نقوس المهدي
كاتب
يسير الأب بخطوات عريضة، مسمراً قدمية بقوة في الأرض . يهب نسيم عليل من جهة البحر و يداعب وجهة. ويرفع شعرة الخفيف الأشقر من فوق فروة رأسة ويرسلة الى الوراء مثل عرف صغير أبيض . يتعثر الصبي خلفة على ساقين نحيلتين . نعلية أكبر من قدمية قليلاً ، ركبتية تشبهان عجرتي شجرة ، سروالة القصير الأحمر يخفق في الريح مثل تنورة فتاة .
فيموند . يلوك الأب الأسم في فمة ويتذوقة . ويدفع بة نحو إحدى زوايا فمة كما فاكهة غريبة. ويفكر إن فيموند إسم مائع لايليق بصبي . إنة إسم ضعيف وهش،إسم بناتي بعض الشيء، وفية شيء كالحفيف . الولدهزيل جداً . إنة شاحب ونحيل، وملامحة غاية في الرقة . وهو ليس كما ينبغي أن يكون علية الأبناء، من الصلابة ومتانة البنيان، ليس كأبية الذي لايدري كيف يتحدث الية ، ولايعرف بالضبط من هو ، هذا الجسد الهزيل ، الذي يجرجر قدمية وراءة . هذا الشيء الشاحب الذي لايعرف ماذا يسمية والذي يرتجف و يئن على الدوام ، ويقول إن الماء بارد وهو في الواقع لايريدأن يسبح . إنة لايشبة أباة الذي كان أول من يتقدم نحو الماء .
- ليس بوسعك أن تقطع ببرودة الماء بمجرد النظر الية. صبي في مثل سنك لايستطيع السباحة . ياللفظاعة ! . وفوق ذلك لايريد أن يتعلم .
الأب منزعج .
لكن الماء يبدو بارداً .
ينظر فيموند الى الأمواج الكبيرة الداكنة و أعرافها المتوجة بالزبد الأبيض . لم يبق غير أسبوع واحد على إنتصاف فصل الصيف والماء لما يزل رماديًا كالرصاص والشمس لاأثر لها الى الآن .
يعرف إن الماء بارد كالجليد ، وليس صحيحا إنة لايعرف السباحة . إنة يستطيع تقريباً البقاء طافيا على وجة الماء وتحريك جسدة مسافة قدمين الى الأمام ، لكن ساقية تتدليان في الماء وتعملان عمل المكابح .
حركات ذراعية جيدة ، وكذلك حركات ساقية . المشكلة إنة لايستطيع تحريكهما معا .
يلتفت الأب ناحيتة ، يحدق بة .
-اذا سقطت في مكان عميق ، فسوف تغرق . ستفزع . أنت غير واثق من نفسك بمافية الكفاية . سبع أو ثمان ضربات لاتسمى سباحة . نحن نعيش بجانب البحر ، يافيموند . و ولايجوز لمن يعيشون بجانب البحر أن لايعرفوا السباحة . وأنت لايمكن السماح لك حتى بركوب القارب ، هل تعي ماإقول ؟
- لكني أملك سترة للنجاة .
- نعم ، نعم . لكن عليك أن تتعلم الآن . في هذا الصيف بالذات، والا فلا . لايمكننا الأستمرار على هذا النحو الى الأبد يجب أن تبذل شيئاً من الجهد الآن ، ياولد .
يواصلان المسير . يصعدان الى قمة صخرة ملساء ، تنحدر منها دروب مائلة نحو الشاطيء وحاجز الماء . يفكر فيموند إنة لو إنزلق نحو موقع عميق ، فسوف يعوم مثل سمكة ، لأنة عندئذ سيكون مضطرا لذلك . أنة يتمرن على السباحة في المياة الضحلة، حيث يمكن لة ملامسة القعر بسهولة . إن ساقية تثقلان وتهبطان الى الأسفل لوحدهما . ثم يشرع الماء في التسلل الى فمة ، الماء البارد ، ويضطر الى بذل قصارى جهدة لكي يبقى على السطح . أبوة يملك ساقين طويلتين ، وهو وهو غير راضٍ عنة . يرى فيموند الساحل الآن ، حيث الماء أكثر ضحالة وأشد شحوباً . يبدو الشاطيء مسالماً ، برمالة الصفراء وحزام الحصى الملون الصقيل المنثور حولة مثل حبات اللؤلؤ البيضاء والقرنفلية والرمادية والمرقطة . من خلف الشاطيء يلوح لة حاجز الماء ، أسوداً ومخضلاً بالرطوبة ، ممتداً كطريق مستقيم يربط اليابسة بالماء. المياه العميقة تبدأ من حيث ينتهي الحاجز . ثلاثة أمتار ، حسب ماقال أبية . وعلى مسافة قليلة داخل البحر توجد جزيرة زرقاء ،عارية وكبيرة نوعاً ما، يسبح إليها الأولاد الأكبر سناً عندما تدفأ المياة .أربعمئة وخمسون متراً . لقد قام الكبار بقياس المسافة . تسمى هذة الجزيرة بجزيرة القرصان ، لقد ذهبوا الى هناك بقارب . يتوقف الأب فجأة متجمداً في مكانة . الخطوط الخارجية لجسدة صلبة ، صلابة منحوتة سوداء تنتصب قبالة السماء الشاحبة .
- - عندما تتمكن من السباحة الى جزيرة القرصان وتعود منها ، عندها يمكنني القول إنك تجيد السباحة .المسافة أقل من كيلومتر واحد . وينبغي عليك أن تكون قادراً على تحقيق ذلك على الأقل . أقصد، بعد فترة . نظراً لكوننا نعيش بجانب البحر وعندنا قارب وغير ذلك . يستدير ناحيتة .
- إنزع سروالك . ثمة ريح على الشاطيء . يعني إن الماء دافيء .
