من سفراته محملا بالجواهر والكنوز فان سندباد القصيدة – وان دخل في تقاطع واضح مع سندباد الاسطورة – ظل يشق طريقه الى وجدانه فكانت رحلاته بحثا في أعماق ذاته وتاريخ حضارته لا للحصول على الكنوز وانما لاكتشاف ما بقي في هذا الذات من قيم تساعد على تجاوز المحنة وتخطي الانحطاط .
وهنا يكمن الفرق بين سندباد " ألف ليلة وليلة " وسندباد القصيدة , كلاهما يرحل في الزمن الأول نحو الخارج أو المستقبل لأن هاجس الرحلة لديه هو المسيطر , والثاني نحو الداخل أو الماضي لأان زاد الرحلى لا يتم في رأيه الابذلك , والسفر نحو المستقبل لا يتم الا بالانطلاق من الماضي , وأن تغيير الواقع لا يتم دون هدم الافكار المهترئة تمهيدا لبناء جديد. وبذلك هدم خليل حاوي الحضارة القديمة وأقام الحضارة الجديدة , وان تم ذلك بعد معاناة وانتظار طويلين في بناء دائري تتشابك عناصره وتتفاعل مع بعضها البعض.
لقد اتخذ من السندباد قناعا له , اذ يتفاعل صوته مع صوت السندباد حيث الغى المسافة التي تفصل بينهما وألقى نفسه في خضم الموقف الدرامي هادفا الى تطهير ذاته في انتظار النبءة أو الوحي.
ولربما كانت هذه المعاناة التي مر بها خليل حاوي " هي تلك التي ساقته الى الايمان بالحضارة على أنها فعل تقدم , وأن اله التقدم هو اله الانسان الحقيقي ".
لقد تم التغيير عند خليل حاوي انطلاقا من ذات السندباد وبالتالي من ذات الجماعة عن طريق التطهر واجتناب المفاسد . وخليل حاوي نفسه يعلق على رمز السندباد بقوله:
"وما يحكى عن السندباد أنه راح يبحث في دنا ذاته فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة , رمى بها جميعا في البحر , ولم يأسف على خسارة , تعرى حتى بلغ بالعري الى جوهر فطرته ثم عاد يحمل الينا كنزا لا شبيه له بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة ".
وفي قصيدته " الموت في المنفى " يوظف البياتي رمز السندباد فيقول :
"بدم القلب , بطاقات الرماد
كتبت
أين كنوز السندباد
منك , يا زاد المعاد
أه لو أحرقت أشعاري
وأغرقت الليالي بالمداد لكتبت مرة أخرى بطاقات الرماد
أين أمضي , وطني ناء وكفاك على رأسي تراب
أين أمضي , فاريب مات على أبواب بغداد سراب
يا غراب البين لا تنعب
فأيامي رحيل واغتراب ."
وقناع السندباد البحري الذي اقتبسه البياتي هو مثله جواب أفاق يقطع البحار ويتعرض للمغامرات , ولا ييأس لأنه مفعم بالأمل انه الشاعر نفسه في طموحه وعذابه وأمله في انتصار الثورة , لكنه ييأس أخيرا فيشعر بخيبة الأمل ويرى أن فجر الحرية بعيد الشروق اذ يقول:
"جنية البحر على الصخرة تبكي : مات السندباد
وها أنا أراه
بورق الجرائد الصفراء مدفونا , ولا أراه
مركبه يباع في المزاد
وسيفه يكسره الحداد
عبد الوهاب البياتي : ديوان عن عن الموت والثورة ".
ويقول البياتي :
قمري الحزين
البحر مات
وغيبت أمواجه السوداء قلع السندباد
ولم يعد ابناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
الكنز في المجرى دفين
في اخر البستان تحت شجرة الليمون خبأه هناك السندباد
لكنه خاو , وها أن الرماد
والثلج والظلمات والاوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات.