يبدأ فيموند بالنزول الى الماء . برودة الماء قارسة . يتعرض لنفس الصدمة التي يتعرض لها كل مرة ، رغم علمة المسبق بها وإستعدادة لذلك . يحس بنعومة القعر ، وملمس الرمل المخملي ، والمحار المنتشر هنا وهناك . يركل الماء بقدمية مثيراً زوبعة صغيرة من الرمال . يبدأ الماء، بصفعات خفيفة ، بتسلق جسدة ، يغطي ركبتية ، ويصعد فوق منتصف ساقية ، ويلامس شورت السباحة الأزرق المقلم بخطوط زرقاء . هاهو يصل حزام الحصى والمحار الذي يتعين علية عبورة لكي يصل الى أبعد مدى يمكن للماء فية الوصول الى خصرة . فوق السرّة تماماً .
•- توقف الآن ، يافيموند -
يرفع ذراعية أمام صدرة ، لكنة لايريد ليدية أن تلامسا الماء . أباة يجلس على صخرة كبيرة ، نفس الصخرة كل مرة ، مراقباً ومؤشراً ومصدراً للتعليمات .
•- نعم ! ليس سيئاً بالمرة ، أليس كذلك؟
لايجيب . ويحاول الوقوف على رؤوس أصابعة . ويفكر بأن الأمرسينتهي عاجلاً وسيكون بإمكانهما العودة الى البيت
حسناً، لنبدأ إذَنْ . استعد ولتبدأ بالغوص. تقدم ، يافيموند . -
ترتخي ركبتاة قليلاً . ينزلق الماء فوق صدرة وتتكسّر الأمواج فوق ذراعية ، وتنكمش ساقاة تحت وطأة البرودة . يسمح لجسدة بالسقوط الى الأمام على مضض ، ركبتاة مثنتيان تحت بطنة، يداة الصغيرتان تطرطشان بعنف داخل الماء لأربع أو خمس مرات ، تتكسر موجة فوق وجهة فيضطر الى الوقوف ثانية . تصطك أسنانة . يحاول أن يخطو بضع خطوات صغيرة لكنة لايدري لماذا يعجز عن ذلك . أي سر هذا الذي لايستطيع فهمة ؟ إنة يمتلك ذراعين وساقين مثل الجميع . ربما لم يكن مقدراً لة أن يتعلم السباحة . قد يكمن السبب في برودة الماء . لكنة بارد جداً في كل الأحوال ، مع ذلك ، ، يمكن للمرء السباحة في المناطق الضحلة . يهز الأب رأسة . وينكس نظراتة محدقاً بالصخور ، محاولاً العثور على شيء من الحماسة المبعثرة لكي يواصل بها تقديم الدعم والتشجيع .
- أنت تقوم بجهد رائع ، يافيموند . بعد أن هبطت الآن ، ستعتاد بعد قليل على الماء. لكن عليك بذل مزيد من الجهد . وخفف من سرعة ضرباتك ، يابني ، ليس بهذة السرعة . ولاتنس التنفس . إملأ رئتيك بالهواء وسوف تطفو ، مثل بالون ، أو كي؟
يسحب فيموند نفساً عميقاً ويلقي بنفسة الى الأمام . يشق الماء ويضرب برجلية قليلاً ، ضربة واحدة ، ضربتين ، ثلاثة . ثم يزفر ثانية ، ويشهق مرة أخرى ، ويبتلع جرعة أو جرعتين من الماء المالح هذة المرة ، يسعل ويبصق مختنقاً . لكن ذراعية لاتتوقفان عن الحركة ، أربع ضربات ، خمسة . ساقية تثقلان ، وتبدأن بالهبوط .
الساقين ، يافيموند ، الساقين ! جيد جداً ، حرك ساقيك ، إمنحهما كل مالديك من عزم . -
يختفي تحت الماء ، ثم يعلو من جديد ، يتصبب منة الماء البارد ويتدفق كالجدول . يفرك عينية ويبصق .
هذا أفضل الآن ، يافيموند، افضل الآن ، مارأيك ؟ -
بعدعشرة محاولات يشعر الأب بالرضا . لقد تمكن من تحريك يدية تسع مرات ، لكنة لم يستخدم ساقية ، ولم يتحرك داخل الماء . يجفف الأب ظهر إبنة على نحو أخرق ، ويساعدة على إرتداء بنطالة القصير فوق شورت السباحة المبلل . إسنان فيموند تصطك من البرد ، إنة يرتجف وشفتاة زرقاوان . تتغضن جبهة الأب ، ترتسم فوقها تجعيدة عميقة . يتجنب فيموند النظر اليها .
تعال . دعنا نجلس على الحاجز لدقيقة . -
يرى كم يشعر الصبي بالبرد وينتابة شعور بالقلق . يتبعة فيموند بتردد . يجلس الأب عند النهاية القصوى للحاجز ويدلّي ساقية .
- هذا هو . إجلس . لاتخف من السقوط في الماء ، فأنا هنا . هلم يابني .
ينحدر فوق الحاجز خلفة ، ويقطع المسافة المتبقية بخطوات مسرعة . يشعر بيد والدة وهي تمسد ظهرة بحنان .
هل تتذكر عندما بدأت تتعلم ركوب الدراجة ؟ تلك الدراجة الحمراء الصغيرة ؟ -
يهز رأسة .
أتذكر كم كانت صعبة ؟ -
- نعم ، لكن ليست بتلك الصعوبة . لقد تعلمت ركوبها بثلاثة أيام . لقد قلت لي إن سياقتي كانت بطيئة . الآن تقول إني أسبح بسرعة كبيرة . سياقة الدراجة أسهل . السباحة أكثر صعوبة منها بكثير .
- كلا ، كلا . لكن عليك مثلما يقال تجاوز العقبات ، هل تفهم ماأقصد ؟
- لا .