وهو رمز الثائر الذي يحمل لواء التغيير , فيقول البياتي ":
السندباد من هنا مر ؟ ومرت هذه العصور
وهو على مسحاته يدور
والشاه في بلاطه مخمور
يغرق في الحرير والاطياب
ويطعم الكلاب"
والسندباد هو القصيدة والحرف الذي يحمل القضية وفي ذلك يقول البياتي:
كل ما أكتبه
يا سندبادي
كل ما أكتبه محض حروف
فأنا اعتصر الحرف وورقائي مع الصبح هتوف
وأنا يا سندبادي
متعب قلبي عزوف ...
أه لا توقظ جراحاتي ودعني حول أمواتي أطوف
أيها الحرف
الذي علمني جوب البحار
سندبادي مات مقتولا على مركب نار
أين من يأخذ ثأر السندباد
أيها السيف الذي للغمد عاد
دمنا كان المداد
أيها الريح الذي يحمل مركب
سندبادي
أيها الحرف المعذب
أينما تذهب أذهب .
والسندباد هو الفلسطيني الذي كتب عليه أن يجوب المنافي وفي ذلك يقول البياتي :
من يشتري ؟ الله يرحمكم
ويرحم أجمعين
أباءكم , يا محسنون
اللاجئ العربي والانسان والحرف المبين برغيف خبز
ان اعراقي تجف وتضحكون
السندباد أنا
كنوزي في قلوب صغاركم
للسندباد بزي شحاذ حزين .."
* masress
ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمن , ثم اني رجعت الى عقلي , وأفقت من غفلتي , فوجدت مالي قد مال وحالي قد حال , وقد ذهب جميع ما كان معي .. وقد خطر لي السفر الى بلاد الناس. وتذكرت كلام بعض الشعراء:
"بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
يغوص البحر من طلب اللالئ ويحظى بالسيادة والنوال
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال"
ثم يتجهز السندباد للرحلة الاولى , ثم تتوالى رحلاته بعد ذلك لينتهي منها في الليلة التاسعة والتسعين بعد الخمسمئة قائلا: " ...ثم دخلت حارتي وجئت داري وقابلت أهلي وأصحابي وأحبائي , وخزنت جميع ما كان معي من البضائع وخواصلي , وقد حسب أهلي مدة غيابي عنهم في السفرة السابعة فوجدوها سبعا وعشرين سنة حتى قطعوا الرجاء مني , فلما جئتهم وأخبرتهم بجميع ما ما كان من أمري وما جرى لي صاروا كلهم يتعجبون من ذلك الأمر عجبا كبيرا وهنؤوني بالسلامة, ثم اني تبت الى الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات وقاطعة الشهوات, وشكرت الله سبحانه وتعالى وحمدته وأثنيت عليه حيث أعادني الى أهلي وبلادي وأوطاني " فقد بهرته عجائب الدنيا واشتد توقه الى المعرفة حتى أصبح جواب افاق لا يستقر له حال في بلاد , فاذا جلس من رحلاته كان في جعبته طرائف السمر التي لا تنفد وأحاديث العجائب التي لا تنتهي.
وكان الدافع وراء رحلاته التجارة والمغامرة والفضول , يؤكد ذلك قوله: " فاشتاقت نفسي الى الفرجة في البلاد والى ركوب البحر وعشرة التجار وسماع الأخبار،بالاضافة الى الطمع الذي تؤكده القصةذاتها في قوله : " وهذا الذي أقاسيه من طمعي "
والسندباد كما تصوره " ألف ليلة وليلة " هو ذلك البطل الأسطوري المغامر الذي لا يهدأ له بال , لا يكاد ينتهي من رحلة حتى يشرع في أخرى , لذا فهو يمتاز عن غيره من الابطال برحلاته الطويلة عبر البحار والجزر وارتياده أفاقا غريبة وعوالم مجهولة وعلى الرغم من تلك الأخطار والمخاوف المهلكة التي كانت تسد طريقه وتدفع به الى الموت بالغرق أو الاختطاف أو الأسر في الجزر النايئة فانه كان يعود دائما من رحلاته ظافرا منتصرا محملا بالأموا والكنوز العجيبة.
وقد استهوت هذه الشخصية بما فيها من قلق وتطلع شعراء العصر الحديث ووجدوا في مخاطرات السندباد " معنى الانعتاق من الواقع والتمرد عليه , والرغبة في تنفس هواء جديد , وتلك روح الشاعرالعظيم الذي تحفزه الرغبة على الكشف واستكناه الوجود ويلهبه توق دائم الى تغيير الواقع وتجاوز الممكن الى ما يجب أن يكون فيضرب بتجربته الشعرية في أكباد الحقيقة لأنه رحالة أبدي المغامرة.
ولقد كان نموذجا للتطلع الى المعرفة والتشوق الى اختراق المجهول أراد أن يجوب العام , وأن يتخطى واقعه الاجتماعي بكل عوائقه المستعصية.
وقد اتخذت شخصية السندباد من الناحية الرمزية بعدين : بعدا فرديا يجلي الشاعر من خلاله فرادته الشخصية , وبعدا جماعيا تتفرع قيمته في حقل التجربة الانسانية التي تتمثل في رحابةحضورها عبر الزمان والمكان.
ويذهب أنس داود الى أن الشاعر صلاح عبد الصبور يعد أول من استخدم هذا الرمز وتقمصه وتحدث من خلاله , وان كان الشاعر علي محمود طه قد أشار اليه دون أن يفصح برمز السندباد في ديوانه " الملاح التائه " الذي يجوب بحار الفكر والمعاناة بحثا عن رؤية شعرية.اذ يقول الشاعر علي محمود طه:
"يا فتية الفولجا تحية شاعر رقت له في شدوه الأشعار
ملاح وادي النيل الا أنه أغرته بالتيه السيق بحار
أبدا يطوف حائرا بشراعه يرمي به أفق ةتقذف دار".
الا أن السندباد دخل كنموذج فني الى عالم الشعر على يدي الشاعرين : صلاح عبد الصبور وخليل حاوي , ففي قصيدة صلاح عبد الصبور " رحلة في الليل " من ديوانه الاول " الناس في بلادي " يجعل السندباد البؤرة الأساسية التي تحكم جميع خيوط القصيدة دلاليا وبنائيا فالسندباد هو الشاعر وتبدأ القصيدة بعنوان فرعي يحمل اسم " بحر الحداد " وكلمة بحر تلازم السندباد بشكل لا يمكن الفصل بينهما لأنه المجال الذي كان السندباد يصنع من خلاله مغامراته , واذا كان السندباد مصدر الغنى والمال فان بحر عبد الصبور هو بحر الحداد والضياع والعدم والظلمة قد مات فيه الرخ , سبيل النجاة والخلاص , بهذه المفارقة , ومن داخل اسطورة السندباد نفسها يبدأ صلاح عبد الصبور بنسج خيوط أسطورة جديدة تنسجم مع تجربته وتطلعه الى غد تولد فيه نفسه من جديد.
"في اخر المساء يمتلى الوساد بالورق
كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط
وينضح الجبين بالعرق
ويلتوي الدخان أخطبوط
في اخر المساء عاد السندباد
ليرسي السفين
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم
السندباد :
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم
السندباد :
"لا تحك للرفيق عن مخاطر الطريق " " ان قلت للصاحي انتشيت قال : كيف ؟
" السندباد كالاعصار ان يهدأ يمت"
الندامى :
هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد
انا هنا نضاجع النساء
ونغرس الكروم
ونعصر النبيذ للشتاء
ونقرأ " الكتاب " في الصباح والمساء
وحينما تعود نعدو نحو مجلس الندم
تحكي لنا حكاية الضياع في بحر العدم ".