يتنهد الأب .
- لايهم كثيراً أن تكون قادراً على ركوب الدراجة . هذة ليست حاجة أساسية . لكن السباحة ، يافيموند ، السباحة ! أنها مسألة حياة أو موت . انظرالى البحر .
ينظر فيموند .
- معظم الأحيان يكون البحر عميقاً . وقد يصل عمقة الى بضعة مئات من الأمتار . وهو ضحل فقط على الشواطيء .
يرتجف فيموند ويقشعر من البرد .
- الكثير من الناس تغرق كل صيف . الكبار والصغار . لأنهم لايجيدون السباحة . أمر مخيف جداً ، أليس كذلك ؟
. - أعتقد إن موعد الغداء سيحين الآن
- أنتبة لما أقول .
نعم . -
- لو سقطت هنا ، ينحني الأب ويحدق في الماء الأسود . فسوف تغرق ، أليس هذا صحيحاً ؟ أنها مجرد ثلاثة أمتار ، يافيموند ! ليست بهذا العمق . ويمكن أن تغرق في عمق مترين فقط من الماء أيضاً . حتى في متر واحد ونصف . أتعرف ماالسبب ؟
فيموند لايعرف بالضبط ماهو السبب . -
لأن طولك لايزيد عن متر وأربعين سنتمراً. -
يواصل الأب التحديق في الماء . ويضع يدة بحرص على كتف الصبي . يخيم الهدوء على المكان . مويجات الماء الصغيرة تتكسر بهدوء أمام الحاجز .
فيموند ينتظر . ثمة شيء على غير مايُرام . يحاول النهوض ، لكنة لايعرف كيف . لو أمال جسدة قليلاً الى الأمام فسوف يسقط في الماء وستعيقة ذراع أبية المحيطة بكتفة عن الاندفاع الى الوراء وإنقاذ نفسة ، تلك الذراع القوية التي تسمرة في مكانة بهذا الشكل . إنة غير قادر على السباحة ، والماء شديد البرودة ، وعمقة يصل الى ثلاثة أمتار .
يحدق أباة في نقطة بعيدة عن مجلسهما . فيموند يتفحص الأمواج بنظراتة ويلمح لطخة ذات لون برتقالي شاحب تطفو فوق الماء . يحدق فيها . إنها قنديل بحر قرّاص .إنها تهتز وتتمايل بين موجة وموجة دون أن تقترب . يحدق فيموند ، مركزاً بقوة على قنديل البحر . يحس بالذراع المستقرة فوق كتفة تصبح أكثر ثقلاً . ويفقد الإحساس بأصابع قدمية داخل الصندل . ويشعر بنفسة وكأنة راح ينكمش ويتقلص . وبطرف عينة يرى إن صورة والدة تتلاشى وتغيم ، لتصبح بالتالي مجرد ظل أسود مشتت غير قادر على الكلام .
- في الأيام الخوالي ، يقول فجأة ، أعتادوا على رمي الأطفال في البحر بعد أن يربطوا خصرهم بحبل . وكان عليهم أن يغوصوا في الماء على قدر الإمكان . عادة قاسية بعض الشيء ، ربما ، لكنها كانت تعلم الأولاد السباحة على الأقل ، دون الحاجة الى قضاء فصل الصيف بأكملة من أجل ذلك . يبتسم الأب بحزن . ويخيم الصمت من جديد .
فجأة يهتز قنديل البحر بعنف ويتوارى لثوان قليلة . في هذة اللحظة بالذات يسقط فيموند . يهبط ببطء وخفة ، يكاد جسدة الصغير أن ينتصب في الهواء لكن ساقية مثنيتان وقبضتية مشدودتان . يرتطم بالماء بحذر مطلقاً رشاشاً من المياة ويروح يغطس ببطء نحو القعر ، يغلفة شيء من الدهشة ، لكنة لايحس بشيء ، ويتمدد على بطنة هناك في أعماق الماء ، يحس ببرودة القعر الشديدة وبالألم الذي راح ينبض في صدغية . جسدة ليس بالكبير ، أنة مجرد ذُبالة صبي . تتدحرج موجة كبيرة وتمحو بقعة الزبد الصغيرة الطافية على السطح .
تنقضي لحظة لاهثة قبل أن ينتبة الأب .