والسندباد هنا ليس ذاك البطل الذي تحركه الأشواق الى ركوب البحر انه هنا شخصية تروي للندامى حكاية السندباد البحري علها تحرك فيهم رغبة التمرد والانعتاق من القيود ولكن هيهات انهم قاعدون عاجوزن لم يستطع السندباد أن يبث فيهم الرغبة في التغيير من جديد وفي ذلك اشارة من الشاعر الى الواقع المهزوم الذي اثر الاستقرار وألف الثبات واكتفى أفراده بالسماع عن الابطال والشخصيات دون محاكاتهم أو التأثر بهم .ويشير انس داود الى ان الشاعرهنا استخدم قناع السندباد ليناظر بين رحلة السندباد ورحلة الشاعر وجسد الخلق الفني باعتباره رحيلا عبر المجهول واكتشافا للجديد من حقائق النفس والحياة, لقد وجد صلاح عبد الصبور في أسطورة السندباد التي اتخذ منها قناعا لبسط أفكاره وتأملاته الفلسفية على مدى تطور حياته الشعرية التي يمكن تقسيمها الى ثلاث مراحل , كان السندباد في كل مرحلة يظهر بوجه معين.
تبدأ المرحلة الأولى بديوانه الأول " الناس في بلادي " يتجلى السندباد في رحلة الشاعر في سبيل الابداع الشعري الذي يرحل كما رحل السندباد رغبة في الكشف عن عوالم شعرية أخرى تمكنه من الانفلات من قبضة التقليد واعادة ما أبدعه القدماء:
"صنعت مركبا من الدخان والمداد والورق
ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم
وفوق قمة السفين يخفق العلم
وجه حبيبي خيمة من نور
وجه حبيبي بيرقي المنشور
جبت الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة
سيدتي اليك قلبي واغفري لي أبيض كاللؤلؤة".
فالشاعر يمزج بين عناصر الرحلة عند ه وعند السندباد: كاللؤلؤ والسفين والمحار والليالي ونحوها دون أن يصرح بالأسطورة أو الشخصية , وجملة القول أن رحلة السندباد هي رمز لرحلة الشاعر في سبيل المعرفة والابداع ... رحلة البحث عن الحرف المضئ والكلمة النابضة بالحياة بصورة لا يمكن الاستغناء عنها:
"السندباد كالاعصار ان يهدأ يمت "
وفي المرحلة الثانية كان الشاعر / السندباد مهزوما ضعيفا تبددت مغامراته وانتهت طموحاته , فلا شيء في حياة انسان هذا العصر غير السأم , ذلك أن الانسان في المجتمع المعاصر حينما يريد أن يكون له شخصيته المستقلة وفكره المتميز عن فكر المجتمع الذي تسيطر عليه السلطة الغشوم يودي بنفسه الى المحن وقد يودي بها الى الموت ولا طاقة للانسان المعاصر على أن يواجه محنة الاستشهاد:
"ملاحنا هوى الى قاع السفين , واستكان
وجاش بالبكا بلا دمع ... بلا لسان
ملاحنا مات قبيل الموت , حين ودع الأصجاب
...والأحباب والزمان والمكان."
ولعل الهرب من محنة الاستشهاد – كما يشير أنس داود – هي المأساة الحقيقية لسندباد عصرنا لكل مفك وفنان لأنه يريد العيش في سلام دون أن يريق قطرة دم فتكون النتيجة الموت دون مصارعة التيار. وفي ذلك يقول صلاح عبد الصبور:
"يا شيخنا الملاح قلبك الجريء كان ثابتا
فما له استطير
أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد
ثم قال :
هذي جبال الملح والقصدير
فكل مركب تجيئها تدور
تحطمها الصخور
..................
ملاح هذا العصر سيد البحار
لأنه يعيش دون أن يريق نقطة من دم
لانه يموت قبل أن يصارع التيار".
"ان روح الهزيمة والانكسار اللتين ركز عليهما الشاعر ليست من سمات سندباد ألف ليلة وليلة , وانما هي من سمات الانسان العربي المعاصر الممزق بين الحضارات فاقدا بطولته ونخوته وطموحه ".
أما السندباد في مرحلته الثالثة عند عبد الصبور فاننا نجدها في قصيدته " الخروج " في ديوانه " أحلام الفارس القديم " التي يحاول فيها الشاعر أن يشق طريقه الى عالمه النفسي ويرحل في أغوار ذاته , متخذا من هجرة الرسول عليه السلام اطارا تاريخيا مناسبا يتحرك داخل معالمه ذلك السندباد الجديد الخارج من ماضيه المتجه نحو عالم اخر , انه يتحول من الرحيل في العالم الخارجي الى الرحيل في عالمه النفسي ... فكان ما في الهجرة من دلالة على التحول أقدر النظائر على الايحاء لنا بمدلول تجربة صلاح الجديدة:
"سوخي اذن في الرمل سيقان الندم
لا تتبعيني نحو مهجري ..نشدتك الجحيم
وانطفئي مصابيح السماء
كي لا ترى سوانح الالم
ثيابي السوداء
ان عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثي المقيم ".
لقد قدم صلاح عبد الصبور في قصيدته " الخروج " نموذجه الاسطوري الاثير " السندباد " وهو يتحول عن الرحلة في الخارج الى الرحلة في الداخل .... من المجتمع الى الانسان.
أما خليل حاوي فقد اتخذ السندباد علما على تجربته الشعرية منذ مطلع ديوانه الأول" نهر الرماد " في قصيدته " البحار والدرويش ":
" بعد أن عانى دوار البحر ,
والضوء المداجي , عبر عتمات الطريق
ومدى المجهول ينشق عن المجهول , عن موت محيق
بعد أن راوغه الريح رماه
الريح للشرق العريق
حط في أرض حكى عنها الرواة."
واعتبر نفسه راحلا أبديا في سبيل المعرفة, وقد أفصح أحيانا عن اسم " السندباد " واكتفى أحيانا أخرى بالحديث عن الرحلة والمغامرة ومشقات التطلع والبحث, وقد حاول -عبر هذا الرحيل – أن يعثر على اللغة الفطرية البكر.
ففي قصيدته " الناي والريح " من ديوانه الثاني بيحث خليل حاوي عن لغة الانسان الاولى التي تحمل كل أثار الاحساس المفعم بمشاهد الوجود وطريقه الى تلك اللغة طريق صعب:
"دربي الى البدوية السمراء
واحات العجين البكر
والفجوات أودية الهجير
وزوابع الرمل المرير
تعصى وليس يروضها
غير الذي يتقمص الجمل الصبور
وبقلبه طفل يكور جنة
غير الذي يقتات من ثمر عجيب
نصف من الجنات يسقط في السلال
يأتي بلا تعب حلال
نصف من العرق الصبيب
الشوك ينبت في شقوق أظافري
الشوق في شفتي يمرج باللهيب ."
فالشاعر خليل حاوي قد بدأ بالرحيل من أجل المعرفة والبحث عن ماهية الوجود وانتهى بذوبانه في نهر الجوع والتطلع الى ازدهار الحياة ونضارتها عبر جيل عربي جديد:
"يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق , من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد ."
وفي ديوانه الثاني" الناي والريح " واصل خليل حاوي الايمان بالبعث العربي المبشر بالعودة الى الماضي الحلم :
"داري التي تحطمت ..
تنهض من أنقاضها
نختلج الأخشاب , تلتم وتحيا قبة خضراء في الربيع
***
ما كان لي أن أحتفي بالشمس ..
لو لم أركم تغتسلون – بالصبح – في النيل , وفي الأردن ,
والفرات من دمغة الخطيئة ".
أما في ديوانه الأخير " بيادر الجوع " فقد بدا كسير القلب والروح , يائسا من الانبعاث الذاتي العربي:
"ماذا سوى كهف يجوع
فم يبور
ويد مجوفة تخط وتمسح الخط المجوف في فتور
هذي العقارب لا تدور
رباه كيف تمط أرجلها الدقائق , تستحيل الى عصور."