ثم ينهض بسرعة ويتطلع حولة . لايرى شيئاً ويغطس في البحر مطلقاً رشاشاً من الماء . تصدمة برودة الماء ؛ ويدرك إن الماء أبرد مما كان يظن . جسدة يبدو مشلولاً ، ويكاد يتلاشى، بحيث لايبقى منة غير عينان مجهدتان تفتشان بتخشب ثنايا القعر المظلم ، عن ساق بيضاء نحيلة ، أو يد صغيرة ، أو خطوط زرقاء وبيضاء ، عن أي شيء تلمحة العين وسط الظلام الغريني ، لكنة لايرى شيئاً غير ذراعية اللتان تنوسان داخل الماء دون لون ؛ فيدفع الماء بقدمية وينطلق بسرعة نحو السطح مرة أخرى؛ ويفكر أن الصبي غير موجود داخل القعر بالطبع ، لأن وزنة خفيف جداً ، لكنة عندما يخترق السطح برأسة مرة أخرى ، لايرى شيئاً مع ذلك ؛ يحدق بالأفق ، يصيخ السمع ، لكنة لايسمع أية صرخة
ينتابة الذعر للحظة قبل أن يعاود الغوص من جديد . يعوم دائراً حول الحاجز ، ويشاهد الأعمدة السوداء اللزجة وشيء ما داكن يتحرك داخل القعر ، ويفكر ، لابد أن يكون هنا ، لقد سقط في هذا الموضع ، من طرف الحافة تماماً ، ولايوجد تيارات مائية في هذا المكان ، ليس بوسع طفل صغير أن يختفي هكذا مهما بلغ أتساع وعمق البحر ، ولكونة غير قادر على السباحة ، فلابد أن يكون ممدداً في مكان ما أمام الحاجز ، ربما على بعد متر واحد من الأعمدة ، ينبغي أن يكون ظاهراً للعيان ، نظراً لشحوب بشرتة ، لكن ثمة الكثير من من الطحالب اللعينة في هذا المكان ، غابات كثيفة من الطحالب السوداء وأشياء أُخرى لايعرفها ؛ يدفع جانباً بشيء لزج وناعم لينظر تحتة - الصبي صغير جداً ولايحتاج لمثل هذا المجال الواسع - لكنة لايرى شيئاً ولايستطيع حبس أنفاسة أكثرمن ذلك ، أنة يخاف أن يفقد الوعي ويشرع في الحركة من جديد ، مندفعاً نحو السطح بسرعة الطوربيد ، غير مصدّق لما يحدث ، وكأنة أسير كابوس مرعب ؛
يحرك قدمية عالياً وسافلاً ، ويدور على عقبية، بصمت ، بحثاً عن الشعر الأشقر ، بحثاً عن فقاعات هوائية ، ويغوص ثانية ، لأن الوقت يمضي بسرعة ، وليس بإمكانة الذهاب لطلب المساعدة ، إنها بعيدة جداً ، وعلية معالجة المشكلة بنفسة ، فيموند موجود هناك في الأسفل تحت الماء البارد ، ويفكر ، فقط واصل البحث ، لكن بصرة يبدأ بالتلاشي ، لقد تحملت عيناة أكثر مما تطيقان من الماء المالح ، وليس بمقدورة أبصار شيء الآن ، وكل مايمكنة فعلة هو تحريك أطرافة في الماء بلا هدف ؛ يتأرجح فوق حافة الفزع ، يكاد شعورة بالبرد والماء ينعدم ، لاشيء غير إحساس طاغ بالارهاق يتشبت بذراعية وساقية كالأثقال ؛ ويصعد الى الأعلى من جديد ، ويرفع ذقنة فوق حافة الماء ويشهق غير مصدق ؛ لاأستطيع العثور علية ، هذا غير ممكن ؛ يسبح بإتجاة الحاجز ويتمسك بأحد الأعمدة ، يضل معلقاً هناك بذراع واحدة ، تهزة الأمواج برفق .
سكون .
يشعر بثيابة ثقيلة كالرصاص . يسير على مهل مترنحاً على الطريق الصاعد ، يتلفت باستمرار مطلقاً نظرة عريضة نحو البحر . يشعر برغبة أبدية في أن يعود أدراجة ، لكن لاشيء هناك يمكن للعين أن تراة ، لاشيء يمكن لة فعلة . بين الفينة والفينة يتعثر بنبتة صغيرة أو صخرة ، رغم ان نظراتة الذاهلة تتسمر في الأرض التي يسير عليها الآن . يتحاشى رفع بصرة ، خشية أن يرى البيت الذي يقترب بإستمرار ، الجملون الأبيض الحاد الزوايا المنتصب وسط أشجار الصنوبر السوداء ، البيت الذي سيتعين علية دخولة . ربما ستقوم بفتح النوافذ لتتطلع الى الخارج ، وتراة من بعيد لوحدة ، لذلك فهو يمشي بهدوء ويحبس أنفاسة ، يمشي مشية اللص في الظلام ، ويفكر بأن هذا غير ممكن .
ولكن خطواتة تصر على الإقتراب بة أكثر وأكثر من البيت . وفي لحظة يرى السقف . ويرى من نافذة المطبخ المفتوحة ستارة فاتحة اللون تخفق بخفة وعبث مثل شراع يرقص في النسيم رقصة لاهية ، لكن الداخل مظلم ، والباب الأمامي فجوة سوداء .
يقف عند درجات المدخل . و يرى في تلك اللحظة كتفاً عارية تمرق من النافذة . يسمع صوت خطواتها السريعة في الداخل ، ثم تفتح لة الباب . يرفع رأسة بتثاقل ويقابل نظراتها المتفرسة .
- ماذا حدث ؟
ينحني رأسة ثانية ، ثيابة باردة كالجليد ، الريح تنسل من خلفة ، ينكمش عندما يسمع صوتها ، ثمة تعنيف فية ، ولمسة من الشك .
حسناً ، قل لي ! ياآلهي أنت مبتل جداً . -
يغمغم بكلمة لا ، ويتكيء على عضادة الباب .
-لاأدري ، لقد حدث الأمربسرعة شديدة .
البقية مجرد نشيج . وعندما يرفع بصرة ثانية يلمح خوفاً ما في عينيها .
ولكن هل كنت تراقبة أم لا ؟ ياآلهي ، أنة ليس سوى طفل صغير . -
يريح رأسة على عضادة الباب مرة أخرى ويدرك إنها لا تفهم شيئاً . يغمض عينية ويشعر بالضعف . يرى المستقبل يتلاشى أمام عينية خلف غلالة من الظلام . طريقهما المشترك لاوجود لة بعد الآن ، أنة ينتهي حيث يقف ، وليس من سبيل الى الأمام . ثم يرى فيموند . في تراكسوت أزرق ، يحاول الإختباء خلف أمة .
شعرة مبتل . تلتفت الأم وتمسدة .
لقد سبحت تحت الماء ، ياأبي، يقول بإرتباك ، وتعذر علي رؤيتك في أي مكان . -
يحاول الأب أن يتقدم خطوة ، لكن ركبتية تخذلانة . يترنح الرجل الضخم الى الأمام ، وفيموند يحدق بة مذعوراً ، يحدق بعمود الغرانيت الذي يمثل لة الحقيقة دائماً ، الحقيقة التي تنهار فجأة في المدخل وتفقد لونها . الوجة الرمادي ، والفم الفاغر على نحو غريب .