ثم اتخذ من السندباد نموذجا يتبناه الشاعر في قصيدته " السندباد في رحلته الثامنة " حتى عد من أكثر الشعراء توظيفا لشخصية سندباد , لانه وجد فيها قيما ورموزا صالحة للتعبير عن شتى أبعاد تجربته الروحية والشعرية , لا سيما تلك الفترة الحاسمة من فترات تطوره الفكري , وهي فترة البحث عن الذات عبر مجموعة من المغامرات الوجودية فمغامرة الشاعر الفنية تحمل طابع مغامرات السندباد , وتتقمص شخصيته,
فالشاعر يتوحد بالمجتمع رافضا التقوقع الاقليمي , ويتجلى هذا التوحد في قصيدته " السندباد في رحلته الثامنة " من ديوانه " الناي والريح " لترسم هذه الرحلة من بدايتها الى نهايتها وتختصر المسافة وكأنها القصيدة التي اكتملت عندها الرؤية.
يقدم الشاعر لقصيدته هذه باستهلال يشير فيه الى الاسطورة المحورية الموظفة فيها وهي أسطورة السندباد , حيث أن السندباد عندما عاد الى بغداد في " ألف ليلة وليلة " بعد رحلته السابعة , ابتنى دارا فسيحة واشترى عبدانا وجواري وراقت له الأحوال أزمع ألا يجيب ذلك الهاتف الملح الذي يدوي في أعماقه بالرحيل, وخلد الى السكينة مستعيدا مع سماره طرائف رحلته.
غير أن السندباد عند خليل حاوي عصف به الحنين الى الابحار مرة ثانية فراح يبحر في دنيا ذاته , يستجلي معالمها العميقة بشفافية واضحة أظهرت ملامج ذلك البحار المجهول فاذا به السندباد البحري بكل ما يحمله هذا المغامر في التراث الشعبي من ملامح وسمات , فقد استطاع الشاعر أن يعثر في هذه الشخصية على الصوت التراثي الذي سينهض بعبء التعبير عن كل ما حاولت شخصية البحار أن تعبر عنه في نهر الرماد , بعد أن اكتسب أبعادا وأعماقا فكرية ووجودية.
تنقسم القصيدة الى محورين رئيسيين مختلفين في الاتجاه , الاول تمثله دار السندباد القديمة الممتلئة بالسموم والشرور والاتجاه الثاني تمثله دار السندباد الجديدة , أما الدار القديمة فيقول فيها:
"وكان في الدار رواق
رصعت جدرانه الرسوم
موسى يرى
ازميل نار صاعق الشرر يحفر في الصخر وصايا ربه العشر:
الزفت والكبريت والملح على سدوم
هذا على الجدار
علىجدار اخر اطار
وكاهن في هيكل البعل
يربي افعوان فاجرا وبوم
يفتض سر الخصب في البراري السكارى
يهلل السكارى
وتخصب الارحام والكروم
تفور الخمرة في الجرار
على جدار اخر اطار."
في هذه الدار قضى السندباد طفولته يرضع من تلك السموم حتى سرت في عروقه , وفي ذلك يقول : "رحلاتي السبع وما كنزته /من نعمة الرحمن والتجارة / يوم صرعت الغول والشيطان / يوم انشقت الأكفان عن جسمي / ولاح الشق في المغارة
بلوت ذاك الرواق
طفلا جرت في دمه الغازات والسموم
وانطبعت في صدره الرسوم
وكنت فيه والصحاب العتاق "
ثم يستفيق السندباد من غفلته فيلجأ الى داره يزيل عنها فجورها:
سلخت ذاك الرواق
خليته مأوى عتيقا للصحاب العتاق
طهرت داري من صدى أشباحهم
في الليل والنهار
من غل نفسي خنجري
ليني ولين الحية الرشيقة ,
عشت على انتظار
لعله ان مر أغويه
فما مر
وما أرسل صوبي رعده , وبروقه ."