-هل أبي مريض ؟
تهز الأم رأسها وتعض على شفتها . وأخيراً يسقط . ويرتطم الذقن بالأرض بإنكسار مدوي
فيموند . يلوك الأب الأسم في فمة ويتذوقة . ويدفع بة نحو إحدى زوايا فمة كما فاكهة غريبة. ويفكر إن فيموند إسم مائع لايليق بصبي . إنة إسم ضعيف وهش،إسم بناتي بعض الشيء، وفية شيء كالحفيف . الولدهزيل جداً . إنة شاحب ونحيل، وملامحة غاية في الرقة . وهو ليس كما ينبغي أن يكون علية الأبناء، من الصلابة ومتانة البنيان، ليس كأبية الذي لايدري كيف يتحدث الية ، ولايعرف بالضبط من هو ، هذا الجسد الهزيل ، الذي يجرجر قدمية وراءة . هذا الشيء الشاحب الذي لايعرف ماذا يسمية والذي يرتجف و يئن على الدوام ، ويقول إن الماء بارد وهو في الواقع لايريدأن يسبح . إنة لايشبة أباة الذي كان أول من يتقدم نحو الماء .
- ليس بوسعك أن تقطع ببرودة الماء بمجرد النظر الية. صبي في مثل سنك لايستطيع السباحة . ياللفظاعة ! . وفوق ذلك لايريد أن يتعلم .
الأب منزعج .
لكن الماء يبدو بارداً .
ينظر فيموند الى الأمواج الكبيرة الداكنة و أعرافها المتوجة بالزبد الأبيض . لم يبق غير أسبوع واحد على إنتصاف فصل الصيف والماء لما يزل رماديًا كالرصاص والشمس لاأثر لها الى الآن .
يعرف إن الماء بارد كالجليد ، وليس صحيحا إنة لايعرف السباحة . إنة يستطيع تقريباً البقاء طافيا على وجة الماء وتحريك جسدة مسافة قدمين الى الأمام ، لكن ساقية تتدليان في الماء وتعملان عمل المكابح .
حركات ذراعية جيدة ، وكذلك حركات ساقية . المشكلة إنة لايستطيع تحريكهما معا .
يلتفت الأب ناحيتة ، يحدق بة .
-اذا سقطت في مكان عميق ، فسوف تغرق . ستفزع . أنت غير واثق من نفسك بمافية الكفاية . سبع أو ثمان ضربات لاتسمى سباحة . نحن نعيش بجانب البحر ، يافيموند . و ولايجوز لمن يعيشون بجانب البحر أن لايعرفوا السباحة . وأنت لايمكن السماح لك حتى بركوب القارب ، هل تعي ماإقول ؟
- لكني أملك سترة للنجاة .
- نعم ، نعم . لكن عليك أن تتعلم الآن . في هذا الصيف بالذات، والا فلا . لايمكننا الأستمرار على هذا النحو الى الأبد يجب أن تبذل شيئاً من الجهد الآن ، ياولد .
يواصلان المسير . يصعدان الى قمة صخرة ملساء ، تنحدر منها دروب مائلة نحو الشاطيء وحاجز الماء . يفكر فيموند إنة لو إنزلق نحو موقع عميق ، فسوف يعوم مثل سمكة ، لأنة عندئذ سيكون مضطرا لذلك . أنة يتمرن على السباحة في المياة الضحلة، حيث يمكن لة ملامسة القعر بسهولة . إن ساقية تثقلان وتهبطان الى الأسفل لوحدهما . ثم يشرع الماء في التسلل الى فمة ، الماء البارد ، ويضطر الى بذل قصارى جهدة لكي يبقى على السطح . أبوة يملك ساقين طويلتين ، وهو وهو غير راضٍ عنة . يرى فيموند الساحل الآن ، حيث الماء أكثر ضحالة وأشد شحوباً . يبدو الشاطيء مسالماً ، برمالة الصفراء وحزام الحصى الملون الصقيل المنثور حولة مثل حبات اللؤلؤ البيضاء والقرنفلية والرمادية والمرقطة . من خلف الشاطيء يلوح لة حاجز الماء ، أسوداً ومخضلاً بالرطوبة ، ممتداً كطريق مستقيم يربط اليابسة بالماء. المياه العميقة تبدأ من حيث ينتهي الحاجز . ثلاثة أمتار ، حسب ماقال أبية . وعلى مسافة قليلة داخل البحر توجد جزيرة زرقاء ،عارية وكبيرة نوعاً ما، يسبح إليها الأولاد الأكبر سناً عندما تدفأ المياة .أربعمئة وخمسون متراً . لقد قام الكبار بقياس المسافة . تسمى هذة الجزيرة بجزيرة القرصان ، لقد ذهبوا الى هناك بقارب . يتوقف الأب فجأة متجمداً في مكانة . الخطوط الخارجية لجسدة صلبة ، صلابة منحوتة سوداء تنتصب قبالة السماء الشاحبة .
- - عندما تتمكن من السباحة الى جزيرة القرصان وتعود منها ، عندها يمكنني القول إنك تجيد السباحة .المسافة أقل من كيلومتر واحد . وينبغي عليك أن تكون قادراً على تحقيق ذلك على الأقل . أقصد، بعد فترة . نظراً لكوننا نعيش بجانب البحر وعندنا قارب وغير ذلك . يستدير ناحيتة .
- إنزع سروالك . ثمة ريح على الشاطيء . يعني إن الماء دافيء .