وعلى الرغم من هذا ظلت الدارمختنقة بالصمت والغبار كأنها صحراء كلس مالح بوار لأن ما كان ينتظره السندباد لما يأتي بعد , وأصبح الانبعاث أمرا يتطلب التضحيات الجسام فيرفع السندباد يديه الى السماء يشكو الضيق ويطلب الصبح والامطار لكن هيهات:
"طلبت صحو الصبح والامطار , ربي
فلماذا اعتكرت داري
لما اختنقت بالصمت والغبار
صحراء كلس بوار
..........................
وكأن في داري التقت
وانسكبت أفنية الأوساخ في المدينة
تفور في الليل والنهار
يعود طعم الكلس والبوار."
الا أن السندباد لم يستسلم بل راح يهدم الدار, لأنه مسكون برغبة التغيير والاندفاع نحو الامام:
وذات ليل أرغت العتمة
واجترت ضلوع السقف والجدار
كيف انطوى السقف وانطوى الجدار
كالخرقة المبتلة العتيقة
وكالشراع المرتمي
على بحار العتمة السحيقة
حف الرياح السود يحفيه
وموج أسود يعلكه يرميه للرياح."
في المقطع الرابع يدخل السندباد حلما يرى فيه أن الرؤية بالتغيير قد تحققت , فأصبحت الدار جنة تموج بالثلج والزهر والثمار :
"صحراء كلس مالح , بوار
تمرج بالثلج وبالزهر وبالثمار
داري التي تحطمت
تنهض من أنقاضها
تختلج الأخشاب
تلتم تحت قبة خضراء في الربيع."
وعندما يصحو من الحلم , يصمم على تحقيقه فعليا ليخرج من زمن الانتظار الى زمن الفعل الحقيقي , فيتحقق بعضه:
"أفرغت داري مرة ثانية
أحيا على جمر طري طيب وجوع
كأن أعضائي طيور عبرت بحار
وحدي على انتظار
.......
واليوم والرؤيا تغني في دمي
برعشة البرق صحو الصباح
وفطرة الطير التي تشتم
ما في نية الغابات والرياح
تحس ما في رحم الفصل
ترته قبل أن يولد في الفصول ."
وفي المقطع التاسع تتحقق البشارة ويطل السندباد على داره الجديدة التي تشكل المحور الرئيسي الثاني في القصيدة:
"تحتل عيني بروج مدخنات
واله بعضه بعل خصيب
بعضه جبار فحم ونار
مليون دار مثل داري ودار
تزهو باطفال غصون الكروم
والزيتون جمر الربيع."
لقد وصل السندباد أخيرا الى الانبعاث لكنه تلقى من العذاب ما تلقى , واذا كان سندباد" ألف ليلة وليلة " قد عاد الى بغداد من سفراته محملا بالجواهر والكنوز فان سندباد القصيدة – وان دخل في تقاطع واضح مع سندباد الاسطورة – ظل يشق طريقه الى وجدانه فكانت رحلاته بحثا في أعماق ذاته وتاريخ حضارته لا للحصول على الكنوز وانما لاكتشاف ما بقي في هذا الذات من قيم تساعد على تجاوز المحنة وتخطي الانحطاط .
وهنا يكمن الفرق بين سندباد " ألف ليلة وليلة " وسندباد القصيدة , كلاهما يرحل في الزمن الأول نحو الخارج أو المستقبل لأن هاجس الرحلة لديه هو المسيطر , والثاني نحو الداخل أو الماضي لأان زاد الرحلى لا يتم في رأيه الابذلك , والسفر نحو المستقبل لا يتم الا بالانطلاق من الماضي , وأن تغيير الواقع لا يتم دون هدم الافكار المهترئة تمهيدا لبناء جديد. وبذلك هدم خليل حاوي الحضارة القديمة وأقام الحضارة الجديدة , وان تم ذلك بعد معاناة وانتظار طويلين في بناء دائري تتشابك عناصره وتتفاعل مع بعضها البعض.
لقد اتخذ من السندباد قناعا له , اذ يتفاعل صوته مع صوت السندباد حيث الغى المسافة التي تفصل بينهما وألقى نفسه في خضم الموقف الدرامي هادفا الى تطهير ذاته في انتظار النبءة أو الوحي.