يبدأ فيموند بالنزول الى الماء . برودة الماء قارسة . يتعرض لنفس الصدمة التي يتعرض لها كل مرة ، رغم علمة المسبق بها وإستعدادة لذلك . يحس بنعومة القعر ، وملمس الرمل المخملي ، والمحار المنتشر هنا وهناك . يركل الماء بقدمية مثيراً زوبعة صغيرة من الرمال . يبدأ الماء، بصفعات خفيفة ، بتسلق جسدة ، يغطي ركبتية ، ويصعد فوق منتصف ساقية ، ويلامس شورت السباحة الأزرق المقلم بخطوط زرقاء . هاهو يصل حزام الحصى والمحار الذي يتعين علية عبورة لكي يصل الى أبعد مدى يمكن للماء فية الوصول الى خصرة . فوق السرّة تماماً .
•- توقف الآن ، يافيموند -
يرفع ذراعية أمام صدرة ، لكنة لايريد ليدية أن تلامسا الماء . أباة يجلس على صخرة كبيرة ، نفس الصخرة كل مرة ، مراقباً ومؤشراً ومصدراً للتعليمات .
•- نعم ! ليس سيئاً بالمرة ، أليس كذلك؟
لايجيب . ويحاول الوقوف على رؤوس أصابعة . ويفكر بأن الأمرسينتهي عاجلاً وسيكون بإمكانهما العودة الى البيت
حسناً، لنبدأ إذَنْ . استعد ولتبدأ بالغوص. تقدم ، يافيموند . -
ترتخي ركبتاة قليلاً . ينزلق الماء فوق صدرة وتتكسّر الأمواج فوق ذراعية ، وتنكمش ساقاة تحت وطأة البرودة . يسمح لجسدة بالسقوط الى الأمام على مضض ، ركبتاة مثنتيان تحت بطنة، يداة الصغيرتان تطرطشان بعنف داخل الماء لأربع أو خمس مرات ، تتكسر موجة فوق وجهة فيضطر الى الوقوف ثانية . تصطك أسنانة . يحاول أن يخطو بضع خطوات صغيرة لكنة لايدري لماذا يعجز عن ذلك . أي سر هذا الذي لايستطيع فهمة ؟ إنة يمتلك ذراعين وساقين مثل الجميع . ربما لم يكن مقدراً لة أن يتعلم السباحة . قد يكمن السبب في برودة الماء . لكنة بارد جداً في كل الأحوال ، مع ذلك ، ، يمكن للمرء السباحة في المناطق الضحلة . يهز الأب رأسة . وينكس نظراتة محدقاً بالصخور ، محاولاً العثور على شيء من الحماسة المبعثرة لكي يواصل بها تقديم الدعم والتشجيع .
- أنت تقوم بجهد رائع ، يافيموند . بعد أن هبطت الآن ، ستعتاد بعد قليل على الماء. لكن عليك بذل مزيد من الجهد . وخفف من سرعة ضرباتك ، يابني ، ليس بهذة السرعة . ولاتنس التنفس . إملأ رئتيك بالهواء وسوف تطفو ، مثل بالون ، أو كي؟
يسحب فيموند نفساً عميقاً ويلقي بنفسة الى الأمام . يشق الماء ويضرب برجلية قليلاً ، ضربة واحدة ، ضربتين ، ثلاثة . ثم يزفر ثانية ، ويشهق مرة أخرى ، ويبتلع جرعة أو جرعتين من الماء المالح هذة المرة ، يسعل ويبصق مختنقاً . لكن ذراعية لاتتوقفان عن الحركة ، أربع ضربات ، خمسة . ساقية تثقلان ، وتبدأن بالهبوط .
الساقين ، يافيموند ، الساقين ! جيد جداً ، حرك ساقيك ، إمنحهما كل مالديك من عزم . -
يختفي تحت الماء ، ثم يعلو من جديد ، يتصبب منة الماء البارد ويتدفق كالجدول . يفرك عينية ويبصق .
هذا أفضل الآن ، يافيموند، افضل الآن ، مارأيك ؟ -
بعدعشرة محاولات يشعر الأب بالرضا . لقد تمكن من تحريك يدية تسع مرات ، لكنة لم يستخدم ساقية ، ولم يتحرك داخل الماء . يجفف الأب ظهر إبنة على نحو أخرق ، ويساعدة على إرتداء بنطالة القصير فوق شورت السباحة المبلل . إسنان فيموند تصطك من البرد ، إنة يرتجف وشفتاة زرقاوان . تتغضن جبهة الأب ، ترتسم فوقها تجعيدة عميقة . يتجنب فيموند النظر اليها .
تعال . دعنا نجلس على الحاجز لدقيقة . -
يرى كم يشعر الصبي بالبرد وينتابة شعور بالقلق . يتبعة فيموند بتردد . يجلس الأب عند النهاية القصوى للحاجز ويدلّي ساقية .
- هذا هو . إجلس . لاتخف من السقوط في الماء ، فأنا هنا . هلم يابني .
ينحدر فوق الحاجز خلفة ، ويقطع المسافة المتبقية بخطوات مسرعة . يشعر بيد والدة وهي تمسد ظهرة بحنان .
هل تتذكر عندما بدأت تتعلم ركوب الدراجة ؟ تلك الدراجة الحمراء الصغيرة ؟ -
يهز رأسة .
أتذكر كم كانت صعبة ؟ -
- نعم ، لكن ليست بتلك الصعوبة . لقد تعلمت ركوبها بثلاثة أيام . لقد قلت لي إن سياقتي كانت بطيئة . الآن تقول إني أسبح بسرعة كبيرة . سياقة الدراجة أسهل . السباحة أكثر صعوبة منها بكثير .
- كلا ، كلا . لكن عليك مثلما يقال تجاوز العقبات ، هل تفهم ماأقصد ؟
- لا .
يتنهد الأب .
- لايهم كثيراً أن تكون قادراً على ركوب الدراجة . هذة ليست حاجة أساسية . لكن السباحة ، يافيموند ، السباحة ! أنها مسألة حياة أو موت . انظرالى البحر .
ينظر فيموند .
- معظم الأحيان يكون البحر عميقاً . وقد يصل عمقة الى بضعة مئات من الأمتار . وهو ضحل فقط على الشواطيء .
يرتجف فيموند ويقشعر من البرد .
- الكثير من الناس تغرق كل صيف . الكبار والصغار . لأنهم لايجيدون السباحة . أمر مخيف جداً ، أليس كذلك ؟
. - أعتقد إن موعد الغداء سيحين الآن
- أنتبة لما أقول .
نعم . -
- لو سقطت هنا ، ينحني الأب ويحدق في الماء الأسود . فسوف تغرق ، أليس هذا صحيحاً ؟ أنها مجرد ثلاثة أمتار ، يافيموند ! ليست بهذا العمق . ويمكن أن تغرق في عمق مترين فقط من الماء أيضاً . حتى في متر واحد ونصف . أتعرف ماالسبب ؟
فيموند لايعرف بالضبط ماهو السبب . -
لأن طولك لايزيد عن متر وأربعين سنتمراً. -
يواصل الأب التحديق في الماء . ويضع يدة بحرص على كتف الصبي . يخيم الهدوء على المكان . مويجات الماء الصغيرة تتكسر بهدوء أمام الحاجز .
فيموند ينتظر . ثمة شيء على غير مايُرام . يحاول النهوض ، لكنة لايعرف كيف . لو أمال جسدة قليلاً الى الأمام فسوف يسقط في الماء وستعيقة ذراع أبية المحيطة بكتفة عن الاندفاع الى الوراء وإنقاذ نفسة ، تلك الذراع القوية التي تسمرة في مكانة بهذا الشكل . إنة غير قادر على السباحة ، والماء شديد البرودة ، وعمقة يصل الى ثلاثة أمتار .
يحدق أباة في نقطة بعيدة عن مجلسهما . فيموند يتفحص الأمواج بنظراتة ويلمح لطخة ذات لون برتقالي شاحب تطفو فوق الماء . يحدق فيها . إنها قنديل بحر قرّاص .إنها تهتز وتتمايل بين موجة وموجة دون أن تقترب . يحدق فيموند ، مركزاً بقوة على قنديل البحر . يحس بالذراع المستقرة فوق كتفة تصبح أكثر ثقلاً . ويفقد الإحساس بأصابع قدمية داخل الصندل . ويشعر بنفسة وكأنة راح ينكمش ويتقلص . وبطرف عينة يرى إن صورة والدة تتلاشى وتغيم ، لتصبح بالتالي مجرد ظل أسود مشتت غير قادر على الكلام .
- في الأيام الخوالي ، يقول فجأة ، أعتادوا على رمي الأطفال في البحر بعد أن يربطوا خصرهم بحبل . وكان عليهم أن يغوصوا في الماء على قدر الإمكان . عادة قاسية بعض الشيء ، ربما ، لكنها كانت تعلم الأولاد السباحة على الأقل ، دون الحاجة الى قضاء فصل الصيف بأكملة من أجل ذلك . يبتسم الأب بحزن . ويخيم الصمت من جديد .
فجأة يهتز قنديل البحر بعنف ويتوارى لثوان قليلة . في هذة اللحظة بالذات يسقط فيموند . يهبط ببطء وخفة ، يكاد جسدة الصغير أن ينتصب في الهواء لكن ساقية مثنيتان وقبضتية مشدودتان . يرتطم بالماء بحذر مطلقاً رشاشاً من المياة ويروح يغطس ببطء نحو القعر ، يغلفة شيء من الدهشة ، لكنة لايحس بشيء ، ويتمدد على بطنة هناك في أعماق الماء ، يحس ببرودة القعر الشديدة وبالألم الذي راح ينبض في صدغية . جسدة ليس بالكبير ، أنة مجرد ذُبالة صبي . تتدحرج موجة كبيرة وتمحو بقعة الزبد الصغيرة الطافية على السطح .
تنقضي لحظة لاهثة قبل أن ينتبة الأب .
ثم ينهض بسرعة ويتطلع حولة . لايرى شيئاً ويغطس في البحر مطلقاً رشاشاً من الماء . تصدمة برودة الماء ؛ ويدرك إن الماء أبرد مما كان يظن . جسدة يبدو مشلولاً ، ويكاد يتلاشى، بحيث لايبقى منة غير عينان مجهدتان تفتشان بتخشب ثنايا القعر المظلم ، عن ساق بيضاء نحيلة ، أو يد صغيرة ، أو خطوط زرقاء وبيضاء ، عن أي شيء تلمحة العين وسط الظلام الغريني ، لكنة لايرى شيئاً غير ذراعية اللتان تنوسان داخل الماء دون لون ؛ فيدفع الماء بقدمية وينطلق بسرعة نحو السطح مرة أخرى؛ ويفكر أن الصبي غير موجود داخل القعر بالطبع ، لأن وزنة خفيف جداً ، لكنة عندما يخترق السطح برأسة مرة أخرى ، لايرى شيئاً مع ذلك ؛ يحدق بالأفق ، يصيخ السمع ، لكنة لايسمع أية صرخة