ولربما كانت هذه المعاناة التي مر بها خليل حاوي " هي تلك التي ساقته الى الايمان بالحضارة على أنها فعل تقدم , وأن اله التقدم هو اله الانسان الحقيقي ".
لقد تم التغيير عند خليل حاوي انطلاقا من ذات السندباد وبالتالي من ذات الجماعة عن طريق التطهر واجتناب المفاسد . وخليل حاوي نفسه يعلق على رمز السندباد بقوله:
"وما يحكى عن السندباد أنه راح يبحث في دنا ذاته فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة , رمى بها جميعا في البحر , ولم يأسف على خسارة , تعرى حتى بلغ بالعري الى جوهر فطرته ثم عاد يحمل الينا كنزا لا شبيه له بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة ".
وفي قصيدته " الموت في المنفى " يوظف البياتي رمز السندباد فيقول :
"بدم القلب , بطاقات الرماد
كتبت
أين كنوز السندباد
منك , يا زاد المعاد
أه لو أحرقت أشعاري
وأغرقت الليالي بالمداد لكتبت مرة أخرى بطاقات الرماد
أين أمضي , وطني ناء وكفاك على رأسي تراب
أين أمضي , فاريب مات على أبواب بغداد سراب
يا غراب البين لا تنعب
فأيامي رحيل واغتراب ."
وقناع السندباد البحري الذي اقتبسه البياتي هو مثله جواب أفاق يقطع البحار ويتعرض للمغامرات , ولا ييأس لأنه مفعم بالأمل انه الشاعر نفسه في طموحه وعذابه وأمله في انتصار الثورة , لكنه ييأس أخيرا فيشعر بخيبة الأمل ويرى أن فجر الحرية بعيد الشروق اذ يقول:
"جنية البحر على الصخرة تبكي : مات السندباد
وها أنا أراه
بورق الجرائد الصفراء مدفونا , ولا أراه
مركبه يباع في المزاد
وسيفه يكسره الحداد
عبد الوهاب البياتي : ديوان عن عن الموت والثورة ".
ويقول البياتي :
قمري الحزين
البحر مات
وغيبت أمواجه السوداء قلع السندباد
ولم يعد ابناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
الكنز في المجرى دفين
في اخر البستان تحت شجرة الليمون خبأه هناك السندباد
لكنه خاو , وها أن الرماد
والثلج والظلمات والاوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات.
وهو رمز الثائر الذي يحمل لواء التغيير , فيقول البياتي ":
السندباد من هنا مر ؟ ومرت هذه العصور
وهو على مسحاته يدور
والشاه في بلاطه مخمور
يغرق في الحرير والاطياب
ويطعم الكلاب"
والسندباد هو القصيدة والحرف الذي يحمل القضية وفي ذلك يقول البياتي:
كل ما أكتبه
يا سندبادي
كل ما أكتبه محض حروف
فأنا اعتصر الحرف وورقائي مع الصبح هتوف
وأنا يا سندبادي
متعب قلبي عزوف ...
أه لا توقظ جراحاتي ودعني حول أمواتي أطوف
أيها الحرف
الذي علمني جوب البحار
سندبادي مات مقتولا على مركب نار
أين من يأخذ ثأر السندباد
أيها السيف الذي للغمد عاد
دمنا كان المداد
أيها الريح الذي يحمل مركب
سندبادي
أيها الحرف المعذب
أينما تذهب أذهب .
والسندباد هو الفلسطيني الذي كتب عليه أن يجوب المنافي وفي ذلك يقول البياتي :
من يشتري ؟ الله يرحمكم
ويرحم أجمعين
أباءكم , يا محسنون
اللاجئ العربي والانسان والحرف المبين برغيف خبز
ان اعراقي تجف وتضحكون
السندباد أنا
كنوزي في قلوب صغاركم
للسندباد بزي شحاذ حزين .."
* masress