ينتابة الذعر للحظة قبل أن يعاود الغوص من جديد . يعوم دائراً حول الحاجز ، ويشاهد الأعمدة السوداء اللزجة وشيء ما داكن يتحرك داخل القعر ، ويفكر ، لابد أن يكون هنا ، لقد سقط في هذا الموضع ، من طرف الحافة تماماً ، ولايوجد تيارات مائية في هذا المكان ، ليس بوسع طفل صغير أن يختفي هكذا مهما بلغ أتساع وعمق البحر ، ولكونة غير قادر على السباحة ، فلابد أن يكون ممدداً في مكان ما أمام الحاجز ، ربما على بعد متر واحد من الأعمدة ، ينبغي أن يكون ظاهراً للعيان ، نظراً لشحوب بشرتة ، لكن ثمة الكثير من من الطحالب اللعينة في هذا المكان ، غابات كثيفة من الطحالب السوداء وأشياء أُخرى لايعرفها ؛ يدفع جانباً بشيء لزج وناعم لينظر تحتة - الصبي صغير جداً ولايحتاج لمثل هذا المجال الواسع - لكنة لايرى شيئاً ولايستطيع حبس أنفاسة أكثرمن ذلك ، أنة يخاف أن يفقد الوعي ويشرع في الحركة من جديد ، مندفعاً نحو السطح بسرعة الطوربيد ، غير مصدّق لما يحدث ، وكأنة أسير كابوس مرعب ؛
يحرك قدمية عالياً وسافلاً ، ويدور على عقبية، بصمت ، بحثاً عن الشعر الأشقر ، بحثاً عن فقاعات هوائية ، ويغوص ثانية ، لأن الوقت يمضي بسرعة ، وليس بإمكانة الذهاب لطلب المساعدة ، إنها بعيدة جداً ، وعلية معالجة المشكلة بنفسة ، فيموند موجود هناك في الأسفل تحت الماء البارد ، ويفكر ، فقط واصل البحث ، لكن بصرة يبدأ بالتلاشي ، لقد تحملت عيناة أكثر مما تطيقان من الماء المالح ، وليس بمقدورة أبصار شيء الآن ، وكل مايمكنة فعلة هو تحريك أطرافة في الماء بلا هدف ؛ يتأرجح فوق حافة الفزع ، يكاد شعورة بالبرد والماء ينعدم ، لاشيء غير إحساس طاغ بالارهاق يتشبت بذراعية وساقية كالأثقال ؛ ويصعد الى الأعلى من جديد ، ويرفع ذقنة فوق حافة الماء ويشهق غير مصدق ؛ لاأستطيع العثور علية ، هذا غير ممكن ؛ يسبح بإتجاة الحاجز ويتمسك بأحد الأعمدة ، يضل معلقاً هناك بذراع واحدة ، تهزة الأمواج برفق .
سكون .
يشعر بثيابة ثقيلة كالرصاص . يسير على مهل مترنحاً على الطريق الصاعد ، يتلفت باستمرار مطلقاً نظرة عريضة نحو البحر . يشعر برغبة أبدية في أن يعود أدراجة ، لكن لاشيء هناك يمكن للعين أن تراة ، لاشيء يمكن لة فعلة . بين الفينة والفينة يتعثر بنبتة صغيرة أو صخرة ، رغم ان نظراتة الذاهلة تتسمر في الأرض التي يسير عليها الآن . يتحاشى رفع بصرة ، خشية أن يرى البيت الذي يقترب بإستمرار ، الجملون الأبيض الحاد الزوايا المنتصب وسط أشجار الصنوبر السوداء ، البيت الذي سيتعين علية دخولة . ربما ستقوم بفتح النوافذ لتتطلع الى الخارج ، وتراة من بعيد لوحدة ، لذلك فهو يمشي بهدوء ويحبس أنفاسة ، يمشي مشية اللص في الظلام ، ويفكر بأن هذا غير ممكن .
ولكن خطواتة تصر على الإقتراب بة أكثر وأكثر من البيت . وفي لحظة يرى السقف . ويرى من نافذة المطبخ المفتوحة ستارة فاتحة اللون تخفق بخفة وعبث مثل شراع يرقص في النسيم رقصة لاهية ، لكن الداخل مظلم ، والباب الأمامي فجوة سوداء .
يقف عند درجات المدخل . و يرى في تلك اللحظة كتفاً عارية تمرق من النافذة . يسمع صوت خطواتها السريعة في الداخل ، ثم تفتح لة الباب . يرفع رأسة بتثاقل ويقابل نظراتها المتفرسة .
- ماذا حدث ؟
ينحني رأسة ثانية ، ثيابة باردة كالجليد ، الريح تنسل من خلفة ، ينكمش عندما يسمع صوتها ، ثمة تعنيف فية ، ولمسة من الشك .
حسناً ، قل لي ! ياآلهي أنت مبتل جداً . -
يغمغم بكلمة لا ، ويتكيء على عضادة الباب .
-لاأدري ، لقد حدث الأمربسرعة شديدة .
البقية مجرد نشيج . وعندما يرفع بصرة ثانية يلمح خوفاً ما في عينيها .
ولكن هل كنت تراقبة أم لا ؟ ياآلهي ، أنة ليس سوى طفل صغير . -
يريح رأسة على عضادة الباب مرة أخرى ويدرك إنها لا تفهم شيئاً . يغمض عينية ويشعر بالضعف . يرى المستقبل يتلاشى أمام عينية خلف غلالة من الظلام . طريقهما المشترك لاوجود لة بعد الآن ، أنة ينتهي حيث يقف ، وليس من سبيل الى الأمام . ثم يرى فيموند . في تراكسوت أزرق ، يحاول الإختباء خلف أمة .
شعرة مبتل . تلتفت الأم وتمسدة .
لقد سبحت تحت الماء ، ياأبي، يقول بإرتباك ، وتعذر علي رؤيتك في أي مكان . -
يحاول الأب أن يتقدم خطوة ، لكن ركبتية تخذلانة . يترنح الرجل الضخم الى الأمام ، وفيموند يحدق بة مذعوراً ، يحدق بعمود الغرانيت الذي يمثل لة الحقيقة دائماً ، الحقيقة التي تنهار فجأة في المدخل وتفقد لونها . الوجة الرمادي ، والفم الفاغر على نحو غريب .
-هل أبي مريض ؟
تهز الأم رأسها وتعض على شفتها . وأخيراً يسقط . ويرتطم الذقن بالأرض بإنكسار مدوي